تشي....ثورة حمراء في فيلم سينمائي


فنزويلا الاشتراكية
2009 / 6 / 8 - 08:42     

أحلامٌ لا تعرف حدود بل تشمل العالم بأكمله وطناً لها هي الأحلام التي كان جمهور مهرجان كان السينمائي في 21 أيار/ مايو 2008 يشاهد تفاصيل إحدى رواياتها.

في فيلم سينمائي، حاول المخرج الأمريكي ستيفن سودبيرغ أن يروي انعكاس هذه الأحلام في حياة الحالم الأرجنتيني أرنستو تشي جيفارا الذي اختار أن يترجمها بطريقته الخاصة من خلال حياة مليئة بالتضحيات الإنسانية.

"تشي" هو الاسم الذي اختار القائمون على هذا العمل أن يختصروا فيه فيضا كبيرا من الأحداث والمشاهد تماما كما اختصروا نضالا في عمل عجزوا فيه عن تغطية تفاصيل كاملة وعجزوا أيضاً عن المغالاة في هذا الاختصار. أربع ساعات وثلث الساعة هي المدة الأقل التي استطاع سودبيرغ ومعاونوه أن يوجزوا فيها كفاح جيفارا المسلح، الأمر الذي استدعى تقسيم الفيلم إلى جزأين يتناول كل منهما مرحلة من مراحل هذا الكفاح التي اختار سودبيرغ أن يسلط الضوء عليها من خلال فيلمي"الأرجنتيني" و "الفدائي".

في وصفه للصورة التي نقلها هذا الفيلم عن حياة المناضل جيفارا، قال الناقد شان راندول "يمنحنا انطباعا بأننا جميعا نملك في داخلنا القدرة على أن نكون ثوريين." ويضيف قائلاً "ولكنه يذكرنا أيضاً أن الثورة ليست سهلة".

عرض فيلم تشي لأول مرة بساعاته الأربع كاملة ومتواصلة في مهرجان كان السينمائي في أيار/ مايو الماضي (2008) وذلك قبل تقسيمه إلى جزأين. ومن ثم تلا ذلك عروض عدة في مناطق مختلفة من العالم أثناء مهرجانات سينمائية في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة. ولعل أبرز العروض كانت في كوبا التي عبر جمهورها عن إعجاب شديد وملحوظ بفيلم يروي تفاصيل ثورتهم وتاريخ انتصار بلدهم.

"إنه تاريخ كوبي، لذا فإن الجمهور هنا قد يكون الناقد الأكبر بل الناقد الأوعى للدقة التاريخية الموجودة في الفيلم" هذا ما قاله بينيسيو دل تورو بطل الفيلم الذي قام بدور بطل حقيقي معبرا عن قلقه من ردود فعل الجمهور الكوبي على هذا العمل الذي حصل دل تورو بسببه على جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي.

من البداية إلى النهاية، قُدِّم فيلم تشي بجزأيه إلى الجمهور باللغة الإسبانية. وقال المخرج سودبيرغ تبريرا لذلك "لا يمكن أن تقدم فيلما بهذا المستوى من المصداقية في هذه الحالة تحديدا دون أن يكون باللغة الإسبانية. أتمنى أن نكون قد وصلنا إلى زمن إن أردنا فيه أن نقدم فيلما عن ثقافة شعب معين أن نقدمه بلغة هذا الشعب. أتمنى أن تكون أيام الثقافة الامبريالية قد انتهت."

من خلال الفيلم "تشي" سعى سودبيرغ إلى تسليط الضوء بشكل أعمق على ثورة المناضل الإنساني جيفارا بتفاصيلها العسكرية والتاريخية أكثر من تركيزه على جوانب أخرى في حياة جيفارا مدركاً أن هذه الثورة هي الناحية من حياة جيفارا التي اختارها المناضل بنفسه والتي من بين كل تفاصيل حياته الأخرى هي التعبير الأصدق عن ذاته.

يقول راندول "يبدأ فيلم "تشي" بشكل أساسي عند تلك الفترة التي ينتهي عندها آخر فيلم حمل قصة المناضل تشي جيفارا " مذكرات دراجة نارية" الذي سرد أحداث المرحلة الأولى من حياة جيفارا وهو شاب لا يزال يكتشف حقائق الحياة من حوله قبل أن يبدأ ثورته. في ذلك الفيلم كان لدى الشاب جيفارا قبل أن يصبح بوليفاريا أحلام بتوحيد قارة أمريكا اللاتينية ويكتشف أن الثورة المسلحة هي الطريقة الوحيدة لتحقيق هذه الغاية."

