مندهشون في عالم بلا خرائط


عبد العزيز الراشيدي
2009 / 5 / 7 - 08:56     

إلى كل المثقفين القابعين في موقف الصفر بين الضدين

في زمان الزلزال الذي أصاب النظم الاشتراكية في العالم وفي زمان الأزمة التي يعانيها الفكر النقدي التقدمي منذ سنوات ودورانه على نفسه في ما يشبه الضياع ،وفي زمان التفتيش الحائر والمحموم عن وضوح الرؤية في طريق غط الضباب والتدليس والتكالب معالمه وتكاثف فصار أقرب ما يكون إلى ظلمة حالكة .في زمان التخلخل الفكري والأسئلة المقلقة واختلاط المفاهيم .تأتي مقالتنا هذه لتقف على هذا الوضع الحالك لتحاول تسليط الضوء ونزع بعض الأقنعة الورقية وتحطيم كل الستائر التي تغطي جزء كبير من الحقائق الفكرية في تاريخ الفكر البشري ، وسلاحنا في هذا العمل مطرقة السؤال الفلسفي التي تهدم كل الأوهام لتبني الحقائق في شكلها النسبي الحقائق التي تنصف وتعترف بكل الذين ساهموا في بنائها بل وضحوا بحياتهم من أجلها .
إن عنوان مقالتنا هذه يحمل في ثناياه إحدى أضداد الحقيقة ألا وهو الإندهاش ،وحينما أتحدث ها هنا عن الإندهاش لا أتحدث عنه كلحظة مؤسسة للسؤال الفلسفي بل أتحدث عنه كموقف أو بتعبير أدق كانبهار. وإدراج هذا المفهوم ليس بأمر اعتباطي بل إن النقطة أو الإشكال الذي سأقف عليه يستدعي ذلك ،فالمعني ها هنا بالمندهشين هم بعض أو العديد من المثقفين في وطننا،هؤلاء المثقفين الذين لم يستطيعوا لحد الآن تأسيس موقع تاريخي لأنفسهم بل ظلوا في مهب الريح يحاولون كل مرة أخد صورة لهم مع أي صوت فكري سطع نجمه .
ففي مرحلة السبعينيات وما قبلها عرف الفكر الماركسي انتشارا كبير في كل بقاع الأرض ولم تعد تمت أرض لم يصلها كتاب الرأسمال ،فهب مثقفينا إلى الكتابة عن الماركسية والاشتراكية والثقافة التورية والواقعية الاشتراكية ومفهوم الالتزام والصراع الطبقي ... ومسرح الفقراء وهلم جرة من المفاهيم الماركسية التي جعلت من ماركس معلما للبروليتاريا وأفكاره مرشدا لكل الحركات التحررية التي عرفها العالم بعد نجاح ثورة أكتوبر 1917 والثورة الثقافية في الصين وانتفاضة الطلبة 1965 بالإضافة إلى الإشعاع الثقافي والأدبي الذي ساهمت أفكار ماركس وانجلز ولينين وموتسي تونغ ... في إشعال فتيله والمتمثل خصوصا في الآداب الروسي وظاهرة الفرق الموسيقية الثورية ومسرح البسطاء مع بريخت. إن هذا الإشعاع لم يقف عند حدود الدول الفقيرة عفوا المفقرة بل وصل إلى قلب الدول الأكثر الرأسمالية وشكل بالنسبة لها خطرا كبير يهدد وجودها واستمرارها ، ومنذ ذلك الحين والرأسمالية وربيبتها الليبرالية تعمل على مواجهة أفكار وثقافة التغيير عبر نشر أفكار معادية للماركسية ومشككة في قيمة الماركسية وجدتها التي استمدتها من الاستفادة والتطوير للخبرات المعرفية التي راكمها الفكر البشري منذ القرن السادس قبل الميلاد إلى حدود القرن التاسع عشر .ولخدمة هذا الغرض قامت الدول المعادية للفكر النقدي التقدمي بصناعة نخبة من المفكرين والفلاسفة والمثقفين صوبوا كل مجهداتهم نحو نقذ الماركسية والتحليل المادي للتاريخ ،بل والأكثر من ذلك حاولت هذه الدول خلق أصداء لهذه التيارات من داخل كل أشكال الإبداع الإنساني (المسرح ،الرواية ،القصة ،الشعر...)تحت يافطة الفلسفة من اجل الفلسفة أومن أجل المعرفة ،الأدب من اجل الأدب والفن من اجل الفن ... محاولة بذلك إبعاد كل أنماط الفكر والإبداع الإنساني من ساحة الصراع السياسي.
