الماضي والحاضر حاضران... فأين المستقبل؟


عمار ديوب
2009 / 7 / 11 - 09:34     

تعليقاً على محاضرة طلال سلمان في دمشق
قدم الأستاذ طلال سلمان قبل عدّة أيام محاضرة في المنتدى الاجتماعي في دمشق تخص المستقبل العربي، وكنا نأمل أن يقدم لنا مؤشرات عن هذا المستقبل، وإذا به يعود بنا نحو أكثر من نصف قرن إلى الخلف، إلى فترة الاستقلال وما بعده وما نحياه اليوم، سارداً هموم الأمة من مغربها إلى مشرقها، متناولاً القومية العربية والشيوعية العربية ومهازل أمة في طور التكوين على يد الخبراء البلغار، الذين نصبهم السوفيات للتحكيم في خلافات الحزب الشيوعي السوري! ذهب بعدها نحو اليمن الجنوبي الماركسي اللينيني الذي تحوّل في أواخر حياته إلى محمية سعودية. متطرقاًً كذلك إلى ليبيا، ذلك البلد الذي لم يترك وحدة عربية ولا أعجمية إلا وخاض غمارها إلى أن انتهى «بوحدة» ما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.. أما السودان، فحدّث ولا حرج، حيث أكثر من أربعين بالمئة من شعبه ليسوا عرباً، والمشكلة ليست هنا بل في كيفية إنشاء الدولة. فهل السودانيون ينتمون لأمة العرب أم لأمة أفريقية خيالية ما! ولا تزال القضية مفتوحة منذ أربعين عاماً، ويبدو أنها لن تنتهي أبداً.
أما لبنان «سويسرا الشرق» فهو حديث المواجع، فقد شاركت في حربه الأهلية كل الأطراف الدولية والإقليمية والعربية والداخلية، ولكن ولو لم يكن الداخل يسمح بذلك لما حدث ما حدث، خاصة أن كل تلك الحرب كانت بهدف إنهاء المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية.
وأشاد سلمان بالمقاومة لما قدمته ضد الاحتلال الصهيوني وربما تعد من العلامات المضيئة في تاريخنا، لينتهي عبر جولته الفكرية التذكارية إلى القول إن العرب أضاعوا البوصلة، حين أضاعوا العروبة، وفلسطين، ولم يكن البديل سوى عالم الطوائف والقبائل والمناطق، وهذا عين الواقع.
ليس من الممكن وجود مستقبل عربي ما بغياب العروبة وفلسطين مجدداً، فهي القضية المركزية وعبر العروبة والمشروع القومي يمكن أن يكون للعرب وجود مستقبلي أكيد. لم يفصّل في هذه القضية، ولربما لو لم يغلبه التعب والحزن، لفصّل عن رؤيته للعروبة هذه. ونقصد، لم يعد ممكناً أن يكرر العرب ما قالوه قبل خمسين عاماً ولا بد من تضمين العروبة أو إكسائها مفردات الحداثة بأكملها، أي لا يمكن بناء عروبة جديدة دون تشكيل دولة المواطنة الضامنة للأفراد الأحرار الكرماء المساواة المطلقة أمام القانون وبدون أي لبس أو إبهام. وكل عمل سياسي جديد يتجاهل منظومة الحداثة حيث العلمانية والعقلانية والديموقراطية والفرد الحر، لا بد أن يكرر المأساة ولكن على شكل مهزلة كما قال ماركس ذات مرة.
لا شك بأن طلال سلمان أراد أن يتكلم عن المستقبل فلم يجد مستقبلاً ممكناً الكلام عنه، فتكلم عن الماضي، وكذلك لم يأخذ معه الحديث عن الحاضر سوى بضع كلمات، فأيّ حاضر لهذه الأمة يمكن الكلام فيه، وأية أنظمة عربية تنهض بها. وإذا كان الوضع على ما صوره سلمان من انتكاسات تتلو الانتكاسات، وهذا قليل بحق واقعنا المثقل بالأزمات، فهل يمكن بالفعل أن يكون مستقبل ما للعرب في عالم متداخل ليس لضعيف أو هامشي أي وجود فيه..!. أي أن نص الأستاذ طلال سلمان، يحمل اندهاشاً مرعباً من عمق التطور في البلدان الغربية وعمق التخلف في البلاد العربية، لذلك لم يتكلم عن المستقبل وكان الماضي هو الحاضر الوحيد في محاضرته.