"الأرجنتيني" هو النصف الأول من الفيلم والذي أصبح فيلماً مستقلا بذاته يمتد 155 دقيقة. وإذ يبدأ هذا الجزء أثناء عشاء اجتمع فيه جيفارا وفيدل كاسترو واتفقوا على رفض ظلم الامبريالية والرأسمالية مطلقين بذلك أولى خطوات حركة 26 يوليو لإسقاط حكم الديكتاتور الكوبي باتيستا، يتتبع هذا الجزء بشكل أساسي جيفارا ورفاقه وهم يمضون برحلتهم النضالية إلى هافانا ويكسبون قلوب وعقول الشعب الكوبي في طريقهم.

وفي ضوء تركيز فريق عمل الفيلم على الأحداث اليومية للثورة، تميزت أحداث هذا الجزء بنقل تفاصيل حرب العصابات ومن الأمثلة على ذلك يظهر وميض التدريبات الثورية والتعليم الأساسي في محو الأمية للفلاحين المقاتلين والمشاركة في الواجبات العامة وحيثيات القتال.

يقول ميك هول، أحد المحللين الذين علقوا على الفيلم، في وصفه لمشهد جلس فيه جيفارا (دل تورو) إلى جانب أحد الفلاحين ليراجع معه الدرس "في هذا المشهد، يتجلى حب جيفارا المطلق للإنسانية."

ولعل أبرز أحداث فيلم "الأرجنتيني" هي تصوير أحداث زيارة المناضل جيفارا إلى نيويورك وإلقائه خطاب في الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإضافة إلى اقتباسات من كتاباته. أما حدث اللقاء الصحفي الذي قام به جيفارا مع الصحفية ليزا هاورد فقد أبرز فيه سودبيرغ الحوافز والفلسفة التي تقع خلف الثورة الكوبية.

يقول راندول "بالنسبة إلى المعجبين بالروح الرفاقية أو بصناعة السينما التوسعية أو بالمغامرات الموجودة في مذكرات جيفارا فإنهم سيعجبون بالجزء الأول."

ومن الانتقادات التي جاءت بحق "الأرجنتيني" الجزء الأول من فيلم "تشي" ما قاله صحفي شاهد الفيلم في مدينة نيويورك الذي أكد استمتاعه بالفيلم ككل ولكنه أضاف "كانت مشاهد الغابة متكررة بشكل ملحوظ مما جعل الفيلم بجزء واحد فقط طويلا جدا." من جانبه، قال الناقد بيتر برادشا، "مهما كانت طبيعة المشاهد التي تتحدث عن حياة تشي ومهما كانت الفترة الزمنية التي تتناولها تلك المشاهد، فإن لتشي حياة من الصعب أن تكون مملة."

"الفدائي" هو الجزء الثاني–ومدته 123 دقيقة-من فيلم "تشي". يبدأ هذا الجزء مع نهاية وجود جيفارا في كوبا وذلك بنقل الأحداث مباشرة من انتصار الثورة في كوبا إلى نضالات جيفارا في بوليفيا دون سرد الأوقات التي عاشها جيفارا ما بين هاتين الفترتين. "بسرعة فائقة يتم نقلنا من ثورة لاتينية معينة إلى ثورة لاتينية أخرى". في هذا الجزء، يبدو جيفارا أقرب للميدان عبر صورة موجهة نحو نضالاته في حرب العصابات بعيدا عن أي حياة خاصة.

وقد يظن البعض أن هذا الجزء يتراجع عن محاولته للدخول إلى أعماق حياة تشي الخاصة ويرتكز بشكل أكبر على حياته في الميدان وأدائه الأسطوري وتحديه الذي استمر إلى آخر لحظات حياته، متناسين أن هذه الملامح تحديدا هي ربما النقطة الأعمق التي يمكن الوصول لها في خصوصية المناضل جيفارا.

ورد في مراجعة صحيفة الغارديان لفيلم تشي "من يتوقع فيلماً دافئا وغنياً كفيلم مذكرات دراجة نارية الذي يتناول حياة تشي الأولى، سيصاب بصدمة عند رؤية فيلم "تشي". لأن الأخير هو فيلم قاسٍ لا يأخذ على عاتقه الدخول إلى أعماق الثائر الشهير بل يظهر فقط تشي الرجل العام الذي يخاطب رفاقه في الميدان أو جنوده في الغابة أو الوفود الدولية في الأمم المتحدة."

