الرئاسة لليسار السلفادوري والتحديات شديدة التعقيد


فنزويلا الاشتراكية
2009 / 5 / 6 - 09:53     

نجح موريس فونز الصحفي ذو الخمسين عاماً في تحقيق نصر انتخابي شكل علامة فارقة في تاريخ السلفادور التي لم تشهد حكماً تقدمياً قط منذ استقلالها من الاستعمار الاسباني قبل قرنين من الزمان. أشارت نتيجة الفرز إلى تقدم طفيف في فارق الأصوات بين مرشح جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني اليسارية(FMLN)-أو الفملن-الذي حصل على 51,3% من الأصوات فيما نال خصمه اليميني مرشح الحزب الحاكم رودريغو أفيلا 48,7% والفارق حوالي سبعين ألف صوت في بلد يبلغ تعداد سكانه حوالي 5,7 مليون إنسان.

تم اختيار فونز مرشحاً للحزب اليساري في العام 2007 بعد عام من المؤتمر الوطني للحزب الذي أصدر بياناً أعلن فيه أن الشعب يتطلع لنظام جديد لمواجهة الوضعين السياسي والاقتصادي الذين ما عادا يحتملان، فكان اختياره لأسباب عديدة أهمها رغبة الحزب بتقديم وجه يمثل أطياف أخرى تشاركه تطلعاته نحو التغيير بعد احتلال اليمين-الذي أنتجته ميليشيات الموت خلال الحرب الأهلية-للسلطة في البلاد لعقدين من الزمن، بالإضافة لكون فونز وجه معروف وذو شعبية عارمة بفضل تاريخه الصحفي الذي رافق حكم اليمين لمدة عشرين عاماً ملاحقاً من خلاله فضائح الحكومة ومسلطاً عليها الضوء ليكسب بذلك ثقة العديد من السلفادوريين كما أنه كان بعيداً عن الحرب الأهلية التي اجتاحت البلاد، لذا فلا ترافقه صورة المغوار المسلح. وبذلك يتمكن الحزب من الحصول على أصوات من يخشون من تحويل البلاد إلى ضفتي نهر متصارعتين جراء إحياء الثأر القديم الجديد.

النصر الرئاسي سبقه نصر في الانتخابات التشريعية، فتربع الحزب اليساري على قمة هرم القوى السياسية في البلاد حاصداً 35 مقعداً ولكنه ومع ذلك لم ينل الغالبية التي تخوله الانفراد بالسلطة التشريعية فهو يواجه معضلة مفادها أنه إذا ما أراد-أي الفملن-تشكيل حكومة عليه أن يتفق أو يتوافق مع بعض القوى المحافظة في البلاد والتي إن تحالفت فيما بينها فإنها تشكل الغالبية، إلا أن خلافات فيما بينها قد تسمح للحزب بالدخول من باب تلك الخلافات وتشكيل توافق مقبول. وهذا التوافق الذي لا بد وأن يتم فهو يعتبر معالجة سياسية شاملة-ومؤقتة-لواقع مقسم، فعلى الحزب اليساري من جهة أن يراعي مصالح من يتحالف معهم أو على الأقل أن يبتعد عن إغضابهم وبأفضل الأحوال أن يكسب ثقتهم بأنه ما من شيء يتعرض مصالحهم ولكن ومن جهة أخرى فالحزب قد انتخبته قوى شعبية مضطهدة أنهكتها السياسات اليمينية وستنهكها قريباً آثار الأزمة المالية العالمية التي سيكون تأثيرها مؤلماً على البلاد لأنها تعتمد على الأموال التي يرسلها المهاجرون السلفادوريون من الولايات المتحدة الأمريكية والذين يبلغ عددهم 2,5 مليون شخص وهم يشكلون ثاني مصدر دخل للسلفادور التي ستعاني أيضاً من تأثيرات عضوية للأزمة الاقتصادية بفعل ارتباطها بشكل كامل بالاقتصاد الرأسمالي العالمي كما أن عملتها المتداولة هي الدولار الأمريكي مما يعني صعوبات اقتصادية جمة لا يحسد عليها من سيتولى مهمة التخفيف من وطأتها. ولكن فونز انتخب لا ليخفف من وطأتها فحسب بل ليلغيها ويغير من حال البلاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي فهو سيدخل في أزمة مع من صوتوا لليسار بأن يقدم ما يطلبون ويلبي التزاماته التي توعد بها لهم، مما سيزيد الأمور تعقيداً بالنسبة لحاكم البلد الأصغر على البر اللاتيني.

