العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (10)


عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 11 - 18:31     

3- قضايا انتشار المجتمع المديني:
تنحاز المداولاتُ العلميةُ الراهنة إلى الإجماعِ على أنّ الحوضَين العلويَّ والسفليَّ لِما بينَ نهرَي دجلة والفرات يُشَكِّلان موطنَ نواةِ الحضارةِ المدينية المهيمنة على عالمنا الحالي، ومكانَ وزمانَ نضوجِها وازدهارِها. والفصلان الأخيران اللذان تناولناهما يتقاطعان وهذا الموقفَ بالأرجح. فشروحُنا كانت تشير إلى أنّ موطنَ نشوءِ النواة هو حوافُّ سلسلةِ الجبال المحيطةِ بالحوض العلوي للنهرَين. حيث تَكَوَّنَ أساسُ المجتمعِ المديني بالتزامنِ مع تَخَمُّرِ النواة، وتطعيمِ أولِ شتلةٍ منها على يدِ الرهبان السومريين. علينا ألا نغفلَ أو ننسى أنّ هذا التطورَ القَيِّمَ الذي أَقحَمناه في جملةٍ يكفينا خمسُ ثوانٍ للتلفظ بها، إنما تَطَلَّبَ تجاربَ آلافِ السنين في الواقع العملي حتى أينعَ وأثمرَ وتوطد.
تَشعُرُ السوسيولوجيا الوضعيةُ (ليست تلك الانتقاديةَ التي عرَّفناها، بل سوسيولوجيا أميل دوركايم، وأوغست كومت، وكارل ماركس) بأنها معفيةٌ أو مُحَصَّنَةٌ كلياً من الأبعاد الزَّمَكانية. فالحوادثُ والظواهرُ التي تتحدث عنها لا مكانَ ولا تاريخَ لها، وتَزعَمُ بذلك أنها تُطَبِّقُ العلمَ التجريبيَّ والظواهري، وتعتقد أنها تتناول الأمورَ بعلميةٍ بقدرِ تحليلِها إياها بنحوٍ مبتورٍ من الزمان والمكان. وتَتَشَبَّثُ بهذا الأسلوب بِنَواجِذِها. وبالأصل، يتستر في فحوى هذا التناولِ والتعاطي للأمور إظهارُ الحداثةِ نفسَها على أنها أبديةٌ سرمديةٌ من حيث الزمانِ والمكان. وهذه المواقفُ والميولُ ساريةٌ على جميعِ العلوم والفلسفات والفنونِ الأوروبية المركز.
وكيفما يَكُونُ الإلهُ مُنَزَّهاً عن الزمان والمكان، فهؤلاء الرهبانُ المعاصرون أيضاً (ولأنهم تَصَوَّروا وصاغوا أيديولوجيةَ المدنيةِ الأوروبية) مرتاحو البال وواثقون من أنفسهم بشأنِ لامحدوديةِ ولازمانيةِ العلمِ الذي زاولوه. فهم يَعتَقِدون أنهم سَيَلُوذُون بِبِساطِ العلمِ بقدرِ ما يهربون من خناقِ الزمان والمكان. هذا هو الخطأُ الذي طالما وَقَعَ فيه براديغمائيو (مُنَظِّرو) كلِّ مرحلة. ولكنّنا نَعلَمُ عِلمَ اليقين أنه ما مِن ظاهرةٍ أو واقعةٍ أو حادثٍ أو مؤسسةٍ أو عمليةٍ أو شخصيةٍ أو مجتمعٍ لا يَشتَمِلُ على التأثيراتِ الزَّمَكانية في ذاته.
إنّ القبولَ بهذا الأسلوبِ سيُضاعِفُ من قوة معنى التفسير. فالتاريخانية tarihsellik في ميدانِ العلومِ الاجتماعية تعني "الآن". في حين أنّ "الآن" هي التاريخ. والفارق بينهما شكليٌّ بالأغلب، وجوهريٌّ بنسبةٍ ضئيلة. ونخصُّ بالذكر أنه مِن المستحيل إنشاءُ سوسيولوجيا ثمينةٍ ومثلى دون اللجوءِ لاصطلاحاتِ "الفترة". وقد كنتُ أدركتُ ذلك وحفظتُه كأسلوبٍ أساسي، حتى دون أنْ أقرأَ لفرناند بروديل، وأَعتَبِرُ ذلك عنصراً أسلوبياً لا بد منه لأجلِ المكان أيضاً. وتَبْسُطُ مرافعاتي التطبيقَ الرصينَ لهذا المفهوم، ولو بشكلٍ هاوٍ وغيرِ محترف. كما بالمقدورِ رؤيةُ الآثارِ عينِها في كافةِ تحليلاتي أيضاً. إذن، والحالُ هذه، لماذا يَغفَلُ أو يَتَهَرَّبُ عِلمَوِيُّو أوروبا من الزمان والمكان بالقدرِ الذي يَفعَلُه إنسانٌ قليلُ التجربةِ (مثلي)؛ رغمَ حساسيتهم الفائقةِ إزاءَ موضوعِ الأسلوب؟ الإيضاحُ المعقولُ والواقعيُّ لذلك هو مركزيةُ أوروبا وكَونِيَّتُها، وعجزُهم عن الخلاصِ بخصائصهم هذه مِن الميتافيزيقيا الصرفةِ، أو مراتبُهم واعتقاداتُهم بأنهم أَسَّسوا مجتمعاً ميتافيزيقياً كهذا بالذات.
بَيْدَ أنَّ إدراجَ التاريخِ والمكان في السوسيولوجيا أمرٌ مساعِدٌ في إدراكنا كيف تَجري وتَندفعُ الحياةُ التي ستَتَحَقَّق، وكيف تَخُطُّ مسارَها، ويُؤَمِّن استيعابَنا لِمَا نَكُونُه نحنُ في التاريخ و"الآن". فما دامَ التاريخُ واللحظةُ (الآن) قريبَين جداً من بعضهما، وما دامَت الأمكنةُ أيضاً تتوالى وتتعاقبُ على غرارِ درجاتِ السُّلَّمِ المتوالية والمتكاملة؛ فسنستطيع تفسيرَ الإنسانيةِ أيضاً على أنها كلٌّ متكامل، وأنها بطبيعةِ الحال تعيشُ وحدتَها الكليةَ وتكاملَها الرصينَ حتى مِن دونِ وجودِ الأقوام، الأديان، الدول، الأمم، التحالفات، هيئات الأمم المتحدة، والأمميات. إذن، فالمؤسساتُ الزاعمةُ بأنها تَبحثُ عن الاتحاد والوحدة وتسعى إليهما، إنما هي ذاتُها التي تُطَبِّقُ العكسَ تماماً. إنّ المجتمعَ المديني تكوينٌ غريبُ الأطوار، حيث يَتَمَيَّزُ بخاصيةٍ أَشبَهُ بأن يَكُونَ الصحيحُ هو عكسُ كلِّ ما يقوله. ولكي لا نَبْهَتَ أو نَتَحَيَّرَ في أمرنا، يبدو أنه علينا قراءةَ المجتمعِ المديني بالمقلوب، وعلى الدوام.
لقد تَطَرَّقنا لهذا التمهيدِ بِغَرِضِ لفتِ الأنظار بالأغلب إلى ضرورةِ كيفيةِ تناولِ وتفسيرِ التوسع الزمكاني للحضارة المدينية.

أ- قضايا انتشارِ الحضارات ذاتِ الأصول السومرية والمصرية:
إنّ ما ذكرناه بشأنِ التمأسسِ النيوليتي يُنيرُ لنا كيفَ تكَوَّنت نواةُ الحضارة المدينية. فأين ستُطَعِّمُ الطُّعمَ السومري، دونَ التفكيرِ في هذه البذرة النواة؟ إذ، ما مِن بذرةٍ أخرى يمكنها أن تَينَعَ وتَنضُر. وحتى لو وُجِدَت، فهي ليست في حالةٍ تُخَوِّلُها للبلوغِ والنضوج. فمثلما أننا لا نستطيع اليومَ التفكيرَ بوجودِ الولايات المتحدة الأمريكية دون أوروبا، كذلك – بل وربما بنسبةٍ أكبر – ما كان لِحوضِ الرافدَين السفلي أنْ ينجوَ مِن التحولِ إلى مجردِ حقولٍ قصبيةٍ، لولا تَشَكُّلِ نواةِ الحضارة المدينية في الحوضِ العلوي من الرافدَين. دعكَ حينها مِن تَخَمُّرِ الحضارة المدينية، بل ربما كان سيُفلِحُ بالأكثر في النجاةِ بعيشِ حياةٍ أَشبَهُ بحياةِ البيغما.
ثمة قضيةٌ هامةٌ أخرى على صعيدِ الانتشار، ألا وهي: لماذا لَم تَتَمَدَّن المستوياتُ المتقدمةُ من الاستقرارِ الحاصل في الأراضي الوسطى من بلادِ ما بين النهرَين، أو حتى في بلادِ الأناضول؟ فعندما نُسَلِّطُ الضوءَ على ما حصلَ قبلَ الآن بخمسةِ آلافِ عام، سوف نَجِدُ أنه ثمة العديدُ من المناطقِ التي بَلَغَت عتبةَ الحضارة، وثمة قرى ضخمةٌ تكادُ تبلغُ مرحلةَ التمدن؛ لكن، ولأسبابٍ لا نَعلمُها يقيناً، نلاحظُ أنها انهارَت دون أنْ تُحَقِّقَ انطلاقاتِها المرتَقَبة. وعلى سبيلِ المثال، فمنطقةُ جطال هويوك Çatalhöyük، والأراضي الواقعةُ فيما بين إيران وتركمانستان هي كذلك. نحن على علمٍ بضرورةِ وجودِ عدةِ شروطٍ أوليةٍ لنشوءِ المدينة. كما مِن المعلومِ أنّ تَواجُدَ التعدادِ السكاني الضخمِ في منطقةٍ ما مرتبطٌ بضخامةِ فائضِ الإنتاج. وما يُمكِنُ أنْ يُؤَمِّنَ حصولَ الإنتاجِ الفائض هو الريُّ الصناعيُّ للأراضي السهليةِ الرسوبية على مصباتِ الأنهار. والساحةُ الرسوبيةُ الغرينية، والتي شَكَّلَها كلٌّ من نهرِ النيل ونهرَي دجلة والفرات على مقربةٍ من مصباتها في البحار، إنما تُؤَكِّدُ صحةَ هذا الرأي. ولأجلِ مرحلةِ البداية، يتطلبُ زيادةَ التعداد السكاني، وتأمينَ الاستمرارية كشرطٍ أوليٍّ لولادةِ المدينة. الشرطُ الثاني الذي لا بد منه، هو وجودُ المؤثراتِ الثقافية الجاهزة والقادرة على إنتاجِ ذاتها في مناطقِ الجوار. إذ، ما من ساحةٍ رسوبيةٍ غرينية يمكنها أنْ تُنشِئَ الثقافةَ النيوليتية، لأنّ شروطَ ولادةِ تلك الثقافة معدومةٌ هناك. في حين أننا لا نعثرُ في الثقافةِ النيوليتية على شروطِ المدينة القادرةِ على تحقيقِ ديمومتها والإكثارِ من تعدادها. وبسببِ هذه الأوضاع، فإنّ التكاملَ وإتمامَ البعض شرطٌ اضطراريٌّ لا ملاذَ منه.
