القاص والروائي عبد الجليل المياح..بورتريه خاص*


جاسم العايف
2009 / 12 / 7 - 13:29     

استعيد صورة جليل المياح ،(أبو ريع)صورة لها علاقة بي،انا الحاضر بينكم ، وهو الغائب شنقا حتى الموت ، لكنه الحاضر في ضمير مَنْ يعرفه، أو ذهن ممن قرأ له. هذه الصورة ليست خالية من خصومات وخلافات ومناكدات.. لم تكن شخصية ، ودون ضغينة ، في الأقل من جهتي ولكني أيضاً أثق بنواياه، لكنها متأثرةً بالجو العام الذي كان سائداً وكنا تحت مؤثراته، بدرجات متفاوتة، ولم يستطع أي منا الارتفاع إلى مستوى أبعد ، إذ كنا وسط الموجة ومن المؤكد ان الأمواج وشدتها ، والغابة وعتمتها ، حجبت عنا التلال الخضراء التي تؤشر وتقترح علينا ان نخفف من الغلواء ، ولا نثق كثيرا بالتاريخ وآلية سيره ، كما كنا نتصورها، وان علينا الاستجابة لنداء الكائن الثقافي إذ كنا أمناء على مكونات الكائن السياسي واجتهاداته ، ومرجعياته، معتقدين بان كل من يجتهد أو يختلف، بوجهة نظره، مع ما هو مُقرر، مَنْ الأعداء !!. وهذا من آثام الماضي وخطاياه وجروحه. ذلك الماضي الذي يقول عنه (بودلير):
"أيها الماضي
أيها الماضي
ماذا فعلت بحياتي ؟."
أبدا لا أنزه نفسي ،آلان، عن ذلك ، ولا أضعها خارج المشهد ، بل كنت في بؤرته بحكم تجربة قاسية مريرة، تعرضت لها في بداية تطلعاتي وفتوتي، وامتصت جزء لا يستهان به من سنوات شبابي، و ما تزال ندوبها تأكل في روحي.. لكني لست بنادم اطلاقا.. ولن اندم مستقبلا كذلك على خوضها ، وما جرى لي من نتائج شخصية مدمرة جراءها . ما ان حصل ما حصل في أواسط عام 1979 وأواخره ، وبعد أن رحل سمار الليل والنهار ، أصدقاء العمر و الضمير ، بات اللقاء في البيوت ، وكان بيتي المؤجر هو المرشح لذلك، بحكم سعته وقلة ساكنيه، إذ لم يكن يسكنه إلا زوجتي وأخي الصغير و أنا ، وقد اختبأ في مسكني عدد من الأصدقاء المطلوبين حينذاك .. ثم تبخروا، واحداً بعد الآخر، بصمت وسرية ، ودون علمي أو وداعي، منهم من التحق بفصائل الأنصار المسلحة في كردستان العراق، وبات خارج العراق الآن، ومنهم من توفي بحادث أو مرض خارج العراق أيضا، ومنهم من قُبض عليه وقُتل تحت التعذيب، ولم يقل حرفا واحدا ،عن بيتي الذي اختبأ فيه أكثر من شهر، وترك فيه أسراراً ، ما أزال محتفظا بها حتى اللحظة .
تواصلت العلاقة بينه وبيني ،بشكل شبه يومي، متقاسمين الخسارة، ومتجاوزين بترفع،كل ما كان قد حصل بيننا ذات زمن ما. كنت اقل ميلا لإطلاق الأحكام القاسية، وكان هو الأكثر ندبا للماضي، ونواحا على ما آلت إليه الأمور. كنت أرقب نظراته الساهمة ، المنكسرة و المجروحة ،التي يرميها، بعيدا عن المائدة التي أمامنا، و متجاوزة غرفة مسكني، التي نتهامس فيها . كنت أخمن أنه يسعى لترميم ما قد بقي، صدفة أو سهوا، ولم أتحدث معه عما كنت أخمنه، احتراما وإكراما مني لاختياراته.
بعد منتصف حزيران عام 1980، زارني ( أبو ربيع)، كعادته، في بيتي، بقينا حتى وقت متأخر من الليل ، خرجنا معا. في منتصف الطريق ، ودعني واختفى في الظلام ، بعد أيام علمت بأنهم قد قبضوا عليه. ظل ذلك اللقاء وغيابه الأبدي مرتبطا لدي في الظلام الذي غلف حياتنا أكثر من ربع قرن. في السبعينيات انشغل (أبو ربيع) في كتابة روايته الثانية . كان الكثير من التزاماته الاجتماعية والسياسية واليومية تؤجل مشروعه ، أحيانا يشكو من ذلك، وفي الغالب يبدو فرحا بالنشاط السياسي- الثقافي العام . لم ينتظر مكافأة ما او مديحا من احد . ما يؤمن به هو أداء دوره كانسان ملتزم ومؤمن بان هذا العالم لم يكن عادلا ، و يجب ان يتغير، وان الإنسان وفي أي موقع كان، يمكن أن يسهم في ذلك ، ولذا فانه قد قنن حياته الخاصة والعامة وفعلها بذلك الإيمان ، لا يخرج عنه قيد أنملة ، يسير نحوه في خط مستقيم ، وجراء ذلك واجه الكثير من المصاعب والمناكدات التي عبر، أحيانا، عنها بالتأفف أو الشكوى . إلا انه سريعا ما يلقي ذلك في اقرب زاوية من مسيرته التي كان مطمئنا لها ، ومتطامنا معها بثقة. في فترة (الجبهة الوطنية ) التي يمكن وصفها، بمثابة (عقد الإرغام- سيئ الصيت) ، سعى كثيرا لتوثيق العلاقة بــ (الحلفاء ) المتربصين كالذئاب. والذين امتلكوا كل وسائل السلطة،وبطشها، ومغانمها، واحتكروها،إرثا خاصا بهم ، ولرغباتهم، ومخططاتهم . جهد( أبو ربيع) بدأب لتفعيل الحياة الثقافية في البصرة ، وحاول مع آخرين تأسيس مركز لاتحاد الأدباء، إلا ان ذلك لم يحصل ، حاجج كثيرا بـ"ميثاق العمل الوطني"، ولم يعلم ان حفل العرس الدموي المؤجل يحتاج إلى ديكورات، وإكسسوارات، منها الأوراق التي خُتمت في يوم ما بالحبر الفاسد لمبنى(المجلس الوطني ) ، والذي لا قيمة له عند الحليف الأقوى،لأنه، ببساطة، مغموس بالدم، الدم الذي سال في اقرب فرصة سنحت، وكان دمه جزءاً منه.
