العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (6)


عبد الله أوجلان
2009 / 12 / 1 - 21:33     

2- قضايا انتشار اللغة والثقافة الآرية:
إنّ المواقفَ التي تَتَّخذُ الثقافةَ والحضارةَ أساساً محدودةُ النطاقِ في التاريخ. والموجودةُ منها ذاتُ وجهاتِ نظرٍ مختلفة. أما القضايا التي نسعى لتحليلها وتفكيكها هنا، فلا نطرحها بالارتكاز إلى الأسسِ الثقافية والحضارية. ذلك أننا مرغَمون على تقييم مكانِ الثقافة والحضارة وزمانهما في سياقِ التطورِ الحضاري نسبةً إلى مساهماتِهما، مع أخذِ أهميتِهِما الحيويةِ بعينِ الاعتبار. وفي حال العكس، فالتاريخُ الذي بين أيدينا لن يتضمن معانيَ أبعدَ من "أكداسِ أحداثٍ ووقائع" (وهذا ما يحصل بالأغلب). وماهيةُ عِلمِ التاريخ المُعيقةُ للمعرفة – بدلاً من أن تكون تعليميةً – على صلةٍ وثيقة بهذه الخاصية. فالتاريخُ، الذي هو عبارة عن سبائكَ تعداديةٍ مؤلفةٍ من الدينِ، السلالةِ، المَلِكِ، الحربِ، والقومِ وغيرها من الظواهر المشابهة، ليس تاريخاً تعليمياً بشأنِ التطور الاجتماعي. بل، وعلى النقيض، هو ستائرُ أيديولوجيةٌ مبتَدَعةٌ عن قصدٍ ووعي بغرضِ إعاقةِ تَعَلُّمِ التطور الاجتماعي، وهو مساعي أيديولوجيةٌ تهدف إلى إعدادِ الذهنية والذاكرةِ الاجتماعية وفق مشيئةِ أصحابِ السلطة والاستغلال. وهذه الأنماط من السرود ليست سوى أدواتٌ دعائيةٌ متبقيةٌ من القديم الغابر بهدفِ تأمينِ المشروعية ذاتِ الركائزِ الأيديولوجية بنسبةٍ حيوية قصوى.
لنُوَسِّعْ من نطاقِ تحليلاتنا قليلاً، مع الالتزامِ بتصريحاتنا بشأنِ الأسلوب ومنهاجِ المعرفة. إحدى الانتقاداتِ الأخرى الموجَّهةِ إليَّ بصددِ المجموعة الآريةِ اللغويةِ والثقافية، هو احتمالُ أنْ تفوحَ منها رائحةُ "العنصرية" – حسب زعمهم – لأنّ هتلر أيضاً استخدم المصطلحَ نفسه. علينا القول لأمثالِ هؤلاء: إنَّ لفظَ "الاشتراكية" أيضاً موجودٌ في اسمِ حزبِ هتلر. إذن، هل علينا حينها التخلي عن الاشتراكية بالزعم بأنه تفوح منها رائحةُ العنصرية؟ بَيْدَ أنَّ الفاشيةَ ضليعةٌ لأقصى الحدود في مساعيها "الغوغائية والديماغوجية" باستخدامِها الكثيرَ من المصطلحاتِ العلمية والأيديولوجيةِ بنجاحٍ باهر. وعلى كلِّ حال، فنحن لسنا مرغَمين على التخلي عن العِلمِ والأيديولوجيا لأنها فعلت هكذا. ومثلما أنَّ الجنوحَ للنزعةِ القوموية ذاتِ الأصول اللغويةِ والثقافية الآريةِ لم يَخطرْ ببالنا ولو بقدرِ مثقالِ ذَرَّة، فإني أبيِّن – وبكلِّ افتخارٍ واعتزازٍ وشرف – أني أحدُ القائمين بالتفسيرِ الأكثرِ معنى للقوموية. وإذا كنا نرمي لإدراكِ الكوارثِ المُفجِعة التي لا تنفكُّ تنشب اليومَ في العراق، علينا أولاً بالاعترافِ والقبولِ بإفلاسِ علومنا التاريخية والاجتماعية المعمول بها حتى الآن، كي نملكَ حقَّ النقد وتقديمِ الاقتراحات التاريخية والسوسيولوجية الجديدة. وما نسعَى لعمله هنا ليس سوى تقديمُ مساهمةٍ زهيدةٍ متواضعة بشأنِ هذه المأساةِ البشرية. لذا، فإني مضطرٌّ لتخصيصِ زاويةٍ، ولو بالخطوط العريضة، حول هذا الموضوع الذي حاولتُ سرده بإسهابٍ في "مرافعة الإنسان الحر":
