العصرانية الديمقراطية وقضايا تجاوز الحداثة الرأسمالية (3)


عبد الله أوجلان
2009 / 11 / 24 - 23:13     

وكتمهيدٍ للبدء بالموضوع، أشير بجملةٍ واحدةٍ إلى أنّ التقسيماتِ القالبيةَ الثنائيةَ الأساسيةَ المتحكمةَ بفكرِ الإنسان قد أضعفت المعنى وحرَّفته، من قَبيل: ذاتاني – موضوعاني، مثالي – مادي، دياليكتيكي – ميتافيزيقي، فلسفي – علمي، وميثولوجي – ديني. والتجذراتُ الحاصلة في هذه الثنائيات والقرائن هي أخطاءُ الأسلوب الأوليةُ المؤديةُ إلى ظهورِ الحداثة الرأسمالية. وقد دَعَمَ أصحابُ السلطة والاستغلال تطوُّرَ وتطويرَ الأفكار والعقائد في هذا الاتجاه طيلةَ تاريخِ الحضارة المدينية، لتؤديَ دوراً بارزاً في ديمومةِ وشرعنة النظم التي أسسوها، وتُحقِّقَ ذروتها مع الرأسمالية. وتفسيرُ هذه الثنائياتِ كتاريخٍ مجرَّدٍ هو الأساسُ في دَرِّ النفعِ للنظمِ السلطوية والاستغلالية القائمةِ عملياً. ولو لم يُطْبَقْ على خناقِ ذهنيةِ البشرية بهذه القرائن، لَما كان بوسعِ أيِّ نظامٍ سلطويٍّ أو استغلاليٍّ أن يكون مؤثراً لهذه الدرجة. فاستمرارُ مَحوَرَةِ الصراعاتِ الذهنية حول هذه الثنائياتِ يؤول إلى الجشع النَّهِمِ في مزيدٍ من السلطة والاستغلال. وبقدرِ نجاحِ الباحثين عن الحقيقة في مضمارِ هذه الثنائيات، تمكَّنوا من احتلالِ مكانةٍ رفيعةٍ ومنتقاةٍ في مصافِّ أصحابِ السلطة وداخلَ بؤرِ الاستغلال. وهكذا، أُضفِيَت الواقعيةُ العظمى على مقولة "الحقيقةُ سلطة، والسلطةُ حقيقة". إنَّ نَسَق الحقيقة المذكورَ هنا هو الحليفُ الوفيُّ والأمينُ لنظامِ الاستغلال السياسي. أما محصلةُ هذا التحالف، فهي المزيدُ من القمع والاستغلال والضغط. وهذا بدوره يؤول إلى فقدانِ وضياعِ الحياة الحرة الفاضلة.
إذن، والحالُ هذه، فأولُ عملٍ جديٍّ علينا فعلُهُ مِن حيث الأسلوبِ هو التخلي عن نَسَق الحقيقة ذاك. في الحقيقة، الأمرُ يتطلب موقفاً سلبياً Negativ، أي، التصرفَ السلبيَّ على جميع الأصعدة إزاء نَسَق الحقيقة التابع للنظام القائم! لا أقصد اتخاذَ جبهةٍ فظة، بل أعني ضرورةَ اتخاذِ الموقفِ المعارِض عبرَ تحليله. لا يمكنُ الإمساك بالنقطة الحساسة للنظام القائم، أو البدءُ بِحَلِّهِ وتفكيكه، إلا عبر مقاوماتٍ باسلةٍ قيِّمة، وبتطويرِ جهودِ إنشاءِ المجموعات المعارِضة، ليس تجاه شِباكِ السلطة فقط، بل وتجاه بؤرِ الاستغلال في كافة أماكنها. جميعُ التكوينات الاجتماعية هي ثمرةُ الذهنية. وعلى نقيضِ ما يقال، فالأيدي والأقدامُ لا تُنشِئُ المجتمع. ولو كان كذلك، لكانت الدنيا التي أمامَنا مختلفةً كلَّ الاختلاف. جميعُ الحوادثِ الهامَّة، ومراحلِ التطور، والبنى الموجودةِ في التاريخ ظهرَت للوسط كثمرةٍ من ثمارِ الإرادات والذهنيات المؤثِّرة. وأحدُ أهمِّ الأخطاء الجسيمة للأسلوب الماركسي يكمن في انتظاره من البروليتاري القابع تحت وطأةِ القمع والاضطهاد والاستغلال اليومي أن يُنشئ المجتمعَ الجديدَ، دون أن يوجِّه الثورةَ ويُعمِّقَها في الميادين الذهنية. لقد عجزَ الماركسيون عن رؤيةِ أن البروليتاريَّ عبدٌ مَغزُوٌّ ومُستَعبَد من جديد. بل وقعوا بأنفسهم في سفسطةِ "العاملِ الحر". وبإضافةِ الأخطاء الأخرى، تكون قد اتضحت النتائجُ وأُدرِكَت.
إذن، ومع إيلاء المعاني لمنجزاتِ الإنسانية في العلم، كيف يجب أنْ تَكُون الذهنيةُ التي علينا اكتسابها؟ للرد الصريح على هذا السؤال، علينا بالمزيد من كشف النقاب من الأعماق عن المُقارَبَتَين الذهنيَّتَين النابعَتَين من الذاتانية والموضوعانية، والمؤدِّيَتَين في النتيجة إلى نفسِ المصب.
أولهما هو أن الموضوعانية ليست – كما يُزعَم – تعبيراً عن قوانينِ الطبيعة والمجتمع. ولدى البحثِ والتمحيص بإمعان، سيُرى أن القوننةَ الموضوعيةَ هي الشكلُ العصريُّ لعبارةِ "كلامِ الرب" القديمة. إذ يصدح على الدوام صدى القوى الخارقةِ للطبيعة والمجتمع في هذه الموضوعانية. وبمزيدٍ من النبش والسبر، سيُدرَك أن هذا الصوتَ يعود لحاكميةِ وسيطرةِ الطاغي الجبارِ والاستغلاليِّ المستبِد. إن العقلَ الموضوعي ونَسَقَ أصواتِهِ الصادحة ذو عُرىً وثيقةٍ مع نظمِ الحضارةِ المدينية القائمة، حيث رُوِّضت تلك الأصواتُ على يدِ تلك النظم، وأصبحت مألوفةً للآذان. وحتى لو تم جني المعلومات الجديدة من الموضوعات Nesneler، فهي تُلحَق على الفور بأماكنَ معينةٍ من النظام القائم. علينا مؤكَّداً معرفة أنّ كلَّ اكتشافٍ جديد يوثَق سلفاً أو لاحقاً بألفِ قيدٍ وقيد على يدِ أصحابِ النظام التقني. وفي حالِ الإصرار على العكس، فسيتم التعرضُ لغضبِ آلهةِ النظام القائم، مثلما نشهد في جُلّ الأمثلة التاريخية، بدءاً من آدمَ حتى إبراهيم، ومن ماني إلى منصورِ الحلاج ، ومن سانت باول إلى جوردانو برونو . فلدى دُنُوِّ الموضوعانية من الحقيقة والعدل، سيواجِه ألفَ عدوٍّ وعدو. ستكون الموضوعانية ثمينةً للغاية إذا ما كان حقاً يعني الشيءَ الذي تراه عينُ القلب والإدراك. وإذا ما ارتبطَ بقيمِ الحياة الحرة، فسيؤدي إلى الحكمة الحقيقية. ولكن، يجب حينها تَحَمُّلَ نتائجِ أن يكون المرءُ مُقاتِلاً في سبيل الفكر، مثلما كان منصور الحلاج وبرونو.
