العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (4)


عبد الله أوجلان
2009 / 11 / 26 - 22:40     

ثالثاً: إذن، فالبحثُ في الإنسان كنوعٍ حقَّقَ وجودَه في مجتمعٍ خاصٍّ به يُعدُّ أسلوباً مهماً وثميناً بالنسبة إلى البحث عن الحقيقة ونَسَقها.
انفصالُ الإنسان عن "فصيلةِ الثدييات البدائية" السابقةِ له، وأطوارُ التطور النوعي ليس أمراً هاماً بالنسبة لموضوعنا. فنحن لا نبحث في الأنثروبولوجيا. لا ريب أننا كثيراً ما نصادف أمثلةَ العيش المشترك على شكلِ جماعاتٍ أو تجمعات، ليس في عالمِ الحيوان فحسب، بل وفي عالمِ النبات أيضاً. وبطبيعةِ الحال، فكلُّ نوعٍ مضطرٌ للعيش على شكلِ تجمعاتٍ متقاربة ومشتركة. فلا أشجارَ بلا غابة، ولا أسماكَ بلا سرب. ولكنّ تجمعَ الإنسان متمايزٌ بالماهية والنوعية. ولربما كان المجتمعُ إنساناً أعلى، أو أنه الجهازُ المنظِّمُ الذي خَلقَ وسيخلق الإنسانَ الأعلى. فلو أخذنا بإنسانٍ ما من المجتمع ورميناه في وسطِ غابة (بعد ولادته مباشرة، وبعد تأمينِ الحَصانة والحماية له)، فلن ينجو من التحول إلى كائنٍ ثديي بدائي. وإذا ما وضعنا بجانبه عدةَ أناسٍ أُخَر يشبهونه في الحالة، فستكون المرحلةُ المبتدئة أَشبَهُ كثيراً بالمرحلة الانتقالية الحاصلة لدى الثدييات البدائية. ولكنّ الأمرَ لا يسري على عالَمِ الحيوانات. هذا الوضعُ لوحده يدل بشكلٍ صارخ على القيمة المتمايزة للمجتمع الإنساني، وينير بشكلٍ فريدٍ دورَ الإنسان في بناءِ المجتمع، ودورَ المجتمع في إنشاءِ الإنسان.
لا ريب في أنه لا مجتمعٌ دون إنسان. ولكنّ الضلالَ الأكبر يكمن في اعتبار المجتمع مجردَ تجمعٍ من الأناس. فالإنسانُ بلا مجتمع ليس سوى كائنٌ ثديي بدائي. في حين أنّ الإنسانَ المجتمعي قادرٌ على التحول إلى قوةٍ مذهلة، وبلوغِ قدرةٍ فكرية عظمى. ولربما كان قرارٌ من الإنسان سبباً في تحويلِ العالم كله إلى صحراءَ قاحلة (كالإقرار بتفجيرِ القنابل النووية). هذا الإنسانُ قادرٌ على القيام برحلةٍ إلى الفضاء، وباكتشافاتٍ واختراعاتٍ لا محدودة. إننا نسرد هذه الأمثلة لإيضاحِ قوةِ المجتمعية وقدراتها. ومع أن التكوين الاجتماعيَّ من شؤونِ علمِ الاجتماع، إلا أنّ الموضوعَ الذي نقوم بتحليله مختلفٌ كلَّ الاختلاف. فبلوغُ المعرفة وبناءُ نَسَق الحقيقة يمران فقط وفقط من المجتمع. وكلُّ ما يتحقق في الفرد الإنسان لا بد وأن يكون مجتمعياً. لا نقصد هنا الإنسانَ الوارث وسليل الحيوانات والنباتات، ولا حتى المتبقي من الكون الفيزيائي أو الكيميائي. بل نتحدث عن الإنسان الناشئ ضمن المجتمع.
لقد قامت كلُّ نظمِ المدنيات، بما فيها الحداثةُ الرأسمالية، بالبحث والتدقيق في الإنسان منفصلاً عن التاريخ والمجتمع. أو بالأحرى، نظرَت إلى كلِّ الأفكار والبنى العائدة للإنسان بعينٍ منفصلة عن التاريخ والمجتمع، بل وطرحتها كإنجازٍ للأفراد المتعالين على المجتمع. ومنها ابتُدِعَت فكرةُ الملوك المتسترين والعراة، والآلهة المقَنَّعة وغير المقَنَّعة. أنوه إلى أننا عندما نتغلغل في مفهومنا واصطلاحنا بصدد المجتمع، سنتمكن من تحليل كل أولئك الملوك والآلهة، مثلما سنستطيع توضيح المنبع الأصلي لتلك الأفكار، وماهياتها، وبناها الاجتماعية الناشئة فيها، وبالأخص النظم الاجتماعية المولِّدة للقمع والاستغلال والاضطهاد.
إنّ طرحَ العلاقة بين الإنسان والمجتمع بأفضلِ الأشكال وأصلحها تُعَدُّ المسألةَ الأولية في الأسلوب. فكلٌّ من بيكون وديكارت المدَّعيان أنهما علميان للغاية، قد تناولا مسائلَ الأسلوب ومشاكله وكأنهما لا علمَ ولا روابطَ لهما بالمجتمع الذي يربيان ويتحركان ضمنه. في حين أننا نعلم اليوم عِلمَ اليقين أنّ المجتمع الذي تأثرا به ليس سوى ذاك المجتمعُ الذي أنشأ الرأسماليةَ كنظامٍ عالمي، أي، مجتمعَ البَلَدَين اللذين نسميهما اليوم إنكلترا وهولندا. بالتالي، فالأساليب التي اتبعوها وكوَّنوها ليست سوى أفكارٌ ذاتُ علاقةٍ وثيقة بالمجتمع الذي يُشهِر البابَ على مصراعيه أمام الرأسمالية.
إذن، ما الذي يمكننا مشاهدته لو شرعنا بالبحث في المجتمع الإنساني كصنفٍ أولي؟
أ‌- المجتمعُ تكوينٌ يميز الإنسان عن الحيوان نوعياً. وقد أوضحنا هذه الخاصية كفاية.
ب- مثلما يتكون المجتمع من الأناس الأشخاص، فهو أيضاً ينشئ ويكوِّن الأناسَ الأفراد. النقطة الهامة الواجب استيعابها هنا هي أنّ تَكَوُّن المجتمع أو التجمعات البشرية يتم على يدِ الإنسان بمهاراته وقدراته. أي أنّ المجتمعات ليست بتكويناتٍ أعلى من الإنسان. بل واضحٌ جلياً أنها تُمثل تصوراتِ الإنسان لأنها تؤثر بعمق في ذاكرته ومخيلته، حتى لو انعكس ذلك على نحوِ هوياتٍ مختلفة، بدءاً من الطوطم إلى الإله. ولولا الإنسان، لما كان ثمة مجتمعٌ تُحقِّق فيه الطواطم أو الآلهة ديمومتها.
ج- تتواجد المجتمعاتُ ضمن حدودٍ تاريخية ومكانية معينة. بمعنى آخر، ثمة أزمنةٌ وشروطٌ جغرافية معينة تنشأ ضمنها المجتمعات. فما من مجتمعٍ منفصلٍ عن التاريخ أو المكان الجغرافي. أما القول بيوتوبيا المجتمع الأبدي الموجود في كلِّ الظروف، فليس سوى وَهْمٌ لا أصل له.
موضوعُ التاريخ عموماً تعبيرٌ عن تبعيةِ الكائنات الحية على نحوٍ عام، والإنسانِ على نحوٍ خاص لأزمنةٍ معينة. فوجودُ الفصول الأربعة أساساً، والتتابعاتُ الزمنية العديدة بفتراتٍ معينة شرطٌ اضطراري لِتَكَوُّنِ هذا النوع من الموجودات. علاوة على ذلك، ما من موجودٍ لا فترةَ زمنية معينة له. وكلنا نعلم أن اصطلاح "الأبد – الأزل" معنيٌ فقط وفقط بحقيقة "التغير". أي أنّ الشيءَ الوحيد الذي لا يتغير، ولا زمانَ له، هو التغير ذاته. في حين أنّ الروابطَ بين التاريخ والمجتمع أكثرُ وثاقة وأكثرُ قِصَراً زمنياً. فبينما نتحدث عن ملياراتِ السنين فيما يتعلق بعمرِ الكون، نجد أنه لا يمكن إطلاقُ اصطلاحِ "المجتمعِ الطويلِ الأمد" إلا إذا تجاوز عمره آلاف السنين فحسب. أما الفتراتُ الزمنية الشائعة فهي من قبيل اليوم، الشهر، السنة، والقرن. ومكانُ المجتمعات على علاقةٍ وثيقة بالوجود النباتي والحيواني أساساً. في حين يُعتبر وجودُ المجتمعات في القطبين المتجمدين أو في المناطق الاستوائية أمراً استثنائياً. أما المكانُ الأوفر والأغنى بنباتاته وحيواناته، فيشكل الأرضيةَ الخصبة لنشوء المجتمعات المعطاءة والمثمرة.
تعمل الكثير من المدارس الفكرية والبنى الدينية المتكونة ضمن أحشاءِ الهرمية والتقاليد الدولتية على نقشِ وتوطيد فكرةِ النظام المبتور من المكان والتاريخ الاجتماعي في ذهن الإنسان، وكأنه قدرٌ محتوم. فمثلما يُزعَم أنّ بعض الشخصيات البطولية قد صَنعت التاريخ، هكذا يقوم بعضُ المفكرين والواعظين الدينيين بالحديث الدائم عن تأسيسهم للأنظمة الفكرية والدينية المنقطعة عن المجتمع التاريخي. ورغم إيلاء الرأسمالية مكاناً فسيحاً للعلم، لكنها – فيما يتعلق بالمجتمع على وجه التخصيص – تُبدي عنايةً كبرى للفكر المبني على الفرد، في حين أنّ تساؤلاتٍ من قبيل "أيُّ تكوينٍ مجتمعي أدى إلى أيِّ نظامٍ ديني أو فلسفي أو فكري؟" تبقى في الظلام على الدوام. لقد بُرهِن كفايةً على أنّ زمانَ ومكانَ المجتمع يُكَوِّنان الفرد، مثلما الأفراد أيضاً ينشئون ويَخُطُّون مسار مستقبلهم، وخاصةً بالصيغ والأشكال التي تَلَقَّوها من المجتمع. إذن، فالأبعادُ التاريخية والمكانية تأتي في صدارةِ الظروف اللازمة في معالجةِ قضايا الأسلوب وإدراكِ الحقيقة.