آ- إننا نقول بأن تَشَكُّلَ المجموعةِ اللغويةِ الثقافية الآريةِ، سواءً من جهةِ تكوينِ لغتها، أو من جهةِ تشكيلها ركيزةً أوليةً لبنيةٍ تحتيةٍ ثقافيةٍ جذرية؛ أمرٌ مرتبطٌ بالشروط التاريخية والجغرافية. والسنواتُ ما بين 000,10 – 4000 ق.م على وجه التقريب تُعبِّر عن "المرحلة الطويلة" التي نَضَجَ فيها تمأسُسُ هذه اللغةِ والثقافة، حيث اختُرِع فيها شتى أشكالِ الفخاريات، والمحاريثِ الزراعية، وطقومِ الحيوانات، والعجلاتِ، وآلاتِ النسيج والحياكة، والمطاحن اليدوية؛ علاوةً على تمأسُسِ الفن والدين آنذاك. أما لائحةُ الغلال والأنواعِ النباتية والحيوانية الوفيرة، فقد أَثبتَت جدارتَها في الزيادة الملحوظة للتعدادِ السكاني. هذا ولا يَقتصرُ الأمر على صُنعِ الفؤوس، السكاكينِ، الطواحين، العجلاتِ، والأبنيةِ المعمارية، وغيرِها من الآثار الفنية والدينية باستخدامِ الحجارةِ المنحوتةِ والمصقولة بشكل حديث فحسب؛ بل وتُصنَع الآثارُ الأكثرَ عطاءً وبهاءً من الحجارةِ المعدنية أيضاً في المرحلة المسماة بالحقبةِ الكالكوليتية . ولا نبرح نصادف هذه الأمثلة الجمة في راهننا أيضاً. وقد عُثِرَ في مراكزِ حفرياتِ منطقةِ برادوست Bradostiyan الواقعةِ على حوافِّ جبالِ زاغروس، وفي مراكزِ حفرياتِ جايونو Çayönü، وبالقرب من أورفا مؤخراً (كوباكلي تبه Göbeklitepe) عُثِرَ على أمثلةٍ معمارية دينيةٍ ومنازلَ مصنوعةٍ من الحجارة الضخمة المنحوتة على نحوٍ مذهل، وعلى العديد من الأدوات المصنوعة من الحجارة المعدنية؛ والتي بُرهِن على رجوعِ جميعها إلى ما قبلِ أحدَ عشرَ ألفِ عام.
إنَّ هذه الأدواتِ الثقافيةَ ومجموعَ المفرداتِ المعبِّرةِ عنها، والتي لا ينفكُّ الشعبُ الآهل هناك يستخدمها إلى اليوم، تُسَلِّطُ الضوءَ كفايةً على هويةِ منطقتها النواة. فالمفرداتُ من قبيل: جَيو Ceo (گَيو Geo – مكان)، أرض Erd (أرض، تربة، حقل)، ژن Jin (امرأة، حياة)، روج Roj (شمس)، برا Bra (أخ)، مُور Mur (موت)، صُول Sol (حذاء)، نَيو Neo (جديد)، گا Ga (ثور)، گران Gran (كبير، ثقيل)، مَش Meş (مشي)، خُودا Guda (رب)؛ وغيرُها من عشراتِ المفردات التي يمكننا تعدادها، والتي لا تزال تُستَخدَم في العديد من اللغاتِ الأوروبية؛ إنما تُنير لنا موضوعَ النبعِ العين. هذه الألفاظُ، التي لا تزال دارجةً كجذرٍ وطيدٍ في لغاتِ مجموعاتِ الشعوب الأصيلة والعريقة (أقدمِ الشعوبِ استقراراً) والمشهورةِ كالكردِ والفُرسِ والأفغان والبَلُّوجيين ؛ تُبرهِن على أنَّ مَشرَبَ المجموعة اللغوية والثقافية الآرية ومنبعَها ليس أوروبا والهند، بل العكسُ هو الصحيح. ففي زمانِ هذه الثقافة – التي يمكننا إرجاعَ أصولها إلى ما قبلِ اثني عشرَ ألفِ عام تقريباً، انطلاقاً من الوثائق والمخطوطاتِ السومرية المدوَّنة والعديد من مراكزِ المناطق الأثرية – كانت أوروبا تَمُرُّ بـ"العصر الحجري القديم" ، في حين كانت بلادُ الهند تعيش عصرَ "البيغما" . إننا في وضعٍ يُخوِّلنا للإشارة – وبكلِّ سهولة – إلى أنَّ اللغةَ والثقافة الآريةَ قد رَسَّخَت تمأسُسَها، واختَرَعَت طيلةَ تاريخِ هذه "الفترة الطويلة" ما لا يَقُلُّ عن نصفِ الدلائل والتجهيزات (أدواتِ الحياة الأساسية) التي تعيش عليها البشريةُ اليوم. وفيما خلا أمثلةِ بعضِ المراكز التي ذكرناها آنفاً، لا تفتأ الآلافُ من الأماكن الباطنية المطمورةِ تَنتَظِرُ التنقيبَ والحفر. علاوةً على أنّ مجموعاتِ الشعوب المنحدرةِ من العهدِ العريق الغابر، والتي لا تَبرَحُ تصونُ وجودَها في راهننا أيضاً، إنما هي مراكزُ أثريةٌ حية، حيث نَلمَسُ وجودَها (تبايُنَها الأثنيَّ) كهويةٍ متأتيةٍ من ستةِ آلافِ عامٍ قبل الآن بأقلِّ تقدير. مرةً أخرى عليَّ التنويهُ إلى أنَّ عِلمَ التاريخ سيبقى يعاني القصورَ والنواقص الجديَّة، ما لم يُعبِّر عن معاني المجرياتِ والوقائع القائمة في مركزِ هذه النواةِ الثقافية (الهلالِ الخصيب) بكافةِ أبعادِها.