إلا أن هذه المعضلة التي على الرئيس المنتخب أن يحلها وبمهارة سياسية عالية ليست الوحيدة، فليس عليه فقط أن يوفق بين طرفين، واحد انتخبه وآخر لا يمكن له في هذه المرحلة أن يحكم بدونه بل لا بد له من إيجاد صيغة أخرى أيضاً تقوم على أساس حل سياسي شامل-ومؤقت-لواقع مقسم، لكن هذه المرة على مستوى السياسة الخارجية، فالولايات المتحدة الأمريكية تستقبل على أراضيها "حفارات" مال بشرية تشكل سنادة رئيسية للاقتصاد السلفادوري الذي لا يمكن له أن يتحمل حتى التهديد بترحيلهم إلى بلادهم، بالإضافة إلى أنها تشكل الشريك الاقتصادي الرئيس للسلفادور حيث أن 80% من صادرات الأخيرة تتجه نحو الولايات المتحدة الأمريكية التي هي فعلياً تمثل رئتي الاقتصاد السلفادوري، فلا يمكن لفونز بأي حال أن يثير أي مشاكل مع إمبراطورية الشمال إلا أنه سيضطر لفعل ما قد يثير انزعاجها، فعلى الطرف الآخر للسياسة الخارجية توجد فنزويلا وثورتها البوليفارية التي قد تساهم في مساندة السلفادوريين خلال الأزمة على الأقل بتقديم نفط رخيص يسدد سعره بأقساط مريحة جداً بخدمات أو بمواد أولية من خلال منظمة "بتروكاريبي" التي سبق وأن انضمت إليها عدد من البلديات والأبرشيات التي يسيطر عليها الحزب اليساري، ومن جانبه فقد رحب قائد الثورة الاشتراكية في فنزويلا بالسلفادور عضواً في المنظمة إذا ما أرادت وبشكل حر ومستقل وبقرار سيادي أن تنضم اليها، فهذا النفط يشكل مورداً لا بأس به لامتلاك أدوات إضافية قد تساعد الحكومة الجديدة على تنفيذ عدد من وعودها للناخبين، كما أن هؤلاء الناخبون بجزء كبير منهم صوتوا للفلمن كما لو أنهم يصوتون للرئيس تشافيز الذي حاول فونز قدر الإمكان الابتعاد عن ربط نفسه به مراعاةً للتوازن الذي سبق ذكره على الصعيدين الداخلي والخارجي إلا أن هؤلاء يتوقعون تحولات في بلادهم قريبة من التغييرات في فنزويلا أو حتى التقرب منها والتحالف معها إقليمياً، فالصور التي تظهر الرئيس تشافيز بالقرب من فونز كانت منتشرة في السلفادور كما أن الإعلانات التي ربطت بين الرجلين ملأت وسائل الإعلام وكان مموليها والدافعين نحوها هم اليمينيون وحتى الصور كان إعدادها يمينياً لإخافة السلفادوريين مجدداً من حكم مشابه لحكم فنزويلا إلا أنه ومن الواضح أن هذه الحملة الدعائية لعبت دوراً باتجاهين فإن كانت قد أرهبت القلة فإنها قد أشعلت الحماس لدى الكثر الذين سيزيدون من الضغط على الرئيس الجديد في سياساته الخارجية تحديداً ليكون قريباً ممن يرونه قائداً لحركة الاستقلال اللاتيني والثورة الاشتراكية في القارة.
وعقب النصر الانتخابي الديمقراطي الذي حققه مرشح جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني اليسارية(FMLN)أصدرت وزارة السلطة الشعبية للشؤون الخارجية الفنزويلية بياناً جاء فيه أن "النصر يعزز المد التاريخي في هذا العقد الأول من القرن الواحد والعشرين..اليوم، لم يتردد الشعب السلفادوري، لقد تقدموا مظهرين شجاعتهم ونقاءهم، هازمين حملة الأكاذيب والهراء والتلاعب التي أطلقت ضد الجمهورية البوليفارية وضد الزعماء التقدميين والموقرين في أمريكا اللاتينية..الرئيس هوغو تشافيز يهنئ الرئيس المنتخب موريسيو فونز ويذكره بأن وحدة شعوبنا هي الدرب الوحيد لتجاوز أزمة أطلقها قلب الرأسمالية في الشمال. في هذه اللحظة الحاسمة، كأبناء لبوليفار، نقدم أيدينا تضامناً مع الرئيس موريسيو فونز..نحن الفنزويليون اليوم سعداء، وفي ساعة السعادة هذه نقدر قائد السلام شفيق حنظل والعديد من الرجال والنساء الذين قدموا أرواحهم في سبيل انبعاث الشعب السلفادوري."

