ماركس والماركسية


محمد المثلوثي
2016 / 5 / 5 - 16:29     

تمهيد: يندرج هذا النص في إطار النقاش حول بعض النصوص التي نشرها أنور نجم الدين في فضاء الحوار المتمدن وفضاء الملحدون العرب. وإنني إذ أصل إلى نفس النتائج التي وصل إليها أنور نجم الدين فإنني قد حاولت إنارة الموضوع من الزوايا التي بدت أنها تحتاج إلى مزيد التوضيح مع الرد الضمني أو المباشر على الردود التي تقدم بها السيد المغربي في فضاء الملحدون العرب.
حول الماركسية:
من المفارقة أن الماركسية كمصطلح وكفلسفة كانت قد ولدت وتحولت إلى إيديولوجية رسمية للاشتراكية الديمقراطية الألمانية والروسية بينما أهم كتابات ماركس لم تنشر للعموم. يقول ماكسيميليان روبل "إن انتصار الماركسية كمذهب دولة وكإيديولوجية كان قد سبق بعقود نشر الكتابات التي عرض فيها ماركس بكل وضوح وكمال الركائز العلمية والاتجاهات الايتيقية لنظريته الاجتماعية" فكتب مثل (الإيديولوجية الألمانية) و(موضوعات حول فيورباخ) و(الكتاب الثالث من رأس المال) و(المخطوطات الباريسية) و(الغروندريسة) و(موضوعات حول فيورباخ) و(الثامن عشر من برومير لويس بونابارت) كلها لم تنشر إلا بعد الثلاثينيات من القرن العشرين، أي بعد أكثر من أربعة عقود من ظهور الماركسية . لا بل أن أعمال ماركس نفسها قد بقيت غير مكتملة، فنحن نعرف أن ماركس قد وضع في مخططه لنقد الاقتصاد السياسي كتابة فصل حول التجارة الخارجية وفصل حول السوق العالمية وفصل آخر حول الدولة، لكن لم يتسن له ذلك. فكيف يمكن تفسير هذه المفارقة لفلسفة (الماركسية) تولد وتنشأ وتترعرع بل وتتحول إلى الفلسفة الرسمية لثاني قوة في العالم (الاتحاد السوفييتي) بلا أية علاقة بمن هو مفترض أنه مؤسسها، أي ماركس، هذا الأخير الذي أعلن بكل وضوح في مقولته الشهيرة "كل ما أعرفه أنني لست ماركسيا" أن لا علاقة تربطه بهذه الفلسفة.
هذه المفارقة تكشف بوضوح أن الفلسفة الماركسية وماركس شيئان مختلفان لا تربطهما علاقة إلا تلك التي ينسبها لهما الماركسيون أنفسهم. هذا من جهة ومن جهة أخرى فان السؤال يطرح حول إذا ما كان مبررا من وجهة نظر المنهج المادي التاريخي الذي اعتمده ماركس أن ننسب المنهج للأشخاص فنقول مثلا بدل المنهج العلمي، المنهج النيوتني (نسبة لنيوتن) أو المنهج الأينشتيني (نسبة لأينشتين) برغم أن إسهامات هذين العالمين مثلت منعرجات مهمة في تطوير هذا المنهج، وهل يمكن أن نعيد المنهج العلمي لهذا العالم أو ذاك أم نعيده لمجال بحثه كعلوم الفيزياء والكيمياء...الخ
في الواقع يمكن إرجاع ظهور الماركسية كفلسفة لأنجلز سواء من خلال بعض مؤلفاته مثل (ديالكتيك الطبيعة) و (أنتي دوهرينغ) أو من خلال تزكيته (خاصة في آخر حياته) للاشتراكية الديمقراطية الألمانية وتردده في الموقف من تداول مصطلح الماركسية في زمنه. لكن الماركسية يمكن إرجاعها بشكل رسمي لكاوتسكي الذي كان المترجم الرسمي لأعمال ماركس والراعي لمخطوطاته بعد صراع مرير مع الروس حول الوصاية على تلك المخطوطات، وكان كذلك الشارح الرسمي لماركس بحيث أن أجيالا متعاقبة من البروليتاريين لم تكن صلتهم بماركس إلا بقدر صلتهم بكاوتسكي وبواسطة مؤلفاته التي كانت أكثر تداولا من مؤلفات ماركس نفسه. ولقد واصل بليخانوف مهمة بناء الفلسفة الماركسية من خلال ترجماته وشروحاته التي بسط فيها الخطوط العريضة للفلسفة الماركسية والتي سيرثها لينين مع بعض التعديلات الجزئية في علاقة بتبرير بعض التكتيكات السياسية.
