تطور الانتاج المادي جاء بالاديان الثلاثة


ابراهيم علاء الدين
2009 / 8 / 30 - 09:39     

لااتفق مع وجهة نظر الاخ رياض اسماعيل التي وردت في تعليقه على مقالنا المنشور امس الاول بعنوان " حتى لا تضيع جهودكم هباء منثورا" وجاء فيها " صحيح أن الاقتصاد المشوه ينتج مجتمعآ مشوهآ ولكن العكس أيضآ صحيح فالمجتمع المشوه بالغيبيات الدينية ينتج بدوره اقتصادآ مشوهآ". وقوله "وكاننا ندور في حلقة مفرغة"...!!
وقد حفزني تعليق الاستاذ رياض لمحاولة عرض المزيد من البراهين التي تتفق مع وجهة نظري والتي تقول انه ليس هناك حلقة مفرغة بالأمر .. بل ان الامر محسوم لصالح البنى التحتية وانها هي التي تنتج البنى الفوقية. أي ان الاقتصاد المشوه ينتج مجتمعا مشوها .. ولكن المجتمع المشوه أي المتخلف او البدائي يظل يسعى على الدوام لبناء اقتصاد افضل سواء في سياق بحثه الغريزي عن ضمان بقائه او في سياق بحثه التاريخي عن تحسين معيشته واحواله.

وقبل الدخول في التفاصيل لنحاول تعريف ما المقصود بالبنى الفوقية وما هو المقصود بالبنى التحتية ..؟؟ فحسب مفهومي المتواضع وفق اجماع علماء فلسفة الاقتصاد وفلاسفة العلوم الاجتماعية .. فان المقصود بالبنى الفوقية هو الانتاج الفكري ... اما المقصود بالبنى التحتية فهو الانتاج المادي .
وتشتمل البنى التحتية على :
قواعد واساسات وقدرات انتاج الخيرات المادية ، وفي مقدمتها تطوير التخطيط العمراني للمدن والريف والاهتمام بالجماليات، تطوير شبكة المواصلات من طرق وسكك حديدية وجسور ومطارات، الخدمات البلدية والصحية والتعليمية ، بناء المصانع ثقيلة التصنيع لانتاج منتجات حديثة من حيث النوعية ضخمة نت حيث الحجم، ادخال الميكنة في الزراعة وبناء السدود والخزانات وتنظيم موارد المياه ، تطوير صناعة السياحة والفندقة المتطورة، انتاج انظمة وشبكات الاتصالات، صناعة خدمات مالية عصرية (بنوك وشركات استثمار واسواق مالية .. الى اخره مما هو على صلة بتعظيم الانتاج المادي وتطويره.

اما البنى الفوقية فتشمل :
الجوهر الاساسي المكون للبنى الفوقية هو الاعتناء بالانسان .. أي بالتنمية البشرية .. و تكوين النخب المثقفة المبدعة التي تمتلك الخبرة والتجارب والافكار .. ونظم التعليم ومناهجه .. ومراكز البحث ومؤسسات الرعاية الصحية وقوانين الادارة والفنون والعلوم وفلسفة المجتمع والدين ومنظومة الروحانيات والقيم والاعراف وهياكل التنظيم السياسي (الدولة) ومؤسساتها. وكافة هذه المكونات لا بد لها وان تتاسب مع درجة ومستوى رقي وتطور البنى التحتية.

