كيف تراجع مشروع النظام العالمي الجديد


نجاة طلحة
2009 / 10 / 30 - 15:19     

العولمة هي أحدث نظرية في نظام الإحتكار(الأمبريالية) والذي أتجهت إليه الرأسمالية منذ العقود الأولي من القرن الماضي. في غمرة زهوها بالتفوق الإقتصادي والعسكري والتقديرات المفرطة للقدرات الإقتصادية وخلو الساحة بإنهيار المعسكر الإشتراكي برذت نخبة من صقور السياسة الأمريكية الذين أطلق عليهم المحافظين الجدد خرجوا للعالم بما أسموه النظام العالمي الجديد. و لم يكن هذا خطلا تفتقت عنه عنجهية العقل الرأسمالي إنما الغرض هو إستغلالاً يشمل الموارد الطبيعية في العالم. كذلك تحويل العالم الي سوق كبير يستوعب ما ينتجه النمو الصناعي الهائل ويخفف من حدة سلبيات فائض الإنتاج وإختناقات السوق المحلي التي تخلفها الأزمات الإقتصادية المتكررة . أما نشر ثقافة العولمة فالغرض الإقتصادي منه هو توحيد أزواق البشر لضمان إستقرار هذا السوق ولتصير معدلات الربح أكثر ثباتا. إنبري منظرو النظام الرأسمالي في الترويج لمشروع النظام العالمي الجديد فإبتدع فوكوياما نظريته نهاية التاريخ التي يدعي فيها أن النظام الليبرالي هوالقاعدة الأبدية التي سيقف عليها التاريخ وأن النموذج الأمريكي هو الأمثل لتطبيق هذا النظام. فماذا حدي بهذا المشروع للتراجع حتي إنقلب عليه منظروه وفي مقدمتهم فوكوياما نفسه؟ وما هي المتغيرات التي لم تكن في حسابات منظري الرأسمالية الأمريكية؟

أول هذه الحسابات الخاطئة كان الثمن الباهظ لهذا المشروع والذي أثقل كاهل الإقتصاد الأمريكي ولعب دورا كبيرا في الأزمة التي حلت به مؤخرا. والتي تمثلت في عجز الميزانية وإختلال الميزان التجاري وتفاقم المديونية الخاصة والعامة. إنفاذ هذا المشروع ولد حاجة مكلفة لدعم القطاع العسكري فكان لأمريكا أن تخوض حربين في آن واحد إستنذفت إقتصادها, حيث بلغت تكلفة الحرب في العراق وحدها 200 مليون دولار في اليوم الواحد. والنفقات العالية للتسلح تخلق ضررا فادحا بالإقتصاد الرأسمالي لأنها تغطى عن طريق الضريبة, لذلك الأنتاج العسكري ليس كالمنتجات المستهلكة فهو يساهم في عجز الميذانية ولا تمتد عنه قوة الإستهلاك التي يعتمد عليها كليا الإقتصاد الرأسمالي في النمو , وتجدر الأشارة هنا الي أن الإستهلاك يشكل تقريبا ثلثي حجم الإقتصاد الأمريكي.

إقتصادياً, ليس العجز عن تمويل هذا المشروع وتكلفته الباهظة هو السبب الوحيد في التراجع عنه لكن الأزمة التي حلت بالإقتصاد الأمريكي إنعكست سلبا علي العالم وأفقدت الإقتصاد الأمريكي الثقة في قيادته للإقتصاد العالمي. فقد أربكت الأزمة التي حلت به حركة الإقتصاد بالبلدان التي أرتبط أقتصادها بالعملة والشركات الأمريكية. وقد صدّرهذا الإقتصاد التضخم لهذه البلدان من خلال إرتباطها بالإقتصاد الوهمي (سوق المال) من جهة وإرتباط صادراتها بالدولار كالبترول وغيره من جهة أخري. ولا زال الإقتصاد اللأمريكي يعاني من تداعيات تلك الأزمة فالكساد الذي شهدته الأسواق الأمريكية إبان الأزمة أدي الي هبوط عائدات الضرائب إضافه الي ذلك تقليص سعر الفائدة وتنفيذ خطة الحفز التي تبعتها الإدارة الأمريكية لإنقاذ الإقتصاد فأدي كل ذلك الي أرتفاع عجز الموازنه الأمريكية الي 1.42 ترليون دولار هذا العام (2009م) رغم التفاؤل ببوادر الأنتعاش. هذه الأزمة حدت بالإقتصاديين حتي من مفكري النظام الرأسمالي بالأتجاه الي تشجيع أقتصاد عالمي متعدد الأقطاب.