يجب المعرفة بعنايةٍ وحساسية أنه بالمقدور استخلاص نتيجة ذات اتجاهَين من الموضوعانية بالنسبة للقوانين العلمية. فالتمييزُ بين الاتجاه الذي يمثل النظامَ الحاكم المتأسِّس، والاتجاه الذي يمثل الحقيقة؛ يتطلب انهماكاً عظيماً وصموداً عتيداً. أما نمطُ الفكر الموضوعيِّ العائد بالأغلب للفكر التحليلي، فسيؤدي مَهَمَّةَ الديناصورِ الثاني في التاريخ، ما لم تتوثقْ عُراه مع الأفكارِ الحدسية الآنية المتأتية من الذكاء العاطفي. فالوحشُ المولِّدُ للقنبلة الذّرّية ليس سوى نسخةٌ معدَّلة من اللوياثان القديمِ مجهَّزاً ببنية الفكر التحليلي للحداثة الرأسمالية. وهو نفسُه المسؤولُ عن هذه اللوحة السوداوية السلبية التي تَحَدَّثنا عنها. وإذا ما أمعنّا النظرَ في الإله الجديد غيرِ المقَنَّع، والظاهرِ بهيئة الدولة القومية، سنلاحظ عن كثب ما يقتدر عليه الفكرُ التحليلي الموضوعي.
أما الذاتانيةُ القابعة في القطب المقابل للموضوعانية، فتدَّعي الوصولَ إلى الحقيقة عبر مفارقاتِ الإدراك الحسي دونَ الحاجة إلى الموضوع الشيء Nesne. إنها ضربٌ من ضروب الأفلاطونية. ولدى تركِها لوحدها، سيظهر على الفور جانبُها المخادِعُ وأفكارُها الثبوتيةُ القالبية، مثلما حالُ الموضوعانية: الحقيقةُ هي بقدرِ ما نحسه وندركه. وهذا ما يصل من أحد جوانبه إلى مذهبِ الوجودية (الأنطولوجيا). فهي تَعتبِرُ الإنسانَ موجوداً بقدرِ ما يخلق نفسَه. ورغمَ تأسيسِ العديد من المدارس الفكرية باسمها، فهي – مثلما الموضوعانية – لا تتخلَّف عن احتلالِ مكانها داخلَ أروقةِ النظام القائم. أما سقوطها في "الذاتية" (إنكار الموضوع Obje) بمفهومها إزاء الطبيعة والمجتمع، فيؤدي إلى جعلها دعامةً وطيدةً للفردية. فالمفهومُ الذي يجعل الفرد في الحداثة أنانياً، مرتبط عن كثب بالذاتانية. فتمهيدها الطريقَ للأنانية عوضاً عن ظهورِ الـ"أنا" السليمة، متعلقٌ بالتوجهِ الأساسي المُحْكَمِ المؤدي إلى المجتمع الاستهلاكي.
الذاتانيةُ مسؤولةٌ أيضاً عن الفكر الدوغمائي المنحرف الذي مفاده "الحقيقةُ بقدرِ الـ أنا". والنظامُ الرأسمالي مَدِينٌ بالكثير لهذه البنية الفكرية. فهذا النمطُ الفكري المنعكسُ على كافة الميادين الفنية، وعلى رأسها الآداب، قد وصل في نهايةِ المطاف إلى ابتداعِ العالَم الافتراضي ، حيث بسطَ نفوذه على المجتمع برمته بوساطةِ صناعة الفن، فأمَّن وأحكمَ المشروعيةَ التي يحتاجها النظامُ القائم بأضعافٍ مضاعفة. لقد أُبقي على المجتمع يئن تحت وطأةِ هجماتِ العالَمِ الافتراضي لحظياً، لِيُترَكَ يتخبط على الدوام في عدميةِ القدرة على التفكير الذاتي. هكذا أُسقِطَت الحقيقةُ إلى مستوى عالَمِ التَّشَبُّهِ والمحاكاة لتزولَ معاني الفرق بين الأصل والشبه. الجانبُ الإيجابي للذاتانية كإدراك حسي هو ارتباطُها عن قُربٍ بالفكر العاطفي. أي أنّ استكشافَ الإحساسات والحدسيات في الإدراك الحسي يُعتبَر جانباً قوياً.
جرت المحاولاتُ في مذهبِ التصوف وفي حِكمة الشرق الأوسط لتحقيق التكامل بين المجتمع والطبيعة عبر أسلوبِ الإدراك الحسي، فقطعَت مسافاتٍ واسعة في ذلك، بحيث لا يزال بالمقدور تفعيلُها والاستفادةُ منها كمصدرٍ منيع. تتميزُ ذاتانيةُ الشرق المثالية بتفوقها على موضوعانية الغرب الشيئية بمعالجتها الأخلاقية للمجتمع والطبيعة. هذا ولطالما سَقَطَت الذاتانيةُ أيضاً – مثلما حالُ الموضوعانية – في مَرَضِ عكسِ ذاتها على أنها صوت الإله. وكلتاهما تتلاقيان في جانبهما هذا. فانطلاقاً من مواقفهما إزاء الطبيعة والمجتمع بالاعتماد على فكرةِ الإله الداخلي المتعالي، لن تتخلصا من التحولِ إلى أداةٍ مسخَّرةٍ لخدمةِ الملوك المتسترين والعراة الذين ليسوا سوى الآلهةُ المقَنَّعة وغيرُ المقّنَّعة للنظام القائم، ولن تُنقِذا ذاتيهما من الإلحاق بهذا النظام.
