جدار برلين كان مسخا للشيوعية و مبادئها الإنسانية


حميد كشكولي
2009 / 11 / 16 - 19:11     

صادف يوم التاسع من نوفمبر هذا العام الذكرى العشرين لهدم جدار برلين ، إذ طفق عرابو ديمقراطية السوق الحرة يحتفلون بانتشاء فوق خرائبه ، بموت ما يسمونه ب" الشيوعية" و الحرية والاشتراكية ونهاية " التاريخ" . هذه الاحتفالات الدنيئة تقام والرأسمالية تعيش أزمتها العميقة ، وتعاني من فشل نماذجها الاقتصادية و الثقافية والايديولوجية لاقتصاد السوق
وتورط سيدتها الأمريكية في مستنقع حروب العراق و افغانستان و باكستان . فمنذ عشرين عاما تتفاقم حياة الناس المقيمين فيما كان يسمى بقطبي الشرق و الغرب وما بينهما سوء وجحيما، قد باتت البشرية تعيش آثار هذا الهدم وعواقبه التي تطبق الخناق يوميا على حياتها التي غدت كوابيس بعد طغيان التصعيد القومي والطائفي عليها، و اشتداد الرجعية الدينية.
ومن أفظع عواقب زوال الجدار، هي اشتداد العنصرية و التناحر القومي والطائفي والمذهبي ، عواقب أدت بدورها ، وساعدت على انفجار الأوضاع في العالم ، و اتخذت مبررات لشن الحروب على الشعوب ، و ممارسة سياسة التجويع و القتل ، و بث الفرقة و روح التناحر بين الناس. و رواج تجارة الرقيق الأبيض. كما أقيمت جدران عنصرية وطائفية عديدة في أنحاء عديدة من العالم، مثل غزة، والعراق لعزل البشر بعضهم عن بعض، في سبيل التمادي في استغلال العمال و الكادحين، واضطهاد المظلومين.
و ما إن انهدم الجدار ، وانتهت الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية ، وإعلان "نهاية التاريخ" حسب فوكوياما و النظام العالمي الجديد حتى أخذت نيران الجشع الرأسمالي الامبريالي تحرق أبناء شعوب عديدة في العالم. وكانت حصة العراقيين كبيرة من المآسي و الكوارث ، بعد أن دفع المنتصرون في الحرب الياردة الطاغية المعدوم لاحتلال الكويت ، واتخاذه ذريعة لشن حرب تدمير العراق بحجة تحرير الكويت، وثم فرض عقوبات و حصار جائر على المواطنين لتجويعهم ، والفتك بهم أمام أنظار المجتمع الدولي .

و ما أن انهدم الجدار ، حتى غدا العالم قطبا واحدا بقيادة أمريكا ، و تحول أغلب عناصر الأحزاب الشيوعية التقليدية ومشتقاتها و منظماتها إلى أحزاب ديمقراطية ، وليبرالية , محافظة و اشتراكية ديمقراطية ، يؤمنون بالديمقراطية البرجوازية ، والانتخابات البرلمانية ، كما أصبحوا يعقدون معاهدات و تحالفات ، و يُقبلون أعضاء في الاتحاد الأوروبي ، والسوق المشتركة . و يشاركون المنتصرين المحافظين الجدد نخب الانتصار.

لقد كان رؤساء القطب " المنتصر" أمريكا و الإنجليز وفرنسا و ألمانيا و غيرها زائدا روسيا ، يتمتعون بنشوة النصر وهم يلقون كلمات في ذكرى تحطم جدار برلين الذي حسب تعبيرهم كان" يرمز إلى الظلم والاضطهاد" و أن " الشيوعيين أقاموه لعزل مواطني ألمانيا الشرقية عن أجواء الحرية " . وقد كانوا يذكرون في كلماتهم الاحتفالية ، مساوئ " الشيوعية" ، ويطلقون كعادتهم الوعود بإقامة الجنان على الأرض . هذه الوعود المنافقة الكذابة التي أمست منذ لا يقل عن عشرين عاما يغذوننا بمثلها،إذ منذ عشرين عاما يُرون البشرية التاريخ مقلوبا و بكل وقاحة، بينما الواقع المأساوي الكارثي للبشر المحكومين يشهد عكس ما ادعوا ويدعون .

وللاطلاع والتذكير أن فكرة جدار برلين انبثقت بعد هزيمة القوات الهتلرية إذ أن برلين ،عاصمة ألمانيا الهتلرية التي انتقل موقعها في وسط ألمانيا الشرقية فيما بعد و تقاسمتها ضمن كل ألمانيا ، القوات الأمريكية و الانجليزية ، والفرنسية والسوفيتية إلى أربعة أقسام ، لمنع أي امكانية لعودة النازية . و نتيجة لعدم الاتفاق بين الشرق والغرب ، شكلت أمريكا و بريطانيا وفرنسا تحالفا لمواجهة الكتلة الشرقية ، و تحولت الأقسام التي تسيطر عليها قوات الدول الثلاث إلى ألمانيا الغربية ، مقابل ألمانياالشرقية التي وقعت تحت سيطرة السوفييت . و اصبح التجسس و الاستطلاع بين الطرفين حالة مزعجة لهما، و شرعا بحملات اعلامية ، وحرب نفسية ، ما أدى إلى إقامة جدار برلين سيء الصيت.