في "الفدائي" هي قصة ثورة كثورة "الأرجنتيني" وكأن المسيرة تبدأ من جديد، إلا أن الأحداث هذه المرة تأتي معكوسة، لتبدأ من النصر وتنتهي في أرض المعركة. وعلى الرغم من أنها أحداث أقل من أحداث الثورة الكوبية التي اشتهرت بشكل أكبر، إلا أن الثورة البوليفية تبدو في الفيلم أكثر إثارة وتشويق. يقول الناقد مك هول "إن الجزء الثاني من فيلم تشي هو أكثر تشويقا بجوانب كثيرة لأنه يثير الأسئلة أكثر مما يجيب عليها." وربما يعود هذا الأمر إلى أن اللحظات التي فيها عثرات تبدو أكثر إمتاعا من تلك التي فيها نجاح.

فقد آثر جيفارا في فيلم "الفدائي" إلى نقل الثورة التي حققت ذلك النصر العظيم في كوبا إلى كافة أنحاء أمريكا اللاتينية عله يحقق هذا النصر خارج إطار القيود التي كانت مفروضة على ثورته في كوبا. ومن هنا يعتزل من منصبه الوزاري في كوبا ويغادر إلى بوليفيا لبدء ثورة جديدة وتحرير الشعب هناك من حكومته الفاسدة. إلا أن المناضل جيفارا يصل بوليفيا ليجد جمعا غير مجهز ولا منظم ويجد أنه غير موثوق به لأنه غريب عن هذه البلاد. فيغدو الجزء الثاني، على عكس الأول وما فيه من نصر ونجاح، حاملاً تفاصيل العثرات والانتكاسات التي واجهتها ثورة الأحرار.

ولعل الفكرة الأقل تفاؤلاً التي طرحها الجزء الثاني من فيلم "تشي"، والتي تتلخص بوجود تلك الحالة التي يقبل فيها المظلوم أن يبقى تحت سيطرة الظالم، تدل على العد التنازلي الذي يتناوله الجزء الثاني بدءً من النصر في الثورة الكوبية الذي ينتهي عنده الجزء الأول.

فيبدأ الجزء الثاني من لحظات تشي الأخيرة في كوبا ووصوله إلى بوليفيا حيث يرسل رسالة إلى كاسترو في كوبا موضحا له كيف أن عمله قد انتهى هناك وأن النضال يجب أن يستمر في مكان آخر. فبالنسبة لهذا المناضل، إن حالة العمال والفلاحين البوليفيين التي كان يرثى لها في ذلك الوقت كانت تتطلب أن يتحرك ضد ظلم كهذا حتى وإن فشل.

في تلك الفترة كان تشي يقارب سن ال40، وكان يعاني من حالة صحية سيئة تعتمد على العلاج الدائم. ومع ذلك تسلل إلى بوليفيا ليبدأ رحلته الأخيرة مع حرب العصابات. وهناك، في ثورته البوليفية، شهد الأسر كما شهد نهايته على يد القوات البوليفية التي كانت مدربة ومجهزة وممولة من قبل الاستخبارات الأمريكية. إذ إن جيفارا في ذلك الوقت، بفعل صيته الذي انتشر في العالم كله، كان قد أصبح ظاهرة مكروهة من قبل الرأسمالية العالمية.

مشهد الاغتيال يظهر في الفيلم بوضوح وبساطة من دون أي تعتيم.

"لقد مات تشي جيفاره بنفس الطريقة التي عاش فيها، ببطولة ووفاء. بلا شك، قام موته بنشر رسالة لا تزال تهز العالم حتى الآن بين طيبي القلوب من الناس. لقد علّمنا جيفارا أنه عندما تعاني الشعوب في ظل حكومات قمعية وتقاسي المشقة وتحرم من خيرات الحياة، فلا يمكننا أن نمضي ببساطة إلى الطرف الآخر." بحسب ما قاله هول.

يتسلسل الفيلم في بدايته من خلال المقابلة الصحفية التي أجراها تشي في نيويورك عام 1964 والتي يعرضها الفيلم بالأبيض والأسود. أما النهاية، فتكون بالعودة إلى القارب الذي نقل تشي مع فيديل وراؤول كاسترو إلى كوبا، بنظرات يلقيها البطل تشي بعمق إلى فيديل وراؤول كما لو أنه يطلب ألا يترك النضال وأن تنتقل الثورة إلى القارة اللاتينية بأكملها كما طلب تشي من فيديل قبل المضي برحلة النضال الطويلة.

باختصار، يدور فيلم تشي بجزأيه حول فكرة التفاؤل بأن الاشتراكية يمكنها أن تكون قوية لتغير الحياة. وكيف تتجسد هذه الفكرة في شخصية تشي بل كيف تتجسد فقط من خلال شخصية كشخصيته بكل ما فيها من مثابرة وإيمان واستمرار. فيلم "تشي" أتى ليؤكد أن نضال أولائك الأبطال لم يكن انقلابا بل كان ثورة، لم يكن تغييرا لقيادات معينة بل كان تغييرا لقيم سياسية بأكملها.