تحتلُّ الموضوعانيةُ مكانةً راسخةً في يومنا الراهن، أو بالأحرى في الحداثة الرأسمالية، عبرَ المدارس الوضعية ومؤسساتها الجامعية، في حين تحتل الذاتانيةُ مكانةً وطيدة عبر كافةِ ضروبِ المؤسسات الروحانية والدينية؛ لتنتجا المشروعيةَ للنظام من جانبَين مختلفَين، وتؤديا بذلك دورَ المِزْيَتَة والمَشْحَمَة تجاه النظام، عوضاً من أنْ تَكُونَ كلُّ واحدةٍ منهما أسلوباً أو نَسَقاً للحقيقة. وباعتبارهما تشكلان البنيةَ الكادريةَ والمؤسساتيةَ لشرعنةِ السلطة والاستغلال، فهما تتميزان بالفاعلية المماثلة لما تقوم به مؤسساتِ العنف والاستغلال. إننا مرةً أخرى أمام قوى النظام المتكاملة مع مقولة "السلطةُ حقيقة، والعِلمُ قوة". أما البحثُ عن الحقيقة، فليس سوى اسمٌ يطلَق على لعبةٍ متجسدةٍ في ثالوثِ رأس المال – العِلم – السياسة، والذي يمكن تسميته بـ"الشركة". وكلُّ بحثٍ آخر عن الحقيقة خارجَ إطارِ هذه اللعبة، إما هو عدوُّ النظام القائم، فيجب القضاءَ عليه، أو يجب جذبَه لأروقةِ النظام والعمل على صهره في بوتقته. وإزاء الفقدان الكبير للمعنى، فنحن مُطَوَّقون ضمن حصارِ المدنية المادية في أرقى مراحلها. فكيف لنا النفاذُ والانعتاق من طوق وحصارِ قُوى رأس المال – العِلم – السياسة؟ إنّ هذا السؤالَ، الذي طالما بَحَثَ فلاسفةُ الحرية عن جوابٍ له، بدءاً من نيتشه إلى ميشيل فوكو ، ليس من النوع الممكنِ الإجابة عليه بهذه السهولة. علينا تفهُّم هؤلاء الفلاسفة الذين لَم يحتملوا الحداثة ("المجتمع المخصيّ" و"موت الإنسان")، فقضت عليهم. فمعسكراتُ الموت، القنبلةُ الذرّية، حروبُ التطهير الأثني، دمارُ البيئة، البطالةُ الجماعية، تضييقُ الخناق على الحياة بشكل متطرف، تفشي السرطان وغيره من الأمراض كالأيدز؛ إنما تدل على صحةِ تلك الأحكام، بل وتجعل من البحوث عن الحقيقة المضادة مَهَمَّةً ضرورية ومُلِحِّةً.
مرةً أخرى أعيد وأوضح أن تياراتِ الاشتراكية العلمية، والديمقراطية الاجتماعية، والتحررية الوطنية، التي يُنظَر لها كنظرياتٍ معارِضةٍ عظمى، قد حددت أماكنَها منذ زمنٍ طويلٍ كمذاهبَ في كنف الحداثة، وبدأت بتأديةِ مهامها بموجب ذلك. ومن السهل الإدراكُ أنّ العديدَ من بحوثِ ما وراء الحداثة قد غيَّرَت من هيئتها، وباتت تياراتٍ من الفكر الحداثي.
عندما تبلغُ النظمُ الذروةَ تبدأ بالانحلال والتهاوي. وأعوامُ السبعينات تُمَثِّلُ مرحلةَ بدءِ سقوطِ وانحدارِ الحداثة الرأسمالية، وطرح فقدان الثقة بها حصيلة تجزؤها وتراجعها الواضح في الأسلوب. ولهذه المرحلةِ علاقةٌ وثيقةٌ ببدءِ ظهورِ الفكر الأيكولوجي ، والتيارات الفامينية ، والحركات الأثنية – الثقافية ودخولها حيز التنفيذ. فتفكُّكُ وتجزؤ الأسلوبِ العلمي أظهرَ للعيان وجودَ عوالمَ أخرى مختلفةٍ، وأبرزَ قيمةَ التفسيراتِ الحرة. من المهم للغاية استقبال هذه المرحلة التي يمكن نعتُها بمرحلة الفوضى بإدراكٍ غنيٍّ ووعيٍ راقٍ، والنظرُ إلى مختلَفِ المجموعات الفكرية البارزة حسب واقعها كبؤرةٍ للمقاومة في أحشاءِ جميعِ بؤرِ السلطة.
إنّ تقييمَ هذه المرحلةِ التاريخية بالغنية والخصيبة من حيث بروزِ الأساليبِ الجديدة المغايرة ونظرياتِ الحقيقة المختلفة، يُزيد من فرصةِ إعادةِ بناءِ المجتمع على مستوى الجماعات. فتجسيدُ يوتوبيات الحرية والمساواة بشكلٍ ملموسٍ في البنى الاجتماعية المنشأة قد أصبح بمثابة مَهَمَّةٍ عمليةٍ يومية تفرض نفسها بقوة. وما يلزم لذلك هو معرفةُ القيمةِ العلمية للطريق المسلوك، والتحلي بقوةِ إرادةِ الحرية. إننا نتحدث عن المرحلة التي يدنو فيها عشقُ الحقيقة من الحياةِ الحرة. ما نقصده باختصار: الحقيقةُ عشق، والعشقُ حياةٌ حرة!
إذن، والحال هذه، لا يمكننا الوصول إلى المعلومات اللازمة، ولا إنشاء عالَمِنا الاجتماعي والقوى الرياديةِ الجديدة له؛ ما لم نتعقب الحياةَ الحرة بعشقٍ وهيام، سواءً من حيث الأسلوب، أو كنَسَق للحقيقة. لنبحثْ عن قُرب في تحصيلِ المعرفة وإنشاءِ البنى الريادية على ضوءِ فرضياتنا هذه.
لنبدأْ في بحثنا برفضِ ريادةِ كلٍّ من بيكون وديكارت. وبعدَ دحضِ ثنائيةِ الذات العاقلة – الموضوع الشيء وثنائيةِ الروح – البدن، سيكون اتخاذُ الإنسانِ أساساً بدايةً مناسِبةً من جميع النواحي. ومثلما لا نقصد عالَماً إنسانيَّ المركز ، فنحن لا نتبع أسلوب الفلسفة الإنسانية أيضاً. بل موضوعُ بحثنا هو مجموعُ الحقائق المتكاثفة في الإنسان.
1- الذرات التي تتشكل منها بنية المادة، تتميز بوجودٍ وتكوينٍ غنيٍّ للغاية في الإنسان، سواء من جهة تعدادها أو ترتيبها.
2- يتميز الإنسان بأفضلية تمثيله لكافةِ البنى النباتيةِ والحيوانية للعالَم البيولوجي .
3- أسَّسَ الإنسانُ أرقى أشكالِ الحياة الاجتماعية.
4- يتمتع الإنسانُ بعالَمٍ ذهنيٍّ مرنٍ للغاية وحرٍّ للغاية.
5- يمكنه العيشُ بشكلٍ ميتافيزيقي.
واضحٌ جلياً أنَّ تَواجُدَ كافةِ هذه الخصائص والمزايا بشكلٍ متداخلٍ ومتكاملٍ في آنٍ معاً داخلَ الإنسان يجعلُ منه مصدراً لا نِدَّ له للمعلومات. وإدراكُ هذا المنبعِ ضمن التكاملِ المتسق يكافئ استيعابَ الكونِ المعلوم، أو أنه – بأقل تقدير – بدايةٌ صحيحة لفهمِ الكون.