د- ثمة أمر هام آخر، وهو أن الوقائع الاجتماعية مصنوعة. والضلال الذي طالما يهوي فيه الأناس بكثرة هو النظر إلى المؤسسات والبنى الاجتماعية كواقعٍ طبيعي. وبالتالي، تُقدِّم النظمُ المشروعة الحاكمةُ على المنظومات الاجتماعية نفسَها على أنها المقدسة والثابتة دوماً، وتَعِظُ بمنهجيةٍ مدروسة أنها صاحبةُ المؤسسات والكيانات الإلهية، وأنه تم تكليفها وتعيينها لهذه الغاية. وفي الحداثة الرأسمالية تعمل هذه النظم على حقن العقول في المجتمع بأنّ الكلمةَ الفصل قد قيلت، وأنه لا بديل للمؤسسات الليبرالية، وأنه قد حلَّت "نهاية التاريخ". كما تتطرق بتواصلٍ مستمر إلى الدساتير والنظم السياسية الثابتة المحالة التغيير. مع أنه، وبنظرةٍ خاطفة لمسيرةِ التاريخ سنجد أنّ عُمرَ هذه البنى الوطيدةِ المحالة التغيير لم يُكمِل المائةَ عامٍ في أيِّ زمن. المهم هنا هو المقولات الأيديولوجية والسياسية المذكورة يومياً بغايةِ تقييد فكر الإنسان وربط إرادته بها. فبؤر السلطة والاستغلال بحاجةٍ ماسة وحياتية لهذه البلاغات الأيديولوجية والسياسية. حيث، وبدون اللجوء إلى البلاغات الأيديولوجية والسياسية الرصينة، سيكون من العسير عليها إدارة المجتمعات الراهنة. ولهذا الغرض طَوَّرَت من الوسائل والأجهزة الإعلامية على نطاقٍ واسع متنوع، إضافةً إلى إلحاق المؤسسات العلمية والفكرية ببؤر السلطة والاستغلال بشكل ساحق.
بقدر ما نعي وندرك أنّ الحقائقَ الاجتماعية حقائقٌ منشأةٌ تكراراً ومراراً، سنحكم حينها على نحوٍ أفضل وبمعيارٍ أصلح بضرورة هدمها وإعادة بنائها. إذ، ما من وقائع اجتماعية محالةُ الهدمِ أو التغيير. ونخص بالذكر هدم وتخطي المؤسسات القمعية والاستغلالية والتغلب عليها كضرورةٍ حتمية لأجل الحياة الحرة. وما نقصده بالحقيقة الاجتماعية هي جميع المؤسسات الأيديولوجية والمادية في المجتمع. ففي كافة الميادين الاجتماعية تتأسس الحقائق الاجتماعية على الدوام في الظروف الزمكانية المناسبة، وتُهدَم، أو ترَمَّم ومن ثم يعاد إنشاؤها؛ بدءاً من اللغة إلى الدين، ومن الميثولوجيا إلى العلم، ومن الاقتصاد إلى السياسة، ومن الحقوق إلى الفن، ومن الأخلاق إلى الفلسفة.
هـ- من الأهمية بمكان عدم النظر المجرَّد إلى العلاقة بين المجتمع والفرد. فالأفراد هم الناشئون عبر التاريخ بتقاليد وأعرافٍ معينة، ولهم لغاتهم، ويشاركون في البنى والمؤسسات الموجودة في كافة الميادين الاجتماعية التي ذكرناها. إنهم ينضمون للمؤسسات الاجتماعية المُعَدَّة سلفاً وقديماً في المجتمع بعنايةٍ قصوى، ويشاركون فيها بما تُمليه عليهم أعرافها وتقاليدها، وليس كما يرغبون. كما أنَّ مجتمعية الفرد تستلزم جهوداً تربوية وتعليمية عظمى. وبمعنى ما، فالفرد لا يصبح عضواً منتمياً للمجتمع إلا بعد أن يهضم ويتبنى الثقافة التي تشكل ماضيَ المجتمع برمته. المجتمعيةُ تتحقق بجهودٍ حثيثةٍ متواصلة. وكلُّ عملية اجتماعية هي في نفس الوقت عملية مجتمعية. لذلك، فالأفراد لا ينشأون كما يشاءون، بل لا يمكنهم الخلاص من النشوء والترعرع وفق مشيئة مجتمعاتهم. لكن، لا شك في نزوعِ الفرد للمقاومة والتطلع للحرية على الدوام في المجتمعات الطبقية والهرمية خصيصاً كونها مجتمعات منفتحة على القمع والاضطهاد والاستغلال. فالفرد لن يقبل طوعاً بالمجتمعية المنشِئة للعبودية والخنوع. كما أنه سيبدي مقاومةً وصموداً أعظم حيال المجتمعات الغريبة والمختلفة عنه والمستغلة له، كي لا يلتحم معها ولا ينصهر في بوتقتها. مع ذلك، فستستمر المساعي والمحاولات لتغييره داخل عجلاتِ المؤسسات القمعية والتعليمية لتلك المجتمعات، بل وحتى للقضاء عليه وإفنائه. فالعجلاتُ الاجتماعية تدور دوماً كالطاحونة، لتشكل طحيناً ومِن ثَم خميرةً قابلةً للتكوين بموجبها هي. كلُّ طَرفٍ يسعى على الدوام لاحتلال مكانٍ له داخل المجتمع اعتماداً على توازنات التوافق، سواءً المؤسسات المتناقضة والمتنازعة فيما بينها، أو الإنسان المقاوِم تجاهها. فلا المجتمعُ لديه القدرةُ المطلقة على الصهر، ولا الفردُ لديه الفرصة للانقطاع الكلي عن المجتمع.
باختصار، فالعملُ على مثال الإنسان الذي يأخذ المجتمعَ أساساً بأسلوبٍ ومقاربة أقربَ إلى الصواب، وبموجب أنساق الحقيقة؛ قد يؤدي بنا إلى نتائجَ قيِّمةٍ.
رابعاً: إنّ المرونة التي يتميز بها ذهنُ الإنسان هي الأرقى في مستواها، مما يؤثر بالأغلب في زيادةِ حظنا لتكون بحوثنا ثمينةً وقيِّمة. فبدون إدراكِ ومعرفةِ طبيعةِ ذهنِ الإنسان، ستبقى طموحاتنا بصدد الأسلوب ونَسَق الحقيقة معلقةً في الهواء.
تطرَّقْنا بكثرة للبنيةِ الثنائية أثناء محاولتنا تعريفَ عقلِ الإنسان. فبنيته الفكرية تتميز بمرونةٍ بالغة لأنها تتكون من القسم القديم في الدماغ (الفص الأيمن منه) الذي يُعنى بالفكر العاطفي، والذي هو أرقى وأكثرُ تطوراً نسبةً لمسيرةِ التطور التدريجي، ومِن القسم الجديد (الفص الأيسر من الدماغ) الأقربِ إلى الفكر التحليلي، والقابلِ للتطور الدائم. في حين أنَّ الفكرَ والعاطفة متساويان في المستوى على وجه التقريب لدى عالَم الحيوان. فالمشاعر والعواطف تتجاوب مع ما تعلَّمَته، أي تقوم بما هو مطلوب منها، من خلال الأفعال المنعكسة المشروطة وغير المشروطة؛ وهي ردودُ فعلٍ آنية. هذه البنى عينها موجودةٌ في الإنسان أيضاً، فالبدن – على سبيل المثال – يُبدي ردَّ فعلٍ تلقائي وآنيٍّ بمجردِ قُربه من نارٍ مُحرِقة، دون الحاجة للفكر التحليلي والتمهل. ولكن، إذا ما حاول تسلُّقَ قمةَ أفرست، فيشرع حينها بتحليلِ المئات من الظروف والشروط ليقرر بعد دراستها بإمعان فيما إذا سيتسلقها أم لا. لا يمكن البحث عن الخداع والضلال في الفكر العاطفي، حيث يتصرف الإنسان كيفما تكون ردودُ الفعل الفطرية (الغريزية). في حين أنَّ الفكر التحليلي قد يتطلب سنيناً طويلةً. ويجب أن يعتمد البحث عن الأسلوب والعمل والحقيقة على مثل هذه البنية الفكرية لدينا. لذا، لن تنجُوَ معلومة الحقيقة والأسلوب الصحيح من العشوائية، ما لم نطَّلِع على نظامِ عملِ عقلنا. إذن، والحال هذه، فمن الأولوية معرفة طبيعةِ العقل جيداً.
الخاصية الأولى لعقلنا هي تميزه ببنيةٍ مرنةٍ للغاية. وبالمستطاع القول أنه من النادر جداً وجودُ بنى ذهنيةٍ – من المتعارَف عليها في الكون – قادرةٍ على الاختيار والانتخاب الحر، فيما خلا عقل الإنسان. يمكننا تصوُّر ميدانِ الحرية على نحوِ فتراتٍ بينية جدِّ محدودة. فنحن لا ندرك كيفية جريان الاختيار الحر في الجُسَيمات ما تحت الذرية، ولا في بنى الكون الأكبر. لكن، وبالنظر إلى التنوع الموجود في الكون، يمكننا الاستنباط من خلال النتائج البارزة أن ذلك غير ممكن سوى بمهارة الحراك المرن والاصطفاء (الاختيار) الحر في عالم الجزيئيات والكون الأكبر على السواء. أما في ذهن الإنسان، فحَيِّزُ المرونة هذا قد اتسع كثيراً. فنحن نتمتع بحريةِ الحركة على نحوٍ لا محدود، وإنْ كان على مستوى الكمون بالأقل. وبالطبع، لا نغفلُ عن أنّ هذا الكمون لا يمكن أن يدخل حيز الفعالية إلا عبر المجتمعية.