إن هذه المعاينات التاريخية تثبت في الواقع أن الفلسفة الماركسية يمكن ردها لكاوتسكي، بليخانوف، لينين...الخ وليس لماركس، وان النقد الذي يمكن أن نوجهه للفلسفة الماركسية لابد أن ينطلق من التعارض بينها وبين منهج ماركس (المادية التاريخية). ومن هنا يتضح خطل الاعتراض المبدئي الذي يقدمه السيد المغربي على مبحث أنور نجم الدين في مؤلفه (التناقض بين المادية التاريخية والماركسية) (1)، هذا الاعتراض الذي يحاول الإيهام بأن الماركسية كانت حقا من إنتاج ماركس، وأنه لا يمكن الفصل بين الفلسفة الماركسية وماركس، وأن كل من يثير السؤال حول هذه العلاقة (التي لا يمكن إلا أن تكون تناقضية) يسقط بالضرورة في التناقض، هذا إذا لم توصف أفكاره بالهرطقات والتشويه...الخ.
لكن إذا ما كانت المعطيات التاريخية التي استعرضناها، والتي يمكن اعتبارها شكلية نوعا ما، تؤكد أن لا علاقة مباشرة بين ماركس والماركسية، فإننا نحتاج لمزيد دفع البحث لتبيان التناقض بينهما، وهذا بالضبط ما حاول القيام به أنور نجم الدين من خلال محورين رئيسيين سنحاول التعرض لهما بشكل منفصل:
التناقض بين ماركس والفلسفة وبينه وبين الفلسفة الماركسية تخصيصا:
يقول ماركس "على عكس الفلسفة الألمانية التي تنزل من السماء إلى الأرض، فإننا نصعد من الأرض إلى السماء" (الإيديولوجية الألمانية) يرسم هنا ماركس ومنذ كتاباته الأولى خط التمايز عن الفلسفة عموما وعن ممثلها الأخير (الفلسفة الألمانية) . فالفلسفة عموما تقوم على ثنائية عالم الوعي وعالم المادة، حيث لكل منهما تاريخه الخاص، وحتى إن وصلت ما تسمى بالفلسفة المادية إلى القول بأسبقية عالم المادة عن عالم الوعي على نقيض الفلسفة المثالية التي تقول بأسبقية الوعي عن المادة، فإنها لم ترى في العالم المادي إلا في صورة المادة الفيزيائية، ولم ترى في الوعي إلا كعلاقة فردية معزولة لا نشاطا اجتماعيا تاريخيا، يقول ماركس: " إن النقيصة الرئيسية في المادية السابقة بأسرها - بما فيها مادية فوربا خ- هي أن الشيء (Gegenstand), الواقع , الحساسية, لم تُعرض فيها إلا بشكل موضوع (Objekt) أو بشكل تأمل (Anschauung), لا بشكل نشاط إنساني حسيّ , لا بشكل تجربة , لا من وجهة النظر الذاتية. " هكذا يتبين أن منهج ماركس لم يكن في تناقض مع الفلسفة المثالية فحسب بل في تناقض مع المادية القديمة، بل إن تناقضه مع هذه المادية هو ميزته الأساسية، ذلك أن ما برز مع ماركس ليس القول بأسبقية المادة عن الوعي بل إلغاء تلك الثنائية الفلسفية: مادة/وعي، يقول ماركس: "إن الوعي لا يمكن أن يكون إلا الكائن الواعي، وكينونة الناس هي مسار حياتهم الواقعية" ويقول "إن وعي الإنسان هو مجموع علاقاته"، فالوعي والحياة المادية للبشر ليسا شيئان منفصلان بل يشكلان وحدة بلا انفصام. وليس غريبا هذا التناقض بين المادية القديمة ومادية ماركس التاريخية ، إذ فيما تمثل الأولى تعبيرا عن صراع الطبقة البورجوازية في مواجهة الايدولوجيا الإقطاعية ممثلة في الفلسفة المثالية والدين، فان الثانية تمثل صراع البروليتاريا في مواجهة البورجوازية، يقول