كُّل الدلالاتِ البارزةِ تُشيرُ إلى وجودِ سلسلةِ مدنٍ متوسطةِ الحجمِ في الحوضِ الأوسط لما بين النهرَين، وإنْ لَم تكنْ بالمستوى الذي كانت عليه في الحوض السفلي. وقبلَ الخوضِ في ذلك، فقد خَلَقَت حضارةُ مدينةِ أوروك، التي أَثبَتَت وجودَها في أعوامِ 3500 ق.م، نظاماً بِحَدِّ ذاته. فأوروك تُؤَسِّسُ نظامَ المستوطنات، وتُزيدُ من تعدادِ مدنها مُقَدِّمَةً بذلك نموذجَها، وتلعبُ دورَها لتنالَ شرفَ أُولى مدنياتِ التاريخ. وما عبادةُ الإلهةِ إينانا، وملحمةُ گلگامش سوى براهينُ جليةٌ على خلودها. ومن المحتملِ أنها تنهارُ في أعوام 3000 ق.م حصيلةَ المنافَسةِ الموحَّدةِ للمدن الأكثرِ عطاءً وخيراً وتعداداً في شماليها.
تَبدأُ مرحلةُ سلالاتِ أور في أعوامِ 3000 ق.م، وتستمرُّ على شكلِ ثلاثِ سلالاتٍ حتى أعوام 2000 ق.م، حيث تنسحب إلى الشمال، وتمر بنفسِ المنطقِ من الانهيارِ والنشوء. ويجب اعتبار مرحلتَي سلالةِ سارغون الأكادية، وسلالة خودا Gudea القوطية ضمن هذا الإطار. وما يَخطُرُ في البال على الفورِ مِن هذه المرحلة؛ أُولى الوثائقِ الحقوقية المدوَّنةِ، الملاحمَ الأدبية، الأكاديمياتِ، ونزاعاتِ المدنِ الضاريةَ مثلما هي الحالُ اليوم (وخيرُ مثالٍ عليها ملاحمُ مرثياتِ نيبور ولعنةِ آكاد). إذن، مِن المفهومِ أنّ أور نظامٌ استيطانيٌّ (كولونيالي) واسع. وبالأصل، فالمستوطناتُ الأولى تَتَشَكَّلُ وتتزايد كالسيلِ الجارف في مناطقِ القَوسِ الداخلي لسلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس، لتنتهي وتندثر بسرعة أيضاً.
النتيجةُ المُستخلَصَةُ مِن ذلك هي مدى القدرةِ الثقافيةِ للمجتمع الذي أسَّسوا المستوطناتِ في أحشائه. فإذا كانت حضارتا مصر وهرابا إلى جانب حضارةِ عيلام – سوس تُقَيَّمُ على أنها حضاراتٌ مدينيةٌ مستقلة، فلا يمكننا حينها إلا التفكير في مقايستها مع السومريين على صعيدِ المستوطَنات، وإنْ لم يَكُنْ بروابطَ مباشرة، وإنما بالمعنى الموضوعي للكلمة.
يَبدأُ العهدُ البابلي إلى الشمالِ من تلك الأراضي في أعوام 2000 ق.م، وبنفسِ المنطق. وهي حضارةٌ سومريةٌ من حيث الجوهر، وإنْ اعتُبِرَت مندرجةً ضمنَ الأثنيةِ الأكادية (ذاتِ الأصولِ الثقافية الساميّة). وتُعَدُّ هذه الحضارةُ أوجَ ازدهارِ العلم والتمأسُس، حيث تَلعبُ مدينةُ بابل دوراً مشابهاً لِما أَدَّته مدينةُ باريس في أوروبا. فهي مدينةُ العلم والثقافة، علاوةً على ازديادِ عددِ تُجَّارِها، وانسكابِ كلِّ الثقافات في مَصَبِّها. كما تَتَحَقَّقُ فيها الكوزموبوليتية لأول مرة؛ بحيث أَثَّرَت في جوارِها بقوة، وابتَدَأَت عصرَ النماردةِ (أوائلِ الملوك الأشداء) في التاريخ، لِتَتَّسِمَ بِكَونِها مركزَ الجذبِ وأَشبَهَ بمدينةٍ تُشِعُّ النورَ على أطرافها. وقد مَرَّت بثلاثِ مراحلَ هامة: مرحلةُ الانطلاقةِ الزاهية فيما بين 2000 – 1600 ق.م، وتُعرَف بمرحلةِ حمورابي الشهير. ومرحلةُ فقدانها لاستقلالها بتأثيرِ أقوامِ الهوريين فيما بين 1600 – 1300 ق.م. والمرحلةُ الثالثةُ هي مرحلةُ احتلالِ البرسيين لها وتأثيرِ الآشوريين عليها فيما بين 1300 – 550 ق.م. وهكذا يَترُكُ العهدُ البابليُّ المُعَمِّرُ ألفاً وخمسمائةَ عامٍ بَصَماتِه الراسخةَ في ذاكرةِ الإنسان، وإنْ بشكلٍ مستتر. وما منازعاتُ الإلهِ ماردوخ مع الإلهةِ تيامات، وملحمةُ أنوما – أليش الشهيرةُ سوى قصصٌ تروي حكايةَ الهزيمةِ الشنعاء المؤلمةِ للمرأةِ – الأم. كما أنّ علمَ الفلك، الكهانةَ بالسحر والشعوذة، سبيَ بني إسرائيل، والعديدَ من الوثائقِ المدوَّنة، وبقايا ثقافةِ كالدا التي لا تزال تُشيرُ إلى المقاوماتِ العتيدة تجاه آشور؛ كلُّها ذكرياتٌ لا تُنسى من هذا المركز النواة. وإذا ما استذكرنا أنها المدينةُ التي جابَها العديدُ من الفلاسفةِ اليونانيين لِتَلَقِّي دروسِهِم الأولى فيها، وعلى رأسِهِم الفيلسوفُ صولون ؛ سندرك حينئذٍ التأثيرَ المتواليَ لها بشكلٍ أفضل.
يمكننا تقسيمَ العهدِ الآشوري أيضاً إلى مراحلَ ثلاث. المرحلة الأولى هي عصر الملوك التجار (2000 – 1600 ق.م). فتَمَركُزُ التجارِ في مدينةِ نينوى (آشور هو الإلهُ المؤسِّسُ لهذه المدينةِ) القريبةِ من مدينةِ الموصل الحالية، والمترعرعةِ بطابعٍ تجاريٍّ بالأغلب، قد أدى إلى إنشائِهم أُولى المستوطناتِ التجارية الأوسعِ على الإطلاق في التاريخ. إذ أَسَّسوا عدداً جماً من المستوطنات المدن التجارية في العديدِ من المناطق، بدءاً من شرقي البحرِ الأبيض المتوسط إلى شواطئِ البنجاب، ومن البحر الأسود إلى البحر الأحمر. لذا، يمكن القولُ أنهم حَقَّقوا انطلاقةً مزهرةً في مضمارِ العمارةِ والتجارة. وما مدينتا كول تبه Kültepe (وتُدعى كانيش Kaniş في العصر الآشوري) المجاوِرةُ لمدينةِ قيصري Kayseri، وقَرقَميش Karkamış (يأتي أصلُها من قاروم Karum، أي مِن وكالاتِ التجارة) المتواجدةُ في مكانِ عبورِ نهرِ الفرات للأراضي السورية اليوم؛ سوى من بقايا هذا العهد. أما أعوامُ ما بين 1600 – 1300 ق.م، فهي مرحلةُ نفوذِ وهيمنةِ الدولة الميتانية ذاتِ الأصول الهورية Hurri. ورغم افتقادِها أهميتَها القديمةَ، إلا أنّ التقاليدَ الآشوريةَ لا تزال تَصون وجودَها. في حين أنّ أعوامَ 1300 – 612 ق.م تُعتَبَرُ المرحلةَ الأزهى والأكثرَ بريقاً، حيث أَسَّسوا أولَ إمبراطوريةٍ مُتراصَّةِ البنيان في التاريخ، والأوسعِ في عهدهم. وقد اشتُهِروا بجبروتِهِم في الحرب (يُقال أنهم شادوا القلاعَ والأسوارَ من الجثث). وقد تَرَكَت هذه المرحلةُ آثارَ ذكرياتِها في التاريخِ لكونها شَهِدَت أولَ تطهيرٍ عرقي، وأولَ إفراغٍ كلي للمناطق؛ فضلاً عن أنها شَهِدَت تَطَوُّرَ وعيِ المقاومة لدى الشعوب بالأرجح. فأعظمُ مقاومةٍ أبداها حينئذ الهوريون الكردُ الأوائل بريادةِ ملوكِ أورارتو (إنّ البنى الأثنيةَ للأورارتيين موضوعُ جدال. والأمرُ عينُه يَسري على كافةِ السلالاتِ الحاكمة. ذلك أنّ جميعَ السلالاتِ كانت تَعتَمِدُ لغةَ الثقافة السائدة في مرحلتها أساساً. وقد كانت الآشوريةُ والآراميةُ اللغتَين الرسميتَين للدولة في أورارتو، وفي قصورِ برس لاحقاً). ولهذه المقاوَمةِ الضروسِ النصيبُ الأوفرُ في بقائِهم على أراضيهم الحالية. في حين دُكَّت دعائمُ هذه الإمبراطوريةِ العملاقةِ واختَلَطَت مع صفحاتِ التاريخ في 612 ق.م حصيلةَ تحالفِ الميديين – ذوي الأصولِ الهورية – مع البابليين. وباعتبارِها آخرَ حضارةٍ من جذورٍ سومرية، فقد امتازَت بمساهماتِها العظمى في تَطَوُّرِ وانتشارِ الحضارةِ المدينية في التاريخ (وبالأخصِّ في المجالَين التجاريِّ والمعماري).
