الدولة الوطنية الجديدة


عمار ديوب
2009 / 5 / 4 - 09:06     

تشكلت الدولة القطرية عقب رزمة من الثورات والانقلابات التي تلت الاستقلال وبالتوافق مع الدولة الأمريكية والسوفيتية، فكانت أنظمة شموليةً، أبعدت الشعب عن السياسة وحوّلته إلى قطيع مدجن، طيع ومطيع، يصفق للحاكمين وهو منزوع الإرادة والفعل. حاكمون زودوه لاحقاً بما كان ينقصه من فكر ديني تبريري يتغير وفق الحاجة والطلب، ويتعدد بتعدد الأنظمة ومصالحها. وبذلك استطاعت أن تضبط المجتمع ليس بأجهزة الأمن فقط بل ووفق رؤى دينية وطائفية وعشائرية ومناطقية، فصار الفرد يعرّف نفسه ليس بإنتمائه السياسي أو الإنساني بل بإنتمائه الديني، الطائفي والعشائري.
الحرب الباردة ساعدت في ذلك المنحى. وهذا ما أدى إلى وجود افتراق مطلق بين الدولة القطرية وبين الحرية السياسية والديموقراطية. فكانت النتيجة إندغام الجمهورية بالملكية بعد أن كانت تدعي بأنها بديل عنها، حيث لم يعد هناك تمايز يذكر من الناحية السياسية في طول العالم العربي وعرضه، ولا خلاف في ذلك بين دول تزعم أنها اشتراكية وأخرى تزعم أنها رأسمالية، وثالثة تقول عن نفسها بأنها ما بين هذه وبين تلك.
هذه النتيجة أدت إلى قمع بلا ضوابط وغير محدود، فكثرت الاعتقالات وزاد عدد السجناء وفاقت سنوات بعض المحكومين ربع قرن، ولا سيما في العراق والمغرب وليبيا وسوريا وغيرها، وكان من جراء ذلك أن فقد المجتمع تماسكه الأهلي والسياسي؛ فأصبح المجتمع العربي مجتمعات متناثرة في كل قطر وفي كل حي..!
ومع بدء الحرب على الإرهاب الذي قادتها الدولة الأمريكية واحتلال العراق والتشدد ضد دول محور الشر ومحاولة إملاء شروط سياسية جديدة على الأنظمة عسى القوم يغيرون ما بأنفسهم، ولا سيما بالنسبة لليبيا والسعودية وسوريا، فقد دخلت منطقتنا في حالة من عدم الاستقرار والخوف من التغيير والتوجس منه، وبدأت موجة من المفاهيم تفرض إيقاعها كالديمقراطية والمجتمع المدني والليبرالية وضرورة تغيير شكل الأنظمة وحتى تغيير الأنظمة بأكملها، وحدّد بعض المثقفين لحظة الصفر وساعة السقوط وشربوا نخب ثورة بالوكالة. وفي هذا السياق كثر الكلام عن مبادرات وحلول للقضية الفلسطينية، وترافق كل ذلك مع حقيقة دامغة عن المساعي الأمريكية في دخول العراق دخول الفاتحين، وتغيير النظام والبقاء في أرض الرافدين، وبذلك بدأت عملية الإشراف المباشر على المنطقة بعد أن كان التوكيل للأنظمة ولإسرائيل هو السائد.
الأنظمة بدورها وعلى وقع الخوف والخشية من التغيير الخارجي، عملت على إعادة النظر في سياساتها الداخلية ولكنها كانت محاولات خجولة وبيروقراطية لجهة التخفيف من طابع الاستبداد والبدء بإصلاح التعليم وتوسيع دور القطاع الخاص وإخلاء السجون من سجناء سنوات الثمانين والتسعين، وإصدار مراسيم وقوانين تفيد لبرلة الدولة. ولكن كل ذلك كان عملاً تجميليا هدفه تسويق الصورة بدل تغيير الواقع، ولم يُعترف بالمعارضات السياسية ولا بما وقع عليها من حيفٍ وقمع وتجاهل ولم تُسن قوانين للأحزاب أو للصحافة الحرّة وما تناهى إلى أذاننا عن ذلك أثار خوفاً جديداً من أن الأنظمة تسعى فقط لتجديد ذاتها ريثما تمر العاصفة الأمريكية أو إلى حين، واستمر الأمر على ذلك الحال حتى نهاية 2008.
