البنية السياسية الراهنة للنظام العالمي ... نحو التعدد القطبي


رشيد قويدر
2009 / 11 / 20 - 17:15     

تشير التحولات والتغّيرات في البنية السياسية للنظام العالمي الأحادي القطبية، أن الهيمنة المركزية الولايات المتحدة؛ قد أخذت هيمنتها بالانحسار والتراجع في مناطق كثيرة من هذا العالم، بعد فشل مخططاتها الإستراتيجية، وعدم قدرتها على فرض هيبتها وقوتها، كما برزت خلال العقد الأخير من القرن العشرين، والسنوات الأولى من القرن الحالي.
إن أبرز مميزات منتصف العقد الأول من القرن العشرين، عودة روسيا إلى الرقعة الدولية، مع ولاية الرئيس بوتين الأولى، ثم بروزها بقوة في ولايته الثانية، وقد تمكنت من حل المعضلات السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي طغت في العقد الأخير من عمر الدولة السوفييتية، ونهاية عقد التسعينيات منه في تاريخ روسيا الاتحادية الجديد، وقد أثبتت على الدوام في التاريخ أنها عصيّة على الترويض، مما ينبغي تكريس الربيع الروسي الحديث، المعروف أنه حين ما يبدأ حتى تتوهج الأرض بغبطة الطبيعة.
لقد شكل التمرد الروسي المدروس للهيمنة القطبية الأمريكية ومخططاتها، في شتى جوانب العلاقات الدولية، بداية تدشين الانحسار وتأثيره في البنية السياسية الدولية. وجاءت حرب القوقاز والتصدي السريع للعدوان الجورجي على أوسيتيا الجنوبية في القوقاز (آب/ أغسطس 2008)؛ مع إدراك أنه من غير الممكن للقيادة الجورجية أن تدخل هذه الحرب ـ وبتوقيت الأولمبياد العالمي في الصين ـ بدون أوامر ومخططات واشنطن، التي ترمي إلى خلق بؤر توتر، تبدأ من شبه جزيرة البلقان، لتمرَّ عبر القوقاز نحو الشرق الأوسط.
كما سبق هذا الفشل الأمريكي ـ الإسرائيلي أيضاً، الفشل الإسرائيلي في عدوان صيف 2006 على لبنان، العدوان المقرون مع اللحظات الأولى لانطلاقه؛ بتصريح وزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس: "لقد بدأ الشرق الأوسط الجديد بالتشكل".
لا تستطيع الولايات المتحدة الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا، بل تحرك أدواتها في ذات الرقعة، وبما سمّته بـ "الثورات البرتقالية، وثورات الورود"، التي سرعان ما تحولت إلى أشواك، وقد جرى هذا كله، في ظل انحسار الشخصية السياسية الأوروبية، وعلى حساب التبعية لواشنطن، رغم ازدواج معاييرها تجاه قضايا الشرق الأوسط، في فلسطين ولبنان والعراق.
في الحلقات المميّزة للعقد الأول من القرن الحالي، مراكمات التحالفات الدولية الضرورية، في مجالات السياسة والاقتصاد والدفاع والأمن، رغم استمرار الهيمنة الأمريكية، جاء الأبرز في "منظمة شنغهاي" التي انطلقت في 15/6/2001 (روسيا، الصين، وتحالف دولي واسع)، والتقارب (الروسي ـ الصيني ـ الهندي) في 15/7/2005، والتحالف الإستراتيجي بين عملاقيّ الطاقة روسيا ـ فنزويلا، والتحالف الإيراني ـ الفنزويلي، وسعي إيران للتقارب مع روسيا والصين، فضلاً عن مميزات استثنائية دولية سياسية واقتصادية وعسكرية وإيديولوجية.
كما جاء المميّز الكبير متمثلاً بالتغييرات العميقة نحو اليسار في أمريكا اللاتينية، والأثر البالغ للأزمة الاقتصادية العالمية، والتي أول ما ضربت في المركز القطبي المهيمن، بعد الفشل في تنفيذ توجهاتها، وانهيار جنون الغطرسة لدى صانعي قراراتها، فتأتي الأزمة تعبيراً عن فشل بنيوي في نظام اقتصادها المتوحش.
من النقلات الهامة في البنية السياسية الجديدة؛ تتقدم العلاقات المتطورة بين سورية وتركيا، ودخول أنقرة على النظام الإقليمي لتأكيد مكانتها في الجغرافيا السياسية، وفتح العلاقة مع إيران، ورفضها أي عمل ردعي ضد ملفها النووي، وسحبه من سوق مزايدات واشنطن وتل أبيب، وتركه مفتوحاً على مداه بعد الإفصاح النووي الإسرائيلي، مقروناً بشهادة قيادة الجيش الأمريكي لمختلف صنوف الأسلحة؛ في تقريره المنشور على الملأ بأن "إسرائيل قوة نووية عظمى". لقد جاء ذلك في مواقف أنقرة وتأكيدها: "من حق إيران امتلاك القدرات النووية المدنية"، متصلاً بدعوتها السابقة "بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي العسكري"، في إشارة واضحة إلى عودة النووي الإسرائيلي إلى الواجهة والصدارة في اهتماماتها، فالمطلوب نزع أنيابها أولاً، التي تستخدمها لابتزاز شعوب المنطقة بأكملها، وتهديد الاستقرار العالمي في الرقعة الجغرافية السياسية والإستراتيجية في الاقتصاد العالمي.