ماركس:" إن وجهة نظر المادية القديمة هي المجتمع البورجوازي، ووجهة نظر المادية الجديدة هي المجتمع البشري أو البشرية التي تتسم بطابع اجتماعي"(موضوعات حول فيورباخ)، وفي نقده لمادية فيورباخ يؤكد ماركس على أنها لم تتجاوز حدود الفلسفة نفسها، فمثلما أن الفلسفة لم تكن تبحث عن سر وجودها في الواقع الاجتماعي بل في تاريخ وهمي للأفكار فان النقد الذي جابهت به مادية فيورباخ هذه الفلسفة لم يقف على أرض نقيضة، يقول ماركس: "حتى في آخر محاولاته، لم يخرج النقد الألماني عن أرض الفلسفة. إذ لم يدر في ذهن أي من هؤلاء الفلاسفة أن يتساءل عن الرابطة بين الفلسفة الألمانية والواقع الألماني، بين نقدهم وواقعهم المادي الخاص"(الايديولوجية الألمانية).
هكذا يتبين أن منهج ماركس قام على نقد المنهج الفلسفي عموما باعتباره منهجا تأمليا، وبصفة خاصة على نقد منهج المادية الفيزيائية (الطبيعية) الذي لم يتخلص من تلك الثنائية الفلسفية بين الوعي والمادة ولم يرى للطبيعة كوجود تاريخي كما لم يرى في الوعي نشاطا اجتماعيا ماديا. أما بالنسبة للفلسفة الماركسية فان منهج ماركس هو تطوير للجدل الهيغلي ولمادية فيورباخ، يقول لينين: " وقد ولد مذهبه( ماركس) بوصفه التتمة المباشرة الفورية لمذهب أعظم ممثلي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية..... وهو الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الإنسانية في القرن التاسع عشر: الفلسفة الألمانية، الاقتصاد السياسي الانجليزي، والاشتراكية الفرنسية." ويقول أيضا " وقد عمق ماركس المادية الفلسفية وطوّرها، فانتهى بها إلى نهايتها المنطقية ووسع نطاقها من معرفة الطبيعة إلى معرفة المجتمع البشري". طبعا ليس الموضوع موضوعا لغويا مثلما طرحه السيد المغربي (هل كان ماركس مطورا أم ناقدا للفلسفة)، في الواقع فماركس لم ينقد الفلسفة من داخل الفلسفة نفسها، أي بمنهج فلسفي، بل قد وقف على أرض نقيضة، على أرض المنهج المادي التاريخي، لذلك لم يكن مشروعه إقامة مدرسة فلسفية جديدة، أو مذهب فلسفي جديد، بل نقد الفلسفة كتعبير عن درجة من درجات تطور المجتمع الطبقي وعن تقسيم العمل القائم على الفصل بين العمل اليدوي والعمل الذهني، هذا النقد الشامل ما كان ممكنا بدون توفر الشروط التاريخية لظهوره، ظهور الطبقة الاجتماعية التي تحمل في برنامجها التاريخي القضاء على الطبقية وعلى التناقض بين العمل اليدوي والعمل الذهني، أي القضاء على الأساس المادي لكل فلسفة. لهذا فان مصطلح "الفلسفة الماركسية" نفسه هو مصطلح متناقض إذ هو ينسب لماركس ما كان هذا الأخير يناضل ضده طيلة حياته. فمشروع ماركس الذي كان سطره لكتابة سلسلة من الكراريس يعرض فيها منهجه كانت كلها تحت عنوان واحد: النقد. يقول ماركس: "سوف أعرض بالتتابع في شكل كراريس مستقلة: نقد الحق، نقد الأخلاق، نقد السياسة...الخ"(مخطوطات 1844) ورغم أنه لم ينجز مشروعه مثلما سطر له، فان أغلب مساهماته كانت بالفعل تحت عنوان: النقد، وليس غريبا أن أضخم مؤلفاته (رأس المال) كان يحمل العنوان الفرعي: نقد الاقتصاد السياسي.