ولأولِ مرةٍ نَشهَدُ مراكزَ حضاريةً مختلفةً خارجَ ميزوبوتاميا السفلى، بحيث تَخُطُّ مساراً مغايراً في التغير والتطور، سواءً من جهةِ الشكل أو المضمون. لن يَكُون من الخطأ مَوْضَعَة ميزوبوتاميا الوسطى في الحلقةِ الأولى من نشوءِ الحضارة السومريةِ وانتشارِها. ومن خلالِ الحفرياتِ الأثريةِ في المنطقة، وبفضلِ الأتيمولوجيا والأثنولوجيا؛ تزدادُ معلوماتُنا طردياً بشأنِ هذا الجيلِ ذي الأصولِ الهورية. يُعتَبَرُ الهوريون أُولى المجموعاتِ البَيِّنَةِ الهويةِ من بين الشعوب أو الأثنياتِ المنتقلةِ من اللغةِ والثقافة الآريةِ إلى المصادرِ المدوَّنة. وهم أُصَلاء، حيث يُشَكِّلون المجموعاتِ المستقرةَ في سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس منذ العصرِ الجليدي الأخير. وقد أَدَّوا دوراً رئيساً في تَطَوُّرِ الزراعةِ وتدجينِ الحيوانات. أو بالأحرى، يَتَصَدَّرون المجموعاتِ المطوِّرةَ للثورةِ القروية والزراعية النيوليتيةِ في المنطقة. وقد تَمَيَّزَت هوياتُهم الأثنيةُ وتَبَيَّنَت معالمُها منذ أعوامِ 6000 ق.م. ونَعتُهُم بالكردِ الأوائل أَنسَبُ تعريفٍ للهوريين. فالتعليلُ الأتيمولوجيُّ للكثيرِ من ألفاظهم، وكذلك التفسيرُ الأثنولوجي يُسَلِّطان الضوءَ بسطوعٍ شفافٍ على الروابطِ بين بنيتِهم اللغويةِ والكرد. وقد تَداخَلَ وتماشى الاستقرارُ في السهولِ مع الترحالِ في المناطق الهضابية والجبلية. كما أنّ اعتبارَ السومريين من أوائلِ المجموعات الهورية احتمالٌ واردٌ بقوة. بَيْدَ أنّ الاحتلالَ القوطيَّ اللاحقَ (2150 – 2050 ق.م)، والاحتلالَ الكاشي (1600 ق.م، وأولَ احتلالٍ بابلي بالتحالف مع الحثيين Hititler 1596 ق.م)، والتوسعَ المضادَّ للميديين والبرسيين فيما بعد؛ كلُّ ذلك دلائلُ برهانٍ على هذه الحقيقة. هذا ويُعتَبَرون الجيلَ النيوليتي الأكثرَ علاقةً مع السومريين عن كثب، ويَلِيهِم في ذلك الآراميون ذوو الأصولِ السومرية.
وابتداءً من مُستَهَلِّ أعوامِ 3000 ق.م يمكننا العثور على الآثار الجمةِ لأولِ حضارةٍ ذاتِ جذورٍ هورية (هذا إذا لَم نَضَع في الحسبانِ مرحلةَ 6000 – 4000 ق.م، والتي هي مرحلةُ التَّمأسُسِ النيوليتي). إننا في الحقيقةِ وجهاً لوجه أمامَ تَطَوُّرٍ متواصلٍ بلا انقطاع. فبينما انتَقَلَت الأجيالُ المستقرةُ في سومر إلى المرحلةِ المدنية مبكراً، فقد أَبدَى الباقون جدارةَ تحويلِ أماكنِ استيطانهم إلى مدائن، ولو ببطء (بسببِ الشروط المناخية وظروف الري). وقد عُثِر على العديدِ من أمثلةِ المدن في الحفرياتِ الأثرية للمناطق الوسطى من حوضِ ما بين نهرَي دجلة والفرات. فالعديدُ من الحفريات، وفي مقدمتِها حفرياتُ كلٍّ من أورفا Urfa، كازاز Kazaz، توتريش Tutriş، كرافره Grevre، زيتونليك Zeytinlik، وكذلك حفريات منطقة گوباكلي تبه Göbeklitepe مؤخراً؛ كلُّها تُظهِر وجودَ أماكنِ الاستيطانِ ذاتَ القلاعِ الداخليةِ والخارجية، والتي تَكتَنِفُها الأسوارُ وتَلُفُّها، وكذلك البنى الأَقرَبِ إلى أماكنِ العبادة، الأشكالِ النحتيةِ ذاتِ القيمةِ الفنية الثمينة، والأمتعةِ التجارية؛ لِيَكُونَ كلُّ ذلك برهاناً قاطعاً على نشوءِ المدن التي تمتد تواريخ غالبيتها إلى 3000 – 2750 ق.م. لذا، من الواقعيِّ حقاً التبيانُ بأنها مجموعاتُ المدائنِ الأولى المستقلةُ عن السومريين. أما مصادَفَةُ وجودِ مستوطناتٍ مغايرةٍ وذاتِ أصولٍ سومريةٍ في المناطقِ المجاوِرةِ لها، فهو أمرٌ هامٌّ وذو معانٍ قَيِّمة. إذ يمكننا الإدراكُ من هذه المستوطنات أنّ تلك المدائنَ قد شَهِدَت الاحتلالَ مِن قِبَلِ أوروك، أور، وآشور بين فترةٍ وأخرى. وقد تَكشِفُ الحفرياتُ الأثريةُ الجديدة، والنشاطاتُ الأتيمولوجيةُ والأثنولوجيةُ الأخيرة عن أنّ المراكزَ المدائنيةَ في الحوضِ الأوسطِ لِما بين النهرَين كانت كلُّ واحدةٍ منها مركزاً حضارياً عظيماً. والبحوثُ العلميةُ الأخيرةُ تَسِيرُ في هذا المنحى. ونخص بالذكر اللُّقى الموجودةَ في كوبكلي تبه والتحليلاتِ المعنيةَ بها، والتي تَتَمَيَّزُ بماهيةٍ ستُعِيدُ كتابةَ التاريخِ مجدداً.
أما الجيلُ الثاني من الموجةِ الحضارية ذاتِ الجذور الهورية، فتتسعُ نطاقاتُه، ويَنتَقِلُ إلى شكلِ إداراتٍ سياسيةٍ أَشبَهُ بالإمبراطورية. وبالأخص، فإنّ الميتانيين Mitanniler المنحدرين من ميزوبوتاميا الوسطى يلفتون الأنظار في هذا المضمار. وندرك من ذلك أنهم أَسَّسوا إمبراطوريةً حَكَمَت البلادَ منذ عهدِ ازدهارِ الإمبراطورية الآشورية في أعوام 1600 ق.م إلى أعوام 1250 ق.م. وعاصمتُهم كانت مدينةَ سريه كانيه Serêkani ومدينةَ عامودا Amudê اللتَين تقعان على الحدود السورية، وتُسَمَّيان اليوم ماردين Mardin، وقد كانت تُسَمّى العاصمةُ في تلك الأيام خوشكاني (ومعناها النبعُ الطيب). وقد أُدرِك من اللوحاتِ أنه كان هناك بنيةٌ لغويةٌ مختلفةٌ لديهم، وأنّ أصلَها يرجعُ إلى اللغةِ الهورية. كما أَبدَوا نجاحَهم المظفرَ في التوسعِ من مدينةِ كركوك الحاليةِ (حيث أنّ كركوك من بقايا تلك المرحلة) إلى تلِّ علال Tel-Alal القريبِ من أنطاكية على وجهِ التقريب. ومن خلالِ تَكَلُّمِهِم بنفسِ مجموعةِ اللغة الآرية، نُدرِكُ أنهم بَسَطوا نفوذَهم على الآشوريين بشكلٍ متواصل، وأنهم إما أقرباءُ مع الحثيين أو ينحدرون من الجذرِ عينه، حيث أَسَّسَ الحثيون حينها كيانَ أولِ دولةٍ مركزُها بلادُ الأناضول الداخليةُ (ثمةَ مثالٌ مبرهَنٌ وأكيدٌ من الرسالة التي كان أَرسَلَها المَلِكُ شوبيلوليوما ، الذي فتح حلب وقرقميش، إلى صِهره الميتاني ماتيزافا Matizava المتزوجِ من ابنته). كما نستوعِبُ مدى قُوَّتِهِم العظيمةِ من خلالِ الكتابةِ الهيروغليفية الدارجةِ في القصور المصرية (ذكرياتٌ من المَلِكاتِ المصريات الشهيراتِ من قَبِيلِ نفرتيتي التي تَدخُلُ القصرَ كأميرةٍ عليه). وبالأصل، فَقَمعُهُم للآشوريين طيلةَ أربعةِ قرونٍ برهانٌ كافٍ بِحَدِّ ذاته للإشادةِ بِقُوَّتِهِم. والأمرُ يَسري على البابليين أيضاً، حيث مِن المعلومِ أنهم استَخدَموا الكتابتَين الهيروغليفيةَ والمسمارية . ومِن الآثار التي تَرَكها الميتانيون على صفحاتِ التاريخ مهنةُ تسييسِ الخيولِ والمسماة "كيكولي Kiküli"، وشُهرَتُهُم ببعضِ الأشكالِ المعماريةِ الخاصة. هذا ويَتَمَيَّزون بِكَونِهِم ثاني أهمِّ حضارةٍ ذاتِ أصولٍ هوريةٍ تَنتَظِرُ كَشفَ النِّقابِ عنها وإظهارَها للنور.