ب- لا يمكننا البَتَّة التغاضي عن مكانةِ ومنزلةِ اللغةِ والثقافة الساميّة كفرعٍ جانبيٍّ هام. ولا ريبَ إطلاقاً في غنى هذه البنيةِ اللغوية – الثقافية المكوِّنةِ لفروقاتها المميِّزة في نفسِ المرحلة من وجهةِ النظر التاريخية. ولربما كانت أغنى وأرقى من المجموعة اللغوية – الثقافية الآرية من جهةِ كونها ثقافةُ رعيٍ وثقافةٌ عشائرية، حيث نلمَسُ آثاراً دالَّة على ذلك في المخطوطات السومرية، التي تَتحدث بلغة ملحمِية عن الصراعات والمنافسات الجارية بين أصولِ الرعيِ والزراعة على نحوِ فرعَين أساسيَّين. لَكَمْ هي شبيهةٌ بـ عراقِ اليوم! إنَّ البنيةَ المَلحَمِيَّةَ في لغتها وثقافتِها راقيةٌ ومتقدمة. وانطلاقاً من مزايا الصحراء الرتيبةِ والمُتَّسِقَة، ربما يتزامن نشوءُ إلهِ السموات "أل El، الله Allah" مع هذه المراحل. ومن المحتمل أنّ المجتمعَ العشائريَّ سما بهويته الأولى المتميِّزة والخارقة إلى عنان السماء، ليصل بذلك إلى اصطلاحٍ مقدَّسٍ على غرارِ "أل، الله". لذا، باستطاعتنا دعمُ تفسيرِ دوركايم لمصطلحِ الإله بكونه "هويةٌ اجتماعية"، وتأييدُه بمثالِ "أل، الله" كحجةٍ قوية. ومن المُعتَقَد أنَّ اصطلاحاتِ ومؤسساتِ "الشيخ، السيد" قد تكوَّنَت مبكراً في الثقافة الساميّة، لتتحول في عصر المدنية إلى مؤسساتِ "النبي، الأمير".
لا نَلحَظُ أيَّةَ مساهَمَةٍ للثقافةِ الساميّة في المدنيةِ المصرية الفرعونية، رغمَ احتلالِ هذه المدنيةِ مكانَها في الحقلِ الساميّ، إذ، لا نعثر على أيِّ مضمونٍ ملموسٍ في أيةِ مادةٍ أو مصطلحٍ أو مؤسسةٍ يدل على فتحِ ثقافةِ الرعيِ الطريقَ لثقافةٍ مدينيةٍ حضاريةٍ كهذه في أعوام 4000 ق.م. وبالأصل، فالوثائقُ المصريةُ أيضاً تنظر إلى هذه الثقافة بعينِ الغريب الدخيل. كما أنه ما من شَبَهٍ بينهما في البنية اللغوية أيضاً. فالثقافةُ الساميّة تحتلُّ مكانَها في التاريخِ المكتوب ضمن التراكماتِ الأولى عبرَ الهوياتِ الأكادية، البابليةِ، الآشورية، الكنعانية، والإسرائيلية. في حينِ أنَّ الهويةَ العربية، التي تبرز للوسط حوالي أعوام 2500 ق.م، يظهر اسمها بعد ذلك بكثير، أي، حوالي أعوام 500 ق.م. أما الآراميون، الآراميتيون، والعابيرو، فهي اصطلاحاتٌ سومريةٌ ومصرية بالأرجح.
ويُرجَّحُ انصهارُ فينيقيا وفلسطين وحتى إسرائيل في بوتقةِ اللغة والثقافة الساميّة (مثلما حصل في الثقافة المصرية الفرعونية) فيما بعد كاحتمالٍ قوي. ونقاطُ البداية متداخلةٌ بين الثقافتَين الساحلية والآرية. هذا وثمةَ دلائلٌ تشير إلى زوالِ حالاتها الطبيعية الأولى في خضمِّ موجاتِ الهجرةِ الساميّة.
إنَّ المصادر السومريةَ والسجلاتِ الأركولوجيةَ، وكذلك بعضَ البقايا الأثريةِ العريقة التي لا تزال صامدةً في البقاء، تُزَوِّدُنا بالدلائل الجمةِ المشيرةِ إلى هجومِ الساميّين على ساحةِ اللغة والثقافة الآرية، أو نزوحِهم وهجرتِهِم إليها على موجاتٍ متوالية. حيث بالإمكانِ إرجاعُ الهجماتِ وحملاتِ الاستيطانِ تلك إلى أعوام 5000 ق.م. ونخص بالذكر في هذا المضمار بالتسلسل: المستوطناتِ الأكاديةَ، البابليةَ، الآشورية، الآراميةَ، والعربية، والتي تَرَكَت بصماتِها في ميزوبوتاميا العليا على شكلِ طبقاتٍ واضحة. إلا أنَّ التأثيراتِ الآشوريةَ والعربيةَ من بينها أكثرُ قوةً وبروزاً. في حينِ أنَّ العربَ شرعوا بحملةِ صهرٍ مُرَكَّزَةٍ مع الديانة الإسلامية، بحيث تداخلَت وتشابكَت ظاهرتا الأسلمةِ والتعريب. وقد أبدَت الثقافةُ واللغةُ الآرية صموداً عنيداً ومقاوماتٍ باسلةً إزاءَ هذا الغزوِ والاستيطان والصهرِ، بالإضافة إلى أنها سَجَّلَت نجاحاً مظفَّراً بين الحين والآخر تجاه حملاتِ الهجوم والغزوِ والاستيطان والصهرِ تلك. ويمكننا ذكر المؤسِّسينَ الأوائلِ للحضارةِ السومرية، ورُوَّادِ الحضارة المصرية، والهكسوس ، والعبرانيين كأمثلةٍ مشهورةٍ في هذا الشأن على طولِ محكِّ التاريخ. والتفسيرُ الأقربُ إلى الإجماعِ والقبولِ هو أنَّ الرُّوَّادَ السومريين الأوائل قد نزحوا إلى ميزوبوتاميا السفلى في عهدِ تَلِّ حلف (6000 – 4000 ق.م) – الذي يُعتَبَر العصرَ الذهبيَّ للثقافةِ الآريةِ النواة في ميزوبوتاميا العليا – لينقلوا معهم هذه الثقافةَ إلى هناك، ويُعَرِّضوها للتحوير والتغييرِ لبلوغِ مستوى أرقى. ومن المعلوم تماماً أن التأثيراتِ الأكاديةَ والبابليةَ والآشوريةَ أُدرِجَت لاحقاً في تكوينةِ البنيةِ اللغوية والثقافيةِ السومرية.