الخاصية الثانية لعقلنا هي تَمَيزُه ببنيةٍ ذهنيةٍ مرنةٍ منفتحة لتَلَقِّي كَمٍّ كبيرٍ من الإدراكات الصحيحة، بقدرِ تَلَقِّي الخاطئة منها. وتأسيساً على هذه الميزة، بالإمكان تحريف وتوجيه هذه المرونة كيفما يُراد، وفي كل لحظة، من خلال الضغط وعبر شبكة العواطف والمشاعر. ولهذا السبب، يتم اللجوء إلى سياساتِ العصا والجَزَر الساعيةِ لاصطياد العواطف والإيقاع بها أساساً عبر آلياتِ القمع والتعذيب والقهر، إلى جانب الأساليب التضليلية والممارسات الخاطئة. ونخص بالذكر الأنظمةَ الهرمية والدولتية المؤثرة في عقلِ الإنسان وذهنيته اعتماداً على القمع المنتظَم الممارَس على مرِّ آلاف السنين، لدرجةِ أنها أنشأت بنيةً ذهنيةً منسجمة ومآربَها. ومن المزايا المألوفة والشائعة جداً اصطيادُ العقل عبر المكافآت. وبالمقابل، فإنّ بنيتنا الذهنية المتميزةَ بخاصياتها في المقاومة أيضاً، تَعرِض كفاءاتها وقدراتها الفريدة في سلوكِ السبل الصحيحة وبلوغِ الحقائق العظمى. وللذهنية المستقلة دورٌ معيِّن في اتسام الشخصيات العظيمة بهذه الصفات. فالاختيارُ الحر غيرُ ممكنٍ بالغالب إلا بتحَقُّقِ استقلاليةِ العقل. وثمة عُرى وثيقةٌ بين الإدراك الغني الشامل والتمتع بالاستقلالية. ما نقصده باستقلالِ العقل هنا قابليتَه للتحرك بموجب معايير العدالة بالأغلب.
كنا ذكَرنا سالفاً أنّ النظام الكوني يكمن خلف العلاقة بين الحقيقة والعدالة. من هنا، يمكن القول أنّ العقلَ العادل هو القادر على استخدامِ حقه في الاختيار الحر بموجب النظام الكوني بالأغلب. ولهذا الغرض، فتاريخُ الحرية (التاريخ الاجتماعي) قوةٌ تربويةٌ وتعليمية عظمى قادرة على تأهيلِ وإعدادِ ذهنيتنا لتتمكن من تحقيق الاختيارات السليمة. في حين أنّ طُرُقَ التحليل النفسي تسعى لقياسِ مدى قدرةِ عقلنا على الغوص في الأمور بسرعةٍ متصاعدة، حيث تتزايد أهميةُ التحليل النفسي كميدانٍ معرفي جديد. لكنّ هذا العلم قاصرٌ عن الوصول إلى المعرفة الصحيحة والمفيدة لوحده. ويعود السببُ الأولي في ذلك إلى تناوُله الفردَ بشكلٍ مجردٍ ومنعزلٍ عن المجتمع، مما يفتح الطريقَ لتحصيلِ معلوماتٍ ناقصة وخاطئة للغاية. ومحاولاتُ علم النفس الاجتماعي في جبرِ هذا النقص وتلافيه ليست مثمرةً كثيراً في الوقت الحالي. فعلم الاجتماع نفسه لم يتأسس بشكلٍ سليم، فكيف سيؤدي علم النفس الاجتماعي إلى نتائجَ سليمة؟ بمقدورنا إدراك ذهنيةِ الحيوان عبر علم النفس. كما بمقدورنا معرفة الإنسان كحيوانٍ أعلى (ناطق) عن طريقِ علم النفس . إلا أننا لا نزال على عتبةِ معرفةِ الإنسان كحيوانٍ اجتماعي.
ندرك اليومَ على نحوٍ أفضل أن اقتطافَ نتائجَ مثمرةٍ عندما نتصور نظامنا في الأسلوب وتحصيلِ المعرفة سيكون محضَ صدفة، ما لم نتعرف جيداً على بنيتنا الذهنية وطبيعتها. في حين، يمكن لنظامنا في الأسلوب والمعرفة أن يُثمِر عن أجوبةٍ مثلى ورشيدةٍ بمفاهيمَ صحيحة، عندما نتوصل إلى التعريف الصحيح والعميق للعقل، ونحقق قدرته على الاختيار الحر (الحرية الاجتماعية). إنَّ عمَلَنا المنهجي بأسلوبٍ راسخٍ في ظلِّ هذه الظروف سيُزيد من فرصتنا بأن نَكُونَ مجتمعاً حراً وفرداً حراً عن طريق ادخار المعرفة الأكثر صحة.
خامساً: إن تَمَتُّعَ الإنسان بطباعٍ ومزايا ميتافيزيقية تجعله مثالاً فريداً من نوعه من جهةِ منهجيةِ الأسلوب والمعرفة. بالمقدور جعل الأسلوب وعلم الأبستمولوجيا (نظرية المعرفة) أكثرَ مهارةً واستطاعةً من خلال تحليلِ الخصائص الميتافيزيقية للإنسان. فاستيعابُ الإنسان من جهة التكوين والنشوء الميتافيزيقي موضوعُ بحثٍ هامٍّ حقاً. فافتقارنا الملحوظُ حتى لإمكانيةِ تعريفِ الإنسان الميتافيزيقي يُعد إحدى المشاكلِ الاجتماعية الأقلِّ تناولاً ومعالجةً. كيف يمكن للإنسان أن يكون ميتافيزيقياً؟ مِمَّ تنبع هذه الحاجة؟ ما الجوانبُ الإيجابية والسلبية فيها؟ أيمكن العيش بلا ميتافيزيقيا؟ ما الخصائصُ الميتافيزيقية الأساسية؟ وهل تسري الميتافيزيقيا على الميدانين الفكري والديني فحسب؟ ما الروابطُ بين المجتمع والميتافيزيقيا؟ هل الميتافيزيقيا مضادةٌ للدياليكتيك كما يُعتَقَد؟ أيمكن حصرها بهذا المضمار فقط؟ وهكذا دواليك..
وما دام الإنسانُ الجوهرَ Özne الأساسيَّ لمعارفنا، فإذا لم نتعرف على الفكر الميتافيزيقي ومؤسساته باعتباره من أهم سِمات هذا الجوهر، فسيبقى عزمنا ناقصاً في بلوغِ المعرفة الكافية من هذا المصدر. إننا نتحدث عن الميدان الذي لم تلتفت إليه علوم الاجتماع ولا علم النفس. فالاكتفاءُ بوصفِ العديد من المدارس الفكرية – تتصدرها المدارس الدينية – بالميتافيزيقية، إنما يزيد الطين بلة، ويجعل الخروجَ من إشكالاتِ المسألة الميتافيزيقية شِبهَ عسير. يَرجِعُ مفهومنا وتناولنا للمسألة الميتافيزيقية إلى كونها خاصيةً أولية للإنسان المجتمعي. فالميتافيزيقيا حقيقةٌ إنشائيةٌ اجتماعية لا يَقدِر الإنسانُ الاجتماعي على العيش بدونها. فإذا ما جَرَّدنا الإنسانَ من الميتافيزيقيا، فإما أننا نحوله بذلك إلى حيوانٍ ممتاز (حيث بُرهِن على صحةِ هذا الاصطلاح الذي استخدمَه نيتشه لأجل الألمان، وذلك في ألمانيا الفاشية النازية)، أو نحوِّله إلى حاسوبٍ ممتاز. تُرى، كم هي فرصةُ الحياة للإنسانية التي وصلَت حالةً كهذه؟
لنأتِ الآن على ذِكرِ ماهيةِ الإنسان الميتافيزيقي:
أ‌- الأخلاقُ خاصيةُ الإنسان الميتافيزيقي.
ب‌- الدينُ خاصيةٌ ميتافيزيقية هامة.
ج- لا يمكن تعريف الفن بكافةِ فروعه إلا بالميتافيزيقيا.
د- يتناسب المجتمعُ المؤسساتي، بل والمجتمعُ برمته، بالأكثر مع التعريف الميتافيزيقي.
تُرى، لماذا، وكيف يكون الإنسانُ ميتافيزيقياً عبر هذه الخصائص التي يمكننا الإكثار من تعدادها؟
أولاً: آفاقُ قدرةِ التفكير عند الإنسان. فالإنسان، الذي يُعتبَر كوناً عارفاً لنفسه، مضطرٌ لإنشاءِ ذاته بما يفوق المستوى الطبيعي (فَوْطَبيعي) كي يتمكن من تلافي ما يَحُلُّ به من حوادثٍ وانفعالاتٍ (سواء بجوانبها المؤلمة أو المفرِحة). ولا مجالَ آخرَ أمامه للتغلب على الآلام والأفراح الجسدية. فإبداءُ قدرةِ التحمل إزاءَ مفاهيمَ عديدةٍ من قَبِيل الحروبِ، الموتِ، الشهواتِ، الرغباتِ، الجمالياتِ وغيرها، بحاجةٍ ضروريةٍ واضطرارية للأفكار والمعتقدات والمؤسسات الميتافيزيقية. وحتى لو لم يكن اللهُ موجوداً، فإنه يسعى لابتداعه، ويعمل على تطوير الفن والسموِّ بمعارفه لتلبيةِ احتياجاته هذه والشعورِ بالسكينة والطمأنينة.
ولو فكَّرنا من زاويةٍ أخرى في الميتافيزيقيا مِن حيث كونها تعني ما بعد الطبيعة، فسنلتمس ضرورةَ عدمِ إنكارها كثيراً، ولا إغداقها بالمديح الجَمّ. حقيقةً، الإنسانُ هو الموجودُ الأكثرُ تحاملاً على الحدود الطبيعية. فعيشه للميتافيزيقيا، التي تعني ما بعد الطبيعة، يتأتى من طباعه وخاصياته الوجودية (الأنطولوجية). بالتالي، لا معنى أبداً للدفاع عن ضرورة بقائه ضمن الإطار الطبيعي فحسبْ. أو بالأصح، إنّ البقاء داخلَ الحدود الطبيعية سيؤدي بنا بالأغلب إلى تعريف الإنسان الميكانيكي الآلي، وهو المفهومُ الذي عرَّفه ديكارت منذ سابق الزمان، وحاولَ النجاةَ منه بوساطةِ اصطلاحِ "الروح" الذي لا إيضاحَ علميٍّ له.
ثانياً: إن عدم قدرة المجتمع على الاستمرار بدون الأخلاق يستلزم التميز بالميتافيزيقية.
