من هي قوى التغيير – 4


ابراهيم علاء الدين
2009 / 9 / 26 - 10:08     

عرضت في الجزء الثالث من هذا البحث وجهتي نظر المادية التاريخية والمثالية (العقلانية) بالنسبة للتطور التاريخي للمجتمعات، واشرت الى ندرة التجارب التي قامت على اساس ان (الافكار هي العامل الحاسم في التطور) وان بعضا من المحاولات التي قامت على ذاك الاساس انتهت الى الفشل، بل وانبتت الديكتاتورية، واضيف ان اصحاب الخطاب الفكري غالبا ما يؤكدوا على الدور الحاسم للزعيم، ويعطوه دورا مركزيا في نجاح الثورة والتغيير، ووصلت المبالغة ببعضهم الى اعتبار الزعيم ملهما للجماهير، واعطته النظم الاقطاعية الديكتاتورية الاستبدادية من الاوصاف مما جعله نصف اله على الاقل.
واواصل في هذا الجزء المضي في محاولة الاجابة على السؤال المركزي والذي وضعته عنوانا للبحث وهو "من هي قوى التغيير" فاستعرض عددا من الوقائع التاريخية كي ادلل على دور الواقع المادي في صناعة المعرفة "بمعنى الوعي" تمهيدا للانتقال الى تفسير كيف انجب المجتمع الاقطاعي مفكريه وعلمائه ومثقفيه ومن ثم متابعة عدد من القضايا الفكرية ذات الصلة حتى يتم الوصول الى تقديم برامج عملية واقعية يمكنها المساهمة بتحقيق عملية التطوير والتغيير بعد الكشف عن من هي القوى "المجموعة البشرية" التي تقوم بالتغيير.
ومن الضرورة بمكان ان اعود لأؤكد على العلاقة الجدلية والترابط الدياكتيكي بين البنيتين التحتية والفوقية، كي لا يبذل البعض مجهودا في لفت نظرنا الى ترابط البنيتين والادوار المتبادلة في تطوير كل منها للاخرى.
يقول تروتسكي بهذا الشأن " ان الدياليكتيك ليس خيالا ولا تصوفا، وهو والمنطق الصوري يرتبطان بعلاقة كتلك التي بين الرياضيات العالية والبسيطة، . وأن التغيرات الكمية لما بعد حدود معينة تتحول إلى تغيرات كيفية (نوعية)، وأن تحديد النقطة الحرجة التي يتغير عندها الكم إلى كيف في اللحظة الصحية هي واحدة من اهم و أصعب المهام في كل حقول المعرفة بما فيها علم الإجتماع".
ويضيف " المنطق الدياليكتيكي ينبثق من بديهية أن كل شيء يتغير، وهو يحلل كل الأشياء والظواهر في تغيرها المستمر".
ويرى تروتسكي "ان الخلل الأساسي في الفكر الدارج يقع في حقيقة أنه يتمنى أن يقنع نفسه بسمات ساكنة لواقع يتكون من حركة أبدية" .
واكد تروتسكي على مادية الديالكتيك " طالما أن جذوره ليست في السماء ولا في عمق "إرادتنا الحرة " و لكن في الواقع الموجود في الطبيعة . و ينشأ الوعي من اللاوعي ، وعلم النفس من علم وظائف الأعضاء، والعالم العضوي من العالم غير العضوي، والنظام الشمسي من السديم".
وقال " وَفٌٌُُُكرُنا بما فيه الفكر الدياليكتيكي هو فقط واحد من أشكال التعبير عن المادة المتغيرة. هناك مكان داخل هذا النظام لكنه ليس الشيطان أو الروح الخالدة، أو النماذج الأبدية للقوانين والأخلاق. لقد نشأ دياليكتيك التفكيرمن دياليكتيك الطبيعة وهو يكتسب بناء على ذلك شخصية مادية تماما . وكما نرى فان المنهج الديالكتيكي لا يحتوي على أي شيء ميتافيزيقي او لا هوتي،
(المرجع : الدفاع عن الماركسية 1939 – الحوار المتمدن).