وسواء تعلق الامر بالبنى الفوقية او البنى التحتية فانهما لا تتحققان بفرمان يصدره سلطان او ملك او رئيس جمهورية، وانما تتحققان عبر حقب تاريخية وتراكمات تتداخل خلالها وتتفاعل البنى الفوقية مع التحتية بحركة جدلية ديالكتيكية بتناغم وانسجام.
ومن يتتبع المسيرة البشرية سوف يكتشف بشكل قاطع ان الانسان لا يستطيع التحرك بحرية في محيطه وانما لا بد من خضوعه للشروط البيئية (البنية التحتية وما يترتب عليها من بنى فوقية).
فالبنية التحتية (البيئة الاقتصادية - نمط الانتاج )هي التي تحدد وعي الانسان (وعي المجتمع) أي ثقافته وبالتالي فان مستوى الوعي الاجتماعي أي مستوى ثقافة المجتمع هي التي تلعب دورا اساسيا ومركزيا في نشاط المجتمع ايا كان نوع هذا النشاط .
فعندما كان نمط الانتاج بدائيا خلال عدة الوف من السنين عقب استقامة قامته ونزوله من الاشجار وقمم الجبال الى السهول والسهوب وكان يعتمد للحفاظ على حياته أي للبقاء على سلوكيات وتصرفات لم تبتعد كثيرا عن سلوكيات بني جنسه من الحيوانات الاخرى فكان صيد الفرائس حتى البشرية منها (اكل لحوم البشر) واكل الميتة والحشرات والزواحف ثم بدأ يكتشف الخضروات ومن ثم الفواكه في تلك الحقبة السحيقة من الزمن وضع الانسان بنيته الفوقية المنسجمة مع تطوره في تلك المرحلة، ثم وبعد اكتشاف النار وتمكنه من استخدام العصي (الاخشاب) في الدفاع عن نفسه ومواجهة أعدائه، ومن ثم توفير المزيد من الامن بسكنه الكهوف ومن ثم البيوت من اغصان الاشجار ، وفي سياق الحفاظ على البقاء ولحماية نفسه من الوحوش اعدائه الرئيسيين في تلك الفترة اكتشف حاجته للتجمع والتعاون مع بني جلدته فودت لاول مرة بالتاريخ التجمعات السكانية الامر الذي فرض عليه ايجاد نوع من التنظيم الفوقي لتسيير شؤونه التي لم تتجاوز حتى تلك الفترة الدفاع عن نفسه، وتمكنه من توفير غذائه.
ومن خلال العمل الجماعي والاضطرار للتعاون وفي سياق البحث عن الامن والغذاء (مقوات البقاء) طور الانسان وسائل انتاجه ومن ثم ارتقت حياته قياسا بما كانت عليه فاخترع الملابس والاسلحة واكتشف بعض الادوية (من ثمار الاشجار) ..
وحتى لا نتوه في سرد المسيرة الانسانية التي يقدر عمرها البعض بنحو 100 الف سنة، وقد حفلت الاف الكتب بالاسهاب في عرض ادق تفاصيلها (على خلاف قصة الخلق الدينية) .

وفي اطار خدمة الفكرة التي نناقشها لا بد من القول ان وعي الانسان البدائي مثلا ينحصر في هموم جزئية محدودة لا تخرج غالبا عن ممارسة السلوكيات الغريزية كالتكاثر المنطلق من غريزة الحفاظ على الجنس ، وتوفير قوت يومه للمحافظة على البقاء، وامتلاكه عناصر القوة لمواجهة الاعداء مني بني جنسه او من الحيوانات او الطبيعة، لتوفير الامن ايضا في سياق الحفاظ على البقاء، كما ان وعي الانسان البدائي ينعكس على مجمل سلوكه بدءا من استخدام صوته في التحدث مع الاخرين او استخدام عضلاته في الخلاف مع الغير او نوعية المفردات الفجة التي يعبر بها عن سروره او غضبه ، او التشبيهات التي يستخدمها للتعبير عن وجهة نظره.
ورغم العمر المديد للحياة البشرية ورغم التطورات الهائلة التي شهدتها المسيرة الانسانية فما زالت المعمورة تغص بالمجتمعات البدائية المتخلفة وهي تعيش جنبا الى جنب مع المجتمعات الحديثة المعاصرة .. فالانسان البدائي ما زال حيا يرزق ويتميز بان طبيعته حادة قاسية، بدائي في تناول طعامه (يمجد تناول الطعام باليد مثلا) يميل الى الخشونة في حياته (يحبذ النوم على الارض ويتغنى بحياة الخيمة - هجرة بعض سكان الخليج في فصل الربيع الى ما يسمونه "البر" أي الصحراء والخلاء والسكن بالخيام لعدة اسابيع)، او القيلولة تحت شجرة ، وكذلك عدم معرفته بأي من قواعد للسير بالطريق العام( وكانهم خراف كل تسير على هديها تتصادم ببعضها بعضا).
في هذه المجتمعات البدائية تسود السلوكيات الوصولية والانتهازية والمحسوبية والواسطة والعشائرية والعلاقات الشخصية وانعدام النزاهة وانتشار التدليس والغش والكذب ، وانعدام الخبرات وندرة الكفاءات ..

اما المجتمعات الاكثر تطورا فان لها وعيها الخاص (ثقافتها) تحدد علاقتها بالفلسفة او الادب او النقد والفنون عموما (سينما مسرح موسيقى فنون تشكيلية ) وقواعد المعاملات واحترام الزمن والمواعيد ورقي السلوكيات والتصرفات مع الغير، وتتشكل لديها صور غنية عن الحياة والعالم وتنتج خبرات عالية في كافة الميادين العلمية والفكرية والثقافية والانتاجية ، وبالتأكيد فان سلوكياتها وقيمها واعرافها لا بد وان تنسجم مع رقي وتطور ثقافتها ووعيها. (وصور المقارنة بين المستويين – البدائي – والمتطور اكثر من ان تحصى او تعد).