إنّ إدراجَ الحثيين في هذا الجيلِ أمرٌ واقعيٌّ ومعقولٌ لأقصى حَد. فالحثيون ليسوا – كما يُقال – من المجموعات الآتيةِ من المضائق، أو من بلادِ القفقاس، أو من الشرقِ عبرَ إيران. ولأنَّ لغتَهُم وثقافتَهُم مُترَعَةً بآثارِ الهوريين العميقة، نَستَنبِطُ مِن ذلك أنهم مجموعةٌ حاكمةٌ من نُبَلاءِ الهوريين المجاورين لهم. كما أنّ آلهتَهم، وأدبياتِهم، وعلاقاتِهم الدبلوماسيةَ، وبقايا قصورِهم المصريةِ تُشيرُ إلى أنهم يُشبِهون الميتانيين الذين في بلادِ الأناضول الداخلية. فكيفما أنّ الميتانيين بَسَطوا نفوذَهم وأَحكَمُوا قبضتَهم على مراكزِ الآشوريين، كذلك فإنّ الحثيين أَلحَقوا الضربةَ القاضيةَ بالمستوطناتِ الآشورية في المراحلِ عينِها، ليؤسسوا ويُرَسِّخوا في الوقتِ نفسِه الإمبراطوريةَ الحثية (1600 – 1250 ق.م). إنّ هذه الإدارةَ الحثيةَ، التي لَم نَتَعَرَّف بعد على وجهِها الحقيقي لِحَدٍّ ما، تُذَكِّرُنا بِمركزَين كبيرَين في منطقتَين واسعتَين. حيث أنهم ليسوا أقرباءَ ولا متقاربين في اللغةِ فحسب (مع الميتانيين)، بل إنّ أنماطَ حياتِهم متشابهةٌ لأبعدِ الحدود. والحلقةُ المفقودةُ تقعُ في المناطق المتوسطة بين هؤلاءِ الميتانيين والحثيين كقوتَين بارزتَين في نفسِ المرحلة. وكُلِّي قناعةٌ بأنّ هذه الأمورَ ستَنكَشِفُ للنورِ مع تَطَوُّرِ البحوثِ بشأنها. وبعضُ المراكزِ الهامة المتبقيةِ من الحثيين، يَتَصَدَّرُها مركزُ هاتوشاش ، تشير إلى أنهم حَقَّقوا بعضَ التطورات والإنجازاتِ في الحضارة المدينية. حيث ثمةَ أماكنُ مقدَّسةٌ تَتَعَدى في ماهيتِها الزقورات. كما أنّ معابدَهم الدينيةَ، والقصورَ الإدارية، ومساكنَ العاملين، والخزانات؛ كلُّها متمايزةٌ ومنفصلةٌ للغاية. ويَمتَلِكون ساحاتٍ أوسعَ من الأسوار، علاوةً على تشييدهم العديدَ من المدنِ المشابهة، وتَمَيُّزِهم بِكَونِهم الدولةُ الأعتى عسكرياً نِسبةً لعهدهم.
وقد كانوا جيراناً على علاقاتٍ وثيقةٍ مع الحَول، بِدءاً من مدينةِ طروادة (إما أنها من بِناءِ الحثيين، أو مدينةٌ حضاريةٌ خاصةٌ بمجموعةٍ قريبةٍ منهم ومتحالفةٍ معهم وتٌشاطِرُهم الثقافةَ ذاتها) الذائعةِ الصِّيتِ إلى الغرب منهم، حتى الآخيين (من الأصحِّ اعتبارَ هذه المجموعةِ من المتأثرين ببلادِ الأناضول، أو من المجموعاتِ الآريةِ المهاجرةِ في أعوامِ 1800 ق.م. أما إرجاعُ جذورِها إلى الشمالِ وانحدارُها من أوروبا، فهو تفسيرٌ معاكسٌ لمسارِ توسعِ وانتشارِ الحضارة المدينية. والخطأُ نفسُه يُرتَكَبُ بِحَقِّ الحثيين أيضاً) المنحدرين الأوائلِ من شبهِ الجزيرةِ اليونانية، والآشكياوا في شمالي أنطالية Antalya، والكاشكائيين Kaşkalar (شعوب البحر الأسود) في شَمالِيهِم، والكليكيين Kilikyalılar (وهو الشعب القاطن في جبالِ طوروس، وكذلك اللويين Luwiler البارزين في نفسِ المرحلة لمُدَّةٍ طويلةٍ) في جقوروفا Çukurova، والدولةِ المصريةِ الفرعونية الشهيرة بمنافستِها لَهم في الجنوب. أما الأَهلُون القاطنُون في منطقةِ النواةِ المركزية، فهم الحاتيون Hattiler. وتَسمِيَتُهم أنفسَهم بـ"وطنِ الألفِ إله" إنما تَدُلُّ على الأهميةِ الفائقةِ التي يُولونها لأصدقائِهم (تَعكِسُ تحالفاتِ الإمارات)، أكثر من منافسةِ الآلهةِ بعضَها بعضاً. فمن أشهرِ ذكرياتِهم التي تَرَكوها لنا إبرامُهُم أولَ معاهدةٍ مُدوَّنةٍ في التاريخ (معاهدة قادش بالقربِ من مدينةِ حماه ونهرِ العاصي بُعَيدَ الحرب) بين فرعونِ مصر رمسيس الثاني ومَلِكِ الحثيين مواتاليش Muvataliş أو حاتوشيلي الثالث . واضحٌ أنه لديهم ما هو أَشبَهُ بمجلسِ الأرستقراطيين، ويُسمَّى بانكوش Pankuş. ومن المعقولِ القول بأولويةِ وزعامةِ الأميرِ هاتوشاش ضمن فيدراليةِ الإمارات القائمة.
لقد تَطَرَّقنا مراتٍ عديدةً للحضارةِ المصرية القائمة في الشرق على ضِفافِ نهرِ النيل. ورغم أنها تَعكِسُ ذاتَها وكأنها انطلاقةٌ مستقلة، إلا أنّ القولَ بِحَملِها آثارَ القِيَمِ الثقافيةِ الآرية (الشَّبَهُ الأبعدُ قليلاً بالنسبة إلى السومريين) أكثرُ إثباتاً لحقيقتها، ذلك أنه ما مِن دليلٍ يشيرُ إلى أنّ الديناميكياتِ الداخليةَ للنيل، أو جيرانَها في الجوار مُهَيَّأةٌ لإنتاجِ وصُنعِ حضارةٍ كهذه. وقتئذ، لا يبقى أمامَنا إلا احتمالُ كَونِها انعكاساً للثقافةِ الآريةِ حصيلةَ الهجراتِ الكثيفة للغاية والمتبادلةِ في تلك الأزمان. لا جدالَ البتة في عَظَمةِ الحضارةِ المصرية، ولكنّ عَجزَها عن التوسعِ إلى أبعدِ من ضِفافِ النيل حقيقةٌ واقعة. أما أسبابُ عدمِ تَحَلِّيها بالميزاتِ التي تُخَوِّلُها للتوسع، فهو وضعٌ يتطلبُ المساءلةَ والبحث. في حين أنه لا تَتَبَدى معالمُ اعتمادِها على ثقافةٍ جوهريةٍ خاصةٍ على ضفافِ النيل، وكأنها معجزةٌ نَزلَت عليها من السماء. وما دامَ الأمرُ ليس كذلك، فنحن مُرغَمون على التبيانِ تكراراً ومراراً بأنّ منبعَ ولادتِها هو الثورةُ النيوليتيةُ القائمةُ على حوافِّ سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس، مع أخذِ حقيقةِ قبيلةِ الهكسوس والعبرانيين بِعَينِ الاعتبار.
علاوةً على أنّ الكتابةَ الهيروغليفيةَ أكثرُ بدائيةً من الكتابةِ المسمارية، وغيرُ ملائمةٍ للتطور كثيراً بسببِ ضيقِ فاعليتها وأدائِها. قد تَكُونُ الأهراماتُ معجزاتٍ معماريةً خارقة، ولكنها إحدى فعالياتِهم المتهورةِ التي ابتَلَعَت كدحَ العبيد بشكلٍ مُروِّع. ولدى تقسيمِها إلى عدةِ مراحل، فإنها تَشمَلُ أيضاً مرحلةَ المَلَكيةِ القديمةِ فيما بين 3000 – 2500 ق.م، والتي شَهِدَت بروزَ عددٍ جَمٍّ من السلالاتِ والأسَرِ الحاكمةِ في أَقرَبِ المناطق إلى الأراضي الرسوبيةِ الغرينية، أي، بالقربِ من مدينةِ القاهرة الحالية. وهي مشهورةٌ بقبورِ الأهرام. أما في مرحلةِ المَلَكيةِ الوسطى فيما بين أعوام 2050 – 1850 ق.م، نلاحظُ غَلَبةَ المعابد، وبالتالي، غلبةَ طابعِ الرهبان عليها. في حين أنّ استيلاءَ الهكسوسِ عليها في أعوامِ 1800 ق.م أمرٌ خَليقٌ بالتمعنِ فيه ملياً. حيث أنّ دَكَّ الهكسوسِ لدعائمِ النظامِ الفرعوني، الذي عَجِزَت عن هدمِهِ الأقوامُ الأخرى، يُشيرُ إلى مدى قوةِ الثقافةِ والتنظيمِ المستترةِ خلفهم، إذ بَقَوا يديرون مصر لِما يُقارِبُ القرنَ ونصفَ القرن. تَأَسَّسَت مرحلةُ المَلَكيةِ الجديدةِ في أعوام 1600 ق.م مع "سيتي الأول ". وهي تَتَزامنُ مع مرحلةِ تَطَوُّرِ التجارة، تماماً مثلما لدى الآشوريين. هذا وقد تَطَوَّرَت مرحلةُ المَلكيةِ الجديدةِ هذه في أقاصي جنوبِ النيل في الكَرنَك Karnak، تماماً مثلما ظهرَ الآشوريون في أقاصي شمالِ ميزوبوتاميا السفلى. وقد انتقلوا إلى مرحلةٍ جديدةٍ من بناءِ القبور في هذه المرحلة، إلى جانبِ تَدَنِّي منزلةِ الرهبانِ إلى المرتبةِ الثانية، رغم كَونِهِم لا يزالون أشداءَ حينها.
في هذه المرحلةِ أَتَت القبيلةُ العبرانيةُ إلى مصر. من المحتمل أنْ تَكُونَ أعوامُ 1600 ق.م أنسَبَ تاريخٍ لمجيئها بعد الهكسوس، وأنها عادَت أدراجَها ثانيةً في أواخرِ أعوام 1300 ق.م بعد أنْ مَكَثَت هناك ثلاثةَ قرون. والمَلِكُ أخناتون مشهورٌ بإعلانِهِ الدينَ الوحدويَّ لأولِ مرةٍ في التاريخ (يُفتَرَضُ أنّ ذلك في أعوام 1400 ق.م). كما جِيءَ بالكثيرِ من الأميراتِ الحثيات والميتانياتِ عروساتٍ إلى القصورِ. هذا وتُقَدِّمُ قبورُهم أمثلةً تَدُلُّ بكلِّ سطوعٍ على أنهم طَوَّروا العمارَ على نحوٍ ملفتٍ للانتباه، حيث أَثَّروا في الحضارةِ الإغريقية – الرومانية أكثرَ من السومريين بكثير. في حين أنّ بُنيَتَهم الدينيةَ المختلطةَ أَشبَهُ بنسخةٍ معدلةٍ من خليطِ السومريين. فتقاليدُ إيزيس – أوزوريس تُنَبِّهُنا إلى أنها أَقرَبُ إلى تقاليد إينانا – أنكي. وكذلك، فتقاليدُ آمون – رَع أَقرَبُ إلى نظامِ زقوراتِ الرهبان السومريين.