ولاننا على قناعة كبيرة بان الواقع المادي يفرز اجباريا معرفته الخاصة – الوعي – وان المعرفة تبدد الخوف والحيرة والقلق، وتضيء الطريق بنور يمًكن السائرين فيه من رؤية ادق تفاصيل الاشياء، لتعود فتنعكس على الواقع المادي، فسوف نستخدم هذا المنهج في دراسة ابرز محطات التطور التاريخي في العصور الوسطى في المنطقة التي تعرف تاريخيا بالبلاد الاسلامية وفي مركزها البلاد العربية، باعتبارها شكلت حلقة الوصل بين الحضارات القديمة والحضارات الحديثة.
وذلك كي نبين بان ما حققته الحضارة الاسلامية من انجازات في مختلف الميادين كان نتيجة للتطور المادي في الواقع وليس لاعتبارات ميتافيزيقية مثالية تقوم على الفكر الديني اللاهوتي، بل من منطلق المصلحة المادية المباشرة وبالتعامل مع الواقع المادي المباشر. وذلك كمقدمة لنبين لاحقا ان الحضارة الغربية الحديثة هي ايضا كانت نتيجة طبيعية للتطورات المادية في ارض الواقع ولم تكن نتيجة لحركة فكرية بمواجهة الفكر اللاهوتي الكنسي.

وسوف اتناول في هذا الباب الدولة الاموية والدولة العباسية كنموذجان للدولة الاقطاعية (في الشرق) لاعرض بإيجاز كيف تبلورت البنية التحتية والفوقية في الدولة التي قامت في البلدان العربية والاسلامية في القرون الوسطى، وعاشت خلالها المنطقة ما يمكن ان يطلق عليه "عصر الانوار الاسلامي" كما قال الدكتور برهان غليون، فيما كانت اوروبا الاقطاعية ترزح في "عصر الظلام" .

ويبدأ تاريخ الحضارة الاسلامية بشكل واضح منذ تأسيس الدولة الاموية عام 662ميلادية 41 هجرية.
وكما هو معروف ان معاوية بن ابي سفيان مؤسس الدولة الاموية ينتمي لاكبر الاسر القرشية بني امية فهو ابن سيد قريش واكبر تجارها صخر بن حرب (ابو سفيان)، وقد ولاه عمر بن الخطاب ولاية الشام بعد موت اخيه يزيد بن ابي سفيان بما يسمى طاعون عمواس.
وكما تشير الدراسات التاريخية ودون الدخول بالتفاصيل حتى لا نبتعد عن غرض البحث ان معاوية الذي يصفه المؤرخون بانه من أعظم دهاة العرب في ذاك العصر، ادرك وهو ابن التاجر الاكبر بين العرب ان القوة الاقتصادية والخيرات المادية في بلاد الشام تميزها بشكل لا يقبل ذرة من الشك عن شبه جزيرة العرب الصحراوية المقفرة، (وتجدر الاشارة هنا الى ان سوريا كانت تعتبر مع مصر سلتي الغذاء للامبر اطورية الرومانية اي المورد الاقتصادي الاساسي)، اذن فمعاوية يدرك ان من تكون له السيطرة على الشام ستكون له السيطرة على كل بلاد المسلمين.
ولذلك تمسك بالولاية عليها رغم كل محاولات علي بن ابي طالب عزله عنها، واعطائه بدلا منها ما يختار ويرغب، الا انه رفض رفضا قاطعا، بل طالب علي بالتخلي عن الخلافة متذرعا بدوره في مقتل عثمان (الاموي) وقال له قولته المشهورة مخاطبا علي بن ابي طالب " انتم بني هاشم سلبتم السلطة من بني حرب 40 سنة.. وهذه بضاعتنا ردت الينا"، فكانت الحرب بينهما وانتهت بانتصار معاوية، ليؤسس بعدها دولة عاصمتها دمشق حكمتها عائلته حوالي 90 سنة، وقال عنها المؤرخون بانها "كانت اول دولة عربية نقية خالصة في التاريخ، .. وكانت الاخيرة".
اذن هاهم الامويين ينقلوا مركز الدولة الاسلامية من المدينة الى دمشق قلب بلاد الشام، ذات التاريخ الممتد في اعماق الزمن، شهدت خلاله عشرات الحضارات المحلية وكانت ارضها مهبطا للديانتين السماويتين اليهودية والمسيحية، وعاصرت وتفاعلت مع كافة الحضارات العالمية وعلى الاخص اليونانية والاشورية والبالبلية والاكدية والفارسية والهندية، وطبعا الحضارة المصرية.
وكانت بلاد الشام بلاد زراعية بامتياز توفر للامبراطورية الرومانية الى جانب مصر المورد الغذائي الاساسي والذي يعتبر في النظام الاقطاع عصب الاقتصاد.
فهاجر اليها كل سادة قريش والجزيرة وكبراء الصحابة وسادة القبائل وكانت هجرة من اكبر الهجرات العربية من جزيرة العرب الى بلاد الشام ومنها الى بلاد اخرى في وقت لاحق مع الفتوحات الاسلامية.
اذن ها نحن امام دولة اقطاعية تحكمها سلطة ثيوقراطية على راسها معاوية بن ابي سفيان كخليفة خامس للمسلمين يستمد مشروعيته وشريعته من الله، وبدأ يتعامل مع الواقع المادي الجديد باتجاه تسخيره بكل مكوناته لتحقيق اهداف السلطة وفي مقدمتها بناء الدولة وتثبيت السلطة. وتوفير الاحتياجات المطلوبة لتحقيق ذلك باستغلال كافة الطاقات البشرية المتوفرة انذاك دون اي اعتبار للانتماء الديني، او العرقي، وانما الشرط الوحيد هو الولاء للسلطان الجديد.
ورغم المصاعب السياسية الكبرى التي واجهت الامويين وما تطلبته من جهود للقضاء على المعارضين من قوى وفرق وجماعات سياسية، الا انهم تمكنوا من توسيع دولتهم بشكل هائل غير مسبوق في التاريخ لأي حضارة من حضارات بلاد العرب، من خلال القيام بما يسمى بــ "فتوحات اسلامية - هي عملية غزو من وجهة نظري" فبنوا دولة مترامية الاطراف امتدت من حدود الصين في الشرق الى اسبانيا وجنوب فرنسا في الغرب وبحر قزوين في الشمال حتى المحيط الهندي في الجنوب.
وفي الوقت الذي كانت الدولة (بمعناها السياسي) وقادتها العسكريون (قادة الفتح) وجيوشها (جزء كبير من القوى العاملة) منشغلة باقصى درجات الانشغال، بالحروب والفتوحات، ويفترض ان تضع الدولة في مثل هذه الظروف كل طاقاتها وامكانياتها للمجهود الحربي (العسكري) كما يفترض ان فترة الحروب هي فترة عدم استقرار سياسي واقتصادي، لكن الامر لم يكن كذلك في العصر الاموي في الجزء الاكبر منه، حيث كانت تجري الحروب في مناطق بعيدة عن مركز السلطة حتى الثورات والحركات السياسية المناهضة الداخلية جرى معظمها في العراق وفي بلاد فارس.
ولما كانت الفتوحات الاموية كما هي كل الفتوحات الاستعمارية في التاريخ تمثل الاهداف الاقتصادية الاهداف الرئيسية لها، فان هذه الفتوحات عادت بثروة هائلة على "بيت مال المسلمين (الخزينة العامة للدولة) مما وفر لها امكانيات اقتصادية ضخمة سخرت جزءا كبيرا منها في تطوير البنية التحتية للدولة الجديدة.
وكانت الدولة الاموية قد ورثت من الخلافة الراشدة مساحات شاسعة من الارض ومقدراتها وفي مقدمتها الزراعة (كافة مقدرات بلاد الشام ومصر والعراق والجزء الاكبر من بلاد فارس) مما وفر لخزينة الدولة موارد مالية ضخمة من خلال النظام الاقتصادي حسب سنن النبي وخلفائه والذي يشتمل على (الخراج, الجزية, الزكاة, الفئ, الغنيمة, العشور, الأوقاف)، سخرت جزءا منها لفتح بلاد جديدة للحصول على المزيد من الموارد (أي ظل الدافع دوما اقتصاديا حتى لو غلف نفسه زروا باسم الجهاد لنشر الدين) وكلما توسعت الفتوحات وسيطرت على المزيد من الدول والشعوب ازدادت موارد ومداخيل الدولة وارتقت قدراتها الاقتصادية.