إن تسميةَ السومريين بالانتشارِ الثقافيِّ لعهدِ تل حلف سيساهم أكثر في فهمِ التاريخ على نحوٍ أقربَ إلى الصواب، عوضاً عن تسميتهم بالمجموعاتِ المهاجرة. ربما هاجرَت بعضُ المجموعات من الساحةِ الثقافية الآرية، إلا أنَّ العامِلَ الأصليَّ المؤثِّرَ بالأغلب هو انتشارُ الثقافة التي كانت تعيش عصرَها الذهبيَّ في تلك الأزمنة (على الصعيد الكوني). أما البحثُ عن تأثيراتِ آسيا الوسطى أو القفقاس هنا – مثلما يُزعَم أحياناً – فليس سوى ضربٌ من الهذيان، لأن تلك المناطق كانت ولا تزال تعيش العصرَ الحجري القديمَ أثناء عهدِ النشوء السومري (أعوام 5000 ق.م)، وتتعرَّف لِتَوِّها على الثقافة الآرية. كما أنها لا تتضمن أيةَ عواملَ ثقافيةٍ – سواءً من حيثُ المضمون أو الشكل – تُمَكِّنها من تغذية ثقافةٍ غنيةٍ وراقيةٍ للغاية كالثقافة السومرية. في حينِ أنَّ قوتهم في الهجوم والغزو لا تزال بعيدةً عن إحرازِ التقدم الذي يُخَوِّلُها لتجاوز الحزام اللغوي والثقافي الآري. ونظراً لعدمِ صحةِ التفكير بصفاءِ ونقاوةِ ثقافتهم بسببِ وفرةِ فرصِ التداخل المستمر في هذا الشأن، فربما تكون بعضُ مجموعاتِ الهجرة القوقازية والآسيوية الوسطى نزحَت إلى الحزام السومري وإلى الهلال الخصيب، الذي كان أَشْبَهُ بأوروبا وأمريكا في ذاك الزمان. وبطبيعةِ الحال، فالكثيرُ من المجموعات الثقافية المتباينة، وأغلبها من الفقراءِ البؤساء، تَتَّجِهُ اليومَ من جهاتِ المعمورة الأربع صوبَ أوروبا لتستقرَّ فيها. فكيفما أنَّ الثقافةَ الأوروبيةَ الراهنة تنتشر اليوم في كافةِ أرجاءِ العالم، فاللغةُ والثقافةُ الآرية أيضاً مَنَحَت فُرَصاً شبيهة بالانتشار، وبالأخص بعد مرورها بمرحلةِ التمأسُسِ والانفجار السكاني (في عهد تل حلف على وجهِ التخصيص 6000 – 4000 ق.م). أما الهجراتُ المتجهة إلى أعماقها، فيمكن تشبيهُها بهجراتِ الكادحين البؤساءِ صوبَ أوروبا اليوم.
ج- مِن الأهميةِ بمكان القيام بالتفسيرِ السليم لوادي النيل كساحةٍ ثقافية هامة. إنَّ تطويرَ الثقافة الزراعية في هذا الوادي، ونَقْلَها إلى الحضارة المصرية الفرعونية أمرٌ غريبٌ عن اللغة والبنية الثقافية الساميّة، نظراً لافتقارها لهذه المهارةِ مِن حيثُ المضمونِ والمحتوى. بل إنَّ البنيةَ اللغوية المصريةَ تُقَدِّمُ تبايُنَها واختلافَها بِعدمِ احتضانها لأيةِ عناصرَ ساميّةٍ بتاتاً. أما السودان وإثيوبيا وغيرِها من الثقافات المتواجدة في الأصقاع الأفريقية الجنوبية؛ فلا تزال آنذاك بعيدةً عن تَخَطِّي العصرِ الحجري القديم. بالتالي، فمِن غيرِ الممكن – حتى على الصعيد النظري – أنْ تُمَهِّدَ الطريقَ للثقافة المصرية. أو بالأحرى، لا يتم التفكير بذلك إطلاقاً. كما لا يمكن التفكير – ولو نظرياً – بأنَّ المجموعاتِ المهاجرةَ، والتي تُعَدُّ استمراراً للقبائل الأفريقية، قد أنجزَت أيَّ تقدمٍ ملحوظٍ في وادي النيل خلالَ مدةٍ طويلةٍ من الزمن. من هنا، فهي بحاجةٍ ماسة لِغِلالِ الثورة الزراعية ونتاجاتِها وأدواتِها. هذا ولا نَعثُرُ على أيِّ أثرٍ يدل على أنَّ أيَّ نباتٍ زراعيٍّ ناشئٍ في الهلال الخصيب ينمو تلقائياً ضمن أراضي وادي النيل. كما لا نعثر فيها على أيةِ أمثلةٍ من الكائنات الحيوانية، فيما خلا الحِمارِ المصري.
