(تقرير المصير ) قراءة استثنائية في الحال السودانية


عبد الفتاح بيضاب
2009 / 8 / 1 - 08:36     

لمع نجم هذا المصطلح (تقرير المصير) على التقريب بعد الربع الأول من القرن العشرين فيما بعد الثورة البلشفية حيث ضمت جمهوريات في الاتحاد السوفيتي قسراً وكانت ذات كيانات لأمم وشعوب في دول وأقطار ذات حدود جغرافية معلومة مورست فيها الدولة وحكوماتها وسلطاتها قبل الثورة الاشتراكية بكثير مثل جزر أو جمهوريات البطليق ، تصاعد وتيرة حركات التحرر الوطني لنيل الاستقلال في الدول الواقعة تحت وطأة ونيران الاستعمار القديم وإمبراطورياته السابقة البريطانية والفرنسية والبرتقالية ..... الخ ولأن الثقافة الوطنية كانت واقعاً لا يماثل سطوته في وجدان وعواطف الأمم أمراً آخر لذا صادف هوى في نفوس الساسة والشعوب لتلك البلدان ، إلا أن الحال يختلف في حالات الاختلافات الجهوية أو الدينية أو العرقية في إيطار الدولة الواحدة تاريخياًًًًًً، والشاهد والثابت في الحالة الأولى حيث استقلت الدول من مستعمريها أو انفصلت من الجمهوريات التي ضمتها ظلت العلاقات بينها تحترم المصالح المشتركة والمتبادلة وحسن الجوار والتبادل التجاري والتنموي والمعرفي وهكذا ، لأن كل طرف يدري الظرف التاريخي (الموضوعي والذاتي) الذي قاد لضم أو استعمار دولة لإمبراطورية ، حيث تزول حالة ارتهان الإرادة بزوال مسبباتها في ظل راهن جديد ، وهكذا كانت العلاقة بين بريطانيا ومستعمراتها أو فرنسا ومستعمراتها وكذا الحال في إيطاليا والأسبان وهكذا ، على النقيض تأتي الأقاليم والجهويات والعرقيات أو أي عوامل داخلية كانت مسبباً لدعوة الانفصال بكيان مستقل كدولة ظلت على الدوام نفس التوترات والاحتراب قائم بينهما، نموذج لذلك ما حدث في نيجريا أو دول أفريقية أخرى كما كان ذلك في جنوب شرق آسيا والذي ما زالت نيران حروبه تفتك بمئات وألوف الأرواح.
أما الحالة السودانية في (جنوبه) فهي ذات خصوصية بكثير بجميع دول العالم إذ أنه لا يختلف من بقية الأقاليم الغربية والشمالية والوسط إذ أن السودان بخارطته الحالية عرف في 1821 إبان الحكم التركي المصري وإن كانت السلطنات الغربية (الفور) أو السلطنات والمشيخات الجنوبية ضمت بعد ذلك ولكن المهم أنه في حالة الدولة السودانية المستقلة بعد الانفلات من وطأة الاستعمار (1956) قد عرف السودان بخطوط عرضه وطوله الحالية ولكن منذ ذاك التاريخ وفيما قبله بقليل كانت المسألة القومية لاسيما في جنوب السودان قد اتخذت مسارات كاستشراف أفق لحلها منذ غض الطرف عن الفيدريشن بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان وقبله المائدة المستديرة ، ثم أديس أبابا والحكم الذاتي والمناوشات في أنانيا ون وتو ، فلا يبدو أبداً في ثقافة الشعب السوداني في جنوبه أو شماله أي عبارة للانفصال كأطروحة نظرية ويؤطر لها في برنامج حزبي أو قانون أو دستور أو أي وثيقة، باستثناء ما حدث من عسكر الديكتاتورية الأولى في عهد عبود ، لكن المدهش حقاً انتظام هذه المفردة (تقرير المصير) في برامج الأحزاب السياسية ، مقررات أسمرا ، اتفاقية السلام الشامل ، الدستور ، كما أنها باتت مؤشراً