بالمقابل شكل النمو المضطرد للإقتصاديات الصاعدة ليتجاوز معدلات النمو للأقتصاد الأمريكي ضربة كسرت حاجز الإرتكاز علي القطب الواحد الذي تبوأه الإقتصاد الأمريكي ولتنقلب الموازين لمصلحة الإقتصاديات الناهضة فتتشكل جبهة مضادة لتمدد سيطرة الإقتصاد الأمريكي ومضادة بالتالي لمشروع النظام العالمي الجديد. فحسب آخر أحصائيات يتوقع أن ينمو الإقتصاد الصيني بنسبة 9% العام المقبل, كما يتوقع أن ينمو الإقتصاد الهندي العام المقبل أيضا بمعدل 6.4%، بينما يتوقع أن لا تزيد نسبة النموء في الإقتصاد ألأميركي عن 1.5%. بل ما هو أدهي أن الإقتصاد االأمريكي أصبح مثقلا بالديون تجاه الصين. وتقود اليابان حاليا إتجاها لتكوين إتحاد آسيوي شبيه بالإتحاد الأوربي وإصدار عملة موحدة. هذه المتغيرات في موازين القوي الإقتصادية والدور المتقدم الذي تلعبه هذه الإقتصاديات فرضت أمرا واقعا أجبر قمة مجموعة الدول العظمي علي أن تقرر منح الدول الصاعدة إقتصاديا حقوقا تصويتية أكبر في البنك الدولي وصندوق النقد فقد أتجهت آمال العالم للدور الذي ستلعبه هذه الدول وفي مقدمتها الصين في أصلاح الإقتصاد العالمي والخروج به من الآزمة.

كذلك جاءت الضربة من الجوار اللاتيني والذي كان قد شكل ضربة البداية لمشروع النظام العالمي الجديد بالتوقيع والترويج لإتفاقية التجارة الحرة بين دول أمريكا الشمالية والتي كان من المفترض أن تفرض أمريكا من خلالها السيطرة علي إقتصاد المنطقة. لم تقتصر الضربة علي البعد الإقتصادي فحسب ولم يكن فقط تمردا داخل الصف الرأسمالي لكنه كان دفعا حاسما حطم فكرة النظام العالمي الجديد جذريا فقد تحولت أغلب دول المنطقة الي النظام الاشتراكي. فبالإضافة لكوبا تتابع صعود اليسار ليشمل البرازيل, الإكوادور, وفنزويلا, الأورغواي الأرجنتين, بوليفيا وتشيلي. وكانت أقوي هذه الضربات فوذ دانيال أورتيقا العدو اللدود لأمريكا والذي بذلت أمريكا كل الجهود كي لا يصعد للحكم مرة أخري والذي توج فوزه الأنتصارات المتتالية لليسار في أمريكا اللاتينية فكان أول إعلان له قرار إنضمام نيكاراغوا الي "البديل البوليفي للأمريكتين" الذي ضم بلدان المد اليساري الجديد في أمريكا الجنوبية. تحولت بذلك دول هذه المنطقة من موقف التابع المنفذ لمشروع النظام العالمي الجديد الي المقاوم للسياسات الأمريكية. ولترسيخ هذه المقاومة وُقعت أتفاقية لأنشاء بنك الجنوب الذي سوف يقدم القروض لكل دول أمريكا الجنوبية دون شروط الأذلال والتبعية التي يمارسها البنك الدولي لفرض "روشتة" أسلوب الإقتصاد الرأسمالي والسير في ركب توجهات الإقتصاد الأمريكي الذي يسيطرعلي قراراته. وأشارة تعتبر ذات أهمية هنا أن صعود اليسارفي المنطقة جاء عن طريق الديمقراطية التي تتحجج بها أمريكا بطرحها بديل النظام العالمي الجديد.