إنَّ الفرضياتِ النظريةَ المتعلقة بانتشارِ الثقافةِ الآرية في عمومِ العالم، تدعونا للتفكير بأنَّ أحد فروعَها أيضاً وصلَ هذه المنطقة في نفسِ المرحلة. هذا وعلينا عدم النسيان بأنَّ وادي "ريف" أفريقيا الشرقية قريبٌ إلى النيل، وأنَّ تدفق البشر من الشمال صوب الجنوب أمرٌ ممكن، بل ومرتَقَب، بقدرِ التدفق من الجنوب نحو الشمال. والثقافاتُ المتفوقة قد حَمَلَت تأثيراتِها المتبادَلة على الدوام عبر هذه الطرق القديمة. ومثلما أدى الانفجارُ الثقافي في الهلال الخصيب إلى نشوءِ الثقافة السومرية، فإنَّ تزامنَ المدنية المصرية مع أعوام 4000 ق.م قد يرتكز في مضمونه إلى موجةِ الانتشار الحاصلِ مع أعوام 5000 ق.م. فمزاياها في المضمون والشكل، وإمكانياتُ التواصلِ تَمنَحُ هذه الفرصة. وبطبيعةِ الحال، فإنَّ تأسيسَ المستوطناتِ في مصر من قِبَلِ الهكسوس في بداياتِ أعوام 2000 ق.م، ويليهم العبرانيون (حسبما يُسَجِّلُ التاريخُ المدوَّن) في أعوام 1700 ق.م، بل وَرُقِيُّهُم إلى المراتبِ الإدارية فيها؛ تُعَدُّ أمثلةً مؤكِّدةً على صحةِ فكرتنا هذه. ورغمَ تناقُصِ قوةِ انتشارِ الثقافة في الساحة الآرية مع مرورِ الزمن، إلا أنها ستواصلُ تدفقها بنحو مشابِهٍ نحو الساحات الساميّة فيما بعد.
د- وبعدما أَثبَتَت الثقافةُ الآرية جدارتَها وأنجزَت تمأسُسَها الوطيدَ في الهلال الخصيب، غدا انتشارُها صوبَ الشرق أكثرَ تأثيراً، وبالأخصِّ نحو ما يسمى اليوم ببلادِ إيران، أفغانستان ، باكستان ، والهند. وأُشَدِّدُ تكراراً على أنَّ ما يَنتَقِلُ هنا هو الثقافة، أكثرَ من أنْ يكونَ مجموعاتٍ بشرية. إنه انتقالٌ للتأثيراتِ الثقافية، لا الجسدية. والانتقالُ الثقافي، الذي نَتَلَمَّسُ أولَ مَعالِم له في الهضاب الإيرانية في أعوام 7000 ق.م، يُشرِعُ بالانتعاش لِتَوِّهِ في بلادِ الهند حوالي أعوام 4000 ق.م، في حينِ أنَّ هذه التأثيراتِ تبلغ أعوامَ 5000 ضمن الهضاب التركمانية. ويُعتَقَد أنَّ التراكماتِ الثقافيةَ السابقةَ لها ليست سوى عناصرُ منحدرةٌ من الأصول الأفريقية القديمة، ولا تزال مُتَسَمِّرَةً في العصر الحجري القديم. ذلك أنَّ البقايا الثقافيةَ والبنى الجسديةَ لبعضِ المجموعات (وبالأخص في الهند) تُعَزِّزُ من صحةِ هذا الطرح. كما أنه ما مِن براهين نظرية أو عملية تدل على التطور الثقافي كثمرةٍ للتطورات المحلية هناك، تماماً مثلما هي الحال في مصر وسومر.
