ميخائيل ليرْمَنْتف «بايرون روسيا»

إبراهيم إستنبولي
2009 / 6 / 1 - 04:33     


وداعــاً يــا روســيا المتســخة بــلاد العبيــد

ميخائيــل ليرْمَنْتــف

مما لا شك فيه أن الشاعر الروسي ميخائيل ليرمَنْتف قامة إبداعية في الأدب العالمي... ومع أن رصاصة غادرة وضعت نهاية لحياته باكراً وهو في السابعة والعشرين فقط من عمره وفي ذروة العطاء, إلا أن حياته القصيرة التي يشبهها البعض بالأسطورة, كانت كافية للعبقرية لأن تسجل أسمى آيات الإبداع... لكأنه كان يسكب في كل كلمة جزءاً من روحه المتمردة, روح جبارة عميقة الأغوار – حسب تعبير الناقد الروسي المعروف بِلينسكي.
لقد تأثر ليرمنتف بداية بشاعر روسيا الكبير الكساندر بوشكِن, ثم بشكل أساسي بالشاعر البريطاني بايرون. وقد سعى لتقليد هذا الخير في الشعر كما في سواه وحتى في شكله الخارجي... فصار لروسيا بايرون (ها) عن حق.
تفتحت عبقريته باكراً... ولكن قصيدته التي كتبها وتم نسخها وتوزيعها في جميع أنحاء روسيا عام 1837 والتي رثا فيها بوشكِن بعد مقتله بمكيدة مدبرة من البلاط, دفعت النقاد لتتويجه وريثاً لبوشكِن بكل ما للكلمة من معنى. وقد كانت القصيدة سبباً لاعتقال ليرمنتف في 3 آذار من نفس العام.
وفي الخامس عشر من تموز عام 1841 أردتِ الشاعر ذا الروح الجموحة رصاصة صديقه مارتينوف في مبارزة دبرت على عجل بعد مزحة رماها ليرمنتف إليه.
تتميز أشعار ليرْمَنْتُف بالسمو وباحتقار الحياة الدنيوية مع التوجه نحو الخالق ونحو السماء ناشداً الخلود. ففي ذلك السمو فقط كانت روحه القلقة تمتلئ بمشاعر الاستكانة السعيدة, استكانة لم تكن كافية لتستقر روح الشاعر على هذه الأرض فترة كافية لتنقل لنا قدراً اكبر من صور الإبداع المفعمة بالشموخ و التسامي.
غصن فلسطين
قل لي, يا غصن فلسطين,
أين نموتَ, أين أزهرت؟
وأي تلال وأية وديان
كنت تزيّن؟
و هل داعبك شعاع الشرق
عند مياه الأردن الطاهرة,
أم رياح ليلية هزّتك بحنق
في جبال لبنان ؟
و هل كان أبناء أورشليم الفقراء
يتلون صلاتهم بخشوع,
أم كانوا ينشدون أغانيهم التراثية
و هم يضفرون أوراقك ؟
هل ما زالت تلك النخلة حية حتى الآن ؟
و هل ما زالت تجتذب
برأسها ذي الأوراق العريضة
عابر الصحراء في أوقات الصيف القائظ ؟
أم أنها ذبلت, كما هو حالك,
من جراء الفراق الشجي,
وليغطي غبار الوادي
بلهفة الأوراق المصفرّة؟...
اخبرني: مَن الذي حملك
بيد ورعة إلى ذلك المكان؟
كم كثيراً راح يحنو فوقك بحزن؟
وهل تحتفظ بآثار الدموع الحارقة؟
أم أنه, الأفضل من بين جند الله الأخيار,
كان بجبين ناصع البياض,
ومثلك, جدير بالسماوات أبداً
أمام الرب وأمام الناس؟...
مصاناً بعناية خفية
تقف, يا غصن أورشليم,
أمام الإيقونة الذهبية,
كحارس أمين على الأماكن المقدّسة!
غسق شفيف وشعاع قنديل,
هيكل وصليب, ورمز مقدّس...
كل شيء مفعم بالسلام وبالمسرّة
من حولك ومن فوقك...