لقد مثل ظهور الفلسفة الماركسية محاولة لإعادة الروح للمنهج الفلسفي المتفسخ وذلك بالعودة إلى الثنائية الميتافيزيقية بين الوعي والمادة تحت عباءة ما يسمى بالفلسفة المادية. وتنطلق الفلسفة الماركسية من منهج تطوري، فمثلما أن التاريخ، بالنسبة لها، هو خط صاعد من التطورات، كل ما يعقب هو تطوير لما سبق، فان للأفكار ايضا تاريخ خاص من التطورات. ومادامت الرأسمالية، من وجهة النظر هذه، هي تطوير للإقطاعية والاشتراكية هي تطوير للرأسمالية، فان المادية التاريخية هي تطوير لمادية فيورباخ، وفيورباخ تطوير لمادية هيغل...الخ، بل إننا نستطيع، بهذا المنهج، إعادة المادية التاريخية إلى المادية اليونانية. فمثلما أن الاشتراكية بالنسبة للينين هي تطوير الصناعة وقوى الإنتاج وتطوير الإنتاجية في العمل وإدماج التكنولوجيات الحديثة من أجل إنتاج كمية أكبر من البضائع، أي تطوير مراكمة رأس المال تحت إشراف عمالي، مثلما أن المادية التاريخية، بالنسبة له، هي تطوير للمادية البورجوازية وتجذير لها.
ولو عدنا بأكثر تدقيق لمنهج ماركس فإننا سنكتشف بسهولة أنه متناقض تماما مع المنهج الفلسفي ومع المادية القديمة. لكننا سنرجئ عرضنا للتعارض بين ماركس والمادية القديمة وسنركز على تعارضه مع الفلسفة:
ينطلق المنهج الفلسفي عموما من مقدمات عقلية (قوانين الديالكتيك بالنسبة لهيغل مثلا) محاولا من خلالها التعرف على العالم الواقعي، أي أنه ينطلق من تجريدات عقلية لتفكيك العناصر التاريخية، أو مثلما يقول السيد المغربي بأن ماركس يستعمل ديالكتيك هيغل كمقدمة لدراسة الاقتصاد الانجليزي (وهو يعترف بأن ديالكتيك هيغل كان قد نشأ من خارج هذا النظام الاقتصادي، أي من خارج التطور الفعلي للرأسمالية موضوع دراسة ماركس). أما بالنسبة لماركس فان المقدمات التي ينطلق منها هي الوجود المادي للبشر، أي نشاطهم الواقعي (إنتاج حاجاتهم المادية، المبادلة...الخ) يقول ماركس: "المقدمات التي ننطلق منها ليست اعتباطية وليست دوغمات، إنها الأساس المادي الذي لا نستطيع أن نجرده إلا في المخيلة. إنهم الأشخاص الواقعيون ونشاطهم وشروط وجودهم المادي سواء تلك التي وجدوها جاهزة أو التي ولدت بفضل نشاطهم الخاص. هذه المقدمات هي إذا قابلة للتحقق من صحتها بطريقة تجريبية خالصة"(الايديولوجية الألمانية). لكن هل يعني ذلك أن المنهج المادي لا يستعمل التجريد؟ بالطبع لا، فهو يعتمد التجريد في منهج بحثه. لكن هذا التجريد الذي تعتمده الطريقة المادية التاريخية لا علاقة تربطه بالتجريد الفلسفي. ذلك أنه من جهة، وفيما يجعل المنهج الفلسفي من هذه التجريدات مقدمات لبحثه فان المادية التاريخية تجعل من التجريد مرحلة في البحث لا مقدمات عقلية له. و من جهة أخرى فان التجريد الذي تعتمده المادية التاريخية ليس عقليا بل واقعيا، أي أنه نتاج الواقع التاريخي نفسه وليس من ابتداع هذا الفيلسوف أو ذاك، وهو بهذا المعنى قابل للتحقق فيه أيضا بطريقة تجريبية(2). سأوضح هذه النقطة بمثال هو مفهوم (العمل المجرد). فمنذ الوهلة الأولى يبدو لنا أن هذا المفهوم ابتداع عقلي محض، باعتبار وأنه لا وجود ملموس لهذا العمل المجرد، ففي الحياة اليومية (ما تراه العين المجردة) هو العمل الملموس (عمل النجار، والحداد...