لم يتخيل أو يفكر(أبو ربيع) في مشاريعه الحياتية، نفسه، بعيدا عن الايدولوجيا السياسية التي يعتنقها ، واثق انه لم يتقاطع معها حتى في إسراره ، لقد رهن كل ما كتبه وفكر به، لها وظل أمينا عليها، محولاً وجوده اليومي مشروعاً مباحاً من اجلها، وبقي وفياً لقناعاته ومبادئه، التي انعكست بوضوح وقصدية، في كل ما كتب. وبطبيعته بقي بعيدا عن ألاعيب السياسة ومخاتلتها ودمويتها، التي كانت مهيأة للانطلاق ذات لحظة. في منتصف السبعينيات اتفق الروائي إسماعيل فهد إسماعيل معه ومع الشاعر الراحل مصطفى عبد الله على ان يطبع روايته المعنونة (الفرس والسماء المربعة) والتي اكمالها بمشقة بالغة ، ومجموعة شعرية أولى لمصطفى عبد الله، كان عنوانها(العودة إلى البلاد- المحلة)، وتم الاتفاق ان يصمم الغلافين الفنان شاكر حمد . غادر شاكر إلى عائلته في مدينة العمارة، وظل أبو ربيع قلقا حول ذلك ، كنت أثق بالوعد الذي التزم به شاكر أمامنا. قبل مجيء إسماعيل بأيام - في طريقه إلى بيروت- جاءني الفنان شاكر حمد إلى مقر عملي، وسلمني الغلافين . سُلمتْ الرواية ومجموعة مصطفى إلى إسماعيل ، بعد فترة اتصل إسماعيل، من بيروت مؤكدا بأنه حصل على موافقة طبعهما . وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على ذلك ، أعلمنا إسماعيل بان مطابع ومكاتب (دار العودة) في بيروت، قد تعرضتا للحريق ، بطريقة غامضة، وانه سيحاول ان يعرف مصير الرواية والمجموعة الشعرية . ثم اخبرنا ان صاحب دار النشر، أكد له بان كل شي قد احترق بالكامل . بعد منتصف عام 1981 كنتُ أتصفح معروضات الكتب الجديدة، في معرض الدار الوطنية الدائم بالعشار ، فوجئت بالغلاف المصمم لديوان مصطفى عبد الله والذي صممه الفنان شاكر حمد ، يتضمن مختارات شعرية للشاعر عبد الوهاب البياتي ، ومن إصدارات دار العودة ذاتها، ويحمل اسم ( كتاب البحر)!؟ . بفعل الاستبداد البعثي غادر الشاعر مصطفى عبد الله ، قسراً ، الوطن والأسرة والأصدقاء ، وأستقر في المغرب . وفي أواخر الثمانينيات ارتحل نهائيا عن هذا العالم في حادث مفجع، وارتحل قبله ، في مفارقة غريبة، غلاف كتابه الأول، إلى كتاب شعري آخر!! . أما عبد الجليل المياح فقد كان مجهول المصير، منذ أواخر حزيران عام 1980، إذ أُُختطف نهارا وعلنا عند مراجعته مديرية تربية البصرة!؟ . تُرى هل ارتحل غلاف روايته كذلك أم مازال مجهول المصير؟. كمصيره الذي كشفت وثائق مديرية الأمن العامة في البصرة عنه، بعد أن باتت مباحة للجميع ،خلال سقوط النظام ، وتبين انه قد حكم عليه بالإعدام شنقا حتى الموت وصدق ذلك الحكم بعد ثلاث سنوات على اختطافه!؟. تُرى هل كان (أبو ربيع) و في أواسط السبعينيات بالذات، وبكل ذلك التفاؤل والاندفاع المغلف بالحماس (الجبهوي)، سيُصدق مَنْ كان سيقول له إن (الحلفاء) سيعدمونه ذات يوم ..!؟.
* ألقيت في الجلسة الثقافية التي أقامها اتحاد أدباء البصرة، بمناسبة إصداره وبدعم خاص الطبعة الثانية - دار الينابيع- دمشق ،من روايته(جواد السحب الداكنة) وكانت طبعتها الأولى في النجف عام 1968.