لا يمكن تنظيم المجتمع إلا بوساطة الأخلاق باعتبارها محاكَمة حرة. ويمكننا إرجاع أسبابِ انهيارِ روسيا السوفييتية ومصرِ الفرعونية إزاء كافةِ ضروبهما في العقلانية إلى افتقارهما للأخلاق. فالعقلانيةُ لوحدها عاجزةٌ عن تأمين ديمومة المجتمع. قد تستطيع تحويلَه إلى روبوت Robot، أو تَبلغُ به إلى مستوى حيواناتٍ راقية، ولكنها ستعجز عن تحقيقِ تماسكه كمُجَمَّعٍ إنسانيّ. لنُعَدِّد بعضَ مزايا الأخلاق: القدرةُ على تَحَمُّلِ الآلام وتلبيةِ متطلباتها، تحديدُ إطارِ الرغبات والشهوات والملذات، ربطُ التناسل بالضوابط الاجتماعية بدلاً من الطبيعية، إصدارُ القرارات إزاء ترجيحِ الامتثالِ أو الإخلالِ بالتقاليد والأعراف والدين والقوانين. فعلى سبيل المثال، يُعَدُّ ربطُ الأخلاق للعلاقة الجنسية المؤدية إلى التناسل بالقواعد والضوابط ضرورةً اضطراريةً بالنسبة للجنس البشري. ذلك أنه لا يمكن تحقيق ديمومةِ المجتمع، ما لم يُضبَط التعدادُ السكاني فيه. هذا الموضوعُ بذاته كافٍ لتبيانِ الضرورة القصوى للميتافيزيقيا الأخلاقية.
ثالثاً: يَخلُقُ الإنسانُ كوناً خاصاً به عبر الفن. ولا يمكن استمرار المجتمع إلا عن طريق الابتكارات والإبداعات القائمة في الميادين الأساسية، كالصوتيات، الرسوم، والمعمار. هل يمكن تَصَوُّر مجتمعٍ بلا موسيقا، بلا آداب، أو بلا عَمَار؟ كلُّ الإبداعاتِ المتواجدة في هذه الميادين تندرج معانيها في الميتافيزيقيا. وهي ضرورةٌ لا مفر منها لتأمينِ استمراريةِ المجتمع. فالفن يلبي احتياجاتِ الإنسان في الجماليات كتصورٍ ميتافيزيقي كلياً. فكيفما يُولي الإنسانُ المعانيَ للسلوكيات الأخلاقية عبر ترجيحه بين الفاضل – الرذيل، فكذلك يُضفي المعانيَ على السلوكيات الفنية عبر حُكمِ الجميل – القبيح.
رابعاً: ميدانُ الإدارة السياسية أيضاً مشحونٌ بالأحكام الميتافيزيقية، وهو بحدِّ ذاته عبارة عن إنشاءاتٍ ميتافيزيقيةٍ هي الأمتن، حيث لا يمكننا شرح السياسة بالقوانين الطبيعية فحسب. فالحدُّ الأقصى لنمطِ الإدارة بالقوانين الطبيعية يعني التحول إلى آلة روبوتية، بينما يتجسد الوجه الثاني لها في سياسةِ "رعايةِ الرعاع" (تبعية القطيع) الفاشية. وإذا ما أشرنا إلى احتواءِ الميدان السياسي لمعاني الانتخاب والمواقف الحرة، سنصل مرةً أخرى إلى المزايا الميتافيزيقية للإنسان السياسي. ومقولةُ أرسطو "الإنسانُ حيوانٌ سياسي" تُذكِّرنا بهذا المعنى بالأغلب.
خامساً: علينا التشديد بعناية على أنّ ميادين الحقوقِ، الفلسفةِ، الدينِ، وحتى "العلموية" مشحونةٌ بالميتافيزيقيا. فجميعنا نعلم أنّ كافةَ هذه الميادين بجوانبها الكمية والكيفية مُترَعَةٌ ومثقلةٌ بالمنجزات الميتافيزيقية في المجتمع التاريخي.
وبعد تحديدِ المكانة الوطيدة للميتافيزيقيا في حياةِ الفرد والمجتمع، نستطيع إبداءَ مواقفَ أكثرَ قيمةً ومعنى بحقها.
1- إما أنَّ المواقف والسلوكيات الميتافيزيقية اعتلَتْ بشأن ذاتها على طولِ مسيرتها التاريخية، وأشارت إلى أنها الحقيقةُ المطلقة الأساسية، أو نَظَر إليها نُقَّادُها ومعارِضوها كميدانٍ مشحونٍ بالمكر والزيف، فدحضوا حقيقتها وواقعيتها، واعتبروها مجردَ آليةٍ تعمل أو كلامٍ يقال بهدفِ خداعِ الإنسان وتضليله. يمكننا التأكيد بكلِّ سهولة على أنّ كِلا الموقفَين، إما هما غافلان عن ماهيةِ وعيِ المجتمع التاريخي، أو أنهما بالَغا فيه وضخَّما من شأنه للغاية. والخاصية التي لم ينتبه إليها كِلا المفهومين هي: مِن أيّة ميزةٍ أو حاجةٍ اجتماعية – فردية نبعت الحاجة إلى الميتافيزيقيا؟ فالذين سَمَوا بها وأعلَوا من شأنها أهملوا روابطَ الميتافيزيقيا بالعالم الطبيعي، وخدعوا أنفسهم بأنهم أحرارٌ بلا نهاية. وأصحابُ هذا الفريق، إما أنكروا وجودَ الروابط بين الفكر والروح وبين العالم المادي، أو حرَّفوها وبالغوا في شأنها لحدِّ انزلاقهم كثيراً في أخطاء فادحة، بدءاً من اعتقادهم بوجودِ نظامِ الآلهة المتعالية الفائقة وصولاً إلى تأليه الإنسان ذاته. ولا ريب في أنّه لنظامِ الهرمية والدولة النصيبُ الأوفر في مثلِ هذه المستجدات.
أما الفريقُ الذي أنكر أهميةَ الميتافيزيقيا وفنّدها، فهاجموها بِحِدَّةٍ تحت رايةِ العالَم المادي أو المدنية المادية سابقاً، أو باسم العقلانية والوضعية في المرحلة الأخيرة، قائلين بأنَّ كلَّ ما تفوح منه رائحةُ الميتافيزيقيا هو مَرَضٌ، ووسيلةُ خداع، ويتوجب دحضه وتفنيده كلياً. ولكن، تم التنبه جيداً فيما بعد إلى أنّ التياراتِ العقلانية والوضعية التي تنادي بها الحداثةُ الرأسمالية على وجهِ الخصوص قد أدت إلى وجهاتِ نظر في الحياة من قَبِيل: "الرعاع الفاشي"، و"الإنسان الميكانيكي الآلي" و"التشبه والمحاكاة"؛ فقَضَت بالتالي على البيئة، لِتُمَهِّد الطريقَ لدمارِ المجتمع التاريخي وتشتيته. إنّ التشبثَ المفرط بالقوانين الطبيعية يعني العجزَ عن إعاقةِ دمارِ المجتمع وانفكاكه، ليكون ذلك أسطعَ برهانٍ على أنّ "العلموية" ليست سوى أسوأُ ضروبِ الميتافيزيقيا، هذا إذا كان للحياة الاجتماعية فيها معنى أو قيمةً أصلاً! علينا التشديد بأهميةٍ قصوى على أنّ "العلموية" ليست إلا ماديةٌ ضحلةٌ لأبعدِ الحدود، وهي الأكثرُ احترافاً للسلطة والاستغلال، وبالتالي، تبقى تتراوح في وضع خداعِ نفسها بالأكثر، سواءً بوعيٍ أو بدونه، لتُمَثِّلَ في النتيجة أقبحَ أشكالِ رواسبِ الميتافيزيقيا.
2- أما أصحابُ الزمرة الحيادية، والذين يأخذون أماكنهم في صفوفِ الجماعة التي يمكننا نعتها بـ"النهليستية" فيزعمون أنهم ليسوا مضطرين للانحياز إلى أيِّ طرفٍ من الطرفين، وأنه لا داعي لموالاةِ الميتافيزيقيا أو مناهضتها، وأنه بالإمكان العيش باستقلاليةٍ تامة عنها. من الضروري الإشارة إلى أنَّ هذه الزمرةَ، التي تبدو بريئةً ومعصومةً ظاهرياً، تُشَكِّلُ الجماعةَ الأكثرَ خطراً. فالطرفان الآخران – على الأقل – لهم طموحاتُهم وغاياتُهم الكبرى، وهم مُدرِكون لقيمةِ المُثُل التي يُمَثِّلونها، وعازمون على تشكيلِ المجتمع وإعادةِ بناءِ الفرد. أما أصحابُ الزمرة الحيادية كلياً، ورغمَ عيشهم ضمن المجتمع واعتمادهم على قيمه ومُثُله، إلا أنهم يسلكون مواقفَ نهليستية (عدمية)، ويؤمنون بإمكانيةِ العيش بشكلٍ لا ينتمون فيه إلى ذلك المجتمع. إنها المجموعةُ الأقرب إلى الميتافيزيقيين "العلمويين"، والتي ضاعفَت الحداثةُ الرأسمالية من تعدادها لتتعاظم كالكرة الثلجية، وتتكوَّنُ من عناصرَ هشةٍ وسافلةٍ ضمن المجتمع المنهار والمتفكك. ومن منطلقٍ معاكس، يمكننا نعتُ هذه المجموعة بالأقرب إلى الحَيوَنة. ويبدو أن المتعصبين لكرةِ القدم هم المثالُ الأقربُ والمنظرُ الأفضلُ لتمثيل هذه المجموعة، حيث تتكاثر المجموعاتُ المشابهة لها بسرعةٍ ملحوظة. كما يمكن البرهان عبر هذه الأمثلة على أنّ الحداثةَ الرأسمالية هي التي تُضاعِفُ من مَرَضِ السرطان. وكلتا الطريقتين التاريخيتين المعنيتين بالميتافيزيقيا تتَّحِدان في نهايةِ المطاف في بوتقةِ مفهوم الوضعية العلموية للحداثة. وبينما يكون دِينُهم هو الدِّينُ الوضعي، الذي هو ميتافيزيقيا بهيئةٍ مختلفة، فإن إلههم هو الدولة القومية. هذا الإلهُ المتعرّي من قناعه، مشخَّصاً في الدولة القومية بالذات، يتم تقديسه وتمجيده بكلِّ رموزه وطلاسمه وإيماءاته بشكلٍ شاملٍ في كافةِ المجتمعات العصرية.