الخ). لكن واقع التطور الذي عرفه نمط الإنتاج الرأسمالي وهيمنة الإنتاج من أجل المبادلة هيمنة مطلقة قد أظهر واقعا جديدا لخصه الاقتصاد السياسي في قانون القيمة-العمل، أي أن المبادلة قد خلقت واقعا تظهر فيه البضاعة ككمية عمل متبلور بغض النظر عن نوعية العمل نفسه، أي أن الواقع الاقتصادي قد جرد الأعمال الخاصة في عمل واحد هو العمل المجرد. من هنا يتبين لنا أن التجريد منظورا له من زاوية المادية التاريخية هو تجريد واقعي يمكن إثباته، وتثبته بالفعل الحياة الاقتصادية اليومية من خلال ملايين عمليات المبادلة التي تقع في كل يوم والتي لا تعير أدنى اهتمام للعمل الملموس. لكن التعارض بين المنهج المادي التاريخي والمنهج الفلسفي لا يقف عند هذا الحد، فالمرحلة الأخيرة من مراحل البحث بالنسبة لماركس هي الوصول إلى الملموس بعد إعادة تصوره في الذهن أي إنتاجه بواسطة الفكر(concret pensé le). وهكذا فإننا في كل مراحل البحث نكون سواء في المقدمات التي ننطلق منها أو طريقة البحث أو الخلاصة النظرية بإزاء وجود واقعي فعلي يمكن التحقق منه إحصائيا أو تاريخيا. في المقابل فان النتيجة بالنسبة للمنهج الفلسفي هو بناء نظام فلسفي متناسق عقليا لكن لا يمكن في كل الأحوال التحقق منه. ولذلك فان نقد الأنظمة الفلسفية بعضها لبعض انطلاقا من المنهج الفلسفي نفسه لا يتجاوز البحث عن التناقضات العقلية (المنطقية) داخل النظام الفلسفي نفسه لا في علاقة بالواقع التجريبي، بينما تبقى النظرية المستخلصة عن طريق المنهج المادي التاريخي مشروطة بمواجهتها الدائمة بالواقع المادي سواء من الناحية العينية المباشرة أو من الناحية التاريخية وإمكانيات التحقق أو الخطأ التي توفرها التجربة التاريخية كما يعيشها الناس وليس انطلاقا من مواجهة المذاهب الفلسفية بعضها ببعض.
في الواقع، فان عقودا من الثورة المضادة والتزييف الإيديولوجي الذي مارسته الاشتراكية الديمقراطية الألمانية والروسية (المدرسة الروسية) قد جعل القول بتناقض ماركس والفلسفة الماركسية كأنما هو بدعة، لكن ماركس كان أكثر من صريح في موضوع تناقضه مع الفلسفة إذ يقول: " إن فضل فيورباخ الأكبر أنه بين أن الفلسفة ليست سوى الدين مقدم في شكل أفكار ومطور بالفكر، بأنها ليست سوى شكل آخر وطريقة وجود أخرى لاغتراب الإنسان، إذا فإنها (الفلسفة) مدانة بنفس القدر (الذي ندين فيه الدين)"(مخطوطات1844) وفي تعريفه للفيلسوف يقول: " الفيلسوف هو نفسه شكل مجرد للإنسان المغترب"(مخطوطات 1844).
سنختم هذه الفقرة بتناول موضوع الديالكتيك.
