الاطفال يتعلمون الموسيقى في سوريا. أهي أحلام ضائعة أم رغبات طفولية ؟


عمار ديوب
2009 / 3 / 25 - 09:50     

تكرس عاداتنا ما متوارث ومتعارف عليه، وكل ما يخالف ذلك يعتبر أمر مستهجناً، ويهدد تلك الموروثات ومنها الدين. وقد تكون صعوبات العيش وسيطرة عقلية العمل الزراعي خاصةً، لها دور مؤثر في نوعية الأفكار والعادات التي كنا ولانزال نمارسها جزئياً. الموسيقى لم تكن يوماً من الأعمال المحبذة، فهي تصرف الوقت دون مقابل، وتسلب الفرد القدرة على القيام بالعمل العضلي، عدا عن أن الدين وممثليه لا تروق لهم وأحياناً يعتبرونها خروجاً عن الإيمان ودعوة إلى الكفر بما يخرج المرء ولا سيما الأطفال عن جادة الصواب؟
ورغم كل ذلك، فقد تصاعدت درجة اهتمام العائلات الشابة منذ خمسة عشر عاماً تقريباً بتعليم أولادهم الموسيقى والرسم والسباحة واللغات، وكان للموسيقى النصيب الأكبر. ويقدر الآن أعداد المسجلين في المعاهد الموجودة في سوريا بعشرين ألف طفل، وربما يزيد، وهم من مختلف الأعمار عدا عن عشرات الالاف من الكبارالذين تعلموا على آلة موسيقية كي يشعروا بالتميز ولا سيما العزف على آلة العود. وقد حاولت في هذا التحقيق التصدي لهذه الظاهرة الراقية. وسألت مجموعة من الأطفال والأهالي وبعض المدرسين. وتركزت أسئلتي حول سبب دراسة الموسيقى و الشعور المرافق للعزف وساعات العزف وهل للأهل دور في اهتمام اولادهم بالموسيقى أم أنها رغبة طفولية وما الأغاني المحفوظة لديهم وهل يعزف أحد أفراد الأسرة وعن الهويات الأخرى وهل يمكن أن يتراجع هذا الاهتمام.
للتلفزيون له دور هام؟
رأى "كرم" وهو في الصف العاشر ويعزف على آلة "الكلارنيت"أن الموسيقى هواية محببة. وأضاف بأنه لو كان "معصباً "فسيقوم بالعزف وبذلك يعود إلى طبيعته، وهي لا تتعارض مع واجبات المدرسة، تشكو والدته بأنّه لا يعزف لوقتٍ طويل. أما أثناء الامتحانات الموسيقية فيمكن أن يعزف في اليوم لأكثر من ثلاث ساعات.وشرح لي أن التلفزيون هو سبب دفعه لتعلم الموسيقى ولا سيما برنامج "الموسيقى لغة العالم" وأحب أن يصبح شبيهاً بهؤلاء الموسيقيين. وبأنّه يكره الكليبات لان الأصوات في معظمها نشاز، رغم أن الموسيقى قد تكون جيدة. ويحب سيديات بيتهوفن وموزارت وهاندل. وذكر بأنّه يعتز باسم "كنان العظمة" لانه يعزف على ذات الالة التي يعزف عليها. وعن علاقته مع زملائه، ادعى بأن يشعر بنضوجه عنهم ، وبرأيه يعود ذلك إلى الموسيقى، التي ترتقي بالشخص وتجعل "عقله كبيراً".
لماذا الموسيقى حلوة؟
أما "بيلسان" وهي في الصف الخامس، فقد أكدت بان الموسيقى"حلوة" وتجعل أذنها موسيقية، وتكوّن لديها رأي موسيقي في كثير من الألحان. وأضافت أن الموسيقى لا تتعارض مع الدراسة، وأحبتها "للموسيقى" لان "غارّت" من الذين يعزفون، أي لان الناس يعطونهم قيمة خاصة. وهي تعزف لفيروز ولعبد الحيلم حافظ. وعلمت منها أنّ لها أخاً يعزف ووالدتها تحاول ذلك أحياناً. و لا تفكر بترك الموسيقى أبداً.
يارا في الصف الثامن الإعدادي تقول الموسيقى "رائعة"، وتضيف: أن المقطوعة الفرحة تشعرني بالفرح والحزينة بالحزن. ولكنها لا تعزف لساعات طويلة كما حال كرم، وأن تعلمها الموسيقى كان بسبب أن زميلتها تعزف وصارتا تترافقان بالذهاب إلى المعهد. وهناك من يعزف من أهل امها، وحتى أختها الصغيرة تعزف. وبرأيها من يتعلم الموسيقى من الصعب ان يتركها. وكانت من المشاركات في العزف في أوركسترا الأطفال في آب 2007 التي كانت مؤلفة من كل الأطفال العازفين في سوريا.