وجاء استعداد موسكو لتطبيع العلاقات بين تركيا وأرمينيا، لتشجيع الاستقرار في القوقاز، والذي يشمل روسيا وتركيا ودول القوقاز الجنوبية، وهذا كله في سياق مخاوف تركيا التي تتصل بالمخططات الأمريكية في العراق، كما جاء نتيجة لأبعاد وحقائق حرب القوقاز لتعزز توجهاتها في الإقليم؛ والمتمثلة في سياسة "تعدد التوجهات"، خاصةً وهي ترى كيف اُحتل العراق، دون أي مسوغ قانوني دولي، واستغلالاً لأكاذيب مفضوحة.
كما يقع القوقاز دوماً تحت المجهر التركي، وفي سياقه العلني ما صرح به ساكاشفيلي جورجيا ذاته، بأن وزير دفاعه ووزير وحدة الأقاليم الجورجية؛ هما "إسرائيليان" من أصول جورجية، فالعتاد والتكنولوجيا والتدريب في جورجيا تحت إشراف "إسرائيل"، وبقي لساكاشفيلي أن يؤكد بأن جورجيا ذاتها تحت الاحتلال "الإسرائيلي"، حين أظهرت الحرب بأن الذي يحارب روسيا فعلياً هي "إسرائيل".
ذاتها الموضوعة التي أثارت دول الإقليم، حين ترى تركيا أيضاً بأن محاولات واشنطن الدخول إلى الحديقة الخلفية لروسيا في القوقاز ستسفر عن مزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار التي لا يحتاجها الإقليم.
سبق وأن صرح الرئيس التركي عبد الله غول بأن "العالم لا يمكن أن يدار من جانب قوة واحدة هي أمريكا، التي عليها أن تقاسم قوتها مع العالم، وأن العالم لا يمكن أن يتشكل وفق إرادة قوة واحدة، فهناك أمم وشعوب يجب أن تكون شريكة في القرار"، والأهم قوله: "أن هناك نظاماً عالمياً جديداً سيسفر عن حرب القوفاز"، كما أن تحديات متعددة فرضت إعادة النظر بالعديد من التوجهات التقليدية التي انتهجتها تركيا إبان الحرب الباردة، وهذا ما يُفسر السياسة التركية الجديدة المتعددة الأبعاد، والتي انعكست قوية في تنمية علاقاتها مع روسيا وسورية في مجالاتها، وتركت هذه التطورات تأثيرها على السياسة الخارجية التركية، آخذةً بهذه الضرورات مهما بلغت ضغوط واشنطن، حين ينبغي أن تراعي واشنطن مصالح تركيا في الإقليم.
في إرهاصات النظام العالمي الجديد الآخذ بالتشكيل، عبر المتغيرات والتحولات العالمية، أنها ذات منحى سريع، بما يفتح على المشهد المتوقع والمحتمل لبنية هذا النظام المقبل، وهو التعدد القطبي المتمثل بوجود تيار سياسي إستراتيجي عالمي يرفض الهيمنة الإمبراطورية الأحادية، وقد بدأ الآن على شكل تحالفات بدلاً من تكتلات، وعلى أُسس سياسية تتخلله دوافع اقتصادية وأمنية وإيديولوجية وثقافية، في مواجهة فلسفة الهيمنة القطبية الوحيدة، ونحو إحباطها، الأمر الذي يمكن أن يُقرأ في الشراكة الروسية ـ الصينية، وتحدياتها لخلق التوازن الإستراتيجي الجديد، بدءاً من شرق آسيا وصولاً إلى أوروبا، والتي يصطلح عليه المحللين دور روسيا الآرو آسيوية في سياق الإستراتيجيات الكبرى.
ونحن على تخوم نظام التعددية القطبية، سيبقى نفوذ واشنطن، ولكن ستنتهي المركزية الأُحادية، وستكون متواجدة ليس كقوة مركزية أحادية، خاصةً وأن مصالح القوى المتعددة للنظام المقبل ستكون متداخلة فيما بينها في المصالح الإستراتيجية المباشرة، فروسيا هي الدولة التي تزود أوروبا بمعظم احتياجاتها من الطاقة، والصين هي أكبر مقرض للولايات المتحدة، بما يعني أن أي حرب ستنشب بين هذه القوى ستكون مدمرة لتطال المنظومة بأكملها، لذلك لا بد من إيجاد طرق للتعامل مع كافة القضايا الهامة راهناً على الساحة الدولية، وعبر آلية ومنظومة النظام العالمي ذاته.
يمكن القول بأن القرن العشرين كان قصيراً، حين يعنونه البعض ابتداءً من ثورة أكتوبر البلشفية 1917، لينتهي مع سقوط النظام السوفييتي، كما يمكن القول أن القرن الجديد ستبدأ عنونته مع نظام القطبية المتعددة والمفتوحة، عبر محور الحركة الدولية المقبلة المختلطة الإيقاعات كأداة تكوين، يبرز بها دور روسيا والصين وقوى دولية صاعدة جديدة، وقد باتت هذه الحركة سريعة قياساً للتاريخ وللزمن الناهض.