اذن واستنادا لهذا التحليل نكون امام واقع مادي ملموس يشير الى وجود دولة فتية شابة تقودها عائلة من اعرق السلالات التجارية تعيش اوضاعا سياسية مستقرة في المركز (بلاد الشام) وفي الساحة الرئيسية المركزية التي تليها في الاهمية (مصر) وتمتلك مقدرات مالية ضخمة، ووضع اقتصادي متين ، يزداد متانة وقوة مع كل توسع جديد، بفتح بلاد جديدة، اذاً كان لا بد لهذه الدولة من توفير البنية الفوقية الملائمة لادارة هذه الامبراطورية بما يتناسب مع البنية التحتية الواقعية وبما يوفر الامكانات للارتقاء بهذه البنية (الترابط الجدلي وتأثير كل واحدة في الاخرى).
ومنذ البداية ادرك اركان الدولة الجديدة (العائلة التجارية بامتياز) وعلى راسهم الخليفة معاوية انه لا بد من تطوير البنية الفوقية "مؤسسات الدولة" الاجهزة الادارية والدواوين (الوزرات) والقوانين والنظم التي تتناسب مع الاوضاع الجديدة، واشتملت هذه الاجراءات على ما يلي:
1 - تثبيت اركان الدولة فقضى على منافسيه زعماء بني هاشم (علي ثم ابنه الحسين)
2 – قضى على منافسيه (الخوارج).
3 - أنشأ "دار الحكمة" كاول مركز للابحاث في تاريخ الاسلام كانت مهمته صياغة القوانين وفق "الشريعة" و كان قوامها القرآن وتفسيره ، والحديث وشرحه والفقه وأصوله ، والتاريخ والسير، والمغازي واللغة العربية وآدابها .. الخ .
4 – انشأ ديوان الجند وبنى جيشا اعتبر الاقوى في ذاك العصر، وبنى اول اسطول في تاريخ الاسلام.
5 – توفير الامن للسلطة فأنشأ ديوان الشرطة، كما انشأ اول جهاز للمخابرات الداخلية والخارجية.
6 – انشأ المؤسسات الادارية ومن اهمها "ديوان البريد" (أي شبكة الاتصالات في وقتنا الراهن)، كما أنشا "ديوان الخاتم" وهو يشبه إدارة الأرشيف في الدول الحديثة، وانشأ ديوان الرسائل، واوجد نظام الكتبة فعين كاتبا لديوان الرسائل واخر لديوان الخراج وثالث لديوان الجند، ورابع لديوان الشرطة، وخامس لديوان القضاء.