3- أعتقد تماماً بإمكانيةِ بل وضرورةِ تطويرِ مواقفَ أكثرَ توازناً. أو بالأحرى، وإدراكاً مني بأن الميتافيزيقيا تكوينٌ اجتماعي، فإني أَعتَبِرُ تطويرَ الميتافيزيقيةِ الأقربِ إلى "الفاضل، الجميل، الحر، الصحيح" في ميادينِ الأخلاق والفن والسياسة والفكر، مَهَمَّة أصيلة وأساسية. أي أنَّ مواصلةَ بحثنا عن "الفاضل، الجميل، الحر، والصحيح" مثلما ساد في المجتمع التاريخي، يشكِّلُ جوهرَ "الحياة الفاضلة"؛ بشرطِ عدمِ دحضِ الميتافيزيقيا كلياً أو الاستسلامِ لها كلياً أو السقوطِ في سفسطائيةِ وحماقةِ الاستقلالية التامة عنها. وكلي إيمانٌ بأنَّ فنَّ الحياة الفاضلة هذا هو القادرُ على تأمينِ إمكانيةِ حياةٍ قيِّمة في المجتمع.
لا ريب في أنَّ الميتافيزيقيا ليست قضاءً مكتوباً علينا، ولكن، من المحال التراجع عن إيجادِ وتطويرِ الأكثرَ "فضلاً، جمالاً، حرية، وصحةً". فبقدرِ ما يكون الاستسلامُ للسوء والقبح والعبودية والخطأ ليس قدراً محتوماً، فإنَّ نمطَ الحياة الفاضلة والجميلة والحرة والصحيحة ليس محالاً. كما أننا غيرُ مرغَمين على قبولِ الحياة النهليستية الناجمة عن الخيار الأسوأ في اللامبالاة وعقمِ الحل (أي، في كافةِ الأنظمة الهرمية والدولتية، وفي مقدمتها الحداثةُ الرأسمالية). والصراعُ في هذا الموضوع يعود إلى أُولى عصورِ نشوءِ المجتمعات، وقديمٌ بقدرِ عمرِ التاريخ. والجانبُ الخاص في راهننا يكمن في عيشنا مرحلةَ انهيارِ نظامٍ كنظامِ الحداثة الرأسمالية. وهذا مؤشرٌ لضرورةِ انتهاج الأفكار والممارسات الخاصة، وإعادةِ إنشاءِ المكونات الاجتماعية، لتسييرِ النضال في سبيلِ "الفاضل، الجميل، الحر، والصحيح". وبقدرِ ما تستلزمُ مثلُ هذه الجهودِ الحثيثةِ الشروعَ بحماسٍ عنفوانيٍّ لدرجةِ الهيام والعشق، فهي تتطلب أيضاً البحوث الأكثر علميةً (الأسلوب ونَسَق الحقيقة).
من الواجب تقييم عناصر الحجة (أدواتِ البرهان)، التي سعينا لسردها حتى الآن، كوسائلَ ضروريةٍ يجب تفعيلها في إيجادِ الردود المناسبة لمشاكلِ تجاوزِ الحداثة الرأسمالية وتطويرِ ونشرِ الحداثة الديمقراطية. وهذا ما يتطلب انتقادَ الأساليب ونُظُمِ المعرفة (طُرُقِ الحقيقة) المؤدية إلى الحداثة الرسمية القائمة، بقدرِ تسليطِ الضوء على أساليبِ ونظمِ المعرفة لما وراء الحداثة، والمؤديةِ إلى فتحِ آفاقٍ واسعة. وأدواتنا معنيةٌ بذلك. لقد أسهَبْنا في سردِ الأسباب اللَّمِّية والكيفية الضروريةِ للتركيز على الإنسان كمعضلةٍ تُشَكِّلُ مفتاحَ الحل. ولا يزال التعريفُ السليمُ والإدراكُ الصائبُ للفرد والمجتمع يحافظ على أهميته القصوى. فكلُّ الجهود التي يبذلها كلٌّ من علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي وعلم الأنثروبولوجيا ليست معطاءةً بالقدر الكافي، بسبب تَعَرُّضِها للتحريفات الجدية للحداثة، ووقوعِها في شِباك المعرفة السلطوية. في حين تبقى الجهودُ الفرديةُ القيِّمةُ بلا تنظيمٍ أو منهاج. ورغمَ كلِّ المواقف القيِّمة والثمينة لأصحابِ المساهمات المنهجية، وفي مقدمتهم مدرسةُ فرانكفورت وفرناند بروديل ، ومن قبلهما نيتشه، ومن بعدهم ميشيل فوكو ووالرشتاين ؛ إلا أنَّ أساليبَ ونُظُمَ المعرفة لا تزال بعيدةً عن المنهجية في المرحلة الراهنة (أي، مرحلةُ انهيارِ الحداثة، وبروزِ ما وراء الحداثة الجديدة، والتي نرغب تسميتها بـ الحداثةِ الديمقراطية). إنَّ الجهودَ المبذولةَ قيِّمةٌ وثمينةٌ للغاية، ولكنها متناثرةٌ ومجزأةٌ للغاية. والسببُ الأولي وراء ذلك هو عمليةُ التسميم التي يقوم بها النظامُ الرأسمالي، والتي اعترَفَ بها والرشتاين بذاته. إنهم وكأنهم يتخبطون بين فَكَّي كماشةِ الحداثة.
وعلى سبيل المثال؛ تتميز عباراتُ نيتشه بأهميةٍ ملحوظة، حيث قال بأنَّ الحداثةَ قامت بتأنيث المجتمع وخصيه وتنميله. وكأنه يتنبأ ويتكهن بما سيجري بعد خمسين سنة، حين عبَّر عن سياسةِ الرعاع الفاشية التي مارسها الألمانُ بنعته إياهم بـ"الحيوان الأشقر بامتياز". واضحٌ أنه قد نادى برأيٍ رصينٍ ونظرةٍ ثاقبة عندما قال في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) بأنَّ العَصرَنَة والتدوُّلَ القومي سيوَلِّدان الرعاعَ الفاشيين في ألمانيا عاجلاً أم آجلاً، وعندما قال عن اليابان بأنه ستَبرُزُ المجتمعاتُ النملة على نمط "الأمَّةِ النملة". وكأنه نبيُّ العصرِ الرأسمالي.
لقد قام ماكس فيبر بتثبيتٍ جِدِّ مُهِمٍّ لدى إدراكه للحداثة واعتبارِها بأنها "إقحامُ المجتمع في قفصٍ حديدي". فبينما نظر إلى العقلانية على أنها السببُ وراء العالَم المفتقدِ لساحريته وعظمته، أكَّدَ بذلك على الخصائص المادية للمدنية.
كما ينتقد فرناند بروديل بشدةٍ وصرامةٍ علومَ الاجتماع المنقطعةَ عن الأبعادِ التاريخية والمكانية. فعندما وصفَ الشروحَ المتهربةَ والصارفةَ النظرَ عن الأبعاد الزمكانية بأنها "أكداسٌ من الحوادث الفارغة"، قدَّم مساهماتٍ جدَّ هامةٍ بشأنِ مسألةِ الأسلوب. فاصطلاحاتُ بروديل بشأنِ التاريخ تفتح الآفاق: "الفترة القصيرة – التاريخ الوقائعي (الحَدَثي)"، "فترة الأجواء الحاكمة – فترة الأزمة الدورية"، و"الفترة الطويلة – الفترة البنيوية ".
تتميز انتقاداتُُ مدرسةِ فرانكفورت الموجَّهةُ إلى الحداثة والتنوير بمزايا تفتحُ آفاقاً واسعة. فعبارةُ أدورنو مؤثرةٌ وقويمةُ حين وَصَفَ مدنيةَ الحداثة المؤدية إلى تفشي معسكراتِ "التمركز" (التجميع) بأنها تعني "انتهاءَ مرحلةٍ في ثنايا الظلام". وأخُصُّ بالذكر عبارتَه الشهيرة "الحياةُ الخاطئة لا تُعاشُ بصواب". فهو بذلك يُقِرُّ بخطأِ تأسيسِ الحداثة كأسلوبٍ ومعرفة، وكأنه بلغَ وعياً عظيماً. وانتقاداتُه بصددِ التنوير والعقلانية أيضاً تفتح الآفاق حقاً.
أما إضافةُ ميشيل فوكو موتَ الإنسان إلى موتِ الإله السماوي في الحداثة، فهي تعليميةٌ حقاً. ونخص بالذكر تحديدَه للسلطةَ العصرية بأنها تعني تماماً الحربَ الدائمةَ داخلَ وخارجَ صفوفِ المجتمع؛ حيث تُعَدُّ تشخيصاً منيعاً، ولكن، لم يُعمَل به حتى الآن. كما أنَّ سلسلةَ الاصطلاحاتِ من قبيل: السلطةِ، المعرفةِ، السجنِ، المشفى، مشفى المجانين، المدرسةِ، ثكنة الجيش، المعملِ، والماخورِ ؛ قَدَّمَت مساهماتٍ بارزةً على صعيدِ الأسلوب، بقدرِ مساهماتها في الإشارة – ولو بطرقٍ غير مباشرة – إلى كيفيةِ تأسيسِ منهاجِ المعرفة الحرة. أما ميشيل فوكو، الذي لم يُسعفه الوقتُ لإتمام تحليلاته بصدد السلطة – الحرب – الحرية بسببِ موته المبكر، فكأنه يود الإشارةَ في تحليلاته تلك إلى أنَّ الحداثةَ تقتل الإنسانَ بسببِ دوامِ حالةِ الحرب داخلَ وخارجَ المجتمع. يمكننا استنباط نتيجةٍ من ذلك، مفادها أنَّ الحريةَ هي شكلُ الحياة الاجتماعية الناجحة في البقاء خارج نطاق الحرب. إذن، والحال هذه، لا يمكن تحقيق الحرية، ما لم يحصل إلغاء كلٍّ من الصناعة الحربية المنتِجة لكافةِ أدواتِ الدمار والخراب، والجيوشِ النظامية، وقانونِ الربح الذي يشكل منبعَ وغايةَ العسكرتارية ؛ وما لم نَضَع أيكولوجيا المجتمع ووسائلَ دفاعه الذاتي عِوَضاً عن ذلك.