أولاً: يمكن تشخيصُ التكويناتِ الداخلية للذرات التي هي أصلُ المادة، وفحصُ الروابط الحيوية فيما بينها بأفضلِ الأشكال عبرَ الإنسان. وبمعنى ما، يمكننا تصوُّرُ الإنسان كترتيبٍ منتظمٍ ومُتَّسِقٍ للمادة الحيوية المفكرة. ومثلما أنّ تصوراتنا لا تَعتبِر الإنسانَ مجردَ مُجَمّع من المادة، فهي لا تنظر إلى المادة كَبنيةٍ خاليةٍ كليّاً من الحِسِّ الحيّ. في حين أنّ عَقْدَ الروابطِ بين المادة ذات الحس الحي الخاص بها، وبين معنى الإنسان المتجاوز لكونه مجمّعاً من المادة الصرف يُعَدُّ مشكلةَ إدراكٍ عصيبةً وعويصة. من الضروري البحث عن المنبع الميتافيزيقي في هذا النوع من الإدراك. في حين أنّ تَعَمُّقنا في هذا الإدراك يتطلب مرونةً عقلية لا محدودة، وقد يتخطى ثنائيةَ المادة – المعنى. ولَربما كانت غايةُ كلِّ شيءٍ حي وغيرِ حي هو تجاوُزُ هذه الثنائية. فبينما تكون غايةُ المادة اكتسابَ المعنى، يكون هدفُ المعنى تجاوزَ المادة. وقد يكون ممكناً رؤية أنفاس العشق الأكثر كبتاً وكبحاً في هذه الثنائية. وربما يكون قد طرأ تَغيُّرٌ على قرينة "الدفع – الجذب" بالذات، لتتحول إلى ثنائية المادة – المعنى. وربما كان القصدُ هو هذه الثنائيات عندما قيل بوجودِ العشق في أصلِ الكون وأساسه. وكأن هذا العشقَ يرتكز إلى أمتنِ دعائمه لدى الإنسان.
مقصدُ حديثي هو اعتقادي بأنّ البحثَ في المادة داخلَ الإنسان هو الأسلوب الأقربُ إلى الصحة. ولكن، يبدو من غير الممكن الوصولُ إلى التفسيرِ الأقرب إلى الصحة للمادة داخلَ مختبرات الحداثة المعزولة بإحكامٍ. في حين، لا يمكن إطلاقاً قياسُ العلاقة بين الناظر والمنظور إليه في فيزياء كوانتوم . فمثلما يُطرِئُ الناظرُ تغييراتٍ على المادة، بمقدورِ المنظور إليه أيضاً النفاذ من عين الناظر في شروطِ المختبرات. إذن، فالإدراكُ الصحيح غيرُ ممكنٍ لدى الإنسان إلا بالاستبطان . إذ، ما مِن مختبَرٍ أعظمَ وأفضلَ إحكاماً من الإنسان. ومثلما كَشَفَ ديموقريطس الذرّة بهذا الأسلوب، فهو يكون بذلك قد حدَّدَ الأسلوبَ الصحيح والسليم منذ زمنٍ طويل. ما نقصده ليس عدمَ فائدةِ المختبرات، بل نقصد أنّ مكانَ المبادئ الأساسية موجودٌ في الإدراك الحسي فيما يخص الإنسان.
يمكننا توسيع نطاقِ المبدأ أكثر، حيث بالمستطاع ملاحظة كافةِ القوانين الفيزيائية والكيميائية في الإنسان على نحوٍ أقرب إلى الكمال. وما من مختبرٍ فيزيائيٍّ أو كيميائي يمكنه الوصول إلى مستوى الانتظام والترتيب الغني الموجودِ في الإنسان. إذن، بالمقدور الوصول إلى المعلومة الفيزيائية أو الكيميائية الأقربِ إلى الصحةِ عبر بنيةِ الإنسان. كما يمكننا استيعاب كيفيةِ جريانِ التحول بين المادة – الطاقة والتفاعلاتِ الكيماوية الأوسعِ والأغنى الحاصلة عبر بنيةِ الإنسان. علاوةً على أنّ أغنى ضروبِ استنتاجِ المعاني السليمة فيما يتعلق بالعلاقة المتبادلة بين المادة – الطاقة موجودةٌ في الإنسان. إضافةً إلى إمكانية التماسِ الوحدة بين المادة – الطاقة – الفكر في دماغِ الإنسان. وهذا ما يوجِّهنا نحو سؤالٍ عويصٍ للغاية: تُرى، هل هذه الوحدة الحاصلةُ في الإنسان خاصيةٌ من خصائص الكون؟
ندرك من ذلك أنّ اتخاذَ الإنسان أساساً يعد مبدأنا الأوليَّ الأغنى على الإطلاق من جهةِ طاقته الكمونية في الوعي والإدراك. بالتالي، يمكن اعتباره الطريقَ الأولي في الحصول على المعرفة، والمبدأَ النَّسَقِيَّ السليم في بلوغِ ماهيةِ الحقيقة.
ثانياً: بمقدورنا ملاحظة قرينةِ الحيوية – الجمود بأغنى نطاقاتها وأمثلتها داخل الإنسان. فالحيويةُ التي يتصف بها الإنسانُ تتضمن المزايا الأكثرَ وفرةً واتساعاً من بين جميع الكائنات الملاحَظة. لقد حقق تطوُّرُ الحيوية ذروتَه في الإنسان. إلى جانب ذلك، فالقسمُ المادي فيه متداخلٌ ومتوازٍ في تطوره مع تطورِ الحيوية، ليمنحنا مستوىً من الرقي هو الأعلى على الإطلاق. وانتظامُ المادة في الدماغ، إلى جانب الرقي في الحيوية لا يزال سراً مكتنفاً بالألغاز التي لم يَفُك العلمُ رموزَها إلا بنطاقٍ محدودٍ للغاية. ولا نزال أمام مشكلةٍ عويصة تنتظر اكتشاف لغزها، فيما يخص الروابط القائمة بين مهارةَ المادة في تنسيقِ ذاتها داخل دماغِ الإنسان، ومهارة الحيوية المرتقية إلى حد القدرة على التفكير المجرد. وعندما قلنا بغنى المثال، إنما قصدنا به هذا العضوَ الرائع في رقيه. علاوة على ذلك، فكلُّ عضوٍ من أعضاء البدن الأخرى، يتصدرها القلب، يشكل معجزةً بكل معنى الكلمة. وأنوِّه على الفور هنا إلى أنّ البحث في أعضاء الإنسان وأجهزته مسألةٌ معقدةٌ للغاية بحيث لا يمكن تركها للطب وحده، بل يتوجب البحث فيها من قِبَل كافة العلوم وفروعها متحدةً كي تكون موضوعاً لأبحاث قَيِّمة. في حين أنّ تَرْكَ الإنسان للميدانَين الطبي والنفسي على نحوِ ثنائيةِ الروح – البدن يعَدُّ أعظمَ جهل، بل وجريمةً فظيعةً لدرجة الجناية.