فبالنسبة للماركسيين تنقسم فلسفتهم إلى قسمين: المادية الجدلية والمادية التاريخية. أما بالنسبة للمادية الجدلية فهي مجموع القوانين العامة التي تنطبق على المجال الطبيعي(التناقض، تحول التراكمات الكمية الى تحول نوعي، نفي النفي...الخ)، وأما بالنسبة للمادية التاريخية فإنها مجموع نفس تلك القوانين الطبيعية مسحوبة على المجال الاجتماعي التاريخي. إذا فان الأساس العام لكل هذه الفلسفة هو تلك القوانين التي صاغها هيغل تحت عنوان (قوانين الديالكتيك). سوف لن نناقش هذه القوانين الهيغلية نفسها، لكننا في المقابل نطرح السؤال التالي: كيف يمكن لنا أن نتوصل إلى صياغة قانون طبيعي؟ طبعا، يكون ذلك بإتباع منهج علمي يقوم على الملاحظة العلمية ثم صياغة الفرضيات النظرية ثم التحقق منها عبر التجربة للخروج بصياغات نظرية نهائية تكون موضوع تمحص دائم وفي مواجهة دائمة مع التجربة اللاحقة. إذا كانت هذه هي الطريقة الوحيدة في استخلاص القوانين العلمية فهل كان منهج هيغل في صياغته لقوانين الديالكتيك مطابقا للمنهج العلمي. بدون الدخول في التفاصيل، فمن المعلوم أن هيغل لم يعتمد هذا المنهج، بل انه قد توصل إلى صياغة قوانينه تلك بأسلوب عقلي، وهيغل نفسه لم ينسب لنفسه صفة عالم الطبيعة ولم ينسب لطريقته صفة المنهج العلمي. من هنا يتبين أن قوانين الديالكتيك لم تخضع صياغتها للمنهج العلمي، فهل بالإمكان وصفها مثلما يفعل الماركسيين بأنها قوانين علمية؟ هذا من جهة ومن جهة أخرى، وحتى بافتراض أن قوانين الديالكتيك هي قوانين علمية فهل من المسوغ، من وجهة نظر علمية، سحب تلك القوانين على مجال غير مجالها (من الطبيعة إلى المجتمع البشري). صحيح أنه يمكن الاعتراض بأن المنهج العلمي قد تم الاعتماد عليه سواء في المجال الطبيعي أو الاجتماعي، لكن هناك فرق بين المنهج العلمي وبين القوانين العلمية المستخلصة. مثلا، فإننا نطبق منهج (ملاحظة ففرضيات فتجربة...الخ) في بحوثنا على الطبيعة وكذلك في بحوثنا الاقتصادية، لكن هذا لا يمكن أن يعني أن قانون الجاذبية ينطبق على مجال التبادل الاقتصادي، وأصلا هذا كلام بلا معنى لأن أي قانون مرتبط بمجاله وصحته أو خطأه محكوم بذاك المجال. ذلك انه إذا ما كان ممكنا التحقق مثلا من صحة قانون الجاذبية في مجال علاقة الأجسام الفيزيائية فيما بينها فإننا لا يمكن التحقق من صحته في مجال التبادل الاقتصادي. وبنفس المنطق فإننا لا نستطيع التحقق من صحة قانون نفي النفي (على فرض انه قانون طبيعي مثلما يقول الماركسيين) في مجال المجتمع البشري. أيضا فالقول بانطباق القوانين الطبيعية على المجتمع البشري يحمل تناقضا مستعصيا، إذ نحن نعرف أن القوانين الطبيعية تعمل بمعزل عن وجود البشر أنفسهم وبمعزل عن التشكيلات الاجتماعية التي يقيمونها، فهي مقارنة بالزمن البشري قوانين أبدية، فإذا ما سحبنا هذه القوانين على المجتمع البشري فإننا سنسقط في تطبيع الظواهر الاقتصادية واعتبار القوانين الاقتصادية أبدية، وهذا ما يرفض التسليم به الماركسيين أنفسهم رغم أنهم في الواقع يسقطون فيه.
كل ما سبق يبين أن ما يسميه الماركسيين ماديتهم التاريخية هي في الواقع محاولة توفيقية بين مثالية هيغل (الديالكتيك الهيغلي) والمادية الطبيعية، بين المنهج الفلسفي ومنهج العلوم الطبيعية. أما بالنسبة للمنهج المادي التاريخي الذي اعتمده ماركس فانه يمثل قطيعة مع كلا المنهجين.