ومن الطبيعي جدا ان يتم التعامل مع الدين وتعاليمه او الروحانيات عموما وبالتالي مع الاساطير والموروثات والقيم والنظر الى الحياة والعالم وما بعد الحياة وفق مستوى الوعي (المستوى الثقافي) للمجتمع.
وحسب مستوى الوعي تحدد المجتمعات وتتفق وتقيم نظامها السياسي الذي ينظم شؤون حياتها ، الى اخر منظومة السلوك الحياتي للبشر وكلها تدخل ضمن مفهوم البنى الفوقية .
فالمجتمعات البدائية القديمة عشية استقامة قامة الانسان لم تكن بحاجة الى الاديان طيلة نحو 80 الف عام، ولكن مع تطور الحياة البشرية وتعقد بنائها التحتي (طرقها في انتاجها المادي – الاقتصاد) اصبحت بحاجة الى سد الفراغ الهائل بين وعيها وبين الحقائق الموضوعية – خصوصا الطبيعية منها – فبدت تظهر ديانات بدائية متناثرة كل منها يتناسب وطبيعة البنية التحتية للمجتمع، وكلها استعان بقوى خارج نطاق السيطرة وغالبا ما كانت في السماء (الشمس والقمر والنجوم) وبعضها انتسب الى ظواهر قاهرة كالعواصف او الامطار ، فيما نسب حكمته ودينه الى ما يرمز للبقاء واستمرار الجنس فاتخذ المراة رمزا لعبادته الى اخر الظواهر الدينية في المراحل البدائية الاولى من حياة الانسان، واستمر ذلك بضعة الاف من السنين، ولكن مع تشابك واتساع العلاقات الاجتماعية الناتجة عن زيادة عدد السكان وتمركزهم في بقعة جغرافية محددة، وكعامل مساعد على تقوية مركزية (السلطة السياسية – احدى مكونات البنية الفوقية) وبهدف السيطرة على اوسع بقعة جغرافية وضمها في اطار الدولة قام بعض الملوك – الحكام ومن اشهرهم فرعون مصر (اخناتون) بالاستعانة بتوحيد الالهة ب (الشمس) وتوحيد الاديان بدين واحد ونصب نفسه وسيطا بينها وبين شعبه.
ونظرا للتمييز الحاد بين المصريين الاصليين – الاقباط – وبين بني اسرائيل وهم عرب هاجروا من اليمن الى مصر وبسبب الاضطهاد والقهر الذي كانوا يلاقونة على يد المصريين اختارت هذه المجموعة في محاولة للتخلص من الاضطهاد المصري ان يكون لها دينا مستقلا يعبر عن استقلال اصولهم عن اصول المصريين واختاروا من بينهم موسى وهو من يتسم بالخشونة والقوة والشدة (رغم عيوبه الخلقية) ليكون نبيا لهم.
وفي هذا النص من التوراة ما يوضح امدى الاضطهاد الذي كان يتعرض له بنو اسرائيل قبل مجيء موسى كمحرر لهم من العبودية يقول النص " قالوا يا موسى ، اوذينا قبل ان تاتينا ، كانوا يذبحون ابنائنا، ويستبيحون نسائنا".
وحاول موسى ان ينقذ شعبه من الاضطهاد المصري باستمالة الفرعون – راس السلطة – الى دينه فقال له : هل لك يا فرعون في ان اعطيك شبابك ولا يهرم وملكك ولا ينزع منك وارد اليك لذة المناكح والمشارب والركوب .. واذا مت دخلت الجنة .. كل ذلك اذا آمنت بي" .
دققوا النظر في الغايات العليا لانسان ذاك الزمان اولا الخلود والبقاء ، وثانيا السلطة والملكية الخاصة، وثالثا الغريزة الجنسية ، ورابعا متعة الغذاء، وخامسا الخلود في الجنة بعد الموت..!!.
لكن الفرعون لم يستجب لدعوة موسى فقرر الهجرة من مصر باتجاة فلسطين وهي البلد الوحيد القريب الى مصر الذي تمكنت المجموعات البشرية من الاستيطان والاستقرار وليس للأية اسباب مقدسة كما تشير الاديان ومن خلال النص التالي يمكنكم تخيل حجم الانتقام الذي قام به موسى واتباعه من قومه ضد المصريين ردا على الاضطهاد الذي واجهوه تقول التوراة وذكرت ايضا في تاريخ الطبري " ربنا اطمس على اموالهم (أي اجعلها حجارة – أي افقرهم .. والقى على القبط الموت فمات كل بكر رجل فاصبحوا يدفنونهم حتى طلعت الشمس".
وفي نص اخر ورد في اكثر من صيغة في كتب التاريخ واللاهوت ان موسى سلط على الاقباط تسع ايات هي الطوفان دمر زرعهم ثم الجراد لياكل ما تبقى منه، ثم القمل ثم الضفادع ثم الدم ثم عصاة (اداة السحر) ويده البيضاء وفي النهاية كان البحر الذي ابتلع جيشهم.
ويمكن لمن شاء الاسزادة في الاف المراجع التاريخية والاهوتية كي يكتشف ان دين موسى أي الدين اليهودي كان عبارة عن ثورة قام بها بنو اسرائيل على عبودية الاقباط المصريين لهم.
وكذلك جاء دين عيسى كثورة على استعباد كهنة اليهود لعامة الشعب الاسرائيلي ، ولا بد له ايضا ان يستعين باله السماء ويدعي انه ابن الله ليحكم قبضته على الوجدان الشعبي ويجنده في مواجهة العبودية الكهنوتية اليهودية .. ومع ذلك ظل اليهود يعتبرونه ابن زنى وان امه زانية وان يوسف النجار هو والد عيسى الحقيقي وظلت هذه الاقوال سائدة طيلة اكثر من ثلاثمائة سنة عندما اتخذ الامبر اطور الروماني الدين المسيحي دينا رسميا للامبراطورية ايضا لاسباب لها علاقة مباشرة بالتطورات التي شهدتها البنية التحتية للامبراطورية.
ولا يختلف الدين الاسلامي عما سبقه من الديانتين من حيث مبرر وجوده والهدف منه وانه لم يكن الا للاستجابة للتطورات التي شهدتها مكة على صعيد بنيتها التحتية (تطور التجارة واتساعها أي الارتقاء في انتاج الخيرات المادية).
والاديان الثلاثة نسبت الى اله السماء وكانت ثورة على السلطة ووضعت قواعد اخلاقية مخالفة لقواعد العبودية وادعى انبيائها الثلاثة ان لهم صلة مباشرة ب الله .. الاول كليم الله .. والثاني ابن الله .. والثالث يخاطبه ويتحدث له الله على مدار 23 سنة بواسطة رسوله جبريل.
وهكذا نجد الاديان وهي احد المقومات الاساسية للبنية الثقافية (الانتاج الفكري) كانت نتيجة للتطور في نمط البنى التحتية وما فرضته على الشعوب من عبودية واسترقاق.
لذى وفي كل زمان ومكان ترتقي فيه حياة البشرية وتزداد بينتها التحتية تعقدا كلما فرضت اجباري تطوير البنية الفوقية .. (ثقافتها)
مما يجيب على السؤال الازلي الذي ما زال يثيره بعض المثقفين في وقتنا الحاضر رغم الجهود الهائلة التي انتجت ما ملأ الاف المجلدات ما يؤكد اسبقية انتاج الحاجات المادية للانسان انتاجه الفكري والثقافي.