ولو أنَّ بعضَ الانتقادات تَعتَبِر هذا النمطَ مِن الفكرِ إسقاطياً اختزالياً مفرطاً، إلا أنه من الضروري والمهم الاستذكارُ بأنَّ الثوراتِ الثقافيةَ في التاريخِ محدودة، وتَتَحَقَّقُ بصعوبةٍ بالغة. لنتأملِ الثقافةَ الأوروبية مثلاً، حيثُ لا مثيلَ لها في أيِّ مكانٍ آخر. من هنا، فإنَّ طَرحَ فكرةٍ مشابهة بشأنِ الثقافة في الهلال الخصيب نِسبَةً لتلك الأزمنة أمرٌ خلاق ومبدعٌ لأقصى الحدود. ذلك أنَّ انتظارَ ثورةٍ ثقافيةٍ عظمى من المجموعاتِ المتسمرةِ في العادات والتقاليد العائدةِ إلى ما قبلِ مئاتِ الآلاف من السنين، والتي بَلَغَت شفيرَ هاويةِ الزوال، واعتبارَ ذلك استحقاقاً لها؛ لا يمكن تأييدُه البتة، سواءً من جهةِ الفكر النظري، أو البقايا الثقافيةِ الموجودة. أما الانتشارُ الثقافيُّ الحاصلُ في أعوامِ 3000 ق.م، والمتجِهُ صوبَ الشرق إلى منطقةِ عيلام غربي إيران، فكأنه حَقَّقَ نقلةً نحو حضارةٍ مركزُها سوس ، التي هي أَشْبَهُ بمستوطنةٍ سومرية على الأرجح. إنه التأثيرُ السومريُّ دون جدال. وبالسيرِ نحوَ الشرق، سنجد أنَّ تأسيسَ مدينتَي هارابا وموهانجادارو الواقعتين على شواطئِ نهرِ بينجاف (بنجاب) في باكستان الحالية يُجاري أعوامَ 2500 ق.م. واضحٌ للعيان أنَّ هذه الكياناتِ سارت على خُطى السومريين. ونظراً للأسباب عينها، لا يمكن عَدَّها كياناتٍ أصيلةً لبنى ثقافيةٍ أخرى اعتماداً على النظريات الإرغامية. فعندما يكون التراكمُ الثقافي – المُزعَم أنه أصيل – في مستوى أقربَ إلى مرحلةِ "البيغما"، والقيامُ باشتقاقِ حضارةٍ أصيلة منه؛ إنما هو أَشْبَهُ بِتَصَوُّر الحِمارِ حِصاناً. ولاستيعابِ فكرتنا هذه على منوالٍ صحيح، فسيكون من الناجع استذكارُ آلافِ المجموعات القاطنة في المناطق الجغرافية الأكثرِ رُقِيّاً، والباقيةِ في مستوياتِ حياةٍ مشابهةٍ طيلةَ ملايين السنين؛ وإدراكُ أسبابِ عجزها عن تشييدِ حضارةٍ أو إنجازِ ثوراتٍ ثقافيةٍ عظمى.
لا ريبَ في أنَّ لهذه المناطقِ مساهَماتُها والعديدُ من أطروحاتها التركيبية sentez. فالانتشارُ والأهلية يحصلان بالأغلب طوعياً وبالتداخل. بَيْدَ أنَّ المنتشِرَ هنا هو القيمُ الإنتاجيةُ المادية والمعنويةُ المحقِّقةُ للتطور، لا المجموعاتُ الاستعمارية. والثقافاتُ المنتشرةُ، التي أَثبَتَت جدارتَها في هذا الاتجاه، اعتُبِرَت على الدوام وكأنها "معجزاتٌ مقدَّسَةٌ كمنحةٍ من الإله". ومِن المهمِّ بمكان عدم الخلط بين انتشار الثقافات التي تسمو بقيمِ الحياة المادية والمعنوية، وبين الاستعمار والاستيلاء والغزوِ والصهرِ الإرغامي. ذلك أنَّ القليل من الانتشارات الثقافية حدثت على شكلِ غزواتٍ وحشيةٍ مروِّعٍة أو استعمارٍ أو صهرٍ إرغامي، في حينِ أنَّ الغالبيةَ الساحقةَ منها أصبحَت مُلْكاً للجميع بقبولها واستساغتها بحماسٍ وعنفوان، نظراً لإثباتها تَفَوُّقَها في نوعيةِ الحياة. أما المواقفُ القومويةُ الضيقةُ إزاءَ التاريخ، فقد أَقحَمَت موضوعَ الانتشار الثقافي في وضعٍ مسدود. لذا، فإنَّ عدمَ الوقوع في مصيدةِ القوموية التي تُحَرِّف مجرى السيلانِ التاريخي، وتحجبه، وتُنكِره، وتُضَخِّمه؛ يتميزُ بأهميةٍ قصوى من حيث الأسلوبِ ونسق المعرفة.
هـ- يَلُوحُ أنَّ المقارَنَةَ بين الثقافةِ الآرية والثقافاتِ الصينية الأم موضوعٌ غريبٌ ومثيرٌ بحيث يستحق البحثَ والتنقيب. إذ، يُعتَقَد ويُبَرهَن على أنَّ الصين بَلَغَت بثقافتها الطَّورَ الأعلى مِن العصر النيوليتي في أعوامِ 4000 ق.م. وإذا وضعنا نُصبَ العين انتقالَ الثقافة الآرية من أوروبا إلى الهند في نفسِ التواريخ، فسيكون من اليسير القولُ بانتقالها إلى الصين أيضاً كطرحٍ قويِّ الاحتمال. يُرَجَّحُ احتمالُ كونِ الثقافةِ الصينية اقتاتت على الثقافة الآرية، إلا أنَّ جغرافيَّتَها (سواحلَ النهر الأصفر) على وجهِ الخصوص، وشروطَها التاريخيةَ المنطويةَ على ذاتها لأبعدِ حد، وبنيتَها الخاصةَ بها قد مَنَحَت التطورَ المحليَّ مكانةً أساسيةً. التأثير موجود حتماً، إلا أنَّ المزايا الثقافيةَ المحليةَ مَهَّدَتْ لثورةٍ "نيوليتية" تُحاكيها وتُجاريها، تماماً مثلما هي حالُ الصين اليوم. فكيفما أنَّ التطوراتِ التاريخيةَ العظمى المنجَزَةَ المتماشيةَ مع الشروطِ الجغرافيةِ والديموغرافية قد أَسفَرَت عن "شيوعيةٍ" خاصةٍ بها؛ فقد تَمَخَّضَت عنها كذلك "رأسماليةٌ خاصةٌ بها". إذ مِن غيرِ الممكن أنْ تَتَكَوَّنَ شيوعيةُ الصينِ ورأسماليتُها، ما لم تلتحما مع طبائعِ الصين. أما الخصائصُ الأوليةُ للأقوام المندرجة في المجموعة الثقافية الصينية الأساسية (اليابانيون، الكوريون، الأتراك، المغول، الفييتناميون، وغيرهم)، فتتجَسَّدُ في الصمود الصارم تجاه الخارج، والانعطافِ إلى قبولِ ثقافةِ المنافَسة على نحوٍ قويٍّ وسريعٍ في حالِ الفَشَل. وبقدرِ جوانبِها الوطيدةِ والصارمةِ في التصدي، فإن مهاراتِ التقليدِ والمحاكاة والامتصاص على نحوٍ استثنائي تساوقها وتلازمها. يبدو أنَّ هذا الأمرَ خاصيةٌ مشترَكةٌ وغائرةُ العمقِ في ثقافاتهم.
