الشاعر والشيخ والعدو


صلاح السروى
2009 / 5 / 1 - 03:30     


سيأتى زمن يتحدث فيه المؤرخون عن أن بلادنا قد عاشت فى منعطف الألفية وضعا من أغرب مايمكن .. تحديدا.. عندما كان الأعداء يحتلون أرضنا ويقصفون اخواننا بقنابل الدايم والفوسفور الأبيض , ويطلقون الصواريخ العابرة للقارات محملة بأقمار للتجسس علينا , ويصنعون الطائرات بدون طيار وينتهكون سيادتنا ليل نهار ويهددون بضرب السد العالى واغراق قرانا ومدننا , وربما الغاء وجودنا الفيزيقى نفسه .. فى هذا الوقت بالذات سيطرت جماعات من المشايخ المتأسلمين على البلاد والعباد , وأخذوا على عاتقهم مهمة ملاحقة المبدعين من المثقفين والشعراء والكتاب والفنانين وأصحاب الآراء الحرة , واعتبروا أن كل قصيدة انما هى مشروع كفر , وأن كل فكرة انما هى مشروع هرطقة , وأن كل دعوة انسانية للتسامح والفهم الايجابى الجدلى للاختلاف انما هى مؤامرة على الدين الحنيف . فضاقت بنا الدنيا بما رحبت , وأظلم الوجود على الموجود , وأخذ كل مبدع يفكر ألف مرة قبل أن يمسك بقلم ليخط خطا فى ورقة , خوفا من أن يشى به واش , أو أن يحتسبه محتسب , أو أن يقرأه عن سوء طوية قارىء , فيجرجره الى المحاكم محام متملق باحث عن الشهرة . فكانت النتيجة الطبيعية لكل ذلك أن تراجع الابداع بأكثر مما هو متراجع وتدنى التفكير بأكثر مما هو متدن وانحط الوعى بأكثر مما هو منحط . مما أدى الى تخلف المجتمع بأكثر مما هو متخلف وبهتان حضوره الثقافى والمعرفى والعلمى بأكثر مما هو باهت , فضاعت قوته الروحية الآسرة التى بها حقق سؤدده فى الخارج , وحقق تماسكه وقوة وعيه بذاته ووجوده فى الداخل . فسيطرت روح الملق والنفاق الاجتماعى والدينى بأكثر مما هى مسيطرة , الجميع يسعى لكى يأخذ اعترافا واقرارا بتدينه وصحة ايمانه من الباقين , وذلك ليس بالعمل الصالح ومكارم الأخلاق , مثل الرحمة والتعاطف واتقان العمل والامتناع عن الرشوة والغش والسرقة , بل بالاتشاح بأزياء غريبة , ومظاهر شكلية , والأهم هو بالتربص بالآخرين والتسقط لأخطائهم وأفعالهم , وممارسة أشد أنواع العدوانية تجاه أى محاولة منهم لاظهار الاختلاف أوالمغايرة , حتى ولو بشكل تلقائى أو بدون قصد . والتوجس من كل ماهو غير معتاد أو يحتمل أى امكانية لتأويل مختلف أوبه قدر من عدم الاعتيادية . فكان دعاؤهم الذى يلهجون به صباح مساء , ويستعيدون به أمجادهم الغابرة فى عصورهم السحيقة المظلمة التى جرفهم الحنين اليها : "يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف" , وأخذ الناس يقرأون المعوذتين كلما التقوا باختراع جديد , أو رأوا اكتشافا غريبا , حتى أضحى الانسان أجبن من فأر وأكثر ذعرا وضعفا من ابن عرس , ولهذا أخذو يلتمسون القوة من التلصص على بعضهم البعض والعمل كرقباء يحصون حركات وسكنات بعضهم البعض . كل يحاول قياس أفعال الآخرين على مازورة الايمان المبين الحق الذى لالبس فيه ولا شك , والذى ليس أكثر ولا أقل من ايمانه هو بالذات أو فكرته هو الخاصة عن الدين والتدين .