واذا كان بعض المؤرخين يعتبروا معاوية ثاني اعظم قائد أو حاكم في تاريخ العرب والمسلمين بعد عمر بن الخطاب، بل ان بعضهم يقدمه على عمر ويعتبره الباني الحقيقي لدولة الاسلام التي استمرت نحو 14 قرنا. الا ان الدور الذي قان به خلفائه من بني امية لا يقل عن دوره سواء في ما انجزوه من فتوحات او تطوير الاقتصاد او تطوير البنية الفوقية في الدولة.

وبعد خمس سنوات وثلاث خلفاء شهدت خلافتهم نوعا من عدم الاستقرار السياسي جاء الخليفة عبد الملك بن مروان الذي حكم هو الاخر 20 عاما ليكمل ما بدأه معاوية في تطوير المؤسسات الفوقية فقام بتعريب دواوين الخراج التي كانت تستخدم اللغة الفارسية في العراق وبلاد فارس واللغة اليونانية في مصر، وذلك بعد توفير الكوادر البشرية العربية من خلال تعلم اللغتين الفارسية واليونانية وامتلاك الخبرة في الشؤون المالية والاقتصادية .
وقام بعمل اكثر اهمية من تعريب الادارة المالية وهو تعريب العملة، حيث كانت الدولة الاسلامية حتى عهده تستخدم الدينار البيزنطي في تعاملاتها المالية، وانشأ مؤسسات لسك النقود في الشام والعراق.
وانعكس الازدهار الاقتصادي على كافة مظاهر الحياة في الدولة الاموية فتم بناء القصور الفخمة والبيوت الانيقة والمدارس والجامعات والمستشفيات والمساجد والجسور والقناطر .
وتم ربط اجزاء الامبراطورية المترامية الاطراف بشبكة من الطرق المعبدة ومركزها دمشق العاصمة، وذلك لتسهيل حركة الجيوش، ولتسهيل تأدية فريضة الحج. ولخدمة البريد، والتنقل بين "الامصار" وانتشرت على امتدادها التجمعات السكانية والتي اصبحت فيما بعد مدنا او قرى جديدة، كما انتشرت الاسواق والاستراحات على جوانبها.

وهذا النمو والتطور في مختلف جوانب الحياة في الدولة الجديدة لم يكن نتيجة لصورة رسمها خيال فنان مبدع او عالم جليل حلل التركيبة الكيميائية لذرات الدول..!! او فيلسوف قابع في برجه العاجي يتأمل في السماء ..!! بل كان نتيجة حتمية واستجابة منطقية عملية لواقع مادي ملموس انجب قادته وزعمائه ومفكريه ومهندسيه وبنائيه وصناعه وتجاره وقطعا انتج علمائه وفلاسفته ورواده من الادباء والشعراء والرسامين والراقصات والمطربين.

وللحديث بقية (5) لنرى ببعض التفصيل هذا الانتاج في مختلف الميادين وذلك في سياق البحث عن من هي القوى التي تقوم بالتغيير ..؟؟

ابراهيم علاء الدين
[email protected]

ملاحظة : لم انتبه الى عدم وضع المراجع في نهاية الاجزاء السابقة .. حيث انها موجودة في نهاية البحث كما تجري العادة .. فالرجاء الا يعاتبنا البعض لعدم ذكرها في نهاية كل جزء حتى لا يكون هناك تكرار
مع شكري للجميع