سيبقى السؤالُ التالي مطروحاً: كيف، وأيٌّ منهما أَثَّرَ في الثاني، المصريون أم السومريون؟ فَمِصرُ لها نقلاتُها الأصيلةُ الصافيةُ في صُنعِ الزوارق، ونَصبِ العواميدِ والمِسَلاّت الصخرية، ورسمِ النقوش على الجدران، وفنِّ التقويمِ السنوي، والطبِّ، وعلمِ التنجيم، وتحنيطِ المومياء . واضحٌ وضوحَ النهار أنهم أَثَّروا في الحضارةِ الإغريقية، ومن خلالها في الثقافةِ اليونانية أيضاً. هذا وكانت علاقاتُهُم مع الفينيقيين على مستوياتٍ متقدمة، في حين كانوا في نزاعٍ وصِدامٍ مع الميتانيين والحثيين عبر أراضي سوريا وفلسطين الحالية. وبعدَ أعوام 1000 ق.م تَتَعَرَّضُ من الجنوب للهجماتِ المتواصلةِ على يدِ الأقوام ذاتِ الأصولِ السودانية – الحبشية، ولأولِ مرةٍ تَخضَعُ لتبعيةِ قوةٍ خارجيةٍ مع هجومِ الآشوريين في أعوام 670 ق.م. تَلاهم بعدَ ذلك البرسيون، حيث أخضَعوها لِحُكمِهِم في 525 ق.م، ومن ثَمَّ احتلالُ الإسكندر في أعوام 333 ق.م، لِتَنتَقِلَ لِوِصايتِهِ الإدارية. ومع انهزامِ كليوباترا ذاتِ الأصولِ الثقافية الهيلينيةِ تجاهَ الغزوِ الروماني في مُستَهَلِّ الأعوامِ الميلادية، تنتهي المرحلةُ الأولى من قصةِ نهايةِ هذه الحضارة المدينية المعمِّرةِ أربعةَ آلافِ عام.
إنّ هذه الحضارةَ المدينية، التي تَرَكَت بصماتِها على صفحاتِ التاريخ بقدرِ السومريين على أقلِّ تقدير، قد شَهِدَت النظامَ العبوديَّ الكلاسيكيَّ بأكثرِ أحوالِهِ نقاءً. إذ لَم تَشهَد أيةُ مدنيةٍ أخرى هذا القدرَ من التلاحمِ بين الرقيقِ والسيد. فالدِّينُ الواعدُ بالدنيا الآخرةِ لأجلِ العبيد الذين لَم يذوقوا طعمَ الراحة في هذه الدنيا، كانَ وسيلةً شرعيةً وطيدةً في عواطفهم. إنها ساحةُ الحضارة المدينية المنيعة التي ابتُدِعت فيها براديغما الجنةِ والجحيم، والدنيا الآخرةِ برسوخ. أما زواجُ الإخوةِ بين الفراعنة، فربما أنه يَرجِعُ إلى تقاليدِ الكلان القديمة، ومن حاجتِهِم لعدمِ تدميرِ بنيةِ السلالات. وأكبرُ الظنِّ أنهم أَثَّروا في الأديانِ الإبراهيمية بقدرِ تأثيرِ العقائدِ الدينية السومرية – البابلية فيها بأقلِّ تقدير. فانحدارُ سيدِنا موسى من الثقافةِ المصرية، وهروبُ سَلَفِهِ سيدُنا إبراهيم من نماردةِ البابليين، إنما يحثنا على التفكير في التأثيرِ القويِّ لهاتَين الثقافتَين كتركيبةٍ جديدة. ولا تَلُوحُ للعيانِ إمكانيةُ تَصَوُّرِ الأديانِ الإبراهيمية خارجَ نطاقِ تأثيراتِ هاتَين الثقافتَين. ونظامُ فراعنةِ مصر بحالِهِ الأصليةِ أَقرَبُ إلى نظامِ "شيوعيةِ الدولة".
تُعتَبَرُ حضارةُ أورارتو أيضاً من حضاراتِ الجيلِ الأول. ويُجمَع على احتمالِ تَوَجُّهِها نحوَ نظامِ المَلَكيةِ المركزيِّ الأولِ في أعوامِ 870 ق.م، بَعدَ مرحلةٍ طويلةٍ من كونفدراليات النائيريين الذين كانوا في صراعٍ دائمٍ مع الآشوريين (الشعبُ النائيري يعني شعبَ الأنهار. وربما أنّ المعنيّين بهم هم الكردُ الأصليون المتواجدون في المنطقةِ الواقعةِ بين نهرِ دجلة وروافدِه). فعندما يَفتَخِرُ المَلِكُ ساردوري Sarduri (على الأرجحِ أنّ هذه الكلمةَ تعني سردار Serdar) في الكتاباتِ الآشورية بقضائِه على كلِّ خصومِه المُعادين، والنَّيلِ منهم بدعمٍ كبيرٍ وإشرافٍ سديدٍ من الإلهِ العظيم خالدي Haldi (أكبرُ الظنِّ أنّ كلماتِ خودا Guda، خودَيا Gudea، خوتا Got تَنبعُ من اسمِ الإله عينه. فكيفما يعني اللهُ بالنسبةِ للساميّين، فكذلك هو خودا Guda في الثقافةِ الآرية. وهي تعني "الخالقُ نفسَه بنفسِه". ولا تزالُ هذه الكلمةُ دارجةً في اللغتَين الكرديةِ والفارسيةِ عِوَضاً عن كلمةِ الله)، وكأنه يُبَشِّر بمسيرتِه المذهلةِ صَوبَ المَلَكيةِ المركزية، والتي اختارَ وان الحالية مركزاً لها. ولأنهم منحدرون من قبيلةِ وانيليلي Vanilili، فَقَد بَقِيَ اسمُ مدينةِ وان إلى اليوم. الاسمُ الآخرُ الشهيرُ هو توشبا Tuşpa، وهو مشتقٌّ من أسماءِ أحدِ الآلهةِ الكبرى، وهو إلهُ الشمسِ تَشُوب . وقد شادوا عدداً جماً من القلاعِ في المركز، وأَحكَموا قبضتَهم في بسطِ النفوذِ المركزي الوطيدِ من حوافِّ جبالِ زاغروس على الحدودِ الإيرانية في الشرق إلى شواطئِ نهرِ الفرات في الغرب، من وديانِ آراس في الشمالِ إلى مناطقِ الآشوريين التي تَبلغُ حتى شمالي أراضي سوريا الحاليةِ في الجنوب. هذا ويُعتَقَد أنهم أولُ من أَسَّسوا نظامَ المحافظات، فهذا النمطُ من واقعِ التمركزِ هو الأولُ في التاريخ. أما أنظمتُهم العقائديةُ، فيَطغى عليها التأثيرُ السومريُّ والآشوري. كما أنهم تَمَيَّزوا بنظامٍ لغويٍّ شائكٍ بطبيعةِ الحال، حيث استَخدَموا الكتابةَ المسمارية، إلى جانبِ الآشوريةِ التي انتَهَلوها من الإداريين الآشوريين، بالإضافةِ إلى خليطٍ لغويٍّ لا يزالُ عويصاً على التفكيكِ التامِّ من لغاتِ القبائلِ النازحةِ من بلادِ القفقاس من جهة، ومن بقايا اللغةِ الهورية من جهةٍ ثانية؛ علاوةً على أنها لغةٌ شبيهةٌ بالأرمنية. ومن هنا جاءت عبارةُ "تَتَحَدَّثُ في بابل بِاثنَينِ وسبعين لغة" لِتَدُلَّ على هذا الواقع.
ولكن، من المهم التشديدُ على نقطةٍ هامة، ألا وهي أنّ اللغاتِ الدارجةَ في القصورِ والسرايا مختلفةٌ في كلِّ زمانٍ عن لغةِ الجماعات التابعةِ لها. فحتى قبلَ قرونٍ ليست ببعيدةٍ كانت اللغاتُ المنطوقُ بها في القصورِ الأوروبية لا تَمُتُّ بأيةِ صلةٍ لِلُّغاتِ التي يتحدثُ بها الشعبُ الآهلُ هناك، من قَبِيلِ اللغتَين الألمانيةِ واللاتينية (في القديمِ البعيد) على سبيلِ المثال. كما أنّ اللغةَ العربيةَ أيضاً كانت تُعتَبَر لغةً رسميةً في كافةِ القصور ردحاً طويلاً من الزمن. وكذلك، فالمسافةُ بين العثمانيةِ والتركيةِ الأصلية شاسعةٌ تكادٌ تَكُونُ بقدرِ البُعدِ عن لغةٍ أجنبيةٍ أخرى. والإنكليزيةُ الراهنةُ هي لغةُ الدولةِ الرسمية في عشراتِ البلدان التي ليس لها أيةُ أواصرَ أثنيةٍ أو قوميةٍ أو وطنيةٍ مع الإنكليز. ويبدو أنّ قواعدَ مشابهةً لهذه كانت سائدةً في مركزِ مَلَكيةِ أورارتو. وما التكلمُ بالآشورية في السابق سوى دليلٌ يضعُ هذه الحقيقة بين يدينا. وهي تُعَدُّ الحضارةَ الأقوى في العصر الحديدي . فالعددُ الكبيرُ من المصنوعاتِ والمراجلِ والصحونِ والأسلحةِ المصنوعة من خليطِ الحديد والنحاس وَصَلَت منهم إلى يومِنا الراهن. إنها الحضارةُ الأولى التي تَستَخدِمُ الحديدَ بهذه الكثرة. منْ جانبٍ آخر، فقد تَطَوَّرَت فيها مفاهيمُ من قَبِيلِ العاصمةِ ومركزِ المحافظة والمدينة. أما شبكةُ المواصلات، فتُنَبِّؤنا بطريقِ المَلِك. ولا تزالُ تلك المسالك هي المُرَجَّحةً. علاوةً على أنّ قبورَ الملوكِ المنحوتةَ في قلبِ الصخورِ مهيبةٌ عظيمة. فقد كانوا يَجمَعون الأرقّاء العبيدَ من كلِّ شعوبِ الجوار ليَستَخدِموهم في إنشاءِ المدن وتشييدِ القلاع. كما تَمَيَّزوا بِتَقَدُّمِهم الملحوظِ في أنظمةِ قنواتِ الري وصُنعِ البِرَك. وهم القوةُ الوحيدةُ التي صَمَدَت في وجهِ هجماتِ الآشوريين. فَبَعدَ صداماتٍ محتدمةٍ دامَت بينهما ثلاثةَ قرونٍ بحالها، انهارَت كلتاهما في نفسِ الوقت، وعلى يدِ القوة نفسِها (615ق.م). ومن حينها لم يَشهَد التاريخُ كياناً سياسياً مشابهاً في هذه الأراضي.