إن هذا الإبعاد لا يغدوا أن يكون مجرد خطوة نحو وضع الإبداع الإنساني خارج قضايا الإنسان ،وفي موقع اللا موقع بين الضدين أي في موقع الصفر الكلي حيث الزمن لا يراوح مكانه ولا يتضح غير المستحيل والأفق يبدوا بلون غامض والفكر يتجه نحو ما هو كائن ولا يفكر في ما هو ممكن انه زمن مكسور من جهة الماضي ومبتور من جهة المستقبل والحاضر فيه يتفتت .إن إبعاد الفكر الإنساني بكل أشكاله من ساحة الصراع السياسي الذي هو في العمق صراع طبقي هي محاولة فاشية لوضع الإنسان خارج التاريخ والزج بالفكر في موقع النقد من اللا موقع في محاولة وهمية لإلغاء الصراع بين المواقع عبر شل قدرة الفكر الإنساني على التمييز بين الحد المعرفي الفاصل بين فكر وفكر أو بين موقع وموقع آخر ، بين موقع ذاك الفكر المعارض والمتصارع والفكر المهادن المكرس للسائد باسم الموضوعية واللا ايديولوجيا التي اعتبرها أنصار الفكر المعادي للتغيير عائقا ابستومولوجيا دون ادني تحديد لمفهوم الايديولوجيا .
إن النقذ الموجه اليوم للماركسية من موقع ذاك الفكر الذي يضع نفسه في موقف الصفر بين الضدين هو انزلاق مباشر إلى موقع الفكر المسيطر هكذا يقع هذا الفكر ضحية وهمه على حد تعبير معدي عامل .إن هذا الإبعاد الذي بدا في أوروبا وأمريكا وعامة الدول المعادية للتحرر سيجد صداه في العالم العربي وفي المغرب سنجد العديد من الأصوات الفكرية والثقافية التي كانت بالأمس القريب تكتب عن الماركسية وتمجد النقد الجدري الذي قدمه ماركس للنظام الرأسمالي ،إذ ستتحول هذه الأصوات إلى بوق جديد للبنيوية المعاصرة و للتفكيكية لتروج لمقولات وأفكار معادية للماركسية وتنقلب بذلك على كل تلك الكتابات التي أصدرتها في الماضي ،بل أكثر من ذلك ستمارس هذه الأصوات الاجتهاد والتطوير في تأويل الخطابات الفكرية المعاصرة لتعتبر فوكو ودولوز وفيليكس غاتاري وبول ريكور قد تجاوزوا ماركس وان التجربة الاشتراكية قد انتهت مع سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي واغتيال المناظل الثوري ارنيستو تشي جيفارا ،ليقف هؤلاء(المثقفين) موقف الانبهار بالحدث هذا الانبهار الذي يشل القدرة على التحليل والتمييز ويميل الفكر بذلك كيفما مال به الحدث ولا يحلل بل يؤكد لأنه في عجالة من أمره ككل فكر يومي مادام لم يحدد موقعه بين الضدين لان كل إنتاج فكري في وجهة نظري ينطلق من موقع الصفر فهو لا ينتج سوى الصفر أي لا شيء سوى الرماد والرماد لا يشكل أي خطر على نظام قائم لان الخطر يأتي من فكر نقيض قادر من موقعه الايديولوجي الطبقي أن يصارع وينتج معرفة .
لكن وحتى نتقدم إلى الأمام في طرح المسالة التي نحن بصددها لنا أن نساءل هذه الأصوات التي تقول بنهاية الماركسية وان الكتابات الفلسفية المعاصرة خصوصا الفرانكفونية منها قد تجاوزت الماركسية .عن ما هو مفهوم التجاوز وكيف يتحدد؟ وهل بالفعل تمت في كتابة فوكو ودولوز وغيرهما تجاوز للماركسية ؟
من البديهي جدا أن مفهوم التجاوز كما عرفه تاريخ الفكر الفلسفي والعلمي، ليس مفهوما ميتاقزيقيا أو تجريديا ،بل هو مفهوم يتحدد ماديا وبشروط معرفية .فحينما تجاوز ريمان
على سبيل المثال المسلمة الاقليدية القائلة "من نقطتين في المستوى لا يمكن أن يمر أكثر من مستقيم واحد" لم يتجاوزها تجريديا بل تجاوزها بفضل وجود شروط معرفية أدت إلى ظهور الهندسة الفضائية وقس على ذلك من التجاوزات التي عرفها تاريخ العلوم والفلسفة . لهذا نطرح السؤال على هؤلاء المفكرين والمثقفين من جديد ،هل الشروط المعرفية التي أنتجت الماركسية تم تجاوزها؟
أكيد أن أي إنسان أو باحت يتأمل ما يجري في العالم اليوم سيجيب بأنه لازالت هنالك راهنية للفكر الماركسي مادام الرأسمال لم يتجاوز التناقض الكوني بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ،ومادامت هنالك طبقة عاملة بمقدورها قلب موازن القوى من خلال موقعها في الإنتاج شريطة امتلاكها لوعي طبقي ثوري بمهمتها التاريخية ،ومادام هنالك تسريح لآلاف العمال كنتيجة لتناقضات الرأسمال.