انتقلت الثقافةُ النيوليتية والمرحلةُ الحضارية اللاحقة إلى عناصرِ المجموعاتِ الأخرى عبرَ الصين. قد يكون تشبيهُ الصينيين ضمن مجموعاتهم بالعرب الساميّين أمراً منيراً. فالمجموعةُ الثقافية الصينيةُ أيضاً – مثلما هي حالُ الثقافة الساميّة تماماً – عَجِزَت عن إبداءِ قدرتها في أنْ تَكونَ كونية كما فَعَلت الثقافةُ الآرية. وفي هذه الحال، سيكون من الناجع والمفيد ترتيبُها ليكون الآريون في المرتبة الأولى، يليهم الساميّون، ومن ثَمَّ الصين.
و- يتميز تسليطُ الضوء على العلاقات والصلات بين المجموعةِ اللغوية والثقافية الآرية والمجموعاتِ اللغوية والثقافية الهندوأوروبية بأهميةٍ قصوى، بل وربما كانَ مِن أهمِّ القضايا الأوليةِ لِعِلمِ التاريخ، نظراً للكثيرِ من المغالطات والمفارَقات الزائفةِ بحقها، ولكونها الحلقةُ المبهَمة التي عَجِزوا عن بلوغِ تفسيرٍ مشترَكٍ بشأنها. فعندما تَمَّ إدراكُ شراكة المجموعات اللغوية الهندوأوروبية في القرن التاسع عشر، بدأ الشروعُ ببحوثٍ عظمى بصددها، وبُودِرَ لطرحِ شروحٍ متضاربةٍ ومتنافرةٍ حولَ المنبعِ الأصل لهذه المجموعات، أي، حول "اللغةِ والثقافة السَّلَفِية"؛ لِتَبرُزَ مداولاتٌ تُرجِعُ جذورَها إلى الثقافة اليونانية، وأخرى إلى الهند، بل وإلى ثقافةِ أوروبا الشمالية، وبعضها تُعِيدها إلى الألمان. إلا أنَّ كلَّ هذه الفرضياتِ ذَهَبَت أدراجَ الرياح عندما أُثبِتَ بالحجج القاطعةِ موضوعُ الانقطاعِ عن الثدييات البدائية ( الكائنات السابقة للإنسان) في "ريف" أفريقيا الشرقية، وموضوعَ الثورةِ الزراعية النيوليتية في الهلال الخصيب؛ لتكتسب هاتان البؤرتان الأساسيتان أهميةً عظمى في التاريخ البشري. وكنا قد سَعَينا لسردِ مُوجَزِ ذلك سابقاً.
واكتسبَت المداولاتُ بشأنِ تحديدِ المجموعة اللغوية والثقافية العريقةِ والأصيلة في الهلال الخصيب أهميةً كبرى، فَبَرَزَت أولويةُ المجموعات الكرديةِ البدائية، الفارسية، الأفغانية، والبلوجية والتي تسمى بالمجموعات "الآرية"، بما يتوافقُ وتفسيرَنا. ونخص بالذكر في هذا المضمار موضوعَ الجزم بانتماءِ الثقافة واللغة الآرية المرتكزة إلى الشعوب الأًصيلة، عندما فُكَّت رموزُ البنية اللغوية للهوريين الذين هم الكرد الأوائل. والطرح الذي اعتَبَرتُه صحيحاً على الصعيد الشخصي، هو أنّ المنطقةَ النواةَ للثورة النيوليتية فقط هي القادرة على إبداع مِثلِ هذه اللغة والثقافة. وقد تَمَّ الجزمُ بأنَّ المنطقةَ النواةَ هي فِعلاً القوسُ الذي تَرسُمُهُ سلسلةُ جبالِ طوروس – زاغروس، أي، المنطقةُ المسماةُ بالهلالِ الخصيب، والتي شَكَّلَت مركزَ ولادةِ اللغة والثقافة الآرية. والحفرياتُ الأثرية، والفعالياتُ الأتيمولوجية، والمقارَنات الأثنولوجيةُ الحاصلة مؤخَّراً؛ جميعُها تُعَزِّزُ من صوابِ هذه الأطروحة شيئاً فشيئاً. هكذا تَمَّ تفكيكُ وَحَلُّ القسمِ الأعظم من القضية التي اكتَنَفَت المجموعةَ اللغوية والثقافيةَ الهندوأوربية.
