صناعة الجوع صناعة الموت !


جمال محمد تقي
2009 / 11 / 20 - 13:18     

اذا كان العالم ينتج غذاءا اكثر بكثير مما يستهلك بحسب تقارير منظمة الفاو ذاتها ، واذا كانت عناصر الانتاج الغذائي مازالت فاعلة وبامتياز بسبب دخول الثروة العلمية والتقنية وبشكل قوي في مجال الانتاج الغذائي ، واذا كانت عملية تطوير الزراعة وزيادة مساحات اراضيها هي احدى المضادات الحيوية لمعالجة موضوعة الانحباس الحراري والتي تعمل على ترسيخها المنظمات الدولية بدعم من الدول الغنية ، واذا كانت عملية نهوض الانتاج الغذائي في البلدان الفقيرة نفسها امر ممكن ويحتاج فقط لعمليات تمويل وتخطيط وتخصص وتدخل قوي من قبل الدولة ، واذا كان المنتوج الغذائي وتحديدا الزراعي ذا جدوى اقتصادية متصاعدة ، اذا كان كل هذا ممكنا بل وهو حقيقة كاملة اذن لماذا تتزايد ظاهرة الجوع الغذائي حول العالم وخاصة العالم الذي يقال عنه انه ريف بالمقارنة مع مدنية الدول المتطورة صناعيا ، اي بلدان العالم الثالث والتي يتميز اغلبها بالطابع الزراعي والرعوي ؟ علما ان هناك 15 مليون جائع في الدول الغنية ذاتها ، وان هناك حوالي مليار من البشر يعانون من سوء التغذية والجوع وقبل هذا وذاك الفقروبحسب اخر تقارير منظمة الفاو فان سدس سكان الارض يعاني من الجوع ؟
ارتباط موضوعة الجوع بالفقر هو ارتباط عضوي يعززه وفرة الغذاء في الاسواق وعدم قدرة الجياع على دفع اثمانه ، والدليل يكمن في الاحصائيات الرسمية ذاتها فوجود اكثر من 15 مليون جائع في الدول الغربية دليل صارخ ، يضاف لهذا الرقم عشرات الملايين الذين يعيشون على خط الفقر في اكثر البلدان غنى في العالم !
ان الاجابة على السؤال اعلاه تتطلب مطالعة بعض الحقائق المبثوثة هنا وهناك ومنها : ـ ان العالم الصناعي ذاته صار اكبر منتج زراعي وحيواني في العالم بل ومحتكر عمليا للسوق الغذائية العالمية فهو وبواسطة استخدامه للطرق الحديثة والمركزة في انظمة الزراعة والمعالجات الجينية للبذور صار انتاجه الزراعي والحيواني صناعيا اكثر مما هو طبيعي بحيث اصبحت كلفة الانتاج اقل بكثير من كلفة انتاج ذات المحاصيل ومنتجاتها ومشتقاتها في البلدان المتخلفة او النامية او الفقيرة ، واصبحت غزارة الانتاج لديه سمة مميزة تجعله المتحكم الاول بعمليات التسويق الخارجي ، اضافة الى انتاجه الخاص المستجيب لشروط الجودة والنوعية بالنسبة للسوق الداخلية لديه ، وصارت منتجاته الزراعية تغرق الاسواق وباسعار منافسة للمنتجات المحلية مما تسبب ذلك بافلاس المنتجين المحليين في الدول الفقيرة !
بلد صغير مثل هولندا يزود الكثير من الاسواق الافريقية بالبصل والبطاطا الرخيصة الثمن بالمقارنة مع البصل المحلي او البطاطا المحلية ، وذات الشيء ينطبق على القمح الامريكي ، والتمور الامريكية كامثلة لغزو الاسواق العالمية وعدم قدرة المنتج المحلي على المنافسة ، ونفس الشيء بالنسبة للدنمارك التي تزود العالم بمنتجات اللبان !
ـ القدرة الفائقة للدول المتطورة على صيد كميات مهولة من الاسماك وحول العالم وبكلفة تقل بكثيرعن كلفة الصيد بالطرق التقليدية عند البلدان المتخلفة ، وبنفس مناطق الصيد البحري للبلدان الفقيرة التي يعاني صيادوها من شحة الصيد ، حتى اصبحت منتجات الصيد البحري للبلدان الغنية مجتاحة للاسواق العالمية شمالا وجنوبا ، مما ساهم ذلك وبتواتر بدفع وانحسار مهنة الصيد السمكي في الدول الفقيرة ودفعت الكثير منهم الى البطالة !