والأكثر من ذلك يا أيها المندهشون أن لا تعتبر آثار الرأسمالية اليوم على الإنسان الذي فقد إنسانيته وتحول إلى مجرد سلعة وآثارها التذميرية على الطبيعة تأكيدا لما جاء به ماركس ،كل ما نعيشه اليوم من آلام إنسانية وأخطار بيئية يؤكد أن الرأسمالية ضد الإنسان وضد الطبيعة و هذا ما أدركه ماركس جيدا حينما قال يجب تغيير العالم.
فماذا قدمتم لهذا الشعب يا معشر المثقفين ألا تخجلون من أنفسكم حينما تستنكرون لمرحلة السبعينيات كمرحلة ازدهار فكري وثقافي وفني
في هذا الوطن ، لكن لنا أن نسائلكم اليوم أين هو ذلك الجدال الفكري والثقافي الذي عرفته السبعينات؟ أين هي الكتابات والإصدارات الفكرية والثقافية لتلك المرحلة؟ أين نحن الآن من مجلة أقلام والجدل والمقدمة وأنفاس والرائد ونشرات اتحاد كتاب المغرب والأندية السينمائية ومسرح الهواة وزد على ذلك ؟‼ أين انتم اليوم من واقع شعبة الفلسفة التي أصبحت مرتعا للفكر الظلامي ومحطة لكل من هب ودب؟ أين انتم من كل هذا ؟ ألا تخجلون من أنفسكم إزاء هذا الوضع ؟
إن الجواب على كل هذه الأسئلة نسوقه لكم على لسان فريدريك انجلز"إن الهروب من الإديولوجيا هو السقوط في أتفه الاديولوجيات "أو كما قال ماركس "إن أراد المرء أن يكون تافها ما عليه إلا أن يدير ظهره لهموم وآلام البشرية ".إن هذا الوضع الذي تحدثنا عنه لا يقف عند حدود الفلسفة بل يتجاوزها ليصل إلى كل أشكال الإبداع في وطننا حيث فر العديد من المبدعين والمثقفين إلى موقع الصفر ففي الرواية والقصة والمسرح والسينما أصبحنا نعيش نفس الوضع ، إذ أصبحت الكتابات الشعرية والروائية والنصوص المسرحية مجرد كاتبات إنشائية عمودها الفقري الزخرفة اللغوية والإغراق في الصور الشعرية دون أية قضية ،لان الكتابة من موقع الصفر كما اشرنا من قبل لا تنتج إلا الرماد وهذا هو مالا يمكن أن ينكره احد ،حيث لم يعد المسرح مسرحا ولا السينما سينما بل تحولت دور السينما في وطننا إلى دور للدعارة ولم يعد الفن فنا مما أدى إلى انحطاط الذوق الفني واستبدال الأذن الموسيقية بالعين الحاملة لمركبات النقص السيكولوجي .
أليست كل هذه الأشياء شاهدا على الانحطاط في مقابل الازدهار الذي كان يعرفه مغرب مرحلة الستينيات والسبعينات ؟
إن ما جعلنا نعيش هذا الوضع هو موقف الانبهار والتبعية العمياء للمدرسة الفرانكفونية ،فبمجرد ما قال دولوز أن مهمة الفلسفة هي إنتاج المفاهيم حتى أصبح اغلب مثقفينا يردد نفس المقولة التي أعتبرها من وجهة نظري منزلق خطير وتزييف وتحريف لمهمة الفلسفة التي سعت في البدء إلى تفسير العالم ثم إلى تغييره مع ماركس أو كما يقول ماركيوز" إن مهمة الفلسفة هي انتشال الإنسان من مأزق السقوط والنقد من اجل تلك الكلمة الرائعة التي تسمى الحقيقة التي من اجلها استشهد العديد من أعلام الفكر الفلسفي النقدي" . وعلى ذكر ماركيوز كواحد من رواد مدرسة فرنكفورت أصحاب النظرية النقدية الكبرى أنا لا أدري لماذا يتم تغييب رواد هذه المدرسة إلى جانب مجموعة من الفلاسفة والمفكرين الايطاليين كجيديبور وانطونيو غرامشي من المشهد الفلسفي والثقافي في المغرب إنه في الحقيقة ضرب من ضروب التبعية في ظل دولة يحكمها النظام التبعي او لنقول وكالة فرنسية.
