العالم كما أراه


عدنان عاكف
2009 / 7 / 2 - 09:44     

العالم كما أراه



ألبيرت آينشتاين

ترجمة : عدنان عاكف




غريب هو حالنا على هذه الأرض. يأتي كل واحد منا في رحلة قصيرة، دون أن يعلم لماذا ولأي هدف، مع انه يتصور أحيانا انه يحدس بشيء ما. غير انه، ومن وجهة نظر الحياة اليومية ، نعرف ان الإنسان موجود من أجل غيره من الناس، وخاصة من أجل أولئك الذين تتوقف سعادتنا كليا على ابتسامتهم وأمانيهم، وكذلك من أجل الكثيرين الآخرين، أناس مجهولون لا نعرفهم، أناس نرتبط بمصيرهم بوشائج من المودة والتعاطف. في كل يوم أذَكر نفسي مئة مرة، كم ان حياتي الداخلية والخارجية مرتبطة بكد الآخرين، الأموات منهم والأحياء، والى أي حد علي أن أبذل جهدي من أجل أن أعطي بمقدار ما أخذت، وها انا ما زلت أخذ حتى الآن. أميل بقوة دائما الى الحياة البسيطة ، وغالبا ما أشعر بالذنب لكوني أستحوذ على قدر أكثر مما ينبغي من جهد رفاقي الآخرين.
أرى ان التمايز الطبقي منافي للعدل، وهو في نهاية الأمر قائم على القوة. ان الحياة البسيطة والمتواضعة أفضل لكل إنسان، من الناحيتين الجسدية والروحية.
لا أعتقد ان الإنسان يتمتع بالحرية، بمعناها الفلسفي؛ إذ اننا لا نتصرف تحت ضغط العامل الخارجي فحسب، بل ووفق ما تتطلبه الضرورة الداخلية أيضا. لقد ظلت مقولة شوبنهاور : " بوسع الإنسان أن يفعل ما يشاء، ولكن ليس بوسعه ان يريد كل ما يشاء" تشكل إلهاما لي في شبابي، وكانت عزائي باستمرار، ومنبع لا ينضب للصبر لمواجهة متاعب الحياة. وهذه القناعة تولد التسامح، وتخفف عنا جزء من المسؤولية التي نشعر بها تجاه الآخرين، إذ انها لا تسمح لنا بأن نأخذ أنفسنا أو غيرنا على محمل الجد، أكثر مما ينبغي؛ انها، بالأحرى، تساعد على بلورة نظرة الى الحياة، يكون فيها للفكاهة موقع.
يبدو لي، من وجهة النظر الموضوعية، ان تفكيرالإنسان باستمرار بعلة وجوده ، وبمعنى الحياة، بشكل عام، هو ضرب من الحماقة ( العبث ) المحضة. ومع ذلك لكل إنسان مُثلُ ومبادئ معينة يسترشد بها في نشاطه وأحكامه. ووفق هذا المعنى، فانا لم أتطلع الى الطمأنينة والسعادة كهدف بحد ذاته. ان المنظومة الأخلاقية التي تقوم على مثل هذه الأسس قد تليق بقطعان الخنازير، لا بتطلعات البشر. أما المُثلْ التي أنارت لي الطريق، المُثلْ التي كانت تمنحني الشجاعة لمواجهة الحياة وأنا مبتهجا هي الخير والجمال والحقيقة.
لولا الشعور بالألفة مع أناس يشابهوني ذهنيا، في السعي لبلوغ ما لا سبيل الى بلوغه أبدا، في مجال الفن والبحث العلمي لبدت حياتي خاوية. الثروة، النجاح المبهر، رغد العيش والشهرة - هذه بنظري هي الغايات المبتذلة التي لطالما تنتصب أمام الطموح الإنساني، وقد كانت على الدوام موضع ازدرائي.
لقد ضل إحساسي الشغوف بالعدالة الاجتماعية والمسؤولية الاجتماعية على تباين غريب مع انعدام الرغبة للاختلاط المباشر مع الآخرين ومع المجتمع. أنا حصان مجبل على العمل المنفرد، ولا أصلح للعمل المترادف أو الجماعي. أنا في حقيقة الأمر مسافر وحيد، لم أشعر قط باني أنتمي من كل قلبي الى دولة أو بلد، أو لحلقة أصدقاء، أو حتى لأسرتي نفسها. كنت دائما أشعر تجاه مثل هذه الروابط بإحساس غريب وبالرغبة بالانطواء والانكفاء على الذات؛ وكان هذا الشعور ينمو في داخلي على مر السنين.