يمكننا إيضاح بعضِ الفرضيات بشأنِ إنارةِ العلاقة بين الحيوية – الجمود الواجبِ رؤيتها في مثال الإنسان. وقبل أي شيء، يجب القبول والإقرار بكفاءةِ الحيوية الكامنة في المادة. ولولا هذه الكفاءة، لما أمكنَ ترافُقُ الترتيب والانتظام المادي للذرات في الإنسان مع هذا المستوى الراقي من العواطف الجياشة والحيوية العاقلة. إذن، والحال هذه، كيف يمكننا بلوغ إدراكاتٍ أقوى بشأن كمون الحيوية في المادة؟ الرد الأول: من الضروري تثبيتُ ثنائيةِ "الدفع – الجذب" في صدارةِ اصطلاحِ الحيوية الكامنة. فقد يكون من الأفضل تفسير هذا المبدأ الأصلي الملاحَظِ في كافة الكون على أنه حيويةٌ كامنة. ثانياً: وتأسيساً على هذا المبدأ، يمكننا الإشارة إلى الصفة الجُسَيمية للموجات. ويمكننا إدراج مبدأِ أو قرينةِ الوجود – الفراغ القائمة في الكون ضمن ذلك، إذ لا يمكن تصوُّر وجودٍ بلا فراغ أو فراغٍ بلا وجود. ولدى التأمل الغائر لأقصى الحدود، سنجد أنه بتجاوز قرينةِ الوجود – الفراغ سيزول الاثنان معاً. إذن، بِمَ يمكن تسمية الشيء الجديد المتكون؟ هذا هو السؤال الثاني العسيرُ العويص. قد يَرُدُّ البعضُ على الفور بأنه "الله" مثلما جرت العادة. في حين أنّ الاستمهالَ في هذا الموضوع قد يؤدي بنا إلى أفكارٍ قيِّمةٍ للغاية. وربما نبلغ بذلك جوابَ أو معنى لغزِ حياتنا وأسرارها.
من المعلوم أنه لحصولِ الجذب والدفع، يتطلب وجود الخاصية الجُسَيمية للموجة. فخاصية الجُسَيم الموجود في كلِّ حزمةِ شعاع هي العلةُ والسبب للسرعة القصوى المقدرة بـ000,300 ألف كم/ثانية. وإدراكُ وجودِ "الثقب الأسود" الممتصِّ للضوء يُزيد من اللغز تعقيداً. ما هو الواقعُ الناشئ بعد امتصاصِ سرعةِ الضوء ؟ هذا أيضاً أحدُ الأسئلة العسيرة الرد. وإذا ما أسمينا الثقوبَ السوداء بِـ جُزُر الطاقة المحضة، فَبِمَ نُسَمِّي الطاقةَ المُشِعَّة؟ تُرى، هل الكونُ عبارةً عن قرينةِ الثقب الأسود العملاق – المادة؟ وفي هذه الحال، هل المادةُ انعكاسٌ ظاهري لما هو ليس بمادة؟ بالتالي، ألا نستطيع النظر إلى الكون المنعكس ظاهرياً ككائنٍ حيٍّ ضخم؟ وهل مجموع القرائن والثنائيات الموجودة في الحياة تشخيصٌ لهذه القرينة الكونية واقتداء بها؟ على سبيل المثال؛ هل يمكن لثنائياتِ "الحب – البغض"، "الفضيلة – الرذيلة"، "الجمال – القبح"، و"الصواب – الخطأ" أن تكون انعكاساً لهذه الكونية؟ وهكذا دواليك. يمكننا الإكثار من التساؤلات، ولكن، سيكون من الأنجع الانشغال بالأسئلة التي نعتني بها عن قُرب، ونهتم بعلومها.
لقد بُرهِن على أنّ المادةَ طاقةٌ مدَّخَرةٌ مكثفة. ومعادلةُ آينشتاين الشهيرة معروفة. حيث يُشار فيها إلى الفرق بين وزنِ الإنسان الحي ووزنِ الإنسان الميت، والمُقَدَّر بثمانيةَ عشر غراماً من الطاقة. فهل الحيويةُ تمثل في هذه الحالة نَسَقاً خاصاً من جريان الطاقة؟ وهل يحصل هذا الإفراغ للطاقة بحفاظها على وجودها؟ أوَلا تَثبُتُ صحةُ الروحانية في العقيدة الأرواحية آنذاك؟ أو على الأقل، ألا تصبح عقيدةً يجب أخذَها على محمل الجد والاعتبار؟ ألا يعني ذلك أنّ الكونَ مليءٌ بالأرواح؟ أو، ألا يعني إيلاءَ الأهمية والجدية اللازمة لمفهومِ أو إدراكِ أو تفسيرِ هيغل بصدد الذكاء المطلق Geist (الفكرة المطلقة، العقل المطلق) أو بِكَوْنِ الطاقة هي الروح الحيوية للمادة؟ يمكننا طرح المزيد من مثل هذه التساؤلات.
المُهِمُّ هنا هو الانتباهُ إلى كوننا لن نكون قريبين من الحقيقة إذا ما عملنا بالشروح الميتافيزيقية الشائعةِ في دوغمائية العصور الوسطى بالتمييز بين الحيوية – الجماد، أو بتعليلات الحداثة الرأسمالية القائمة اعتماداً على التفريق بين الروح – البدن أو بين الذات – الموضوع. فلا مبدأُ القوة الخارجية الخالقة والباعثةِ للأرواح والنفوس، ولا المقاربات المعتَبِرة للكون كثنائية الروح – المادة منذ البداية، يمكنها إيضاح غنى حياتنا وكمالها. فالتساؤلاتُ التي طرحناها، والأمثلةُ التي قدمناها تكفي للدلالة على إمكانِ زيادةِ فرصِ إدراكنا وفهمنا لكافة التطورات، بما فيها موضوع الحي – الحيوية والمعجزات والأمور الخارقة للطبيعة، بشرطِ زيادةِ الإمعان والتأمل في غنى الحياة لدى الإنسان، واحترافِ قوةِ الملاحظة وامتهانها.
علينا الاقتناع بمبدأِ العدالة في الكون. فما من موجودٍ يمكنه أن يُولَدَ دون علةٍ أو ظرفٍ مناسب. والطبيعةُ في تكوينها أكثرُ عدلاً مما نشاهد. وسنكون على صوابٍ فيما إذا اعتبرنا المجتمعَ المدينيَّ مسؤولاً عن فقداننا لمهاراتنا في الملاحظة، أو في تعرضها للتحريف والتشويه والتضليل. ووجودُ الإنسان أيضاً تطوُّرٌ عادل. وبالاستطاعة القول أنّ كلَّ النظام الكوني، والعالَم البيولوجي، والمؤسساتِ والمنظمات الاجتماعية مسخَّرةٌ لخدمةِ تكوينِ ونشوءِ الإنسان. فهل من عدالةٍ أعظم؟ أما إذا كانت التحريفات الكبرى المستفحِلة في المجتمع على يد الهرميةِ والدولة قد طمست هذه الحقيقة؛ فيجب البحث عن المسؤول ضمن هذه القوى البشرية المحرِّفة والمضلِّلة. وهذه بالذات مَهَمَّةُ الإنسانِ الباحثِ عن العدالة والمعني بها، فهو القادر على تطوير كافةِ أنواعِ المعاني والعمليات والممارسات اللازمة في سبيلِ العدالة. وبالطبع، فالأشخاصُ القائلون "أبحث عن العدل" هم الذين عليهم تحمُّل مشقاتِ هذه الوظيفة، وتلبية متطلباتها بأكثر الأشكال قيمةً وتنظيماً وعمليةً وديمومة.