للرؤية المتقدمة نحو قضية الجنوب ، لكن المتمعن لاختلاف زمان ومكان الجنوب في هيكل السودان الإداري وماضيه ومستقبله يعاف ويأبى نمذجته أو تنميطه بما حدث في العالم الاستعماري القديم أو الانفكاك من القبضة الحديدية في الاتحاد السوفيتي وأثر الستالينية ، كما أن بضرورة مراعاة الفارق النوعي في التعليم والمعرفة واكتساب الوعي السياسي بفعل الممارسة والإنتاج والعمل المهني والنقابي أو أن هؤلاء المصوتون على الاستفتاء لتقرير مصير السودان تساوي نسبة الأمية عندهم نحو 90% ، زد على ذلك تأهيل البنيات التحتية الزراعية والصناعية والاقتصادية بشكل عام هناك ، وهنا (في الجنوب) فقدان أي مقومات حتى للحياة الكريمة ناهيك من بنيات تحتية لدولة منفصلة الشئ الذي يعلمه كل من شارك في التوقيع على الاتفاقية أو الدستور وأكثر دلالة على ذلك دعوات الدول المانحة وحكومات عالمية و إقليمية ومحلية لتنمية الجنوب والتي باءت كلها بالفشل كما أن الوعود من الحكومة المركزية في الخرطوم أو الإقليمية في جوبا بإزالة مخلفات الحرب وأثرها بتقديم الخدمات التعليم والصحة وتهيئة بيئة العمل والإنتاج بما يجعل العودة طوعية بحق بفتح وتعبيد الطرق بإزالة الألغام والتسهيلات الممنوحة كقروض ومنح ، إعادة بناء المساكن والدمج وإعادته لقوات الجيش الشعبي لتحرير السودان ومعالجة الأوضاع الأمنية من توترات دول مجاورة في مثل جيش الرب والحروب والمشاحنات القبلية حول المياه والعشب وأثر المشاركة الواسعة لكل التنظيمات والكيانات السياسية والقبلية في حكومة الجنوب الشئ الذي كان يمكن من وحدة جاذبة تجعل الكل يطمئن على الاستفتاء ومصير الدولة السودانية.
فإن كانت كل تلك العوامل أجحفت في حق التأسيس لوحدة مستدامة فيمكن لقانون الاستفتاء أن يعيد بعض ماء وجهه ليجعل من أمل التصويت للوحدة أكبر بكثير من نقيضه (الانفصال) وذلك بالرؤية الوطنية الخالصة وجعل مستقبل البلد وأجياله وأمنه هدفاً عند الجميع متجاوزين بذلك الشعارات الجوفاء والاستقطاب السياسي إذ أنه يبيت هاماً جداً نوع الناخب في أهليته المعرفية أبجدياً وسياسياً ، كما يظل ضرورياً أن يصوت كل الجنوبيين بالشمال والخارج إذ أنهم أكثر معرفة ودراية وممارسة في الحياة مع الإنسان في العواصم الخارجية أو الخرطوم حيث أنهم يتميزون بإزالة ضبابية التفرقة الدينية والعنصرية والتي مارسها الحكام جنوبيون وشماليون في أنظمة فاشلة ولم يمارسها السكان (الجماهير) هنا ولا هناك، كما حاسماً جداً في تكوين المفوضية العامة للاستفتاء من حيث كمها الواسع ليتيح مشاركة كبيرة ، وفي نوع المختارين لها وأهمية الحياد والموضوعية والحكمة عندهم، كما أن المراقبة الدولية والتي نصت عليها الاتفاقية والدستور يجب الالتزام بها حتى تأتي النتيجة مقبولة للجميع ، كما أن المشاركة للكتل البرلمانية بتعددها وإسهامات القوى السياسية خارج الحكومة والبرلمان أثبت جدواه في حال قانون الصحافة والمطبوعات في وضع مسودتها النهائية حيث الاستفتاء على تقرير المصير أكثر أهمية من كل قانون فيصبح أخذ رؤى الكل فيه أمراً قد يقود لقانون يجعلني (أنا واخوي ملوال) نقول : مافي جنوب بدون شمال !!!