واقع جديد واجه مشروع النظام العالمي الجديد وهوفقدان الآلية العسكرية الأمريكية هيبتها بصعود قوي عسكرية جديدة وقفت في وجه التحدي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط والذي كان يعتبر منطقة مقفولة للتبعية الأمريكية. وقفت إيران في وجه ضغوط منظومة الدول الرأسمالية بأكملها, ويشهد العالم كل يوم تجربة تظهر التقنية العالية التي وصلت اليها إيران عسكريا كما قاومت كل المحاولات ضد إستمرار برنامجها النووي. كذلك قادت إيران محور جديد كان نتاج مباشر للتهديد الذي يشكله الوجود الأمريكي في المنطقة. لم يشهد التاريخ حلفا ضم السنة والشيعة كما يحدث اليوم في فلسطين ولبنان وايران. بل تمدد المذهب الشيعي ليصل مناطق لم تعرف وجودا لهذا المذهب من قبل كمصر ودول الخليج العربي (بأستثناء العراق). وهذا المحور يشكل حاجزا ثقافيا سياسيا وعسكريا في وجه النظام العالمي الجديد كذلك إنضمت كوريا الشمالية لهذا المحور والذي تسميه الإدارة الأمريكية بمحور الشر.فظهرت كوريا الشمالية كمهدد صعب المراس علي كل الآليات الأمريكية لفرض الطاعة فلم يفلح الحصارالإقتصادي ولا إغراءت المساعدات الجزيلة في رد هذه الدولة, التي تعتبر صغيرة بكل المقاييس الأمريكية, عن برنامجها العسكري النووي الذي يعتبر شوكة في خاصرة النفوذ الأمريكي التاريخي في منطقة الشرق الأوسط والأقصي.
وما لم يكن بالحسبان أن تشمل العوامل المقاومة لمشروع النظام العالمي الجديد أكثر الجباه التي كان من المتوقع تبنيها له و دعمه. فإنطلقت من أوربا أولي فعاليات الحركة المناهضة للعولمة من مدينة جنوة بإيطاليا, كما تنامت في أوربا الحليف الإستراتيجي لأمريكا والداعم لسياساتها نزعة أعادة الإعتبارللسيادة الوطنية وأُستنفرت العقيدة الديجولية التي كانت دائما رافضة لتبعية القرار الأوربي لأمريكا فقد تبني الرئيس ساركوزي رغم مواقفه المؤيدة للإدارة الآمريكية في بداية عهده هذه الوجهة وحمّل النظام المصرفي الأمريكي مسؤولية الأزمة المالية العالمية فهاجم نظام السوق الحرة وطالب بأقامة نظام دولي مالي جديد. وبما يشبه الإجماع علي موقفه إتخذت دول الإتحاد الأوربي قرارها بتكليف ساركوزي بنقل تصورها حول الأزمة المالية الي الرئيس الأمريكي بوش. وأنتقلت عدوي الرفض للتغول الأمريكي الي ألمانيا فكانت الأزمة التي تتعرض لها شركة جنرال موتورز الأمريكية مناسبة لتعلن فيها المستشارة الألمانية ميركل عن رفضها للهيمنة الأمريكية فرفضت علانية بقاء شركة أوبل الألمانية جزءا من جنرال موتورز وأكدت أن دعم حكومتها لشركة أوبل لن يتم إلا في حال إنفصالها عن جنرال موتورز. وتصريحها "الشركة التي تمول في أوروبا ينبغي أن تظل في أوروبا" يعبر عن أستراتيجية جديدة قوامها فك الإرتباط بالإقتصاد الأمريكي. وما يعتبرأتهاما للإقتصاد الأمريكي بالتسبب بالأزمة العالمية دعت ميركل لإنشاء مجلس إقتصادي تابع للأمم المتحدة لمراقبة الإقتصاد العالمي. وقدذهبت ميركل الي أبعد من ذلك ففي منتدي دافوس أقترحت تغيير النمط الرأسمالي إلى نموذج وسط أو طريق ثالث بين الإشتراكية والرأسمالية. كذلك فإن أزمة الأقتصاد الأمريكي إنعكست سلبا علي أوربا, كما تحملت محافظ الائتمان في أوربا عبئا كبيرا بتقديم السند للإقتصاد الأمريكي إبان الأزمة. وبرغم الخلاف الفرنسي الألماني حول الدعم لخطط الإنعاش الأوربية الذي تعارضه ألمانيا فقد تم مؤخرا الإتفاق بين فرنسا وألمانيا علي خطة أوربية تدعو لسياسة صناعية جديدة تدعم الإنعتاق من التبعية للسياسات الأمريكية كما تضمنت الخطة إقامة مقرمنفصل للدفاع الأوربي.
يضاف لكل ما سبق تراجع دورالمحافظين الجدد وأن الإدارة الأمريكية الجديدة غير متحمسة لهذا المشروع لكن بوادر تراجعه كانت واضحةحتى قبل مجيئ هذه الإدارة للحكم. لم يكن مشروع النظام العالمي الجديد هو أول آلية جربتها الرأسمالية لمعالجة عيوبها من جهة و لفرض الهيمنة علي موارد العالم من جهة أخري فقد سبقته أشكال عديدة منذ نشوء الإحتكارعبر نظام الكارتيلات والتروستات وقد سقطت جميعها وستستمر مخططات الهيمنة إلي فشل لتناقضها مع المصلحة الحقيقية لشعوب العالم ويستمرهذا الصراع موازيا لصراع التناقضات داخل النظام الرأسمالي وحتي إنهياره.