أما الانطلاقةُ الأخيرةُ البهيةُ والعظيمة للجيلِ الأول، فتَتَجَسَّدُ في الإمبراطوريةِ الميدية – البرسية. والميديون هم الذين أَعدُّوا وهيأوا لهذه الانطلاقة. وكلمةُ ماد Med تَنحَدِرُ بالأغلب من الثقافةِ اليونانية. يُجمِع المؤرخون على أنهم يُشَكِّلون فرعاً متقدماً وشديدَ البأس من الآريين. وباعتبارِ أنه لم تَقدِر أيةُ مجموعةٍ أثنيةٍ أخرى على الاستقرارِ في تلك الأراضي، فإنّ الحديثَ عن ثقافةِ الميديين الأصيلةِ وثقافةِ ميديا العريقةِ سيكون في محله. وبطبيعةِ الحال، فلا يزال تعبيرا الميديين وميديا دارجَين في تعريفِ الأراضي عينها. ويُلاحَظ أنهم نشأوا وزرعوا ثقافتهم وتراثهم في سلسلة جبال زاغروس، حيث يُمكِنُ إرجاعُ أصولِهم إلى القوط والكاشيين. هذا وثمة إجماعٌ عامٌّ على إدراجِهم في قائمةِ الهوريين عموماً. وبالمقدورِ القولُ أنهم يُشَكِّلون أنسابَ العشائرِ التي هي أكثرُ من تَصارَعَ وتَنازَعَ مع الآشوريين، وعانى الويلاتِ على يدهم. وتَدَوُّلُهم على علاقةٍ وثيقةٍ بهذه المقاومات، فقد كانوا يَرَون طَلاسِمَ النجاحِ المظفر في كونفدراليةِ العشائر.
هكذا تقومُ أنسابُ القبائل المتجمعة لأولِ مرةٍ في عام 715 ق.م بتشكيلِ وحدتِها المتراخية. وحصيلةَ تَحامُلِ الآشوريين والأورارتيين عليهم، نُدرِكُ أنهم انحازوا للتحالفِ مع الأنسابِ الإسكيتية الشهيرةِ الآتية من القفقاس (يبدو أنّ ذلك تقليدٌ تاريخي)، وعانَوا التناقضاتِ معهم، حيث تَبَدَّلَ زمامُ القيادة فيما بينهم بين الفترة الأخرى. وقَبلَ نشوبِ المقاومة بحوالي ثلاثةِ قرون، دَكَّ الميديون دعائمَ قصورِ الأورارتيين (حوالي 615 ق.م) ثم انقَضُّوا على عاصمةِ الآشوريين ليُدَمِّروها أشدَّ تدمير، ويَضَعوا حداً فاصلاً لهاتَين الحضارتَين الأخيرتَين المنيعتَين اللتَين شَهِدَتهُما ميزوبوتاميا. يُقال أنّ الميديين شادوا عاصمةً أشهرَ من نارٍ على عَلَم، وأَسمَوها أقبطان (بالقرب من همذان Hemedan الحاليةِ في إيران)، وأنهم أَحاطُوها بسبعةِ أسوارٍ مطليةٍ بسبعةِ ألوان، ووَسَّعوا حدودَهم الغربيةَ إلى أنْ وَصَلَت النهرَ الأحمر، وغدَوا جيرانَ الفريغيين . وقد تَسَبَّبَت علاقاتُ القرابةِ مع القبائلِ الفارسية في قِصَرِ مُدَدِ نفوذهم. فالكيانُ السياسي الذي أَنشأوه وصانوه بجهودٍ دؤوبةٍ حثيثةٍ طيلةَ ثلاثةِ قرون، أَحكَمَت عليه السلالةُ الأخمينيةُ الفارسيةُ قبضتَها وانتزعَته منهم بمكيدةٍ حَبَكَتها في قصورِها خلالَ مدةٍ وجيزة. فأحد أحفادِ بناتِ تلك السلالةِ الفارسية، والذي يُدعى كيروس Kiros الفارسيّ، يتحالفُ مع القائدِ العسكري هرباكوس Harpagos في القصرِ للإطاحةِ بالمَلِكِ العجوزِ الأخير أستياغ بانقلابٍ مؤلمٍ للغاية في القصر. ونَعلَمُ من تاريخِ هيرودوت أنّ أستياغ كان قد قال مَقابلَ هذه الدناءة: "أيها السافل، ما دُمتَ أَطَحتَ بي، فلماذا تُسَلِّمُ السلطةَ لذاك الفارسيِّ ابن الحرام؟ لو أنكَ أنتَ استلمتَ السلطةَ على الأقل.. لماذا سلَّمتَ دفةَ الحكم إلى يدِ الفارسيين؟ لو أنكَ أبقيتَها في يدِ الميديين!". ولو كانَ هيرودوت لا يُلَفِّقُ ذلك من لَدُنِّهِ (ونحن مُرغَمون على الوثوقِ به وتصديقِهِ لأنه أولُ مؤرخٍ عالِمٍ وحكيمٍ جَابَ في الأرض أكثرَ من غيره)، فهذا الوضعُ يشيرُ إلى أنّ التواطؤَ الكرديَّ قد تَشَكَّلَت مزاياهُ الدنيئةُ الواطئةُ للغاية منذ آلافِ السنين.
إني على قناعةٍ بأنّ أولَ متواطئٍ كرديٍّ شَهيرٍ في التاريخ هو أنكيدو Enkidu، الذي أتى به گلگامش، مَلِكُ أوروك، من الغاباتِ (كانت الغاباتُ كثيفةً في تلك الأزمان في المناطقِ التي يَستَقِرُّ فيها الكردُ الأوائل بالأغلب)، لِيُسَخِّرَهُ كعميلٍ متواطئٍ معه في غزوِ مناطقِ الغابات. أي أنّ هذه المسألةَ غائرةٌ في التاريخِ لدرجةِ أنها أصبحَت موضوعَ الملاحمِ الأولى؛ وبالطبع، بوساطة المرأة، مثلما هي الحال في كلِّ الأوقات! فقد ضَحَّى بأجواءِ الجبالِ الحرةِ وبأصدقائِهِ كَرمى لعينَي راهبةِ المعبد وجاذبيتِها وشهواتِها المُضَلِّلة. كَم هذا الوضعُ شبيهٌ لأبعدِ حَدٍّ بهذه الأيام (شبيهٌ بمئاتِ الشخصياتِ المطابقةِ لـ هرباكوس، والبارزةِ بين صفوفِ حركةِ الحريةِ الكرديةِ وPKK)! إذن، يجبُ الإدراك يقيناً وجلياً أنّ شخصيةَ الكرديِّ المتواطئِ الحاليِّ قد تَشَكَّلَت تاريخياً، وأنه لا يتوانى عن بيعِ أيةِ قيمةٍ نفيسةٍ في سبيلِ زوجتِه وعائلته التي لا تساوي خمسةَ قروش. ولهذا السببِ ابتَعدَ عن النبالةِ والأصالةِ والسياسة والحكمةِ الحقيقية، واغتَرَبَ عن الحياةِ الثمينة الفاضلةِ الممتعةِ بِحَق (والتي تَمُرُّ من الحياةِ الحرة)، وبالتالي، رَجَّحَ حياةً بغيضةً ممقوتةً.
يُخَصِّصُ اليونانيون (أَقصُدُ اليونانيين القدامى، وليس الحداثويين غَريبِي الأطوار)، وبالأخصِّ هيرودوت، قسماً كبيراً من التاريخِ لأجلِ الميديين. إذ يُطلِق اسمَ الميديين على كلِّ المنحدرين من الثقافةِ الهورية، حسبما أعتقد، ويَحتَرِمُ عَظَمَةَ الميديين، في حين يَعتَبِرُ البرسيين من المرتبةِ الثانية. وكأنه يَرى عينَ الحقيقة عندما قالَ أنّ الطابعَ الثقافيَّ للمنطقةِ ممهورٌ بمُهرِ نَسلِ الميديين. فالبرسيون حينها كانوا مجموعةً مجهولةَ الاسم ظَهَرَت لِتَوِّها على حَلَبَةِ التاريخ، وتَتَّسِمُ بِضُعفِ ثقافتِها. في حين أنّ عَظَمَةَ الثقافةِ الهورية كان قد دوَّى صداها من شواطئِ بحرِ إيجة إلى عيلام، ومن حدودِ القوقاز إلى الحدودِ المصرية. وقد سَلَّطَ هيرودوتُ الضوءَ على هذه الحقيقةِ في تاريخِه عن وجهِ حَق.
ما أَدَّاه الرهبانُ الأوائلُ في الحضارةِ السومرية (وفي بداياتِ تشييدِ صرحِ جميعِ الحضارات عموماً) مِن دورٍ في إنشاءِ الذهنيةِ الجديدة والإلهِ الجديد، إنما يجري على الحضارةِ الأورارتية والميديةِ – البرسية المشيَّدةِ قَبْلاً في الساحةِ نفسها. إذ بمقدورِنا القول أنهم شَكَّلوا رهبانَهم المُسَمَّون ماغ تحت رايةِ الريادةِ الزرادشتيةِ كرمزٍ – وربما لقبٍ – يشير إليهم، وأنّ موشاسيرَ Muşasir المتواجدةَ في منطقةِ برادوست Bradost الحاليةِ كانت مركزَ مدائنِهم المقدسة، وأنّ أولَ مجمعٍ للآلهةِ الأولى قد تَأَسَّسَ هناك، ومن ثَمَّ انتَقَلَ إلى توشبا وأقبطان وبرسابوليس . ذلك أنه من الصعبِ عليهم تشييد صرحِ حضارةٍ جديةٍ وطيدة، ما لم يَكُنْ لهم تقاليدُ رهبانيةٌ معمِّرة. ويؤدي الفلاسفةُ في الثقافةِ اليونانية بفلسفاتِهم البارزةِ، وكذلك المثقفون المتنورون في مرحلةِ التنويرِ في المدنيةِ الأوروبية دوراً شبيهاً بذلك. ومن المفيدِ إدراج الشيوخِ لدى السامِيِّين والأنبياءِ لدى العبرانيين في الصنفِ عينِه.
مِن الضروريِّ بمكانٍ التَّعَرُّفُ بدقةٍ على الأدوارِ الجِدِّ هامةٍ التي أَدَّاها زرادشتُ ورهبانُ ماغ في مرحلةِ انطلاقةِ الميديين. لَدَيَّ قناعةٌ أكيدةٌ بأنّ أخلاقَ وعقائدَ الرهبانِ الميديين والعنصرِ المؤسِّسِ زرادشت شهيرةٌ بِدورِها في عَدَمِ التلوثِ بأوساخِ المدنية، وذلك عبرَ تقديسِهم للنارِ والزراعةِ والحيوانات، وعَكسِهِم بجانبِهِم هذا لِقِيَمِ المجتمعِ النيوليتي. فالزرادشتيةُ مختلفةٌ كلَّ الاختلافِ عن ابتِداعِ الرهبانِ السومريين للمَلِك – الإلهِ المقَنَّع، بل وهي على الضدِّ منه. فهي مُترَعَةٌ بمفاهيمَ جدليةٍ تَنظُرُ إلى الكونِ بِأنه عبارة عن صراعِ الفضيلة – الرذيلة، والنورِ – الظلام. كما أنّ الأخلاقَ الحرةَ دستورٌ أوليٌّ في رَهبَنَةِ زرادشت المُلهَمةِ بهواءِ الجبالِ الحرة (ثقافةِ الإلهِ ديونيسوس في الثقافة اليونانية) غيرِ الغارقةِ كلياً في أجواءِ المدنية. فهي تَتَحَدَّثُ عن قدسيةِ الزراعة والحيوانات، وعن طبائعِ الإنسان الحر؛ بدلاً من أنْ تَصنَعَ الآلهة.