يبدو أنّ اعتمادَ التنوعِ العظيم في العالَم البيولوجي، وأطوارِ التطور التدريجي (الطبيعي) أمرٌ ممكنٌ في إرشاداتنا الأولية، بل ويُسَهِّل مهمتنا. إذ، بمستطاعنا إدراك الانتقال الحاصل بين عالَمَي النبات والحيوان على نحوٍ أسهل بفضلِ فهمِ الانتقالات والتحولات المتبادلة بين الجزيئات والعناصر الحية وغيرِ الحية. وقد قَطَعَ العِلمُ مسافاتٍ شاسعةً في هذه المواضيع. فرغم كلِّ نواقصه والأسئلةِ العالقة دون رد، إلا أننا نتمتع بغنى شاملٍ من المعاني والاصطلاحات. فعالَمُ النبات بحدِّ ذاته معجزةٌ بكل معنى الكلمة، بدءاً من الطحالب البدائية إلى شجرةِ فاكهةٍ مذهلة، ومن الأعشاب إلى الورود الشائكة. كلها مؤشرٌ صارخٌ على قدرةِ المهارة والكفاءة الحيوية فيها. وبالأخص تلك العُرى الوثيقة والعلاقات المتناسبةُ طردياً بين جمالِ الوردة وآليةِ دفاعها عن ذاتها بالأشواك، والتي توحي ببعضِ الأمور حتى لأكثرِ الناس جهلاً وبلهاً. وأكثرُ جوانبِ التطور التدريجي لفتاً للأنظار هو احتضانُ كلِّ طَورٍ لاحقٍ لسابقه، وصونُه إياه في أحشائه كجزءٍ أو عاملٍ من عوامل الغنى، لدرجةِ أن آخِر نباتٍ يستمر في وجوده كـ"الأم" باعتبارِه مختزَلَ كلِّ النباتات. بمعنى آخر، وعلى نقيض ما يُعتَقَد، فالتطورُ الطبيعي لا يكون بإفناء البعض (وجهة النظر الداروينية الوثوقية الدوغمائية)، بل يحقق سيرورته وديمومته بالإغناء والإكثار. إنه تطورٌ يسري من النوع الواحد إلى مختلف الأنواع، ومن الطحلب البدائي إلى التكَثُّر والتنوع اللامتناهي. علينا النظر إلى التنوع والتوافر باعتباره لغةَ النباتات وحياتَها. فهي أيضاً لها عوائلها وأقاربها، بل وحتى أعداؤها. ولكنَّ آليةَ الدفاع الخاصة بكلِّ نوعٍ أو جنسٍ تعد مبدأً راسخاً لدرجةِ أنه يكاد لا يوجد كائنٌ بلا آليةِ دفاع.
الخاصيةُ الأخرى الواجبُ ملاحظتها هي التكاثر الجنسي والتكاثر اللاجنسي . فبينما يكون التكاثر اللاجنسي حالةً بدائيةً جداً من التناسل، فإنّ التكاثرَ الجنسي، أي، التناسل بتزاوج الجنسين المختلفَين هو المبدأ الشائع. والذكورة والأنوثة من نفسِ الفصيلة أو النوع متأتيةٌ من مراحلِ التطور والصيرورة. وتحقيقُ التكاثر والتمايز في الأنواع يتطلب وجودَ الجنسين في مختلفِ الفصائل. فبدون التمايز إلى فصائلَ مختلفةٍ على شكلِ ذكورةٍ وأنوثة، لا يمكن التكاثر والتنوع. هنا أيضاً نواجه معجزةً من معجزاتِ الطبيعة. إذ تبدو الأنواعُ المعتوهةُ والمعوَّقة التي نصادفها بكثرةٍ حصيلةَ التزاوج بين الأقارب، والذي يعد استمراراً لوجودِ الذكورة والأنوثة في نفسِ الفصيلة، تبدو وكأنها ضرورةٌ من ضرورات التطور الطبيعي. يمكننا ربطُ التمايز الذكري – الأنثوي مع التطور على أساس التناقض والتباين الإيجابي (يمكننا تسميته بالجدلية الإيجابية أيضاً) كمبدأٍ للتطور الجاري في الكون برمته. جليٌّ تماماً أن الإصرارَ في "نفْسِ" الكينونة (المِثْل) يعني إنكارَ التطور. من هنا يتضح تماماً أنّ مبدأَ المِثْلية في كلِّ بحثٍ عن الحقيقة المطلقة (كما في الفكر الميتافيزيقي) يفتقر للكفاءةِ اللازمة في تفسيرِ الكون.
السؤالُ الأكثر إلحاحاًً للطرح هو: ما غايةُ الكون من التطور؟ أو بالأحرى، أليست خاصيةُ التطور في الكون بذاتها برهاناً على حيويته؟ أيمكن لشيءٍ لا كفاءة حيوية له أن يتطور؟ يساعِدُ العالَم البيولوجي على تيسير الرد على هذا السؤال. والمسألةُ الهامة الأخرى بشأنِ التطور البيولوجي تتعلق باستثنائيةِ كوكبِ "الأرض". فبموجبِ مراقبة الأجرام السماوية يقال أنه لم يُعثَر على كوكبٍ حيٍّ آخر حتى الآن. إنها مسألةٌ شائكة بحق، فمقدرة الإنسان على تحديدِ وتثبيتِ كافةِ الكواكب والمجرات محدودةٌ للغاية. فبقدرِ ما تستطيع البعوضةُ تفسيرَ العالَم، (ربما؟) يفسر الإنسانُ الكونَ بنفسِ القدر. فالزعم بمقدرةِ الإنسان على معرفةِ كلِّ شيء وَهْمٌ من أوهام الفكر الميتافيزيقي، وهو أشبهُ بموضوعِ خلق الله.