الواقع معروف بظواهره، ويمكن رصدها إحصائياً في التعليم والاقتصاد والصحة والولادات والسياسة وغير ذلك، ولكن ما يتطلب بالفعل وقفة فكرية هو بضع قضايا تأسيسية. أولاً: كيف نطوّر الاقتصاديات العربية وأية استراتيجيات يجب العمل عليها. ثانياً كيف نحوّل أنظمتنا إلى أنظمة علمانية ديموقراطية تستند إلى المواطنة لا إلى الطائفة أو العشيرة أو الزعيم المطلق. ثالثاً كيف نطوّر التعليم ونعيد صياغة أسسه بعيداً عن تعليم تدجيني استغبائي لا يخرّج لنا سوى أنصاف أميين وأشباه جاهلين. رابعاً كيف نخلّص الأفراد من الشعور بالتفرقة الطائفية والعشائرية والمناطقية فيصبح الجميع مواطنين على قدم المساواة أمام القانون وداخل المجتمع.
هذه أسئلة أساسية تضاف، بل تؤسس لاستعادة فلسطين كقضية مركزية للعرب ولاستعادة مشروع قومي عربي لم ينزع في تاريخه السابق الوطنية المتجذرة، بل عززها: حيث المصري لا يعرف عن السوري تقريباً أي شيء كما أشار سلمان، وحيث الجزائريون والمغاربة والليبيون وغيرهم يحوزون وعياً رومنسياً ضبابياً عن أمتهم أو مشكلات الأمة العربية. هكذا كان الوضع العربي، هكذا كان في زمن الثورات والمشاريع القومية والحركات التقدمية، إلا أنه تراجع عما كان عليه، ولذلك لا بد أن يتغيّر، وقد يساهم في تغييره ما قلنا أعلاه.
قال طلال سلمان إن العرب أكثر من استهلك الحركات الثورية وهذا صحيح، ولكن الحركات ذاتها، كانت دائماً أقل مما يحتاجه الواقع العربي وأقل مما عليه تاريخهم، فالشعوب لا تتطور إن لم تتجاوز حضاراتها القديمة، وتقف نداً أمام الحضارات المتقدمة التي تحايثها في حاضرها، ولذلك يعود الماضي بأسوأ صوره وتغيب عنّا أفضلها.
أورد الأستاذ طلال أن العرب مختلفين عن الغرب، لا شك أن ذلك صحيح، ولكن الغرب لم يعد غربا، فهو شرق أيضاً، أي أن العالم موحد الأوصال، فقد نرفض قضايا كثيرة فيه، ولكن لا يمكن القول إننا من طينة مختلفة عنه، فهو يؤثر عليها اقتصادياً وعلمياً وثقافياً وفلسفياً ومن كل النواحي ولذلك سيؤثر فينا سياسياً وعقلياً وغير ذلك. وكون مشاكلنا مختلفة فهذا لا يعني أننا خارج السياق الدولي، بل نحن جزء من عالم موحد يمزقنا إرباً إرباً، ويسمح لدول الغرب وللدول التي تملك استراتيجيات تنموية أن تتقدم بدورها.
مجدداً لا مستقبل للعرب دون العروبة وفلسطين، وما سيحصدونه بغياب ذلك، ليس أكثر من الإمارات الطائفية والعشائرية والمناطقية، وتعزيز وجود إسرائيل وأميركا وربما دول إقليمية تتحكم بهم. وتلك أفضل وصفة لخروج العرب من التاريخ، هذه رسالة سلمان من دمشق للعرب.
وعن همّ سوري يغور عميقاً في القلب، نقول: المنتدى الاجتماعي الذي عقدت المحاضرة فيه هو المنتدى الوحيد المستقل عن السلطة السياسية في دمشق، دمشق بر الشام، عاصمة الأمويين، ومنطلق الحراك القومي العربي، فهل تعود العروبة وفلسطين بوصلة المستقبل بمنتدى وحيد أعزلَ في دمشق!