التناقض بين ماركس والاقتصاد السياسي:
بطبيعة الحال ما كان ممكنا لماركس أن يعرض نقده للاقتصاد السياسي بدون تقديم أهم النتائج التي توصل إليها هذا العلم الجديد. ويجدر القول هنا أن ماركس قد قام بجهد عظيم في توضيح القوانين الاقتصادية المكتشفة قبله وتشذيبها من كل العوالق الإيديولوجية ودفعها إلى نهاياتها المنطقية والعملية. لكن هذا لا يمكن أن يعني أن تلك القوانين (قانون القيمة، فائض القيمة، ميل معدل الربح إلى الانخفاض...الخ) كانت من مكتشفاته أو أنها تمثل مذهبه "الاقتصادي الماركسي"، بل بالعكس فان جوهر عمل ماركس يبدأ من حيث تنتهي صياغة تلك القوانين وتخليصها من التناقضات النظرية منها والواقعية. فعمل ماركس الأساسي هو نقد المنهج المتبع من طرف الاقتصاد السياسي وإبراز محدوديته وعجزه عن رؤية الطابع التاريخي للقوانين الاقتصادية. وسوف نحاول توضيح ذلك من خلال رصد وجهة نظر الاقتصاد السياسي (بما فيه الماركسي) في علاقة بالقانون الجوهري للرأسمالية ألا وهو قانون القيمة-العمل وسنعارضه بوجهة نظر ماركس المقابلة لنبين أنه وبمثل ما أن نقد ماركس للفلسفة لم يكن من أجل بناء فلسفة (ماركسية) خاصة بل نقدا لكل الفلسفة، فان نقده للاقتصاد السياسي لم يكن يستهدف بناء مذهب اقتصادي جديد (الاقتصاد الماركسي) بل نقد الاقتصاد السياسي برمته كتعبير نظري عن نقد الاقتصاد الرأسمالي الواقعي.
ينطلق الاقتصاد السياسي من أن قيمة البضائع تتحدد بكمية العمل الاجتماعي المجرد المتبلور فيها. لكن السؤال الذي يطرح هنا: ما الذي يجعل قيمة البضائع تتحدد بكمية العمل الكامنة فيها؟ بالنسبة للاقتصاد السياسي (بما فيه الماركسي) فان ذلك يعود لقانون طبيعي، إذ كل منتوج يتحدد بالعمل البشري المستهلك في إنتاجه. وبذلك فان قيمة البضاعة تظهر باعتبارها نقطة طبيعية تعود إليها الأسعار. ومن هنا فان تقلبات الأسعار والمنافسة والعرض والطلب...الخ هي أحداث عرضية. لكن ما هي تقلبات الأسعار والمنافسة والعرض والطلب...الخ؟ إنها ببساطة نمط الإنتاج الرأسمالي. بلغة أخرى فان قانون القيمة، بالنسبة للاقتصاد السياسي، لا يرتبط بنمط إنتاج محدد، ولا يرتبط بنظام اقتصادي اجتماعي محدد، بل هو قانون يخص الإنتاج بغض النظر عن التشكيلة الاجتماعية التي يقوم فيها ذاك الإنتاج. وجهة النظر هذه، رغم اعترافها بالقانون الاقتصادي المسمى قانون القيمة-العمل، فإنها تقوم بتطبيعه من خلال فصله عن الشروط التاريخية لتحققه. إذ على عكس كل الاقتصاد السياسي فان ماركس يعتبر أن الذي يجعل قيمة البضاعة تتمثل في كمية العمل المتبلور فيها إنما هي المنافسة الرأسمالية والعرض والطلب..الخ أي التشكيلة الاجتماعية التاريخية التي يبرز فيها العمل المجرد، أي الرأسمالية، وأن سريان هذا القانون مرهون ببقاء تلك التشكيلة الاجتماعية، ومن هنا يظهر الطابع التاريخي لهذا القانون الاقتصادي. يقول ماركس:" إن هذا التحديد للسعر بنفقات الإنتاج، لا يجب فهمه كما يفهمه الاقتصاديون. فالاقتصاديون يقولون أن السعر الوسطي للبضائع يوازي نفقات الإنتاج؛ و أن ذلك في رأيهم هو القانون. و هم يعتبرون أنها من قبيل الصدفة هذه