إنَّ حصرَ كيانٍ تَحَقَّقَ في الكونيّة بالأرقام لا يوضح الأمور كثيراً. علماً بأننا لا نزال على عتبةِ إدراكِ حكمةِ العالَم وأسبابه، ولا نزال نجهل ما سيضعه هذا الإدراكُ أمامنا. يجب عدمَ غضِّ النظر عن المفهوم الشهير "لكل كائنٍ حيٍّ عالَمه". ولربما يكون لفكرةِ العوالم المتوازية جوانبُ منيرة للفكر. ربما نوضح مُرادنا على نحوٍ أفضل من خلال المثال التالي: الخلية الحية الموجودة في إحدى أنسجةِ الإنسان كائن خاص بذاته. بل ويتحقق التفكيرُ في خلايا الدماغ. فهل بمقدورِ هذا النوع من الخلايا القول بأن: العالَمَ موجودٌ بقدر تفكيرنا؟ فهذه الخلايا بالمقابل لا درايةَ لها بالإنسان ولا بالكون الضخم خارج الإنسان. لكنَّ هذا لا ينفي وجودَ الإنسان والكونَين الأصغر والأكبر. تُرى، ألا نستطيع اختزالَ الإنسان أيضاً إلى مستوى تلك الخلية ضمن الكون الأكبر؟ سنستطيع الحكمَ بوجودِ عوالم أخرى من زاوية مختلفة، إنْ تجرأنا على التسليم بذلك بسهولة. مقصدنا من "الأكوان المتوازية" هو: إنْ كان كلُّ كونٍ مرتبطٌ بطَيفٍ (طَور، صفحة) وبِطول موجة مثلما يُفَسَّر، إذن، بالإمكان وجودُ عددٍ لا متناهٍ من الأكوان. وما نظامُ التموجات المُوَلِّدة للإنسان سوى واحدٌ من تلك الأكوان.
لا نرمي من هذه الشروح إلى خلقِ المغالطات، بل نسعى لتجاوزِ ضيقِ الأفق في التفكير. إننا نهدف للخلاص من مصيدةِ تحريفِ الوعي والمُعتَقَد، والناجمةِ بالأغلب عن أمراضِ الأسلوب والإرغاماتِ العسيرة والمُمَنهَجَةِ للدولة والهرمية. فبنيتنا الفكريةُ ثمرةُ آلياتِ الهرمية والدولة اللتَين تُعتَبَران آلةً للتضليل والرياء أكثرَ مما نتصور بكثير. علاوةً على أنهما طالما أفنتا وقضتا على العديد من الأفكار الصائبة.
عالَمُ الحيوان نظامٌ بحدِّ ذاته. وقد عُثِر بدايةً على النوع الممثِّلِ للخلية الحيوانية والنباتية معاً. وبالطبع، فمجردُ التأمل الدقيق يدل على عدمِ إمكانِ الانتقال إلى عالَم الحيوان ما لم يتواجد عالَمُ النبات. أي أنَّ الحياةَ النباتية تمثل الشروطَ القَبْلية والتمهيدية للحياة الحيوانية. والأهمُّ من ذلك أنَّ تواجُدَ النباتِ المتطور شرطٌ أوَّليٌّ لوجودِ حيوانٍ متطور. فالحيويةُ الكامنة تؤدي لظهورِ أحاسيسَ وعواطفَ أرقى في عالَم الحيوان، من قَبِيل البصر، السمع، الألم، الرغبة، الغضب، والحب. أما انشغالُ الحيوانِ الدائمُ بتأمينِ القوت ، فيستوجب البحثَ في ظاهرة الجوع عن كثب. حيث من السهولة بمكان عقدُ الروابطِ الوثيقة بين الجوع والطاقة المفقودة. مرةً أخرى نحن وجهاً لوجه أمام الرابطة بين الحيوية والطاقة. فلدى زوالِ الجوع يكون الأمرُ الحادثُ هو تخزينُ الطاقة المطلوبة.
كما من المهم رصد الحاجة الجنسية عن قرب. فهذه الحاجةُ التي تفرض نفسها كرغبةٍ جامحة تُعَبِّر عن وظيفةٍ غايتُها استمرارُ الحياة. وتَرَكُّز الطاقة في التكوين الجنسي أيضاً يدعو للتفكير بروابطها مع ديمومة الحياة. ولكن، يجب عدم النظر إلى الوظيفة الجنسية كمؤثرٍ وحيد في ديمومة الحياة. ولربما كان النمطُ الجنسي ظاهرةً لديمومةِ الحياة الأكثر بدائية، فهو لا يفيد إلا بالاستمرار الكمي للحياة.
إنه يفتح الطريقَ أمام التنوع وظهورِ أنماطٍ أغنى من حياةِ التطور التدريجي. علاوة على ذلك، فالاتصال الجنسي (الجِماع) لا يمثل غريزةَ الحياة والتعلق بها فحسب، بل ويعني الخوف من الموت، أو بالأحرى، يحمل الموتَ بذاته بين طياته. فكل جِماعٍ جنسيٍّ يعني الموتَ جزئياً. وبعض الحيوانات تموت بعد ممارسته مباشرة. إذن، والحال هذه، فالتشبث بالجنس والتعصبُ له يعني الحالةَ الأكثر بدائية للحياة، وهو أشبهُ بتحققِ الموت. والانعكاف على الجنس فقط يقوِّي من احتمالِ الموت. في حين، وبقدرِ تحويلِ الجنس إلى إحياءٍ لعواطفِ المحبة والود والجمال، يكون الدنوُّ من الخلود أكثر. وما الخلودُ المذكور في المأثورات الفنية سوى ثمرةٌ لهذا الوعي. كما يمكننا اعتبار التكاثر الجنسي نمطاً دفاعياً. فبقدر ما تتكاثر وتتناسل، تشعر أنك موجودٌ ومستمرٌ ومُصان.
سنتناول الجنسَ والتوالد (التناسل) في مجتمعِ الإنسان عن كثب. إنّ تقييمَ اللذة الكامنة في نمطِ العملية الجنسية، والتي هي ضمانُ استمرارِ وتكرارِ الحياة، على أنها "عشق" يعد أفدحَ خطأ. وعلى النقيض، فاللذةُ المعتمِدةُ على العملية الجنسية إنكارٌ للعشق. تقوم الحداثةُ الرأسمالية بإشاعةِ ونشرِ الجنسانية كالسرطان، لتقتل بها المجتمعَ باسم العشق. في حين أنَّ العشقَ الحقيقي هو العنفوانُ الاندفاعي المحسوس من لغةِ نشوءِ الكون. وقد يكون قولُ مولانا "العشقُ هو كل ما في العالم، والباقي قيلٌ وقال" تفسيراً للعشق الحقيقي. فالعشقُ مرتبطٌ بتجاوزِ اللذة الجنسية، أو بالأصح، برقيِّ مستوى الحرية المتبادلة في أخلاق الإنسان. بينما تَرتبط الشهوةُ الجنسية بزوالِ الحرية، وبالثبوتِ المادي. الأصح هو ربطُ العشق الكائن بين كافةِ عناصرِ الكون – وليس فقط بين الرجل والمرأة – بانسجامِ الوجود وتآلفه.