ـ ان تعمد الاستثمار بالغطاء النباتي ـ الغابات ـ في الدول النامية ، والاستثمار الغربي في زراعة مساحات شاسعة من الاراضي المستصلحة والتحكم بنوع المنتج وطرق تصريفه من مراكز هذه الشركات الكبرى في البلدان الغربية ، يساهم بتخريب الانتاج المحلي ويجعله اسيرا لمنافسة غير متكافئة ـ كمزارع الموز ، وقصب السكر ، والفواكه والخضروات الموسمية ناهيك عن المحاصيل التي تدخل بالصناعات الشائعة كالقطن والتبغ والكاكاو والشاي والقهوة وغيرها ـ
في مصر مثلا هناك شركات استثمارية خاصة نجحت في تحويل الاراضي المستصلحة من مشروع تشكى الى حقول انتاج ما يصلح للتصريف في الاسواق الخارجية ـ الغربية ـ والسوق المحلية تعاني من شحة في المنتجات الزراعية الاستراتيجية كالقمح والحبوب الاخرى ، مثال اخر في امريكا الاتينية غابات الامازون والاستثمارات التي لا تعبأ بالحاجات المحلية بعيدة المدى ، ونفس الشيء في الهند واندنوسيا !
ـ منظمة التجارة العالمية تشترط الغاء اي قيود حمائية تساعد المنتجات المحلية على الصمود بوجه المنافسة الحرة التي ستكون حتما لصالح الدول المتطورة ، وتحاول اجبار كل الدول الاعضاء على الغاء جميع اشكال الدعم المقدمة للمزارعين !
المفارقة ان الدول الغربية تقدم الدعم لفلاحيها مقابل تقيدهم ببرامجها الزراعية وهي ذاتها ترفض ان تفرض الدول النامية ضرائب حمائية على البضائع المصدرة لها والتي تنافس منتوجها المحلي ، ومع كل الادعاءات الفارغة بتعاون الدول الغنية لمعالجة مشكلات الفقر والجوع في العالم فهي تتعمد اتلاف فائض بعض منتجاتها الزراعية وبشكل دوري للمحافظة على معدلات اسعارها في الاسواق !
ـ ازمات الطاقة ـ النفط والغاز ـ العالمية تنعكس سلبا على البلدان المتخلفة لكنها تمتص من قبل الدول الغنية من خلال قدرتها التعويضية ومن خلال مرونة اقتصادياتها ومن خلال مداورة وموازنة فروق الاسعار مع اسعار السلع الاستراتيجية ـ الغذائية والسلاح ومواد البناء ـ ومن خلال امتصاص الفائض النقدي في للبلدان النامية المنتجة لخامات الطاقة ، وعليه يكون ارتفاع اسعار المواد الغذائية المنتجة في البلدان الغنية اقل بكثير من ارتفاعه في البلدان الفقيرة !
ـ التغيرات المناخية المسببة اصلا بالعبث الصناعي بالتوازن الطبيعي بين وظائف مختلف عناصر الارض وما عليها ، من العادم الذي يخرج ويتزايد بمعدلات مهولة نتيجة للركض وراء الربح السريع وغير المكلف ليلبي الجوع الراسمالي الذي لا يشبع ولا يرحم لا الانسان ولا الطبيعة ومن دون حساب للخراب الشامل القادم ، وكأن السوق وقوانينه هي ذاتها من يسيرالانسان والطبيعة ، هذه التغيرات تؤثر على القدرة الانتاجية الغذائية للبلدان الفقيرة بنسب مضاعفة من تاثيرها على البلدان الغنية !
ـ الازمة المالية العالمية المنبثقة من تلاعبات ومضاربات الشركات الاحتكارية الكبرى في العالم ومنافساتها غير المشروعة ، تنعكس وباشكال قاسية على الطبقات الفقيرة في البلدان الغنية وعلى البلدان الفقيرة برمتها وبشكل يجعلها منطقة كوارث اصطناعية ـ بطالة ، انعدام القدرة الشرائية ، تشرد ، جريمة مخدرات ، هجرة ـ !
ـ تقرير الامم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2004 يتوقع ان يصل عدد سكان الارض الى حوالي 9 مليار نسمة بحلول عام 2050 ، وتوقعاته تؤكد على حصول مجاعة شبه شاملة في حالة استمرار الاوضاع السائدة في العالم على ماهي عليه ، 15 % من سكان العالم اغنياء يقررون مصير العالم باجمعه بما فيهم 85 % من سكان العالم الفقراء وبمختلف دراجتهم حتى درجة الجوع المميت !