أحس بمرارة مثل هذه العزلة، لكني لست نادما على انقطاعي عن التفاهم والتعاطف مع الآخرين. مما لا ريب فيه ان هذا يؤدي الى فقدان شيء من التعاطف معي، لكني في المقابل أستطيع تعويضه باستقلاليتي التامة عن أعراف الآخرين وأحكامهم وآرائهم المجحفة،وأكون بمنأى عن أن أحدد مواقفي على مثل هذه الأسس الواهية.
مثلي السياسي هو الديمقراطية. ليُحترم كل امرئ كفرد، لكن بدون تأليه أحد. وانه لمن سخرية القدر أن أنال هذا القدر من الإعجاب والتقدير اللذين لست جديرا بهما. فلعل هذا نابع من رغبة الكثيرين، التي لم تتحقق، في فهم حفنة الأفكار التي قدمتها بقدراتي الواهنة عبر محاولاتي المتواصلة.
أدرك جيدا بان أي مجموعة من الناس تسعى الى تحقيق هدفها لا بد من أن تختار شخصا ما، ليأخذ على عاتقه مهمة التفكير والقيادة وتحمل معظم المسؤولية. لكن القيادة لا ينبغي ان تكون بالإكراه، بل لا بد أن يسمح للمقودين باختيار قائدهم. وأرى ان النظام الاوتقراطي الاستبدادي قابل للتفسخ بسرعة، إذ ان العنف دائما يجذب الدونيين، وأنا أؤمن بالقاعدة الثابتة : الطغاة المرموقون يخلفهم الأرذال. لهذا السبب عارضت دائما وبشدة أنظمة كتلك التي نجدها اليوم في إيطاليا وروسيا. أن ما أساء الى أشكال الديمقراطية في أوربا هو ليس فكرة الديمقراطية ذاتها، بل الخلل في قياداتنا السياسية والافتقار الى الاستقرار في قيادات الدولة، وكذلك الطابع اللاشخصي للنظام الانتخابي. وفي هذا الإطار أعتقد ان الذين يعيشون في الولايات المتحدة قد اختاروا الطريق الصحيح. الرئيس ينتخب لقترة محددة من الزمن، ويمنح من الصلاحيات ما تخوله لتأدية مهامه بالمستوى المطلوب. من الناحية الأخرى أني أحبذ في النمط السياسي الألماني رعاية الدولة الأوسع للفرد في حالة المرض أو عندما يكون عاطلا عن العمل، وعند الضرورة. أعتقد ان ما له قيمة حقيقية في مسيرة الحياة ليس الدولة بل الفرد، الشخصية الخلاقة والقابلة للتأثر، الشخصية التي تبدع كل ما هو سام ونبيل، في حين ان عموم القطيع يبقى بليد الفكر وكليل الشعور..
يقودني هذا الموضوع الى السمة الأبرز والأسوأ لذاك القطيع – الجيش البغيض. أن الإنسان الذي يجد متعته في الاصطفاف في الطابور والمشي على إيقاع الموسيقى العسكرية حري بالازدراء والاحتقار؛ يبدو انه حصل على هبة العقل بطريق الخطأ ، فكل ما يحتاج اليه هو العمود الفقري. هذا العنف الأحمق وهذه البطولة الزائفة والهراء اللعين باسم الوطنية – ما أشد احتقاري لكل هذا. الحرب ! كم هي منحطة وسافلة. خير لي أن أقطع إربا على ان أشارك في هذه الأعمال المقيتة. مثل هذه الوصمة ينبغي ان تمحى بدون تردد من جبين الإنسانية...
أروع ما يمكن للمرء ان يجربه هو اللغز الغامض.انه الإحساس الأساسي الذي ينبع منه كل علم وفن حقيقيين. من لم يجرب هذا الإحساس، من لم يعد قادر على التعجب والوقوف مشدوها، حري بأن يموت: انه كمن يقف وعيناه مغمضتان. ان تجربة الإحساس بالإبهام والغموض، حتى وان امتزج بالخوف، هو منبع الدين.ان الكشف عن كينونة الأشياء، التي يستعصي علينا سبرها، هي من تجليات الفكر الأعمق والجمال الأروع، والتي لا يمكن لقدراتنا العقلية ان تدركها إلا في أكثر صورها بدائية. وهذه المعرفة، هذا الشعور هو التدين الحقيقي. بهذا المعنى، وبهذا المعنى فقط ، أعتبر نفسي متدينا بحق...فأنا لا أستطيع ان أتخيل الرب الذي يكافئ ويعاقب مخلوقاته.
حسبي أن أتأمل في سر خلود الحياة، ، أتأمل في البنيان البديع لهذا الكون، الذي لا نستطيع إدراكه إلا إدراكا مبهما...