واليوم برز تعقد الوضع في العراق واشتداد الأزمة الاقتصادية العالمية وخسارة المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية وصعود الديموقراطيين، وبرز وجود قوى متعددة في تلك الإدارة تفيد بضرورة تغيير السياسة الأمريكية في المنطقة وإشراك الأنظمة ولا سيما سوريا وإيران في الترتيبات الإقليمية سواء فيما يخص العراق أو عموم المنطقة.
الأنظمة العربية التي وجدت نفسها ضمن زاوية حادة، لم تتوانى عن فهم ما يحدث من تغيرات في الإدارة الأمريكية، فداخلياً أوقفت عملية الإصلاح الشكلي والهامشي، وعادت الأجهزة الأمنية إلى دورها القمعي، معتقدة هذه الدول أن العالم، وتحديدا الإدارة الأمريكية تحتاج إلى ولائها ومساعداتها، وهذا لا شك أنه صحيح إلا أنه لا يجوز المبالغة فيه، فالدول العظمى ليست جمعيات خيرية بل لها سياسات ومصالح، تحاول وبكل السبل الوصول إليها، ولذلك أظن أنّ التغيير السياسي الأمريكي الأخير لا يعني تغييراً في الهيمنة على العالم ولكنّه يتعلق في شكل الوصول إلى تلك الهيمنة.
ما لم تفهمه الأنظمة العربية هو أن التاريخ قبل ثلاثين عاماً قد تغيّر، وأن حجم التأزم الداخلي قد وصل أوجه، سواء أكان الأمر متعلقاً بتدهور الأوضاع الاقتصادية ومستويات المعيشة المتدنية أو نكوص المجتمع إلى ما قبل الدولة الوطنية، أو عمق التداخل العالمي المتعلق بالعولمة على اختلاف أشكالها، ولا يغير من هذه الحقيقة حتى الانسحاب الأمريكي إن تمّ من العراق. وبالتالي لن يكون هناك توكيل أمريكي جديد لأنظمة المنطقة، وحتى ولو تحقق ذلك، فإن ما أشرنا إليه يوجب القيام بإصلاحات عميقة تطال كل مستويات المجتمع.
لكن وباعتبار الأنظمة العربية غير قادرة على القيام بتلك الإصلاحات، فإن التغيير القادم لن يكون تغييرا على شاكلة التغيير القومي أو الاشتراكي، لن يكون تغييرا عن طريق مؤامرات الانقلابيين، وكذلك لن يكون خارجيا محمولا على دبابات المحتلين. وبالتالي هناك شكل جديد سيفرض نفسه وهو التغيير المجتمعي وربما تكون تجربة مصر وما يحدث فيها من حراك اجتماعي وسياسي منذ خمس سنوات مؤشر على شكل التغيير القادم في سوريا أو المغرب أو غيرها. وهو ما سيحمل معه بالضرورة تاريخاً جديداً ودولة وطنيةً بالفعل-لا دولة قطرية قمعية- وسيبزغ فجر جديد لدولة قائمة على العلمانية والمواطنة والنظام الديموقراطي وعلى قدر معقول من التوزيع المنصف للثروة الوطنية والاعتراف بكل الظلم الذي أحاق بالشعب طيلة العقود السابقة، اعترافاً ينصف المظلومين و لا يكتفي بذر الرماد على العيون، وذلك حتى لا تتكرر المأساة قولاً وفعلاً.