إنَّ تَطَوُّرَ الحواسِّ والشعورِ معجزةٌ بحدِّ ذاتها. فمثلاً، كيف يمكننا شرح حاسة البصر؟ مؤكَّدٌ أن البصرَ هو العنصر الحي الأرقى. كما لا جدال في عدم إمكانية الإبصار دون ضوء. الإبصارُ فكر. من المهم رؤيةُ كلِّ المزايا الحيوية، وفي صدارتها الجنس، كشكلٍ من الفكر. الحيويةُ بذاتها تعني لحدٍّ ما مقدرةَ المعرفة. من هنا، فمقولةُ ديكارت "أفكر، إذن أنا موجود" في محلها. وعلى نطاقٍ أوسع، يمكننا النظرُ لدورانِ الكون وفق قوانينَ منتظمةٍ على أنه معرفة. فالقوانين تُذَكِّر بالمعرفة. ومع ذلك، فالمعرفةُ المرتكزة إلى العين المجرَّدة تطورٌ رائع. ولهذا ندرك معنى القول "لقد خلق الله الكون ليتعرف على ذاته". ولأجل معرفة الذات عند هيغل تُعتَبَر أحكام تَشَيُّؤ الفكر المطلق Geist مرتبطةً بالإبصار والاستبصار. ولربما كانت الرغبة في أنْ تُبصِرَ وتُبصَر مِن أولى غايات الوجود.
تتبدى عواطفُ اللذةِ والألم في حيويةِ الحيوان أيضاً. فكِلا الإحساسَين يذكِّران بتباينِ الحياة واختلافها. فبقدر اللذة والسعادة تكون الحياةُ مقبولةً ومحسوساً بها، وبقدر الإحساس بالألم والحزن يكون شعورنا بالحياة وكأنها لا تُطاق وغير مستساغة. كلا الإحساسَين مدرستان قطعيتان للمعرفة، وقيمتهما في التوعية عالية. فاللذةُ تعلِّم الكثير، ولكنها قد تؤدي لكافةِ ضروبِ الجنون والتهور. والألمُ أيضاً معلِّمٌ كبير، ويؤدي بدوره لتقديرِ قيمةِ الحياة بقوة. وبينما تكون نهايةُ اللذة والسعادة قريبةً جداً من الألم، فاحتمالُ الحياة السعيدة كبيرٌ أيضاً في نهاية الألم. وكلتا الحياتَين تتجليان بالانتباه إلى الفوارق بينهما، واكتسابِ المعرفة والوعي بعيشِ السعادة أكثر، وتحملِ الآلام أكثر.
سيكون من الأصح تناوُل العلاقة بين الموت والحياة ضمن إطارِ المجتمع الإنساني، كونها ذات خصائصَ ميتافيزيقيةٍ للغاية. المسألةُ الأخرى الهامةُ والمستحِقةُ للتدقيق والإمعان فيما يخص الحيوانات هي التغذي على اللحم. إذ يمكن لجميعها العيش بالتغذي على النباتات. وأكلُ اللحم ليس حاجةً اضطرارية. ولكن، ثمة مجموعةٌ شائعة من آكلات اللحم. فكيف لنا إيضاح ذلك؟ قد يكون الخطرُ الذي يهدد الحياةَ في عالَمِ الحيوان بسبب التناسل المفرِط عنصراً مساعداً على التحليل. فبينما يكون التكاثرُ الجنسي سبيلاً لضمان استمرار الحياة، لكنّ الإفراط فيه قد يقضي على إمكانياتِ الحياة المتنوعة. وعلى سبيل المثال، قد يؤدي التكاثرُ المفرط والسريعُ للفئران إلى زوالِ النباتات. كما يمكن للأغنام والماعز والأبقار ومثيلاتها من الحيوانات أن تقضي على النباتات. علاوة على ذلك، ثمة تكاثرٌ غيرُ متوازنٍ في عالم الطيور أيضاً. ودخولُ الأسد والأفعى والصقر حيزَ العمل في هذه الحالة ليس لغايةِ القضاء على الحيوانات الأخرى فحسب، بل يبرز كضرورةٍ اضطراريةٍ لإمكانيةِ ديمومةِ عالمِ الحيوان. لذا، مِن غيرِ الممكن اعتبار مثل هذا التقسيم في الوظائف كإجحافٍ تعسفي في الطبيعة. إذ، ثمة توازنٌ دقيق في هذا الأمر. فإذا ما اختل هذا التوازنُ، وامتلأ المكانُ بالأفاعي والأسود والصقور، فلن يبقى حينئذٍ سوى عددٌ جِدُّ محدودٍ من الحيوانات الحية. إنّ الانتظام التلقائي الذاتي للأنظمة الطبيعية أمرٌ مذهل.
سنستفيض في التطرق للأهمية القصوى لمسألةِ تنظيمِ التكاثر الجنسي في المجتمع الإنساني، ومنزلتِهِ في استمراريةِ الحياة، وروابطِهِ مع الأخلاق. نعود إلى موضوعِ العلاقة بين العالَمِ البيولوجي ومسألةِ أَخْذِ الإنسان أساساً، ونشير ثانيةً إلى كونِ كلِّ الموجودات في العالم مختزَلةً في الإنسان ذاته. إذ يمكننا مشاهدةُ كافة مزايا الحياة التي ندركها في عالمَي النبات والحيوان داخلَ الإنسان أيضاً. وهذا ما معناه من ناحيةٍ ما أنّ الإنسان هو غايةُ التطور لعالمَي الحيوان والنبات، وهو وريثهما. أما وجودُ كائنٍ حي أعلى من الإنسان، فيمكن التفكير فيه كاحتمالٍ، ليس إلا. ولربما أنّ القوةَ المذهلةَ للإنسان في مقدرةِ دماغه على التفكير قد تجعل من وجودِ كائنٍ أرقى أمراً لا داعي له. فالتطورُ العقلي لديه في ذروته، حيث يُعَدُّ خاصيةً أولية لدى الكائنات الحية من حيث كونه يعني القدرةَ على المعرفةِ والتفكير. إنّ معرفةَ الكون لذاته تتحقق في الإنسان. وربما لهذه الغاية قيل في آيةٍ من الكتاب المقدس: "خلقتُ الإنسانَ لِتَعلَموا ".
لا شك في أنه، وبينما يكون الإنسانُ مجموعاً تراكمياً لحيويةِ كافةِ الكائنات من نباتٍ وحيوان، فالعكسُ غير صحيح. أي، وبجمع كلِّ النباتات والحيوانات لا يمكن الحصول على الإنسان. تتولد هنا الحاجةُ لأخذِ الإنسان كعالَمٍ مختلفٍ تماماً. لا أرمي إلى العملِ بمفهومِ كونٍ "إنسانيّ المركز"، ولا أتحدث عن فلسفةِ وحدة الوجود (وحدة الطبيعة والإله). بل أشعر بضرورةِ إيضاحِ فَرْقِ الإنسان عن غيره من الكائنات كنوعٍ متميزٍ بذاته. فالإنسانُ هامٌ لدرجةِ ضرورة ِتناوله كعالَمٍ مختلفٍ ومتمايز كلياً.