ثلاث نخلات
(حكاية شرقية)
في ربوع الصحراء العربية
راحت تنمو شامخةً ثلاث نخلات أبيّة.
انبثق ينبوع من التربة القاحلة بينهن
وراح ماؤه البارد يتدفق رقراقاً,
يحميه ظل الأوراق الخضراء
من قيظ أشعة الشمس ومن الرمال الزاحفة.
انقضت سنوات كثيرة في صمت؛
دون أن يدنو من الماء العذب
عابر سبيل متعب ليروي عطشه
من النبع البارد تحت الظلال الخضر,
فتبتل العروق وينتعش الجسد.
وإذ بالجدول الرقراق بدأ يجف
وبالأوراق الوارفة أخذت تيبس
بفعل أشعة الشمس الحارقة.
وراحت النخلات الثلاث تشكو متذمرة إلى ربها:
ألذلك نحن خُلقنا لكي نذبل ها هنا؟
فهل نمونا وأزهرنا في الصحراء بلا جدوى,
كي تهزّنا الرياح ويحرقنا القيظ,
دون أن نُسْعِدَ البصرَ اللطيف لأحد؟...
إن حكمك غير عادل, يا أيتها السماء!
وما إن سكتنَ – حتى راحت تموج
في الزرقة البعيدة أعمدة الرمال الذهبية,
وراحت تنتشر أصوات نشاز لأجراس,
كما تبدّت الرِحالُ المغطاة بالسجاد المزركش,
وسارت القافلة والجِمال تتمايل,
كما القوارب في البحر,
الواحد تلو الآخر, وهي تمخر الرمال.
كانت الأطراف المزركشة للهوادج المتنقلة
تتأرجح وقد تدلّت بين الأسنمة الصلبة.
وأحياناً كانت أياد سمر ترفعها,
لتتلألأ من خلفها مآق سود...
وقد راح الفارس العربي ذو القد الممشوق
ينحني عبر القوس ليحث الحصان الأدهم.
فكان الحصان أحياناً يشبُّ, أو كان يقفز,
كما النمر الأرقط وقد أصابه سهم.
فتبدأ الثنيات الجميلة للرداء الأبيض
تتموج وتتطاير عند كتفي الفارس.
فيندفع يعدو في الرمال مع الصفير والصراخ
وهو يرسل رمحه في الهواء
ثم يجري ليلتقطه من جديد.
وتقترب القافلة من النخلات في صخب:
نصبت الخيام في ظلّها؟,
وراحت الجِرار ترنّ إذ امتلأت بالماء,
والنخلات تتمايل بهاماتها المغبّرة طرباً
وهي ترحّب بالضيوف غير المنتظرين.
وليروي عطشهم جدولها البارد بسخاء.
وما كاد الظلام يحلّ,
حتى راحت فأس تتابع ضرباتها
في جذوع النخلات المرنة.
فسقطت بنات القرون هامدة بلا حياة!
ومزّق الأطفال الصغار ثيابهن,
ثم قطّع الكبار أجسادهن فيما بعد,
وراحوا يوقدون النار منها ببطء حتى الصباح.
وبعد ان انقشع الضباب متجهاً نحو الغرب بسرعة,
وانطلق الركب خاتماً دربه المعهود,
لم يبق من أثر حزين على الأرض الجرداء
من بعده سوى رماد أبيض و بارد,
ولتتكفل الشمس بحرق ما تبقى,
ثم لتذروه الريح في الصحراء.
والآن وحدهما القفر والوحشة يسودان –
والأوراق الخضراء لا تناجي الجدول الرقراق:
عبثاً هو يطلب الظل من النبي –
وحدها الرمال الحارقة تنهال عليه,
وربما صقر البوادي ذو الريش المنفوش
والمتوحش ينهش فريسته بقربه بلا مبالاة.
1839
لحن يهودي
(محاكاة بايرون)
روحي حزينة. فهيا, أيها المطرب, اسرع!
هي ذي القيثارة الذهبية:
دع أناملك وهي تسعى على أوتارها,
تبعث فيها ألحان الجنة.
فإن كان القدر لم يذهب بآمالي إلى الأبد,
فلا بد أن تنتعش في صدري.
وإذا كانت ثمة قطرة دمع في المقلتين المتجمدتين –
فلسوف تذوبان وتذرفانها.
لتكن أغنيتك متوحشة. فألحان الفرح ثقيلة
على نفسي كما هو تاجي!
فأنا أقول لك: أريد دموعاً, أيها المطرب,
وإلا فسوف يتمزق الصدر من العذاب.
فقد كان الصدر مشبعاً بالآلام,
إذ كابدتِ الروحُ طويلاً وبصمت.
وها قد حانت اللحظة الرهيبة - فالصدر طافح الآن
كما هو كأس الموت وقد أترع بالسم.
1836
إلى ...
أنا لن أتذلل أمامك,
فلا سلطة على قلبي
لا لسلامك و لا لعتابك.
اعرفي: نحن من هذه اللحظة غريبين .
لقد نسيتِ: فأنا لا أبادل
الحرية بالضلال.
مع أني ضحيتُ لسنوات
لأجل ابتسامتك وعينيك,
وبالتالي كنتُ أرى فيك
أمل أيام الفتوة زمناً طويلاً,
إذ كرهتُ العالَمَ بأسره
لكي أغرمَ بك بقوة أكبر.
و مَن يدري, ربما إن تلك اللحظات
التي قضيتها بالقرب منك,
إنما انتزعتها من الإلهام!
فبماذا أنتِ عوّضتِ عنها؟
ربما, مسلحاً بإرادة الروح
وبمحبة السماء, كنتُ سأمنح
العالَمَ هبةً رائعة, وهو بدوره
كان سيمنحني الخلود؟
لماذا وعدتِني بكل الرقة
أن تكوني البديل عن تاجه,
لماذا لم تكوني منذ البدء
كتلك التي صرتِها فيما بعد!
أنا أبيٌّ ! – اعذريني ! ولتغرمي بآخر!
هيا احلمي أن تجدي الحب عند غيري.
فليس ثمة ما هو أرضي
ويستحق أن أصبح عبداً له.
على الأرجح, أنني سأغادر
إلى جبال غريبة تحت سماء الجنوب؛
لكن يعرف واحدنا الآخر جيداً
فكيف يمكن أن ننسى بعضنا.
من الآن فصاعداً سوف أستمتع
وسأقسم لكل واحدة بأنني مغرم بها.
مع الجميع سوف أتسلى,
دون أن أرغب بالبكاء مع أحد!
سوف أخادع بلا رهبة من الرب,
لكي لا أغرم كما سبق وأغرمت –
وهل يمكنني احترام النساء
بعد أن خانني ملاكي؟
كنتُ مستعداً للموت وللعذاب
وأن أدعو العالم بأسره للمبارزة,
من أجل أن أصافح –
أنا الأحمق! – يدك الغضة!
لقد وهبتك روحي
قبل أن أعرف خيانتك الغادرة,
فهل كنتِ تعرفين قيمة مثل تلك الروح؟
كنتِ تعرفين – أما أنا فلم أكن أعرفك!
1832
من غوته
ذرى الجبال
تغفو في ظلمة الليل,
والوديان الهادئة
مفعمة بالعتمة المنعشة.
الدرب لا تثير الغبار,
والأوراق ساكنة...
هيا تريث قليلاً,
فسوف ترتاح أنت أيضاً.
بلا عنوان
وداعاً, يا روسيا المتسخة,
بلاد العبيد, و بلاد الأسياد،
وأنتم, يا أصحاب البزّات الزرقاء,
وأنتَ, أيها الشعب الأمين لها.
ربما أنا سأختبئ,
خلف جدران القفقاس,
من باشاواتك,
من عيونهم التي تراقب كل شيء,
ومن آذانهم التي تلتقط كل شيء.
(كاتب سوري)
[1ـ كتب ليرْمَنتف هذه القصيدة بعد أن رأى سعفة نخيل ترمز إلى فلسطين .
إعداد و ترجمة /إبراهيم إستنبولي