يتميز والرشتاين بعزمٍ راسخٍ في إدراكِ النظام الرأسمالي العالمي، حيث رَسَمَ صورةً (تصوراً) رائعةً للنظام المعاصر منذ القرن السادس عشر إلى يومنا الحالي. إلا أنه غيرُ جازمٍ، سواءً في تقييمه للنظام (حيث يَعتَبِر المرحلةَ الرأسمالية ضرورةً اضطراريةً مثلما عند ماركس، ويميل لمدحها)، أو في كيفية معارَضةِ النظام وتحديدِ طرقِ الخلاص منه. ولكنه يكاد يُقِرُّ بذلك عندما يُرجِعه إلى سياسةِ الترغيب Şerbetleme في النظام البرجوازي. كما قدَّم بعنايةٍ فائقة أطروحةً هامّةً حين قال بأنّ النظامَ الاشتراكي، وفي صدارته روسيا السوفييتية، دعك من تجاوزه للحداثة الرأسمالية، بل إنه مدَّها بالقوة والطاقة. وقال أيضاً أنّ انهيار النظام الاشتراكي لا يُعزِّز الليبراليةَ الرأسمالية، بل سيكون السببَ في تهاويها. لكنه لم يقدر على إبداءِ نفسِ المهارة في تحليلِ أسبابِ انهيارِ النظام وكيفيةِ تحقيقِ الانطلاقات الجديدة. حيث لا يرسم وجهاتِ نظرٍ مستقبليةً حاسمة فيما يتعلق بزمانِ وكيفيةِ انتهاءِ الأزمة البنيوية التي دخلتها الحداثةُ الرأسمالية (فيما بعد السبعينات)، وربما هو مُحِقٌّ في ذلك. لكن، وبالمقابل، فقوله مُهِمٌّ عندما ذَكَرَ بأنَّ كلَّ كفاحٍ قيِّم، ولو كان بسيطاً، قد يُسفر عن نتائجَ عظيمة. إننا نلاحظ هنا ابتعاده الكبيرَ عن الحتمية الفظة. ويمكننا القول بأنه يتحلى بقوةٍ تحليليةٍ عظمى بشأنِ الأسلوب ومنهاجِ المعرفة.
لا ريب في أنه يمكننا سرد أسماءِ العديد من المتنورين الآخرين. فتحليلاتُ موراي بوكين بصددِ الأيكولوجيا، وانتقاداتُ واقتراحاتُ فييرابند بصددِ الأسلوب والمنطق تفتح آفاقاً شاسعة. الجانبُ الناقص لدى كلِّ هؤلاء المتنورين يكمن في عجزهم عن تحقيقِ التوازن الماهر في توحيدِ المعرفة مع العمل. ولا شك في أنَّ القوة العظيمة للحداثة الرأسمالية في ربطهم وتوثيقهم بها لها تأثيرُها الكبير في ذلك. فرغم زعمِ المدرسة الماركسية بتوجيهها الانتقاداتِ الأكثرَ صرامةً وعلمية إلى الرأسمالية، إلا أنها لم تقدر على إعاقةِ وقوعها بشكلٍ تراجيديٍّ مؤلم إلى مرتبةِ التحول لآلةٍ مفيدةٍ جداً للنظام بخصوصِ السلطة المعرِفية، ولم تستطع النجاةَ من التحول إلى جناحٍ يساري للّيبرالية. وتجربةُ المائة والخمسين عاماً برهانٌ كافٍ على ذلك.
يمكننا إرجاع السبب الأساسي في ذلك إلى محورتها لكافةِ أساليبها ومدَّخراتها المعرفية حول "الاختزالية الاقتصادية". فـ"الاشتراكية العلمية" لم تنجُ من التحول إلى نسخةٍ معدَّلة من المدرسة الوضعية من حيث معالجتها للخصائص الميتافيزيقية والتاريخية للمجتمع على نحوٍ ضحلٍ وبسيط للغاية، وإسقاطها ظاهرةَ السلطة إلى مستوى هيئةٍ حكوميةٍ بسيطة، وإضفائها دوراً سحرياً على التحليلات الاقتصادية والسياسية. ولدى شروعِها في علم الاجتماع، ورغم إضفائها دوراً تأسيسياً عليه بقدرِ ما فعله كلٌّ من أميل دوركايم وماكس فيبر، إلا أنها بقيَت عاجزةً عن تخطي دورها كمدرسةٍ يسارية للّيبرالية فيما يتعلق بالأسلوب والأبستمولوجيا (نظرية المعرفة). مرةً أخرى يتجلى بكلِّ وضوح أنَّ المُهِمَّ والمعيِّنَ في الأمر ليست النوايا، بل هو بؤرُ قوةِ الصهر والتكامل المتحكمةُ بالمجتمع على يدِ النظام المهيمن (الأسلوبُ، السلطةُ المعرفية، القوةُ التقنية). ورغم أهميةِ الاقتصاد كقوةٍ مؤثرة، إلا أنه، وبدون تحليلِه بشكل سليم مع السلطة والقوى الميتافيزيقية الأساسيةِ الأخرى بعينٍ تاريخية واجتماعيةٍ ثاقبة، فإنَّ العزم على تخطي النظام القائم (الحداثة الرأسمالية) والتغلبِ عليه (وبالأخصِّ شرعنةِ ضرورةِ ذلك كمرحلةٍ تمهيدية)، وطرحَ المشاكل العالقة، وصياغةَ طرق الحل في سبيل ذلك، وترجمتَها إلى الممارسة العملية؛ إن العزم على كل ذلك لن يُثمِر عن أي شيءٍ أبعدَ من الاتجاه الوضعي الفظ. والواقعُ العملي والنظري القائمُ يبرهن هذه الحقيقة بما فيه الكفاية.
إنَّ المدارسَ الفوضويةَ Anarşist البارزةَ كانتقادٍ راديكالي للحداثة الرأسمالية، تُعتبَر ماهرةً وبارعةُ في الأسلوب ونظريةِ المعرفة. فهي لا تَعترِف بتقدميةِ الرأسمالية، مثلما فعل الماركسيون. وقد استطاع أصحابها تناوُلَ المجتمع من عدةِ زوايا مختلفةٍ تتخطى إطارَ الاختزالية الاقتصادية، فأدَّوا بذلك دورَ "أطفالِ النظام المتمردين" بكلِّ مهارةٍ وكفاءة. ورغم كلِّ نواياها الحسنة، إلا أنَّ هذه التياراتِ لم تستطع الخلاصَ من التحول في نهايةِ المطاف إلى طرائقَ تحافظ على نفسها بكلِّ عنادٍ إزاءَ جرائمِ وآثامِ النظام. وما ذكرتُه بشأنِ الماركسية ينطبق على هذه التيارات أيضاً: النقاطُ الأساسية التي بقيَتْ على مسافةٍ شاسعة منها هي: التعريفُ السليمُ للنظام القائم ولقضايا تجاوزه والتغلبِ عليه، والاستخدامُ الحاذقُ للأسلوب ولقوة المعرفة والعمل في الحداثة الديمقراطية.
يمكننا إجراء تقييماتٍ مشابهة بصددِ نظرياتِ الحركات الأيكولوجية والفامينية والثقافيةِ وممارساتها العملية. فهي أَشْبَهُ بِفِراخِ الحجل الناجية لِتَوِّها من القفص الحديدي، حيث يبقى القلق يُساوِرنا في موضوعِ: أين ومتى سيُعاد اصطيادها؟ ومع ذلك، مِن المُهم النظر إليها كحركاتٍ تبعث على الأمل، حيث بإمكانها تقديم مساهماتٍ جمة عندما يتطور التيارُ الأساسي البديل. في حين أنّ الحركاتِ الاجتماعيةَ الديمقراطيةَ وحركاتِ التحررِ الوطني التحمَت مبكراً بالنظام العصري، وغدت قواه الدافعةَ له والمسيِّرةَ إياه، ونجحَت في التحول إلى مذهبَين منيعَين للتيارِ الليبرالي الأساسي.
إني على قناعةٍ بأنَّ التطرقَ المختصَر لموقفي المناهِض للاستشراق سيكون مساهَمةً مفيدة في التوجه نحو النتيجة. كما أني منتبهٌ لبقائي في خِضَمِّ تناقضاتٍ متشابكة جدية لدى مراقبتي لذاتي تجاه الحداثة. يمكنني ذكر سببَين لهذا الأمر على الفور. أولهما: تأثيرُ الثقافةِ الشرقِ أوسطيةِ الكلاسيكية، والمتميزة بتناقضاتها، بالتالي بقضاياها الجذريةِ مع الحداثة الرأسمالية. فهذه الثقافةُ، وقبلَ كلِّ شيء، تتصف براديكاليتها في إيلاءِ الأولوية للمجتمع لدرجةٍ لا يمكن للفرديةِ أن تنتعشَ بسهولةٍ في المجتمع. بل إنَّ الروابطَ الاجتماعية معيارٌ أساسي في تقييمِ الشخصية، حيث تمَّ السموُّ بالروابط مع المجتمعات بالإجماع. وللدِّينِ والتقاليدِ السائدةِ تأثيرُهما القويُّ في ذلك. أما الانقطاعُ عن المجتمع، فيُنظَر إليه بعينِ الازدراء، ويصبحُ موضوعاً للسخريةِ والتهكم. هذا ولا يُستساغ تغييرُ الجماعة أيضاً. لكن، وفي حالِ بلوغِ الروابطِ الأفضل نوعية، فيُقابَل بالتقديس والتبجيل. أما الحظيُ بمكانٍ ومكانةٍ داخلَ أروقةِ الدولة والهرمية، فيُعدُّ مصدرَ غبطةٍ وافتخار. ولثقافةِ الدولة والهرمية الكلاسيكية في الشرق الأوسط تأثيرٌ بارز في سيادةِ هذا الوعي. وبتأثيرِ مُجمَلِ هذه الخصائص، فمِن العسير الاستسلامُ للثقافات الخارجية، وكذلك للثقافات العصرية. أو بالأحرى، من العصيب صهرها في بوتقتها.
بالتالي، يجب ألا يَعتَرينا الذهول إزاء كونِ ثقافةِ "الأمة" بتقاليدها الوطيدة ترجيحاً مفضَّلاً في راهننا على الدولتية القومية التي تُعد أقوى التيارات في يومنا. ذلك أنَّ الدولة القومية ثمرةٌ من ثمار الحداثة الرأسمالية، بالتالي، فهي غريبة. ولدى المقارنة والمقايسة بين الإسلاموية السياسية والدولة القومية، واللتَين تعتبران نزعةً قوموية مضموناً، فستكون القومويةُ الإسلاموية المحلية هي المرجَّحة بغالبيةٍ ساحقة. والتنافرُ والتنازعُ إزاء الحداثة يسود العديدَ من ميادينِ وأنماطِ الحياة. إذ، ما من مقاومة حصلت تجاه الحداثة الرأسمالية على الصعيد الثقافي، فيما عدا الشرقِ الأوسط. وحتى لو حدثت، فلم تستطع النجاة من ابتلاعِ الحداثة الرأسمالية لها، أو صهرِها في بوتقتها. هذه المقارنةُ لوحدها كافيةٌ لبرهانِ رسوخِ البنية الثقافية على الصعيدين التاريخي والاجتماعي.