الان لا يسعنا الا الاجابة على السؤال المطروح بعد ان وضعنا كل الاوراق تقريبا امام مرمى نظر القاريء ، ونقول ان تزايد ظاهرة الجوع والفقر حتى الموت هو نتيجة حتمية لتناقضات النظام السياسي والاجتماعي الاقتصادي العالمي السائد والذي يفرز تقسيما عالميا غير متكافيء للعمل والثروة ويعتبر السوق وآلياته كالحق الالهي والذي لا يجب مخالفته حتى لو ادى الى تدمير حياة اكثرية البشر ، ومن اجل ان لا تنهار الاسواق لابد من الاضاحي وهي حياة الملايين وربما المليارات من الارواح !
قال بعضهم يجب ان نعمل وبكل الوسائل من اجل ان لا يتضاعف عدد سكان الارض ـ من 6 الى 12 مليار ـ لان ضيق النفس سيكون سمة لعصر يصبح تعدد البشر على الارض فيه ضعف عددهم الحالي ، فالاوكسجين الارضي سيقل وستتزايد نسب ثاني اوكسيد الكاربون ، وستكون كلفة معالجة العوادم اكبر بكثير من كلفة التخلص من الفائض السكاني ، وان تدخل الدول لمحاولة تغيير هذه الاليات يجب ان لا يسمح له لانه سيتناقض مع سليقة حرية الاسواق ونموها الطبيعي وآلياتها والذي بنيت عليها كل قواعد الحضارة القائمة ، اي ان تدخل الدول هو اعاقة لليبرالية الراسمال وحركته التي وبالتالي لحرية الافراد الشخصية والمتصاعدة مع مقادير ملكياتهم ونمو ملكاتهم وثرواتهم والتي تنعكس بالضرورة سلبا وايجابا على حياة المجتمعات باسرها وليس العكس !
هذا الوجه الحقيقي والبشع للجشع الراسمالي واخلاق السوق الا انسانية التي يحملها لا يطرح هكذا مباشرا وقاسيا ومؤلبا ، لان العامة سوف لا تاخذه ماخذ الخاصة انه قد يروع من يقلبه رغم كل المناخات الغير مباشرة والمتوافقة معه والتي تشيعها قيم الراسمالية وخاصة في مراحلها المتقدمة حاليا ـ الفرد وحريته المطلقة عبارة عن مغامرة تتحمل كل النتائج ـ !
لابد من العمل وعبر ادوات عالمية جبارة لتسييد الوضع القائم وترسيخه والبناء عليه وترقيع شقوقه او فضائحه الفاضحة ، ومن اهم هذه الادوات المنظمة ، منظمة التجارة العالمية ، صندوق النقد الدولي ، البنك الدولي ، وايضا من خلال آليات عمل السبعة الكبار ، والدول المانحة !

في مؤتمر قمة الفاو ـ منظمة الاغذية والزراعة الدولية التابعة للامم المتحدة ـ الاخير الذي انعقد في روما اعلن البروفيسورجاك ضيوف مدير المنظمة عزمه على الصيام طيلة فترة المؤتمر ـ 3 ايام ـ وتضامن معه بان كي مون امين عام اللامم المتحدة ، للفت الانظار الى كوارث الجوع ، خاصة وان اغلب قادة الدول الغنية غاب عن الحضور ، واكتفى ممثليهم باستعدادهم لتنفيذ تعهداتهم السابقة ولتي قطعوها على انفسهم للمساهمة في معالجة الجوع العالمي من خلال تخصيص مبلغ 20 مليار دولار لتمويل مشاريع وبرامج منظمة الفاو ، لكن واقع الحال يشير الى ان المشكلة اعمق من مجرد مخصصات مالية لا تسد رمق الحاجات الحقيقية ، وانما هي عملية متكاملة يجب ان تتناغم من اجل السير فيها كل الادوات الدولية النافذة كالبنك الدولي ومنظمة التجارة وصندوق النقد ، وان تكيف سياساتها بما يحقق هدف الاكتفاء الذاتي لدى الجميع ، ويبدو ان مدير المنظمة والامين العام للامم المتحدة يدركون جيدا انهم في واد واصحاب القرار في واد اخر ، لذلك حاولوا من خلال اعلانهم عن بادرة الصوم كنوع من انواع الاجتجاج السلبي ، والذي يحمل في طياته نبرة الياس ، وكانهم يقولون للجياع : جوعوا تصحوا !
كلمة القذافي كانت اكثر مباشرة ووضوح ، عندما قال نحن لم ناتي لنشحت ، ونحن لن نمل من ملاحقة الاغنياء الذين استعمروا الفقراء ونهبوا ثرواتهم ، سنلاحقهم لاسترداد الدين الذي في اعناقهم !