في ذكرى استشهاد مهدي عامل


عمار ديوب
2009 / 8 / 3 - 08:27     

لا مجالَ لإنكارِ أنّ مداً ثورياً قد أسدل عليه الستار بسقوط الاتحاد السوفييتي وما تبع ذلك من دخول الأحزاب الشيوعية العربية مرحلة الجزر حيث الاستقالة الجماعية من قيادة فعل التحرر الطبقي والوطني، مع استثناءات قليلة هنا أو هناك، من قبيل الحزب الشيوعي اللبناني. ولكن الجهالة ستكتسي حلتها كاملةَ إذا اعتبرنا ذلك السقوط نهاية التاريخ البشري في التشكيلة الرأسمالية، أو أنّه النهاية للحراك الشيوعي العالمي كما أنذرتنا كثير من أبواق الدعاية الليبرالية وأصوات المتحولين عن الماركسية، وما كانوا بماركسيين. وبالتالي فإن الخلط بين ذاك السقوط والنظرية والحراك الشيوعي واعتبارها جميعاً في طور الانقراض خلط يسفر عنه خليط ماهوي وإيديولوجي متنافر، ولا يساعدنا على إدراك أن الصراع الطبقي يأخذ في مراحل التاريخ أشكال كثيرة ومستويات متعددة.
كان مهدي عامل قبل استشهاده ومن خلال آثاره يرى التاريخ كما الواقع حقلاً للصراعات الطبقية المتمايزة من دولة لأخرى، فقد يكون الصراع منجدباً أي واضحاً بين تحالفين طبقيين متمايزين. وقد يكون منتبذاً أي صراعا متجدداً لصالح تحالف طبقي مسيطر على البنية الاجتماعية بالكامل، وعندها لا أثر يذكر للتحالف الطبقي النقيض.
هذه الرؤية ليست من بنات الخيال أو مسألة نظرية مترجمة من بنية إجتماعية مغايرة للعربية ومقطوعة الصلة بالواقع العربي"رغم أن الماركسية فكر كوني"، أو أن الواقع له سيرورة مختلفة عنها، بل إن هذه الرؤية هي تجلي الواقع في لغة المفاهيم، وإلا فما معنى تجميد الصراع الطبقي في لبنان وتمظهره طائفياً ولاسيما بعد"الطائف"، وما معنى الحرب المعلنة على الحزب الشيوعي والعلمانيين والقوميين وكل الفئات الحداثيّة سوى إغلاق التاريخ أمامهم كي لا يستقيم الصراع صراعاً طبقياً، ويبقى صراعاً طائفياً يخرج القوى العلمانية عن دائرة الـتأثير كما جرى في الانتخابات الأخيرة.
مهدي عامل كان يبني مفاهيمه بعيداً عن الواقعية الميكانيكية ووفق نظرة تقول: أنّ الحزب الشيوعي وتحالفاته في طور بناء الدولة الاشتراكية. بل ورغم أن تلك مهمة الحزب والمبرر الاستراتيجي لوجوده، فإن مهدي كان يعمل من اجل بناء دولة ديموقراطية وطنية وهذا المشروع كان مشروع التحالف الطبقي الثوري بقيادة الحزب الشيوعي. مقابل قوى طائفية لا تستهدف سوى بناء الدولة الطائفية، وهي بالمعنى السياسي تعتبر ممثلة فعلية للبرجوازية الكولونيالية اللبنانية. وبالتالي لم يكن مهدي مفكراً واهماً خيالياً، يعيش بالنظرية ويتجاهل الواقع كما يتراءى لبعض مثقفي جيله ونقاده، بل كان وهو يميّز مفاهيمه عبر نقد اتجاهات الفكر البرجوازي أو الفكر الماركسي أو في التصدي لقضية محددة؛ أقول كان يمفهم الواقع، يستخرج مستوياته، أزماته، تميّز طبقاته، أشكال صراعاتها. كان يقرأ واقعاً شديد التعقيد، يندر استيعابه من طرف ذهن غير جدلي، وحتى الأخير ذاته يجد صعوبة في تفسيره نظراً لتعقد البنية المفاهيمية لهذا الفكر الذي يجمع في بنيته هذه بين التفسير والتغيير، السكون والحركة، النسبي والمطلق في صيرورة لا تتوقف، عدا عن إنتاج المفاهيم الماركسية "العربية". هذه القضايا هي ما أوقدت ذهن هذا المفكر الذي لم يكن القول لديه إنشاء كتابي بل معرفة موضوعية ولنقل مفاهيم كونية ما تني تميّز نفسها عربياً.
