الحريق العراقي .. ونتائجه السلبية


جمعية الاشتراكيين الروحانيين في الشرق
2009 / 11 / 18 - 19:36     

الديمقراطية بتعريفها الاجتماعي هي تداول السلطة وحق الشعب بانتخاب ممثلين له فيها، لكن التعريف الإستراتيجي " الغربي " لها هــــــو:

حق الدول العظمى التي تملك نفوذ المال والسلاح والمخابرات بانتخاب "رعاة " لمصالحها يمسكون السلطة في الدول الصغرى الضعيفة عن طريق الإندساس الخفي في التعددية التي توفرها هذه الدول الصغيرة ذات السمات التي هي مطمع للدول الغربية ..
وديمقراطية العراق كشفت عن ذلك بوضوح ..
فالشعب العراقي ينتخب ممثليه من جهــة ، والدول العظمى العالمية والإقليمية تمد يد نفوذها فيه عبر الحركات والأحزاب المختلفة المشارب والتوجهات، وعليه فالديمقراطية بالإضافة إلى فائدتها للشعب العراقي فهي مفيدة أيضاً لدول رأس المال والعسكر والمخابرات ..
وكان من المفترض أن يعيش الشعب العراقي في " رخاء " كالذي يعيشه أي بلد ديمقراطي صاحب ثروة في العالم ، إلا أن " تصادم " مصالح أميركا كقوة عالمية عظمى متحالفة مع إسرائيل من جهة وإيران كقوة شرق أوسطية عظمى من جهة أخرى جعل الديمقراطية في العراق تميل بالفائدة لصالح إيران على حساب التحالف الإنكلوسكسوني _ الإسرائيلي الذي أراد أن يعيد أمجاد حلف بغداد ليكون مناراً لشرق أوسط كبير ينير بالديمقراطية التي تنتفع منها شعوب المنطقة والغرب .. فبسبب النفوذ المذهبي التأريخي للأمـة الإيرانية في العراق ، تحولت منفعة الديمقراطية إلى إيران حتى أصبحت دولة عظمى إقليمية في المنطقة لسببين رئيسيين :
• زوال هاجس الكابوس القومي الطائفي العروبي الحاكم للعراق
• توفير الديمقراطية و الانفتاح لمناخات النفوذ لضرب القدرة العسكرية الأمريكية في هذا البلد ..
هذا النفوذ الذي كان مكبوتاً طيلة فترة حكم البعث في العراق لمدة تصل إلى أربعين سنــة ، نما بالتدريج خصوصاً بعد تداخل مصالح إيران وسوريا لتشكيل جبهة كبرى في المنطقة أعاد ترتيب أوراقها ووضع إيران في مصاف دولة يحسب لها ألف حساب في الشرق الأوسط .
و المتعمق في دراسة الشؤون الإستراتيجية التي ترسمها كل دولة سواء أكانت كبيرة أو صغيرة في العالم، يدرك أن العراق تحول إلى " ثقب ٍ أسود " يلتهم كل المشاكل الإقليمية والدولية حوله..
وما دامت ديمقراطية العراق ستعود بفائدة على إيران لم تكن تحلم بها حتى أيام حكم صدام ، إذن فالولايات المتحدة أسقطت صدام لصالح إيران دون قصد ، وخسرت ما يقارب العشرين ألف جندي بين قتيل ومعاق ٍ وجريح لأجل إيقاظ المارد الشيعي الذي غفى أربعمائة عام ..!
لقد صدمت الولايات المتحدة وحلفائها ومنهم إسرائيل بإستيقاض هذا المارد الذي يحن إلى أحضان الوصال المذهبي مع بلاد فارس ، و لا يبدو عليه إنه سيعاود النوم أبداً في ظل الديمقراطية ،بل إن علاقاته تتوطد على الصعيد الإقتصادي كثيراً ، فالعراق أضحى اليوم اكبر سوق للصناعات الإيرانية المتنوعة .. ناهيك عن علاقات التبادل السياحي والسياسي القوي جداً بين الدولتين.
وعودة الديكتاتورية برأس حكم " سني " باتت مستحيلة لكبح جماح التداخل بين شيعة العراق وإيران بعد الاستقلال الجزئي للأكراد في الشمال وتضاؤل حجم السنة في العراق الجديد ..
أميركا كان بإمكانها إعادة الديكتاتورية للعراق ، لكي تتخلص من هذا المأزق ، لكن هذا الديكتاتور سيحكم من ..؟
العراق واقعياً مقسم اليوم بسبب الديمقراطية الأمريكية التي ساعدت على تفريخ الميليشيات و تقويتها ( وبدورها أدت لهذا التقسيم ) إلى ثلاثة أقاليم.. كردي في الشمال وسني في الوسط وشيعي في الجنوب ، وهذه الرؤية كانت في نصب عيون " بايدن " ، مساعد أوباما ، بتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات ..
و لربما كانت الحل الوحيد للخروج من مأزق " الخطر " على الأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي لولا مخافة أن تنضم الدولة الشيعية طواعية إلى إيران وكذلك رفض السعودية ودول الخليج لمثل هذه الدولة حتى لو فصل بينها وبين إيران سور من الفولاذ ، فديمقراطية شيعية أو ديكتاتورية شيعية في جنوب العراق تجعل من المحتوم حدوث اضطرابات في المنطقة الشرقية ( الشيعية ) في السعودية وتزعزع الأنظمة ذات الطيف الشيعي الواسع في الخليج مثل الكويت والبحرين وقطر ..