كما رحبت الولايات المتحدة الأمريكية من جانبها بالعملية الانتخابية في السلفادور وبنتائجها، وقال سفيرها في العاصمة السلفادورية روبرت بلاو إن بلاده لن تتخذ موقفاً عدائياً من الرئيس المنتخب في حال اختار التقرب من فنزويلا، إلا أن مجرد "التقرب" قد لا يكون كافياً لفونز الذي لن يواجه فقط معضلتين داخلية وخارجية تتمثلان بتحقيق توازنات بالغة التعقيد بل عليه أيضاً أن يواجه مشكلات اقتصادية متفاقمة بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الجريمة التي جعلت السلفادور تحتل مكانة خطيرة بعدد ضحايا الجرائم في العالم كله.

فالرئيس الجديد، ومما يتضح من تصريحاته "المعتدلة" والظروف المحيطة به والواقع السياسي والاقتصادي الذي تخوض فيه السلفادور ومحيطها الإقليمي، سيعمل على الإمساك بالعصا من منتصفها بتحقيق التوافق مع بعض القوى المحافظة في الداخل وإقامة بعض الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسعي للمحافظة على العلاقات الإيجابية مع الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يمكن ضمانها، فالكل يسعى لتجنب شرورها الإمبراطورية إلا أنها تتحرك وفق مصالحها فقط مما لا يعطي ضماناً كافياً لبقائها على الأقل محايدة اتجاه السلفادور مما سيدفعه للتقرب من فنزويلا لضمان حليف للمستقبل ولتلبية أصوات ضغط شعبي داخلية في هذا الاتجاه، تلك الأصوات التي يتوجب عليه أن ينفذ التزاماته نحوها ولو بشكل تدريجي وبطيء. وعلى الأقل يجب في هذه المرحلة أن يحافظ على المسافة المتساوية من الجميع وأن يكسب ثقة المزيد من السلفادوريين ويهيئ كما هيئ قادة يساريون كثر في القارة من قبله البلاد لمرحلة انتقالية تعقب كل انتخابات مقبلة ستحدد ما إذا كانت سياساته المتوازنة قد حققت نجاحاً كافياً ليحصل على الغالبية في المجالس المحلية (البلديات وسواها) والتشريعية وأن يحافظ على منصبه ليتمكن من تحقيق التغييرات الجذرية التي إن لم تكن خلال السنوات القليلة المقبلة إلزاميةً، فإنها لاحقاً ستتحول لمعيار يحكم استمراريته هو والحزب اليساري في السلطة. فعندها لن يكون أمامه أي مجال لإقامة التوازنات بل عليه أن يباشر بالهجوم سرعان ما يمتلك القدرة على ذلك، وإن تأخره عن الهجوم سيعني الموت السياسي له على الأقل وتهديداً لوجود الحزب اليساري على رأس القوى السياسية وربما اليسارية في حال فقد مصداقيته الطبقية.

فلا معاداة للولايات المتحدة هي ضرورية أو متوقعة ولا ابتعاد عن فنزويلا هو مطلوب بل العكس هو المفروض شعبياً، والعلاقات مع كوبا ستعود كاملةً، وتبقى مساحة، مهما بلغ ضيقها، كافية للتحرك ولو قليلاً. ولكن تبقى حقيقة واحدة لا تقبل التشكيك أو المتاجرة، وهي أن الشعب السلفادوري اختار كما اختارت شعوب أمريكا اللاتينية الاتجاه نحو اليسار، وتبقى مهام النضال في وجه البرجوازية التي لن تبقى ساكنة بكل حال، وبوجه الإصلاحيين في الحزب والسلطة مهام ملحة، ستحدد شكل السلفادور المقبل، الذي بدء أحمراً وسنتتبع مدى درجة احمراره بمرور الوقت وكما قال الرئيس تشافيز معلقاً على النتائج الانتخابية: "المهم أن النصر في الانتخابات قد تحقق." وهو محق لأبعد الحدود، فالخطوة الأولى قد تمت، وتبقى الثقة بالسلفادوريين ليخطوا الخطوات الأخرى مع اخوتهم اتجاه التحرر والاشتراكية.