ولهذه الأخلاقِ مكانتُها البارزةُ ونصيبُها الوافرُ في رُقِيِّ الميديين – البرسيين وهزيمةِ وانهيارِ الآشوريين. فلولا وَلَعُهُم وشَغَفُهُم بالحياةِ الحرة لَوَقَعُوا أسرى بِيَدِ الخصومِ بكلِّ سهولة، مثلما حصلَ للشعوب الأخرى. أَقصُدُ بالشعوبِ الأخرى، تلك المتخبطةَ حتى النخاعِ تحت تأثيرِ المجتمع المديني.
بَعدَ مَوتِ كيروس (مرحلة ما بين 559 – 529 ق.م)، يتمُّ القضاءُ بكلِّ سهولةٍ على مجموعةٍ ذاتِ منشأٍ ميديٍّ كانت قد استعادَت دفةَ الحكم في 628 ق.م عبرَ انقلابٍ على يدِ الرهبان الميديين، لِيبدأَ عهدُ داريوس الشهير (ما بين 586 – 521 ق.م)، وتَتَأَسَّسَ أوسعُ إمبراطوريةٍ في التاريخ خلال مدة قصيرة، بعدَ سقوطِ مدائنِ بابل ومصر ومدينةِ إيون الواقعةِ على شواطئِ بحر إيجة، لِتَمتَدَّ من شواطئِ إيجة إلى شواطئِ بينجاف (الأنهار الخمسة) في الشرق؛ وتَندَرِجَ هيمنةُ كافةِ المدنيات في العالم تحت سقفها، فيما خلا الصين. لا شكَّ في أنها انتَهَلَت واستَقَت الكثيرَ من الثقافات (الثقافاتِ المدنية) السومرية، الآشوريةِ، البابلية، والأورارتية. فضلاً عن أنها اقتَاتَت أيضاً على الشرايينِ الحرةِ للثقافةِ الآرية، وبَدَأَت تَتَأَثَّرُ بالثقافةِ اليونانية عبر الإسكيت الشهيرين المنحدرين من الشمال، وبالأتراكِ الأوائل في شرقيهم؛ وتَعقِدُ العلاقاتِ معهم. وباحتضانها هذا العددَ الجَمَّ من الثقافاتِ وجَمْعِها كتركيبةٍ جديدةٍ في بنيتها، أَهدَت التاريخَ مثالاً خاصاً بها.
تُمَثِّل الإمبراطوريةُ الميدية – البرسيةُ (وبالفعل، فقد كان الميديون في المرتبةِ الثانية، وشَكَّلوا على الدوام القوةَ الغالبةَ والأساسية في الجيش. وقد كان لعلاقاتِ القرابةِ الوطيدةِ تأثيرُها في ذلك) تُمَثِّلُ آخِرَ إمبراطورياتِ الجيلِ الأول وأوسعَها نطاقاً. فقد بَلَغوا أوجَ الحضارة وحَقَّقوا الحدودَ القصوى الممكن وصولها في الثقافةِ الحضارية للجيلِ الأول. أما عَظَمَةُ مركزِهم (بقايا مدينةِ برسابوليس لا تزال بهية زاهية)، ومَنَعَةُ مراكزهم في المحافظات، فهي أَشبَهُ بإمبراطوريةِ روما التمهيدية. فالحضارةُ الإغريقيةُ - الرومانية تُعتَبَرُ أقوى مؤثرٍ هَيَّأَ العالَمَ وأَعَدَّه. وهي مشهورةٌ بنظامِها السياسي (أولُ من يُرَسِّخُ نظامَ المحافظات في التاريخ بعدَ الأورارتيين)، وبالبريدِ وطُرُقِ المواصلاتِ الضخمة (أولُ أطولِ طريقٍ شهيرٍ في التاريخ، وهو طريقُ المَلِك، الذي يَحُفُّ شواطئَ بحرِ إيجة، ويبدأُ من سارد Sard لينتهيَ في برسابوليس). كما أنها معروفةٌ بِوَحَداتِ الحماية الخاصة، وألويةِ الفدائيين، وبامتلاكِها جيشاً قَوامُهُ مئاتُ الآلاف. هذا وقد حَقَّقَت تَطَوُّراً ملحوظاً في المجالِ المعماري، وتَمَيَّزَت بِتَبايُنِها في العقائدِ والطقوس والشعائرِ الدينية، إلى جانبِ الفصلِ بين دِينِ النبلاء ودِينِ الشعب (الميترائية ). هذا وحَقَّقَت نقلةً من التقاليدِ القَبَلِيَّة إلى تقاليدٍ أرستقراطيةٍ متقدمةٍ للغاية، وأَضافَت تطوراتٍ ملحوظةً فاقَت مجموعَ ميادينِ الحضارات التي تسبقها، بحيث نالَت شرفَ الأولويةِ في إبداءِ فنِّ جَمْعِ عددٍ لا حصرَ له من القبائلِ والعشائرِ والأديان والمذاهب واللغاتِ والثقافاتِ، وتوحيدِها في بوتقةٍ واحدة. إنها آخرُ حضارةٍ للشرق في العصورِ الأولى، وهي حضارةٌ خلابةٌ تُبهِجُ الأبصارَ وتُبهِرُها، وتَتَمَيَّزُ بِتَفَوُّقِها الذي لا يُمكنُ البتة مقارَنَتَه مع الحضارةِ اليونانية الكلاسيكية الصاعدةِ حديثاً من أيةِ ناحيةٍ كانت. وإسكندرُ – تلميذُ أرسطو – في الحقيقةِ هو ذاك البربري الغازي ذو القوة الصاعدة، والذي يتطلع للاستيلاء على بلدانِ الجوار، والمُتَلَوِّي تحتَ وطأةِ عُقدَةِ النَّقصِ لديه إزاءَ ثقافةِ الشرقِ العريقة، والمُتَغَضِّنُ والمُنكَمِشُ على ذاتِهِ تجاه عَظَمَتِها ورَغْبَتُهُ في استِملاكِها. فكيفما تَكُونُ الإمبراطوريةُ الرومانيةُ تجاه القوط، هكذا هي تماماً حالُ الإمبراطوريةِ البرسية بالنسبة إلى المقدونيين، واليونانيين العاطلين عن العمل، ورؤساءِ القبائل، والممالك الصغيرة. فهي – وبِكُلِّ تأكيد – ليست أَقَلَّ شأناً من روما من حيث العظمةِ والغنى والبهاءِ والزُّهُوّ. وإذا ما نَظَرنا إلى غزوِ الإسكندرِ من هذه الزاوية، فسوف نستطيعُ تفسيرَ التاريخِ على منوالٍ أصح وأفضل.
لِننتهِ من قضايا الانتشارِ في المرحلةِ الأولى من المجتمعِ المديني، ومشاكِلِه في تحقيقِ النَّقَلات والانطلاقات، بإضافةِ بِضعَةِ نقاط. تَتَعَلَّقُ إحدى هذه القضايا بكيفيةِ مَوضَعَةِ القبيلةِ العبرانية ومكانتِها في تَطَوُّرِ المجتمع المديني. أَوَّلُ ما علينا قولُه في هذا المضمار، هو أنّ العبرانيين يَتَّسِمون بمزايا حياكةٍ مَكّوكيةٍ جامعةٍ فيما بين اللغتَين والثقافتَين الآريةِ والسامية، وكذلك بين الحضاراتِ ذاتِ المنشأِ السومري وتلك ذاتِ المنشأِ المصري، منذُ أعوام 1700 ق.م إلى يومنا الحاضر. وقد ذُكِرَت أسماءُ سروج Seruç، أورفا، حران Harran في كُتُبِهِم المقدسةِ بالذات، حيث تَنُصُّ على أنها مواطنُ أسلافِ إبراهيم. وعلى الأغلبِ أنّ قبائلَهم كانت تَرعى مواشيَها وتَتَنَقَّلُ بها من تلك الأماكن إلى مصر، مع انشغالِها نوعاً ما بالتجارة. أما عقائدُهم الدينيةُ، فتَتَأَرجَحُ بين يَهْوَه وآل – الله ELLALLAH. كما أنهم يَتَصَدَّون الانصهارَ في بوتقةِ المجتمع المديني. ولعقيدتِهم الإلهيةِ الخاصةِ بهم روابطُ وثيقةٌ مع هذا التَّصَدي، إذ يَتَمَيَّزون عن غيرِهم بتصعيدهم الأكبر لمفهومِ إلهيةِ القبيلة. أما صراعاتُهم ومنازعاتُهم المبتدئةُ مع إبراهيم تجاه نمرود (ملوكُ بابل)، والمستمرةُ مع موسى تجاه فرعون (ملوكُ مصر)، فسَتَستَمِرُّ في حياتِهم داخلَ فلسطين أيضاً تجاهَ العديدِ من القبائل، وبالطبع، تجاهَ آلهتِها أيضاً. هذا ولَهُم قصصٌ غريبةٌ عجيبةٌ في الكتابِ المقدَّس، حيث يَصُونون خصوصياتِهم وخاصياتِهم مدةً طويلةً بزعامةِ الرهبان (وَهُم أَشبَهُ بممالكِ الرهبان السومريين الأوائلِ) المنحدرين من هارون الأخ في عائلةِ موسى.