السببُ الثاني؛ ورغم إبدائي اهتماماً بالغاً بالبنية الفكرية الغربية، إلا أنني لم أنزلق في هَوَسِ التشبث بأيِّ تيارٍ منها لمدةٍ طويلة. ذلك أني أثناء بحثي عن الحقيقة، ولو لم يتميز هذا البحثُ بالجذرية والمنهجية الكافيتَين، كنتُ مدركاً تماماً لماهيةِ التراكم المعرفي- العلمي والأساليبِ المؤدية إلى الحداثة، وعالِماً بتفوقها العلني. ولكنّ ردودَ الفعل التي اختلجَتني إزاءَ ثقافةِ الشرق الأوسط لم أتوانَ عن إبدائها تجاه هذه الثقافة العصرية أيضاً. ذلك أني انتبهتُ – ولو متأخراً – إلى أنَّ كلتَيهما تنبثقان من مصنعِ الحضارة المدينية نفسِها، وأدركتُ بدرايةٍ سليمة أن كلتَيهما تنحدران من بنى الدولة والهرمية المعمِّرة منذ خمسةِ آلافِ عامٍ بأقل تقدير. بالتالي، لم أتوانَ عن إبداء الحذاقة والجرأة في توجيهِ الانتقادات للجوانب المشتركة للثقافتين، وتمريرهما في الغربال النقدي.
ومن خلالِ هذه الانتقادات، لن يكون صعباً رؤية كيف تَقرُضُ الفرديةُ المجتمعَ وتقضمه كالفأر. إذ، ليس من العسير تشخيص الليبرالية الرأسمالية باعتبارها فنّ قَرضِ المجتمع الإنساني أكثر من تمثيلها حريةِ الفرد، ومعرفة أصولها المتأتية من الثقافة التجارية الكلاسيكية. كما من السهولة إيضاح منبعِ الثقافة التجارية المرتبطة بالعديد من التقاليد القديمة في الشرق الأوسط، بما فيها الأديان التوحيدية الكبرى الثلاثة. أما التبضيعُ وتبادُلُ السلع، اللذان يُعدان من مقوماتِ التجارة، فقد لعبا دوراً رئيساً في تفسخِ وانهيارِ المجتمعات والتجمعات الممثِّلةِ لجماعيةِ الإنسان. إنَّ الذهنيةَ التجارية تقليدٌ شرقُ أوسطيٍّ متجذرٌ ووطيد. وتتميزُ بتأثيرها المحدِّد والمعيِّن في ثبوتِ ورسوخِ العديد من عناصرِ المؤسسات والرموز والهوياتِ واللغاتِ والبنى في المجتمع التي يكتنفها الشك، بدءاً من ابتداعِ الإله وتقديسه، إلى تحويلِ فنِّ إدارةِ الدولة إلى حِيَلٍ ومكائد، وصولاً إلى ترسيخِ الكذبِ والرياء والازدواجية في الأخلاق على نحوٍ بنيوي. وتكمن مساهمةُ أوروبا الغربية في اقتباسِها هذا النظامَ من الشرق الأوسط، واستغلالِه عبر النهضة والإصلاحِ والتنوير لجعله نظاماً مهيمناً على المجتمع. أما في مجتمعات الشرق الأوسط، فلا يُستساغ التاجرُ ومؤسساتُه، ولا يولى مكانةً أولية. بل، وعلى النقيض، يُنظَر إليه دوماً بعينِ الشك والريبة. في حين أنَّ ما نجحَت فيه الحداثةُ الرأسمالية في أوروبا، هو جعلُها نظامَ السلعة تاجاً على رأسِ المجتمع، وحثُّها كلَّ العلوم والأديان والفنون لتسخيرها في خدمة هذا المجتمع الجديد. وهكذا، فكلُّ ما هو هامشيٌّ وثانويٌّ وتافهٌ في الشرق الأوسط أصبح محبذاً ومعززاً وأولياً في أوروبا.
لقد غدا انتقادُ حداثةِ أوروبا، بل ومناهَضتُها بالاعتماد على العنف بطابعِ الإسلام الراديكالي، موضةً دارجةً في الشرق الأوسط الراهن. لكن، وحسبَ رأيي، فإنَّ كلَّ المواقف والتنظيماتِ الميدانية التي تبدو وكأنها عدوٌّ لدودٌ للحداثة والاستشراق، بدءاً من أدوارد سعيد إلى حزب الله؛ قد تحولَت إلى كياناتٍ مندرجة في إطار الحداثة، تماماً مثلما حَلَّ بالتقاليد الماركسية، ولن تنجُو في النتيجة من تقديمِ الخدمات لها بكلِّ سماجةٍ وذلٍّ وهوانٍ. فباعتبار أنَّ بروزها تَحَقَّقَ بفضلِ الحداثة بعينها، فهي بموجب طبيعتها، وسواءً كانت ناجحةً أم فاشلة، ستتوسل إلى الحداثة للشحادة بِنَهَمٍ وجشع، وستدافع عنها بنفس المواقف. وبينما يكتفي أصحابُها بحصرِ تقاليدهم في الهيئة والملابسِ واللُّحى، تبقى أرواحُهم وأجسادُهم معبأةً بمخلفاتِ الحداثة الأكثرِ رجعية.
كلي قناعةٌ بأني عرضتُ أسلوبي في النقد ونمطي في تقييمِ المعرفة بخطوطه العريضة. أو على الأقل، سلطتُ الضوء، ولو بشكلٍ محدود، على تعريفِ الأسلوب والعلم المؤديَين إلى الحداثة الرأسمالية. كما أرى أن أمامنا فرصة "تطويرِ نمطنا في الأسلوب والمعرفة في سبيلِ تحقيقِ انطلاقةِ الحرية والديمقراطية" كترجيحٍ ضروري للنفاذ من مرحلةِ "الفوضى" البنيوية للحداثة؛ ولو أننا لسنا واثقين كثيراً من صحةِ ذلك. ولتسهيلِ شرحنا (قولنا) هذا، يمكننا سرده على نحوِ بنودٍ أولية:
1- يجبُ رؤيةَ وانتقادَ الروابطِ بين الرأسمالية والمفهوم (البراديغما) الذي أسَّسَ دعائمَه كلٌّ مِن روجر وفرانسيس بيكون وديكارت بشأنِ الأسلوب والعلم.
2- يجبُ رؤيةَ الدوافع الكامنة وراءَ تجذيرِ الفصل بين الذاتانية والموضوعانية وعكسه على العديد من الثنائيات الأخرى؛ حيث يهدف إلى تقييمِ المجتمع (الشيء الموضوع) كمصدرٍ منفتحٍ لكافةِ أنواعِ الاستغلال والاضطهاد على يد الفردية (الذاتِ العاقلة).
3- هذا المفهومُ في الأسلوب والعلم نَظَرَ بعينٍ طبيعية إلى التمييز بين البرجوازي والبروليتاري في المجتمع، وأدى بالتالي إلى استخدامِ البروليتاري كـ شيء موضوع.
4- وضعَت الحداثةُ الرأسمالية اللَّبَنَةَ الأساسية لفرضيةِ العلم – السلطة انطلاقاً من عبارتها "العلمُ قوة"، وحوَّلَت الاتحادَ المبكِّرَ بين العلم والسلطة إلى سلاحٍ فتاكٍ وأساسي بيد النظام الحاكم.
5- جعلَت الحداثةُ الرأسمالية من الخرافات والعقائدِ الثبوتية المنحرفة البارزةِ بما فيه الكفاية في الدِّين والميتافيزيقيا وسيلةً لتحويلِ العلوم إلى دينٍ جديدٍ على غرار العلم الوضعي، وأسَّسَت دينها هي، وبسطَت نفوذه باسم الصراع مع الدين والميتافيزيقيا.
6- جعلَت من الليبرالية (مذهب الحرية) أيديولوجيةً رسمية لها، وحولتها إلى وسيلةٍ مثالية في الوفاق من جهة، واستخدمَتها كسلاحٍ فتاكٍ في إلحاقِ كافةِ الأيديولوجيات المعارِضة بذاتها، وصهرها في بوتقتها من جهةٍ ثانية، وأصبحت كـ"اليدِ الخفية، العقلِ الخفي" لِتَبسطَ أقوى هيمنة أيديولوجية.
7- وبينما أَضفَت الرسميةَ على الليبراليةِ والعلوم الوضعية، حطَّت من أهميةِ التيارات الأيديولوجية والمدارس الفكرية الأخرى، وبالأخص تلك المعارِضة لها، وثابرَت في جهودها تلك إلى أنْ ألحقَتها بذاتها.
8- حطَّت من شأنِ الفلسفة والأخلاق، وبذلك قلَّلَت من فرصِ المناهِضين للنظام القائم في تقديمِ الإرشادات أو اتخاذِ المواقف اللازمة (الاختيار الحر = الأخلاق).
9- وبالإفراط في فرضِ الضوابط على العلم، حقَّقَت تشتتَه وانقسامَ تكامُلِه الداخلي وقوةِ معانيه، لتقومَ بشرحِ الفيل عبر وبره، والغابةِ عبر شجرةٍ منها. فالعلمُ المشتَّت إرباً إرباً يَسْهُلُ ربطُه بالسلطة وتحويلُه إلى ميدانٍ تقني يَدرُّ الربحَ الوافر. وهكذا غدت الغايةُ الأولية من العلم والمعرفة كسبَ الربح الأكبر، لا اكتشافَ المعاني الأصيلة للحياة. وتم الانتقالُ من منهاجِ المعرفة – العلم إلى منهاجِ العلم – القوة – المال. أي أنَّ العلم – السلطة – رأسَ المال هو التحالفُ المقدَّسُ الجديد للحداثة.
10- وبالإضافة إلى المرأة التي اكتمل تأنيثها (المرأة الأكثر عبودية) على يدِ مدنيةِ الحداثة الرأسمالية (حضارة المدينة الطبقية)، تم خَصيُ الرجل وتأنيثه أيضاً (بذريعة المواطَنة)، لتتحقَّقَ بذلك تبعيةُ المجتمع برمته كزوجات خانعات (فحسْبَ هتلر، المجتمعُ كالزوجة الذليلة). إن المجتمعُ بالنسبة إلى الدولة القومية أَشْبَهُ بحصانِ الركوب وبِالعَوْرة.