ونظراً لكونِ "الفترة الزمنية" طويلةً جداً، والجغرافيا شاسعةٌ ومتراميةُ الأطراف؛ فمِن غيرِ المعقول رسمَ خريطةِ تَوَسُّعِ اللغة والثقافة الآرية وانتشارَها كما هي عليه. رغم ذلك، فمن اليسير القول بأنَّ التوسعَ الحاصل صوب الجنوب والشرق، قد تَمَّ بشكلٍ مشابه صوب الشمال والغرب أيضاً باتجاه أوروبا. والرأيُ المُجْمَع عليه عموماً هو أنَّ هذا الانتشار، الذي يُخَمَّن بِدؤه حوالي أعوام 5000 ق.م، قد توجه نحو أوروبا الشرقية في أعوام 4000 ق.م، ونحو أوروبا الغربية في أعوام 2000 ق.م؛ وتوطد فيها برسوخ. والعديدُ من المؤرِّخين المعروفين، وفي صدارتِهم جوردون تشايلد، يُرجِعون تاريخَ أوروبا إلى هذه السنوات، حيث كان "العصرُ الحجري القديم" سائداً َقَبلها. ويُعتَقَد أن المنطقة المتوسطة بين ما يُعرَف اليوم بجنوبي فرنسا وإسبانيا، والتي عَرِفَت الهوموسابيانس كنوعٍ سائدٍ قبل ثلاثينَ ألفِ سنة؛ قد عاشت أطولَ فتراتِها في الحقبةِ الميزوليتية (العصرِ الحجري المتوسط) حصيلةَ التوسع المنطَلِقِ من شمالي أفريقيا.
لسنا في وضع البحث والتنقيب في نيوليتيكيةِ أوروبا وثورتِها الزراعية، ولكني على قناعةٍ بأنه قد سُلِّط عليها النورُ نظراً لأهميةِ قضيةِ المنبع الأم. حيث أعتقدُ أيضاً أنَّ الانتشارَ في هذا الاتجاه لم يكن على أساسٍ جسديٍّ (الهجرة) واستيطاني، بقدرِ ما هو ثقافي. تَتَجَسَّدُ خاصيةُ أوروبا في أنها انتَهَلَت العصرَ النيوليتي جاهزاً وبجوانِبِه الأكثر إبداعاً. أي أنَّها محظوظة باستقائها هذا الزخمَ المتكدِّسَ على مدى عشرةِ آلافِ سنة وهضمِها له دفعةً واحدة، أو خلالَ مُدَّةٍ يمكن اعتبارها وجيزة. وبالمقدور القول أنه، وكيفما جَعَلَت أوروبا عالَمَنا الراهنَ ساحةً لتَوَسُّعِها الثقافيِّ خلال أربعةِ قرون، فهي بذاتها كانت ساحةً لانتشارِ الثورة النيوليتية أولاً، ثم لانتشارِ المدنية الرومانية ، وتَوَسُّعِ ثورةِ الروح – المعنى المسيحية. هذه الثوراتُ الثلاثُ الكبرى انتشَرَت في أوروبا على أرضيةٍ ثقافيةٍ بالأرجح، ودون اللجوءِ إلى الاستعمار والاستيطان الكولونيالي والصهر الإرغامي، فيما عدا الحروبِ المعدودةِ التي شَنَّتها الإمبراطوريةُ الرومانية. أي أن الثقافاتِ المتفوقةَ تحققت بتبني مفهوم "منحة الإله". ولدى بلوغِ هذا الزخمِ الثقافي العظيمِ المتراكمِ على مَرِّ عشرةِ آلافِ سنة من تاريخِ البشرية، تكون الأرضيةُ قد هُيِّئَت للثوراتِ الأوروبية الكبرى اللاحقة (النهضةِ، الإصلاحِ، التنويرِ، والثوراتِ السياسيةِ والصناعيةِ التقنيةِ والعلمية). إذن، لم تُنجِزْ أوروبا هذه الثوراتِ الكبرى بمهاراتِها الخاصة، بل رَصَفَت واكتسبت أرضيتَها بتوسيعِ قاعِ النهر الأم للتاريخ وفروعِه الجانبية، وبتدفقه وانصبابِه فيها بغزارةٍ وبدفعةٍ واحدة. لا ريبَ في أنَّ انحسارَ "العصرِ الجليدي" المتزامِنَ مع المراحل عينها، وبروزَ الغاباتِ النَّضِرَةِ بفضلِ الطقسِ المَناخيِّ الملائم للغاية، والتربةَ السماديةَ المعطاءة والغنيةَ بِغلالها، وتَجَهُّزَ أوروبا بمجموعِ هذه الظروف كتركيبةٍ جديدة sentez؛ قد جعلها تحَقِّقُ النقلةَ الحضاريةَ العظمى التي تَرَكَت بصماتِها على راهننا. سَوفَ نَرصُدُ دقائق هذه القصةِ باستفاضةٍ وعن كثب في الفصل المعني.

يتبع

[email protected]