كان فكره مليئاً بالأمل والإيمان بالمعنى المعرفي واليقين بخلاص إنساني ممكن، ولذلك كان يتعمق في فهم واقعه، يمرحل تاريخه، تاريخ البنية الاجتماعية، تاريخ الممارسة الشيوعية، كان مهدي يحاول رسم خارطة طريق التغيير بعد استيعاب التاريخ الواقعي والمنهجية الحديثة إستناداً إلى المنهجية الماركسية.
كتابه الأخير، الذي كان جزءاً من ثلاثيته التنظيرية " في التناقض"و" في نمط الإنتاج الكولونيالي" وأقصد" في تمرحل التاريخ"بقي غير مكتمل رغم عودته المتكررة له، وقد نبه فيه لخطرين عظيمين يتهددان الحركة الشيوعية: خطر الاقتصادية، وخطر الإرادوية. في الأولى يتم التخلي عن الصراع الطبقي حيث لا صراع قبل نمو القوى الإنتاجية وظهور طبقة عاملة تقود الصراع نحو دولة تلك الطبقة، وفي الثانية استعجال الثورة مع كل أزمة تمر بها الطبقة السائدة، وإن لم تحدث الثورة، فلن تحدث أبداً.!
في الحالتين انزياح عن الفكر الثوري وعن الثورة، والحالتان المذكورتان توحدتا بصورة كاريكاتورية عبر تحولٍ فكري لقطاع من الماركسيين نحوا لليبرالية بأردأ أشكالها- حيث تبني الطائفية وفكرة الأقليات والعمل في التوجه الأمريكي للعالم- واعتبارها فكر العصر، حيث لا تاريخ شيوعي بعد تحولهم ذاك، ولا صراع طبقي سوى بالوهم والخيال، بالنسبة لهم..! هذه الرؤية الضيقة للتاريخ والتي نستطيع القول إنها رؤية البرجوازية الصغيرة تقوم على لحظة معينة ألا وهي لحظة رؤية الحلم يسقط والشرير ينتصر، وهي لا ترى أن التاريخ له قوانينه ولن يتوقف من أجلهم الليبراليين الجدد، وأنّه كما حدثت ثورات فيه سيسقطها إن عاكسته أو تجاهلت قيم العصر الحديث ومصلحة البشر المتضررين فيه. ولأن الأمر كذلك، فإن التاريخ لم يمهل الليبرالية الجديدة سوى سنوات معدودة حتى بدأ التغيير بدءاً من حركات مناهضة العولمة إلى اليسار اللاتيني إلى حراك عمالي، يتطور مع تعمق الأزمة الاقتصادية العالمية. وبالتالي ما سقط من حراك ماركسي هو نمط محدّد من الفكر والسياسات ونظريات تنظيمية معينة كانت تناسب مرحلة معينة ولم تستطع أن تتجاوزها، فكان السقوط. وهكذا سيسقط كل فكر أو سياسية لا تتجدّد ولا تفهم أن الواقع في حالة تغيّر دائم. وان الصيرورة هي روح الواقع. وأقصد من ذلك، كان مهدي عامل من خلال كل ما أنتجه ينتج المفاهيم الماركسية لتفسير الواقع العربي ولتطوير ممارسات الأحزاب الشيوعية العربية ولا سيما اللبناني منها. وتعد أفكاره مدماكاً عظيماً في عودةٍ ماركسيةٍ عربيةٍ جديدة، يترقبها التاريخ وترقبها الطبقات الكادحة.