وبعدَ مرحلةِ الرهبان الأوائلِ المبتدئةِ مع موسى (أواخر 1300 ق.م)، والمنتهيةِ مع الراهبِ المشهورِ صاموئيل ؛ تَبدَأُ مرحلةُ المَلَكيةِ (مرحلةُ شاؤول، داوود ، سليمان ، ومَن تَبِعَهم بِدءاً من 1020 ق.م) القويةِ بجوانبها السياسيةِ والعسكرية، حيث يَعتَلي العرشَ الملوكُ الضعفاءُ بدلاً من الأَشِدّاء السابقين، لِيُقِيموا مَلَكيةً صغيرةً تَظَلُّ شاهدةً على المنازعاتِ والتناقضاتِ فيما بين الملوكِ والرهبان، وعلى بروزِ الأحزابِ الثنائية والثلاثية التابعةِ دوماً للقوى الخارجية. في حين أنّ الشرائحَ المقاوِمةَ والمتصديةَ والمتواطئةَ تَخسَرُ كلياً مع تَصَدّيها لآشور في أعوام 720 ق.م، لِيَبدَأَ نفيُهم إلى بابل في 540 ق.م، ويَخلُصُوا من النفيِ مع إلحاقِ البرسيين الضربةَ القاضيةَ بالنفوذِ البابلي. وهذا شبيهٌ إلى حَدٍّ ما بِخَلاصِ اليهودِ الباقين على قيدِ الحياة أثناءَ دخولِ جيشِ السوفييت إلى برلين. وهكذا، لهم عدةُ قصصٍ شبيهةٍ بتلك. فَمَثلاً؛ يَنشأُ حزبان متواطئان مرةً أخرى في الصراعِ البرسي – الإغريقي: الصَّدوقيون والفَريسيون . ثم هناك المقاوَمَةُ تجاه روما، ثم السَّبْيُ الأولُ والسَّبْيُ الثاني (أعوامَ السبعين 70 فيما قبلَ الميلاد وما بعدَه)، لِيَتَناثَروا في أراضي مصر والأناضول أَوَّلاً، ثُمَّ في كافةِ المناطقِ الحضارية على التوالي، بما فيها مناطقُ الحضاراتِ البرسية والإغريقية والرومانية.
ويَظهرُ عيسى المقاوِمُ، ويُصلَب، لِيُشَكِّلَ بدايةً دينيةً ثانيةً ذاتَ أصولٍ إبراهيمية، ويَتَحَوَّلَ لبدايةِ ملحمةٍ أسطوريةٍ بالنسبة إلى بروليتاريّي روما. وهكذا تَستَمِرُّ بَلِيَّةُ المغامراتِ الكارثية للقبيلةِ العبرانية الصغيرةِ مع الحضارةِ الإغريقية – الرومانية والحضارةِ الأوروبية. ويُسَمّون قسماً هامَّاً من رؤسائهم بـ الرباني والنبي، والذي يَعني السيدَ ورسولَ الرب. وهكذا تَبدَأُ سلسلةٌ طويلةٌ من الأنبياء، يَكُون عيسى ومحمد خاتمتُها. ولكن الموسويين لا يَعتَرِفون بهما، فتَستَمِرُّ التناقضاتُ الدينيةُ في أحشاءِ الصراعاتِ السياسية. أما عهدُ الكُتَّاب، فيبدأُ بالأرجح بعدَ الهيمنة الرومانية، لِتَستَمِرَّ تقاليدُ جيلِ الكُتَّابِ المتنورين الأشداءِ إلى يومنا بقوةٍ تُماثِلُ قوةَ جيلِ الأنبياء بأقلِّ تقدير. وبالمقابل، فإنّ الخطوةَ التجاريةَ الصغيرةَ في بداياتها، تَتَسَبَّبُ مع الزمن في ولادةِ الرأسمالية، وتؤدي دوراً أساسياً في هيمنةِ الرأسمالِ الماليِّ الراهن. إنهم قِلَّةٌ قليلةٌ في العدد، ولكنّ تأثيرَهم في تاريخِ الحضارة العالمية قويٌّ بقدرِ تأثيرِ الإمبراطوريات. لذا، فالقبيلةُ العبرانيةُ موضوعٌ جديرٌ بالبحث والتمحيصِ الدقيق بما يُماثلُ البحثَ في حضارةٍ ما بأقلِّ تقدير. فكأنهم أباطرةُ العِلمِ والدستورِ والمال، ولا يَفتَئون يَلعَبون الدورَ عينَه بكافةِ جوانبِه الغريبةِ والملفتة في يومنا الحاضرِ، مثلما كانوا عليه طيلةَ مسارِ التاريخ. وحكايَتِي الشخصيةُ أَشبَهُ بإسقاطٍ مُصَغَّرٍ لقصةِ هذه القبيلة. حيثُ خرجتُ من سروج التابعةِ لأورفا، تماماً مثلما فَعَلَ إبراهيم. إلا أنّ مقاومتي تَستَمِرُّ – مثلما الحالُ في عيسى – على صليبٍ مغايرٍ بِمَعُونَةِ المُلوكِ المتواطئين مع النظامِ القائم (المَلِكُ يهوذا يتواطأُ في قصةِ عيسى، في حين أنّ التحالفَ في قِصَّتي هو بين الموسادِ والولاياتِ المتحدة الأمريكية).
القضيةُ الأخرى هي الهجراتُ الإسكيتية الآتيةُ من الشمال، والمُتَّضِحَةُ الهويةِ في أعوامِ 800 ق.م، والتي تَعُودُ إلى القبائلِ ذاتِ الجذورِ القوقازية. إنّ هذه القبائلَ المنتشرةَ في كلِّ الأماكن، من أراضي أوروبا الداخليةِ إلى أعماقِ آسيا، ومن سهوبِ روسيا الجنوبيةِ إلى ميزوبوتاميا؛ لم تَترُكْ آثاراً واضحةَ المعالمِ بسببِ اعتمادِها على القوةِ الجسديةِ أكثرَ من الثقافة. ولكنها ذاتُ دورٍ أساسيٍّ في تأسيسِ وهدمِ العديدِ من الإمبراطوريات، مثلما هي حالُ القبيلةِ العبرانية. ونَستَخلِصُ من ذلك أنها قَدَّمَت خدماتٍ كثيرةً عبرَ حواشيها العسكريةِ ونسائِها في القصور، لِتَستَمِرَّ في دورِها هذا إلى عهدِ الإمبراطوريةِ العثمانية الأخيرة، بل وإلى فترةِ جمهوريةِ تركيا. ولكن، يبدو أنهم عَجِزوا عن الحفاظِ على ذاتِهم بقدرِ ما فَعَلَ العبرانيون، رغم أنهم يُضفُون بطابَعِ نَسَبِهم طَعماً أو نَكهَةً مُغايرةً على الثقافات. وقد تَكُونُ لهم جَمالياتُهم، ومواقفُهم الباسلة. لذا، فإنّ الإسكيت وأمثالَهم موضوعٌ خَليقٌ بالبحثِ بإمعانٍ ضمن الجيلِ الأولِ من المجتمعِ المديني.
بالمستطاعِ استخدام مصطلحِ المَركَزِ – الأطراف كَفَرَضِيَّةٍ في البحوثِ المَعنِيَّةِ بِتَشَكُّلِ الأنظمةِ التاريخية. إذ أنّ التساؤلَ عَمّا يحصلُ في الأطراف يَحظى بالأهميةِ عندما تَكُونُ مراكزُ الحضارةِ المدينية موضوعَ الحديث. فعندما تَأَسَّسَت مراكزُ المدنياتِ السومرية والمصرية والصينيةِ لأولِ مرةٍ في التاريخ، كانت قوى الأطرافِ الهامّةِ بالنسبةِ للسومريين والمصريين هي قبائلُ الأراميين والعابيرو ذاتُ الأصولِ الساميّة؛ والهُون Hunlar الأتراكُ الأوائل بالنسبة للصينيين، والقوط بالنسبةِ إلى الرومانيين. وزعماءُ قبائلِ هذه الأنساب، التي تَشهَدُ مرحلةَ البربريةِ العليا بالأغلب، عندما تَعَلَّموا كيفيةَ استخدامِ سلاحِ الحضارةِ واستَحوَذوا عليه؛ ما بَرِحوا يَهجمون ويُدافعون بطرازٍ أَشبَهُ بنوعٍ من أنواعِ حربِ الأنصار. وكانت مصائِرُهم تنتهي إما بالانصهارِ في بوتقةِ مراكزِ الحضارة المدينية الحاكمة، أو بتأسيسِ مراكزَ مدنيةٍ في الأطرافِ شبيهةٍ في بُناها بتلك المركزية. وعلى سبيلِ المثال؛ فقد تَدَوَّلَ العموريون الأكاديون على شكلِ سلالةٍ منفصلةٍ حصيلةَ هجماتِهم المتواليةِ دون انقطاع. كما أَسَّسَ العبرانيون أيضاً مَلَكِيَّتَهم المستقلةَ بناءً على ما تَعَلَّموه وعَرِفوه في مصر. في حين أنّ الهُون مِن أَشَدِّ وأعتى حركاتِ الأطراف التي شَهِدَها التاريخ، ولكنهم لم يَنجوا من الانصهارِ في الصين وأوروبا وحتى في إيران. وبينما يَبقى زعماءُ القبائل كقياداتٍ إدارية في ثقافاتِ مراكزِ الحضارة المدينية عموماً، بَقِيَت فروعُ القبائلِ الفقيرة مدةً طويلةً تعيشُ في هامشٍ ضيق، أو تُجَرِّبُ مجدداً الحفاظَ على مواقعِها مع زعماءَ جُدُد. أما القوط، فقد شادوا لَبَناتِ الإماراتِ الألمانية بهجماتِهم المتلاحقةِ على روما، وأحياناً وَضَعوا تاجَ روما على رؤوسِهم أيضاً. ويُبرِز لنا التاريخُ زعماءَ قبائلِ المغول والأوغوز، التي احتَلَّت مكانَها في تأسيسِ أولى الأسَرِ الحاكمةِ العثمانية، كمثالٍ نفيسٍ يَدُلُّ على أنهم كانوا قوةً هامةً بالنسبةِ للمدنية البيزنطية من بينِ قُوى الأطراف، وأنهم استَولوا على المركزِ بعدَ تنازُعٍ دامَ مئاتِ السنين بين الأطرافِ والمركز، لِيَتَخَلَّصوا مِن كَونِهِم في الأطراف، ويَتَحَوَّلوا إلى مركزٍ بِحَدِّ ذاته.
والإسكيت المنحدرون من الشمال عموماً، ومن بلادِ القفقاس خصوصاً، كانوا أيضاً قوةً من قوى الأطراف التي أَدَّت دوراً رئيسياً في مراكزِ الحزامِ الأولِ من الحضاراتِ المدينية على وجهِ الخصوص. فعندما تَعَرَّفوا على الحضارات، وتَسَلَّحوا بأسلحتِها، غَدوا قوةً هجوميةً مذهلة. ويُعتَقَد أنهم كانوا فعّالين ونشطاءَ للغاية فيما بين 3000 – 500 ق.م. ورغمَ تأدِيَتِهم دورَ العساكرِ المرتزقين وخَدَمِ القصور بالأغلب، إلا أنهم بَقَوا قاصرين عن بناءِ مراكزَ حضاريةٍ مدينيةٍ هامةٍ باسمهم، ولم يَخلُصُوا من الانصهارِ بنسبةٍ كبرى.