جدار برلين الذي قسم المدينة إلى قسمين شرقي وغربي منذ 1961 حتى1989، كان يمثل هجمة شرسة على الشيوعية و تشويها لمبادئها العظيمة من قبل قطبي رأسمالية الدولة البيروقراطية و رأسمالية السوق الحرة، قبل أن يكون رمزا للحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية. كان رمزا لتصارع نموذجين للرأسمالية في سبيل التسريع في مراكمة رأس المال.
لقد تحولت برلين، و ، قبل بناء الجدار تدريجيا إلى جدار هائل ، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، و بعد تقسيم المدينة بين الحلفاء ، و تبني الطرفين نموذجين مختلفين للاقتصاد الرأسمالي لإعادة البناء ، و إعادة إنتاج الربح ، وتراكم رأس المال .
كان هدف الكتلة الشرقية من الجدار هو مواجهة هروب قوة العمل التي كانت بأمس الحاجة إليها، إذ – حسب ما يقال- إن حوالي خمسة ملايين شخص قد هربوا من ألمانيا الشرقية بين أعوام 1949 و 1961.

ومعظم هؤلاء المهاجرين كانوا عمالا فنيين ، وخبراء و مهندسين ، وأساتذة جامعات و مثقفين، إذ كان افتقادهم بهجرتهم من ألمانيا الشرقية خطرا كبيرا هدد مشاريع بناء راسمالية الدولة في هذا البلد و بلدان الكتلة الشرقية.

إن ما فهمناه من الماركسية اللينينية ، و الاشتراكية العلمية يؤكد لنا أن النظام السياسي ، والاقتصادي و الحقوقي والإداري والثقافي للكتلة الشرقية كان أبعد ما يكون عن الاشتراكية و الشيوعية، ولم يكن يمثلهما لا اقتصاديا ، ولا سياسيا ، و لا حتى إداريا ، أو إيديولوجيا،بل على العكس، كان هذا النظام نتاج الانحراف عن الشيوعية وثورة أكتوبر العمالية الاشتراكية. كان النظام في الكتلة الشرقية من نتائج هجوم البيروقراطية و برجوازية رأسمال الدولة على المكاسب السياسية لثورة أكتوبر ، و التضييق على الحريات و الحقوق السياسية لجماهير الشعوب السوفييتية التي حققتها ثورة أكتوبر. لقد بدأ الاتحاد السوفييتي و الكتلة الشرقية برامج البناء الرأسمالي على أسس رأسمالية الدولة بتهميش الشيوعيين الحقيقيين ، وقمعهم و الإجهاز على ما حققوه في نضالهم جنبا إلى جنب الطبقة العاملة .

لقد كان جدار برلين مخفرا للهجوم على الشيوعية، ومقوماتها الأساسية، ومسخ وجهها الناصع والجميل أمام أعين البشرية. كما كان خيبة لآمال وتطلعات معذبي الأرض، ومضطهَدي العالم في التحرر من شرور النظام الرأسمالي، المسبب الأساس لكل مصائب, مآسي المجتمع البشري، إذ كان سدا أمام الثورة العمالية والشيوعية في العالم.
ليست الشيوعية بناءجدران عازلة ، و سجون ، وقمع سياسي، بل أنها حركة في سبيل تحرر الإنسان ، و خلاص البشرية من كل القيود والمظالم السياسية والاجتماعية. إنها حركة تحرر المجتمع، و تمكين الفرد ليلعب دوره حرا في تحقيق مصيره، والتمتع بأقصى ما يمكن من حقوق وحريات، ومساواة في كل مجالات الحياة.
كما أن من بديهيات الشيوعية أنها ليست توزيعا عادلا للفقر، بل أنها نظام توزيع مساو لأرقى رفاهية في أسمى مجتمع. إنها مجتمع كل حسب حاجته المادية والروحية. إنها ليست تراكم الثروة بيد الدولة التي أزاحت الرأسماليين ، أو لم تسمح لهم بالظهور ، لكي تصبح بنفسها الرأسمالي الوحيد الذي يستغل كل عمال البلد. إن الشيوعية تعني ازدهار الخلق والإبداع عند الفرد والمجتمع.

لقد شهدنا بعد انهدام جدار برلين و انتصار اقتصاد السوق الحرة على اقتصاد الدولة، اشتدادا في الهجمة البرجوازية الرجعية على الشيوعية ، والأهداف الإنسانية ، و حقوق الإنسان و حرياته،وحقه في الهجرة و السكن أينما كان في العالم .وقد بدأت في الحقيقة منذ ثمانينيات القرن الماضي التاتشرية و الريغانية هذا الهجوم قبل انهدام جدار برلين، على كل مكاسب البشرية و ما حققته من رفاه و تقدم وضمان اجتماعي ، وحقوق سياسية و اجتماعية وعلمانية ، بإطلاقها العنان للعنصرية و العصبيات القومية و الانعزالية، ودعم الفلسفات الرجعية كالما بعد الحداثية والنسبية الثقافية ، وتبني الحركات الرجعية و المتطرفة في العالم الإسلامي والشرقي. هذا درس بليغ ، لم يفت الأوان للقوى الشيوعية والاشتراكية العمالية ، وكل التحرريين في العالم ، لأخذ العبر منه ، في نضالهم في سبيل التحرر والمساواة والاشتراكية ، وفي سبيل ادراك حقيقة الشيوعية التي يتطلع إليها العمال والكادحون في العالم.

‏الاثنين‏، 16‏ تشرين الثاني‏، 2009