وهناك الاف الشواهد في ثنايا السجالات الفكرية والنظرية منذ انتقال المجتمعات الاوروبية من عصور الاقطاع الكهنوتي الى عصر البرجوازية ومن ثم الراسمالية على ان البنى التحتية لها الاسبقية في صناعة التطور والحضارة على النتاج الثقافي .

يجدر بالذكر ان الديانات الوثنية كانت ه يالاخرى استجابة للتطورات في البنى التحتية التي شهدتها المجتمعات الت يظهرت فيها.
وهنا ربما يطرح البعض اعتراضه على هذا التحليل فيقول لو كان فيما سبق وذكرت صحيحا فلماذا توقف ظهور الاديان منذ الدعوة الاسلامية قبل نحو 1400 سنة ...
بالتاكيد هناك رؤية واضحة تجيب على هذا السؤال يمكن اختصارها على عجل بالقول ان التطور الهائل في البنية التحيتية في نمط انتاج الخيرات المادية وما صحبه من تطور هائل في البنية الفوقية وما ادى اليه ذلك من كشوفات علمية هائلة وفرت وعيا انسانيا لم يعد بحاجة الى قوى سرمدية لتفسير الظواهر الطبيعية مما جعل قبول الانسان لفكرة دين الهي جديد اقرب الى المهزلة .. ولذلك فشلت الكثير من المحاولات التي ادعت انها جاءت بدين جديد .. وقد تجاوزت محاولات ادعاء النبوة في الاف الاخير من عمر الانسان مئات المحاولات وهناك مها ما يزال يحاول ..

وللحديث بقية