وتعطلت ملكة التفكير واستقلال العقل تماما لديهم , فهم فى حاجة دائمة الى فتوى كلما خطرت بذهنهم خاطرة : هل يتلقونها ويفكرون فيها أم يطردونها بقراءة آية الكرسى , فهى من زيغ الشيطان . وهم فى حاجة الى فتوى كلما جال بوعيهم معنى أو سؤال : هل يتابعونه ويناقشونه ويطورونه أم يطردونه فهو من وساوس أهل الجان . لقد أضحوا كائنات مترهلة كسولة تعيش فى سذاجة وبلهنية عقلية لاتدرى من أمر نفسها شيئا ولا تقوى على حسم أى موقف ولا تستطيع التصدى لأى قضية , فلقد وقر فى أذهانهم أنهم أحقر من بعوضة , وبالتالى , أضعف وأضل وأتفه من أن يعرفوا شيئا , أو أن يفرقوا شيئا عن شىء , أو أن يقرروا لأنفسهم أى شيئ . كائنات أدمنت الفتوى , ولم تعد تقوى على العيش بدونها . فهى لا تستغنى عنها فى حل أو مقام فى ليل أو نهار . يستوى فى ذلك المتعلم والجاهل , بل حاجة المتعلم لها أكثر من غيره , فهو لديه استعداد طبيعى للضلال والكفر, من خلال ماتعلمه من العلوم التى لاتنفع , والتى أفتى بعضهم بحرمة تعلمها , لأنها مما تعوذ منه النبى ص فى حديثه " اللهم انى أعوذ بك من علم لاينفع " , أما العلوم النافعة فهى وحدها علوم الشرع الحنيف , لذلك على هذ المتعلم اعادة تأهيل نفسه والتقدم لتلقى هذه العلوم من جديد , قبل أن يموت ميتة جاهلية . وهذه العلوم لايصح تلقيها على أى شيخ والسلام , بل لابد أن يكون من أعلى المشايخ صوتا , وأكثرهم عدوانية وزجرا , وأسرعهم رفعا لقضايا الحسبة على المخالفين , وأكثرهم احتقارا للعقل , وتحبيذا لقراءة الكف والفنجان وكتابة الأعمال السفلية والعلوية فهذا معيار صلاحه وثبات ايمانه وتقواه .
وهذا النوع من المشايخ قد يتسامح مع تعذيب بعض ابناء الشعب , أو انتهاك أعراضهم وافقارهم واذلالهم , وتزييف انتخاباتهم وبيع مقدراتهم والتطبيع الانبطاحى مع أعداء وطنهم , الا أنه لا يتسامح اطلاقا مع قصيدة أو فيلم أوكتاب . لايتسامح اطلاقا مع اقتراف جريمة التفكير الحر أو ممارسة الشعر والفن , فهى عنده من الموبقات المفضيات الى الهلاك , ولذلك فهو يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة فكر أو أدب أو فن , وهويعتبر أنها من أعمال الشيطان الذى يجند بها بنى البشر لينشروا الوعى والانتباه والنجابة العقلية , وكلها من المهددات لسطوته ووالمزعزعات لهيمنته والمقلقلات لسيطرته على عقولنا , نحن الذين ينبغى أن نبقى سذجا خائفين من نور الابداع والمغامرة العقلية التى يمكنها وحدها أن تكشف لنا مالم نكن ندرك من قبل .
لا تزال وصفة التخلف قائمة . ولاتزال عوامل النكوص الحضارى متوافرة , ولاتزال شروط الهزيمة والقابلية للاستعمار مطروحة على قارعة الطريق .. بالطبع .. ولم لا ؟ فلايزال الخوف من قصيدة يستنفر كل غرائز العنف البربرية وكل رغبات القمع والاسكات الهمجية , وكل اللذات الشبقية فى التنكيل والتكفير , فلا يكتفى بمصادرة قصيدة "من شرفة ليلى مراد" التى اختلف عليها (على عظم شأن ذلك وخطورته فى حد ذاته) , بل مصادرة عدد مجلة "ابداع" التى أصدرت القصيدة , ثم مصادرة ترخيص المجلة من الأساس , ثم مصادرة الشاعر حلمى سالم نفسه , ووصمه بكل النعوت المحلة للدم , فى عملية اغتيال معنوى غير مسبوقة .
وهنا يحق لنا أن نسأل : هل لهذا المنهج الذى يراد فرضه علينا , من أجل تصفية قوانا العقلية , وتدمير طاقاتنا الفكرية والابداعية , و هذه المرة عن طريق القانون المدنى الليبرالى , ومن خلال مؤسسات الدولة المدنية التى ينص دستورها على حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير (للمفارقة) هل لهذا المنهج علاقة بمخطط الأعداء الذين يتربصون بنا الدوائر , و يريدون القاءنا فى النيل واغراقنا بمائه بعد تدمير السد العالى , ويستعدون لملاقاتنا فى يوم قادم يرونه ولانراه ويتقدمون بالعلم والفكر والابداع الذى نحرمه نحن ونلاحقه؟ أم هما شىء واحد من الأصل ؟