الحركة الفوضوية التي يعوض بواسطتها ارتفاع السعر عن هبوطه، و هبوط السعر عن ارتفاعه. و على هذا الأساس، يكون بوسع المرء أن يعتبر بنفس القدر من الصواب أن تقلبات الأسعار هي القانون، و أن تحديد الأسعار بنفقات الإنتاج هو من باب الصدفة. و هذا ما يقول به بعض الاقتصاديين. و لكن الحقيقة هي أن هذه التقلبات التي تفضي، كما يتضح عند النظر فيها عن كثب، إلى أشد التدميرات إرهابا، و تزعزع المجتمع البرجوازي حتى أسسه، أشبه بالزلازل الأرضية، هي وحدها التي، بقدر ما تحدث، تحدد الأسعار بنفقات الإنتاج. إن مجمل حركة هذه الفوضى هو نظامها بالذات. و في غمار هذه الفوضى الصناعية، و في غمار هذه الحركة الدائرة على نفسه، تعوض المزاحمة، إذا جاز القول، عن تطرف بتطرف آخر."(العمل المأجور ورأس المال) هكذا فبالنسبة للاقتصاد السياسي فان قيمة البضاعة هي عبارة عن جوهر ميتافيزيقي متعالي، بينما الفوضى الاقتصادية والأزمات التي تصنعها المنافسة واللهث وراء الربح إنما هي ظواهر طارئة ما يفتأ السير الطبيعي للتنمية البورجوازية أن يعيدها لنقطتها الطبيعية. ومن جهته يفصل الاقتصاد السياسي الماركسي بين قانون القيمة والشروط الاقتصادية لتحققه لذلك فانه يصل إلى نتيجة أنه بالإمكان مواصلة سريان قانون القيمة في المجتمع الاشتراكي، أي أنه بالإمكان أن يوجد قانون القيمة بدون النظام الرأسمالي، بدون المنافسة والاستغلال الطبقي بدون الأزمات الاقتصادية وفوضى السوق. أما بالنسبة لماركس فان قانون القيمة يجد شرط تحققه التاريخي في نمط الإنتاج الرأسمالي، وهذا ما لا يصل إليه الاقتصاد السياسي، ببساطة لأن القول بان قانون القيمة هو قانون تاريخي معناه القول بأن النظام الرأسمالي وجود تاريخي انتقالي.
من هنا يتبين أنه وبرغم أن ماركس يشارك الاقتصاد السياسي الاعتراف بالقوانين الاقتصادية الموضوعية، فان ذلك ليس ما يميزه. بل إن ما يميزه فعليا هو نقده للمنهج المتبع من طرف هذا الاقتصاد. وبهذا فان ماركس لم يكن يستهدف بناء مذهب اقتصادي خاص، ولا بناء نموذج ذهني للمجتمع الاشتراكي، بل تبيان أن التناقضات التي تعصف بالنظام الرأسمالي ستقود حتما إلى إلغاء نمط الإنتاج هذا والانتقال إلى نمط إنتاج جديد.

(1) نصوص أنور نجم الدين: (التناقض بين المادية التاريخية والفلسفة الماركسية) و( تعارض ماركس مع الفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي) منشورة بفضاء الملحدون العرب مع ردود السيد المغربي على نفس الموقع
(2) سوف يتبين في الفقرة التالية أن التجريد الذي يستعمله المنهج المادي التاريخي يتعارض أيضا مع التجريد الذي يستعمله المنهج العلمي، حيث رغم أن هذا الأخير يتوصل في أحيان كثيرة إلى تجاوز العيني المباشر نحو الوجود المجرد الذي ينتجه الواقع إلا أنه لا يرى لذلك الوجود المجرد كوجود تاريخي، كمنتج من منتجات الصناعة والتبادل، بل يحوله إلى مجرد علامة ذهنية (رياضية) ما فوق تاريخية، على عكس المادية التاريخية التي ترى التجريد في الوجود التجريبي نفسه وفي العلاقات المادية بين البشر، وبهذا المعنى فإنها ترى فيه منتجا تاريخيا لا أحكاما عقلية خاضعة للتأمل الفلسفي