فمن الذي له المصلحة في إجهاض الديمقراطية في العراق.. ؟

الجواب:
السعودية والكويت والبحرين وقطر والولايات المتحدة وإسرائيل ومصر

أما إيران فهي اكبر رابح من ديمقراطية العراق لأنها ستؤدي حتما لوصول الحركات الإسلامية وليس العلمانية على الأقل في العراق الجنوبي الشيعي للسنوات القليلة القادمة .
فلو عدنا للوراء قليلاً .. وتجربة الديمقراطية في الجزائر وصعود الإسلاميين للسلطة عبر " صناديق الاقتراع " نفهم إن الجمهورية الإسلامية لم تعبر كل هذه المسافة لتدمير وتقتيل الجزائر وشعبها ..
وعندما نعاود التقدم أكثر ونصل إلى وصول " حماس " للسلطة عبر صناديق الإقتراع نفهم إن الولايات المتحدة تريد الديمقراطية للعالم الإسلامي بشرط أن لا يكون خيار الأمة أنظمة حكم مؤطرة بالإسلام ..!
الولايات المتحدة الأميركية تسرعت في حسابات العراق ، فالديمقراطية أنجبت تشعبات كبيرة من الحركات و الأحزاب الإسلاموية ، وليس العلمانية كما كانت تتمناه نموذجاً جديداً لتغيير المنطقة ،بل وحتى الأحزاب التي كانت في بداية عملها السياسي في عراق ما بعد صدام تحسب علمانية خالصة راحت ترفع " الإسلام " كإيقونة للتبرك ، فهل يوجد سياسي في العراق لم يقبل يد المرجعية في النجف؟
حاولت أطراف عدة في مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة التأقلم مع أنظمة علمانية – إسلاموية يمكن أن تفرزها المرحلة السياسية القادمة في العراق وتمثل هذا في توجه إدارة الرئيس أوباما والجناح الديمقراطي في البيت الأبيض .
لكن أميركا ليست إدارة أوباما فقط ، أميركا مصالح كبرى تلف عالمنا الرأسمالي بأسره ، فهل الديمقراطية التركية مقبولة لدى الغرب حتى تقبل ديمقراطية كربلاء في العراق الجديد ..؟!
إذا كان " بعض ٌ " من الغرب يخاف من الديمقراطية التي تأتي بالإسلاميين للسلطة فلـن يستقر العراق ولن تدخل تركيا الإتحاد الأوربي ولن تحل القضية الفلسطينية ، والحكام العرب أجمعين يدركون ذلك ..
( نقول ذلك ونحن نتحدث عن " دوائر " ظاهرية تنشر آرائها الإعلامية دون أن نحسب حساب التيار القوي " تحت السطح " الماضي في حرب الثلاثين سنة )
فشــل الديمقراطية في العراق ستكون لطخة سوداء في ثوب الليبرالية التي يتباكى عليها الغرب إعلامياً ، لكنها وراء كواليس المسرح تنفس الصعداء من القلق الغربي المزمن من تحول العراق إلى نظام ديمقراطي متناغم بين النظام التركي والإيراني ، وهو نموذج يخشى اللوبي الصهيوني (وهو دائرة ظاهرية أيضاً) ولادته في هذه المرحلة لأن إسرائيل تسعى لانتزاع اعتراف العالم بيهودية الديمقراطية فيها ، ما يعطي مبررا لوجود النظام الإيراني الذي أظهرت صراعاته حقيقة تداول السلطة في ذلك البلد ، فكيف للعراق أن ينجو من نفس المصير .. ؟
وأي غربٍ هذا الذي لن يكون لإجهاض الديمقراطية في العراق مصلحة ؟
كل دول الجوار لا تريد للعراق النجاح ..
والقوى الكبرى في الغرب لم تكن تتوقع أن يتحول العراق إلى " مدرسة " جديدة للإسلام الديمقراطي الشيعي ، أما إيران ..
فهي الوحيدة التي ستستفيد من نجاح هذه الديمقراطية في العراق لأن نظاماً ديكتاتورياً مثل حكومات الخليج سيمنعها من بسط نفوذها في هذا البلد..
فالديمقراطية في حقيقة تعريفها " الإستراتيجي " هــي :
بيئة قابلة للنفوذ الرأسمالي و المخابرتي من
أي دولة عظمى في العالم ..
وإيران دولة " عظمى " بالنسبة للشرق الأوسط ، وفرصة نفوذها في العراق أكبر من فرصة نفوذ الولايات المتحدة .. وعلى المدى البعيد سيساعدها ذلك في ضم العراق تحت جناحها كما كان حاله في اغلب مراحل التاريخ .. !