11- تحولَت السلطةُ في الحداثة إلى ساحةِ حربٍ دائمة، سواءً داخلَ المجتمع، أو فيما بين المجتمعات، كأمرٍ واقع (إذ لم يَعُدْ ثمةَ معنى للتفريق بين الدولة والمجتمع). وعبارةُ هوبز "إنها حالةٌ من حربِ الكل ضد الكل"، والتي قالها في مجتمعِ ما قبلِ الرأسمالية، تصبح أكثر تأثيراً وشيوعاً في ظلِّ الحداثة الرأسمالية. وما الإبادات العرقية سوى ذروةُ هذه الحروب.
12- لقد تَوَلَّدَت أزمةٌ بنيويةٌ حادة بسبب: اكتمالِ مرحلةِ التوسع في المركز والأطراف في ظلِّ نظامِ الحداثة الرأسمالية، وصولِ الأيكولوجيا أبعاداً لا تُطاق ويستحيل معها الاستمرار، البطالةِ، الفقرِ المدقع، انخفاضِ الأجرة والمعاش، وصولِ البيروقراطية درجةً تبتلع فيها كلَّ ما حولها، دكِّ دعائمِ المجتمع الإلهي، هيمنةِ شريحة المستثمرين الماليين العالميين المنعزلة عن الإنتاج والأكثر تطفلاً؛ وبالمقابل تطوُّرِ شِباكِ المقاومة والتصدي في كافةِ الميادينِ لدى سواد المجتمع.
13- تحتضن مراحلُ الأزمات البنيوية في أحشائها التشابكَ والتداخلَ بين الانطلاقات الثورية والثورية المضادة، وكذلك بين الانطلاقات الديمقراطية التحررية والانقلابات التوتاليتارية والفاشية. والذين يقومون بتطويرِ أنماطِ الأسلوب والنُّظُمِ العلمية بأمهر الأشكال، ليجعلوا منها أرضيةً أولية لنشاطاتهم العملية؛ هم الذين سيحالفهم الحظُّ في إنشاءِ النظام المجتمعي الجديد.
14- في معمعانِ الأزمات البنيوية والفوضى البينية ، تستطيع الحركاتُ الديمقراطية والأيكولوجية والتحرريةُ والمناديةُ بالمساواة (العادلة) عبرَ حملاتها الصغيرة والمؤثِّرة والمستمرة على فتراتٍ قصيرةٍ متلاحقة، أن تؤسِّسَ الكياناتِ القادرةَ على تحديدِ معالِمِ المستقبل على المدى الطويل.
ولأجل ذلك يجب:
1- تقييمَ علمِ الاجتماع بأبعاده التاريخية والمكانية كدليلِ عملٍ وكمرشدٍ للنشاطات الميدانية.
2- تطويرَ الحل خارجَ نطاقِ النظام القائم، وذلك اعتماداً على مناهَضةِ كافةِ الحقائق المذكورة في النقاط الأربعة عشرة (14) التي سعينا لشرحها أعلاه، وكذلك انطلاقاً من حقيقةِ كونِ الحداثةِ الرأسمالية بنيةً سرطانيةً تستفحل في العديد من الميادين لتطفح أعراضُها على السطح.
3- تجاوُزَ كافةِ الثنائيات والقرائن الفظة المرتكزةِ إلى التمييز بين الذاتانية والموضوعانية (وفي صدارتها المثالية – المادية، الدياليكتيك – الميتافيزيقيا، الليبرالية – الاشتراكية، التأليهية – الإلحادية )، والعملَ أساساً بِفَنِّ التفسير للمعاني الفاضلة والمعتمِدِ على كافةِ المنجزات العلمية.
4- عدمَ إنقاصِ أو إهمالِ أهميةِ ميتافيزيقيةِ الإنسان المعتمِدةِ على الفاضل، الجميل، الحر، والصحيح، سواءً في الأساليب النقدية، أو في حملاتِ الإنشاء الجديدة.
5- العملَ أساساً باصطلاحِ السياسةِ الديمقراطية.
6- تأسيسَ الآلاف من منظماتِ المجتمع المدني (يمكن أن تضم ثلاثةِ أشخاصٍ إلى آلاف الأشخاص، حسب فاعليتها وفوائدها وضرورتها) في كافةِ الميادين التي تتواجد فيها الأزمةُ والسلطة، وذلك انطلاقاً من اصطلاحِ السياسة الديمقراطية.
7- تكوينَ أُمَّةِ المجتمع الجديد المزمَعِ إنشاؤه بحيث تكون أمَّةً ديمقراطية. وبينما تَكُون الأمةُ الديمقراطية منفصلةً عن الدولة القومية، فمن الضروري عدم صرفِ النظر عن حقيقة إمكانية تجانبهما وحتى تداخلهما.
8- تطويرَ شكلِ الإدارة السياسية للأمة الديمقراطية (تشبيهاً بالتصنيفات المألوفة) على أساسِ الكونفدرالية الديمقراطية المحليةِ، الوطنيةِ، الإقليميةِ، والعالمية. (أي، يمكن تنظيم مختلَفِ الأمم كأمةٍ ديمقراطية واحدة. كما يمكن بناءُ التنظيم على نحوِ الدولة القومية والأمة الديمقراطية ضمن إطارِ الأمة ذاتها. في حين أنّ الكونفدرالياتِ الديمقراطيةَ الإقليميةَ وكونفدراليةَ الأمم الديمقراطية العالمية ضروريةٌ للغاية، حيث يمكنها تأدية مهامِّها وإبداء تأثيراتها الحاسمة في حلِّ المشاكل العالمية العالقة والمشاكل الوطنية والمحلية أيضاً على نحوٍ أجدى وأكفأ من هيئةِ الأمم المتحدة الحالية.
9- تطويرَ المجتمع الديمقراطي كمعارِضٍ نقيضٍ للصناعة التقنية المتبقية من الحداثة، والتي تُعَدُّ إحدى أمتنِ دعائمها (ترتكز الحداثةُ إلى ثلاثِ دعائم أساسية: آ- الإنتاجيات الرأسمالية، ب- الصناعوية، ج- الدولتية القومية)؛ وإضفاءَ الطابع الأيكولوجي على الاقتصاد والتقنيات.
10- ضمانَ الدفاع الاجتماعي من قِبَلِ الميليشيا الشعبية.
11- إنشاءَ الأنظمة الأُسَرِيّة الجديدة المعتمِدةِ على تَوَجُّهِ المرأة من عبوديتها الغائرة نحو حريتها المتجذرةِ ومساواتها العميقة، عِوضاً عن النظام الذكوري المستند إلى الأسس الهرمية والدولتية الوطيدة.
تكفي هذه البنودُ الأساسية للتعبير عن وجهةِ نظرنا البراديغمائية التي يمكننا زيادة تعدادها وذِكْرُ تفاصيلها الدقيقة بإسهابٍ أشمل. إننا نعي تماماً أنَّ زمانَ الحداثة الرأسمالية هو في نفسِ الوقت الزمانُ الذي أقامت فيه يوتوبياتُ الحرية والمساواة القيامةَ ولم تُقعِدها. وقد بذلَت الشعوبُ جهوداً حثيثةً وعظيمة في سبيلِ إحياءِ هذه اليوتوبيات، وأُريقَت الدماءُ كالسيول. وتَعَرَّضَت الشعوبُ لتعذيبٍ لا حصر له، وعانت آلاماً مريرة. لذا، لا يمكننا اعتبارَ أن كلَّ ذلك ذهَبَ سُدى. وعلى النقيض، فسعْيُنا لتحليلِ كافةِ هذه المعضلات هو بغايةِ الوصول بهذا التاريخ إلى تفسيرٍ سليم لإنارةِ دربنا، وتحقيقِ الالتحام والتكامل بين يوتوبياتنا وحياتنا؛ لنتمكن من التوجه قُدُماً ومجدداً صوبَ الحياةِ الخلابة والجذابة، والملتحِفة بالعشق والهيام. فالانتقالُ إلى أنماطِ الحياة الطوباوية المتميزة بالآمال الراسخة يستلزم بذلَ الجهود الحثيثة دون كللٍ أو ملل.
لن نتجاوز حدودنا بالزعم بأننا نحن الذين نبتدئ بالأسلوب وبالنظام العلمي مجدداً. ولكني عملتُ في كلِّ المواضيع التي حاولتُ تناولها، على الإشارة إلى وجودِ بعض الأمور التي تجري في مسارٍ خاطئ، والتنويهِ بالتالي إلى أنَّ السببَ في ذلك ذو منبعٍ براديغمائي. وأُشَدِّدُ بأهميةٍ بالغة على عدمِ النظر إلى محاولاتي في التفسير والتطبيق وكأنها تأسيسٌ لنظامٍ جديد بديلٍ من الجذور، ولا رؤيتِها على أنها تفنيدٌ كاملٌ (النهليستية – العدمية) لما انتقدتُه. وفي نهايةِ المآل، من المُهِمِّ بمكان انتقادَ الحداثة الرأسمالية المتسبِّبة بالملايين من المآسي والحوادث المشابهة لوضعي أنا (المجازر والإبادات العرقية والحروب التي لا تحصى). وأخص بالذكر ضرورةَ شرحِ جميعِ المؤثِّرات والعوامل الواجبِ اعتبارَها المسؤولةَ الأولى عن المرحلة الأكثرِ ظلماً ومأساويةً في التاريخ، والتي يمر بها الشعب والمنطقة اللذَين أنتمي إليهما (الكرد والشرق الأوسط). فشرحُها بجدارةٍ وبما يليق بالشعب والمنطقة، إنما يُعدُّ من أبسط الشروط وأدناها لأنْ يكونَ المرءُ متنوراً. إلى جانب ذلك، فمن الطبيعي أنْ تكون مَهَمَّتي الأولية متأطِّرةً فيما ذكرتُه من تساؤلاتٍ وفي كيفيةِ الرد عليها، باعتباري أُحاكَم كزعيمٍ لتنظيمٍ هو الأوسعُ نطاقاً والأكثرُ تأثيراً. فإذا كان القمع والاستغلال والاضطهاد والصهر والأزمات في مكانٍ وزمانٍ ما عميقاً، وإذا كانت الحياةُ تمضي متخبطة في الذل والهوان بما يضاهي الموتَ ذاته؛ فأعتقد أنه لا حيلة لنا حينها إلا بتناول الأمور بمنظورٍ براديغمائيٍّ جذري. وسأسلك هذا النمطَ في تناول المواضيع اللاحقة.