إن هذا الوضع يفرز تناقض خطير فحتى كلمة مثقف أو مفكر لا يصح قولها في حق هؤلاء فمن الغريب جدا أن يكون لدينا مدرسين فلسفة أو مهتمين بها وبالمجال الفكري لا يستطيعون حتى تحريك جرت قلم في نقذ مجموعة من المقولات الفلسفية المفرغة من مضمونها والتي يروج لها النظام الحاكم في المغرب من قبيل الحداثة الديمقراطية حقوق الإنسان ...
فأي حداثة وأية ديمقراطية في ظل نظام حكم فردي مطلق لازال يعمل بمقولة الحق الإلهي من خلال الحديث عن الشرعية الدينية وإمارة المؤمنين .أنا لا ادري كيف لمثقفين أو كتاب في الحقل الفلسفي متشبعون بنصوص إيمانويل كانط حول التنوير وكتابات نتشه حول الحداثة لا يحركون أقلامهم ضد هذا التمييع والتحريف للمفاهيم ولو من منطلق الفلسفة كإنتاج للمفاهيم ،لكن للأسف نجد بعضهم يسير على هذا الإيقاع ويتوهم أننا في مغرب العهد الجديد والحداثة والديمقراطية وفي المقابل نجدهم يهرولون إلى نقذ ماركس والقول بنهاية الماركسية وفشل المشروع الاشتراكي من خلال التطبيل للبنيوية المعاصرة لسان حال التوجهات الليبرالية ربيبة الرأسمالية .وحتى نكن أكثر دقة في الرد على هؤلاء لابد أن نصحح البعض من الأفكار التي يروج لها العديد من هؤلاء حول نهاية الماركسية وتجاوزها من طرف البنيوية المعاصرة في شخص دولوز وفوكو ،مع العلم أن هؤلاء لا يقولون بذلك بل هو مجرد اجتهاد مغاربي إذن لنرى هل هناك بالفعل تجاوز للماركسية من طرف البنيوية المعاصرة؟
إن الذين يقولون بهذا عليهم أن يعودوا لكتاب "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"ليدركوا جيدا أن ماركس هو أول من طبق المنهج البنياني من خلال دراسته لمختلف أشكال النظام الرأسمالي وعلى الأخص الشكل الذي كان أكثر تطورا في زمانه أي الرأسمالية الانجليزية حيث استنبط ماركس المبدأ التنظيمي الباطن لنمط الإنتاج الرأسمالي لكن ماركس في تحليله هذا وضع نصب عينيه مهمة محددة وهي أن يفسر بالضرورة الداخلية تكوين هذه البنيات وتطورها ودمارها .
هكذا يكون ماركس قد تجاوز في البداية التعارض الجدري الذي أقامه ذي سوسير بين التزامن synchronie والتفارق Diachronie هكذا يكون ماركس قد قضى مضاجع كل اللذين ارجعوا الماركسية إلى ابعد بنيوية.
إن مقاربة ماركس هذه تعاملت مع البنيوية بشكل جدلي لا بوصف البنية كلية حصرية .
هناك مثال آخر لتفنيد هذه المقولات التي يروج لها مثقفينا المندهشين لنتأمل كتابات احد أعلام البنيوية التكوينية ألا وهو جون بياجي رائد علم النفس المعرفي لنرى هل تمت بالفعل تجاوز لماركس ،فإذا تأملنا فكرتي "الإستعاب "و"التلاؤم"عند بياجي سنجد حضورا قويا لقوانين الدياليكتيك الماركسي خصوصا قانون نفي النفي .وهناك أمثلة أخرى لا يتسع هذا المقال لإدراجها .
أما فيما يخص ميشيل فوكو فمن الحماقة بما كان أن نقول انه تجاوز ماركس ،إن التجاوز الذي حققه فوكو هو تجاوز سلبي إذ قام كباقي البنيويين اللا جدليين بقتل واغتيال الإنسان ولعل هذا ما يبدوا من خلال هذه القولة لفوكو في كتابه "الكلمات والأشياء" إذ يقول "ماعدا ممكنا التفكير في أيامنا هذه إلا في فراغ الإنسان المختفي "ليضيف "لا يسع المرء إلا أن يقابل بضحك فلسفي كل من لا يزال يريد أن يتكلم عن الإنسان ،وعن ملكوته أو تحرره" أهذا هو التجاوز يا معشر المندهشون؟‼
لكن مالنا أن نقول لكل هؤلاء المثقفين المندهشين والواقفين في موقف الصفر بين الضدين أن أعينكم التي يسكنها الصفر عاجزة عن رؤية ما لا يرى في الوضع النقيض إلا بعين النقيض .