حل المشكلة بنظر الحكومة الظاهرية للولايات المتحدة

نحن لا نعتقد أن صناع القرار في أميركا ( كدائرة ظاهرية ) لديهم منهج محدد للخروج من هذا المأزق ، سوى الانتظار إلى حين " إسقاط " النظام في إيران ، والعراق سيبقى يطبخ على نار ٍ هادئة كيلا يتحول إلى نقطة إرتكاز قوية للجمهورية الإسلامية عبر تمديد زمــن الفوضى و عدم الاستقرار حتى تتآكل النظرية الإسلامية السياسية في العراق والتي تتلقى دعمها من إيران تحديداً ..
المشروع الأمريكي في المنطقة يشبه مشروع عبد الناصر ضد إسرائيل..
" حرب الاستنزاف "، أميركا وإسرائيل تحاولان استنزاف قوة إيران ودائرة نفوذها في المنطقة عن طريق " حرق " الدولة العراقية ومحاولة كسر التحالف الإيراني السوري بكل الطرق وإضعاف حزب الله والضغط عليه وكذلك مع " حماس " ، إضافة إلى تأجيج الداخل الإيراني عبر دعم ما يعرف بالتيار الإصلاحي في إيران ..
وبالرغم من وجود فكرة الانسحاب من العراق إعلامياً ، لكن من يقرا المصالح الإستراتيجية يفهم إن مثل هكذا انسحاب يعني تقوية سوريا وحزب الله بالإضافة إلى تعملق إيران حتى لو كانت في العراق حكومة " عسكرية " موالية للولايات المتحدة ، ( وهي فكرة متداولة في الأجندة الأمريكية ) ، ما يعني إن ترك العراق يؤدي إلى إضعاف إسرائيل كثيراً ..
لا حل أمام أباطرة الحروب في الغرب وحكام الخليج سوى " حــــرق " العـراق كي لا تنتفع منه سوريا أو إيران .