أما صديقتي أليس فقد سجّلت إبنها "رام" وهو الان في الصف السابع ويعزف على آلة الكمان، وقال رام أنه يحس بأن "الموسيقى لغة كاللغة العربية"، وحين يعزف يندمج ويرتقي بشعوره عالياً ولا يحس بشيء آخر. ولكنه كما كل الاطفال الاخرين لا يعزف لفترة طويلة. وأكد لي أن والدته هي التي دفعته لتعلم الموسيقى، وأضاف بأنه يستمتع بعزف أغنية"وكانوا يا حبيبي"و"أنا أنا وياك"وغيرها. ومن أسماء الموسيقيين ذكر موزارت وشوبان. أما أخيه الصغير فهو لا يميل كثيراً إلى الموسيقى رغم ان والدته اكدت رغبته على تعلم آلة"الدرامز"ولكن إرتفاع ثمنها وصغر سنّه وإرتفاع صوت الآلة، ومشكلات أخرى في المعهد تمنعهم من تحقيق رغبته!!
عالم آخر:
أما الفتاة المميزة "أنجيلا"عازفة الكمان، فشرحت بان الموسيقى هواية رائعة، ومسليّة جداً وترتقي بالانسان وتجعله ميالاً للاصغاء والانسجام في مواقفه، وفي حالة التعب تريح البشر، وأضافت بأنها"لا تستطيع ان تصف شعورها بالموسيقى "بدقة" فقد تصبح بعالم ثاني، لا يوجد به أحد، وحتى "البال يفضى" وعند سؤالي عن العالم الأول، قالت، إنها لا تشعر به اثناء العزف"وعن السنة الاولى لها في الموسيقى، أكدت بأنها تعلمت في الرابعة و بأنها لم تكن واعية كما يجب لأهمية الموسيقى، إلا أن الاوركسترا الموسيقية في التلفزيون ورؤيتها لعازفة ساحرة على الكمان دفعها لحسم أمورها نحو هذه الآلة. وأنها تعزف لموزارت وبيتهوفن وباخ وهايدن وسوبيرت وباغنيني وغيرهم ولفيروز ولكنها لا تسمع شرقي، وعلّلت الأمر بان نظام المعاهد يعطي الموسيقى الغربية بشكل أساسي وآلتها غربية. والامتحانات في الآلات الغربية كذلك. ومن هوياتها رقص الباليه، وأضافت بان للموسيقى وقتها وكذلك للباليه وكل منهما مختلفة عن الاخرى لحظة التدريب، وتحب كذلك السباحة وتقرأ بعض الروايات. وبالنسبة للموسيقى لا تتحمل مفارقتها وتتدرب بشكل مستمر وأكدت بأنه"مهنة العصر".
أما الطفل "رامي" فقد كره الموسيقى وكانت أجوبته محدّدة وكأنه لا يريد الكلام في هذا الموضوع، وقد قال: إنه لا يعرف لماذا درس الموسيقى، وأن أهله أجبروه على تعلمها، وتشعره بالملل والندم. ولكنه يعزف"ليلة عيد"و"فريري جاكوفيريري جاكو"و"سنة حلوة"وليس في أسرته من يعزف، ويفضل اللعب على الكمبيوتر كثيراً والسباحة في الصيف. وربما يكون انتقال والديه إلى منزل جديد منعزل قليلاً، لعب دوراً سلبياً في علاقته بالموسيقى.
موسيقى الاطفال رغبات الاهل الضائعة:
أما عدنان والد" أنجيلا "فقد أكد أن الموسيقى تبعد الاولاد عن التفكير بأمور الدين، وتتكون لدى الأولاد أذن موسيقية ومقدرة على تقييم الاخرين وإكتساب وعي متقدم، وتمنع الأولاد ذاتياً من متابعة الاغاني الرديئة، التي تحرف أجيال بأكملها، لصالح ثقافة استهلاكية وعقليات هشة. وأكد بأن ابنته تشعر بامتلاكها القدرة على النقاش والمعرفة. وأن معظم أصدقائهم يرغبون في تعليم أولادهم الموسيقى، وحتى ولو كانت ظروفهم المعيشيّة صعبة.
"أليس" التي ذكرناها أعلاه، أكدت بأنها علّمت "رام" الموسيقى لانها لم تستطع هي تعلّم ذلك، وأنها ترغب بحمايته من المراهقة العنيفة والانفتاح على العلاقات الجيدة، ولكنها تشعر بقليل من الضيق لأنّها أجبرته على تعلم آلة الكمان التي هي آلة صعبة وتحتاج إلى تدريب مكثف ومستمر. وعن بدء الاهتمام بالموسيقى أكدت بانها كانت مبادرة أفراد قلائل عازمون على تعليم اولادهم وتسجيلهم في الموسيقى وكذلك الرسم والسباحة. وأعادت هذا الاهتمام إلى كوننا بشر أولاً ولان طبيعة الحياة تغيرت كثيراً وهذه فنون راقية؛ فالبيوت ليست كما بيوت القرى وهي صغيرة وتسبب القلق. والموسيقى تعلم التهذيب. وهناك جانب الغيرة، فالاهالي يغارون من بعضهم ويتنافسون في تعليم أولادهم، وهو أمر راق أكثر من المنافسة في الكذب والعائلية والثرثرة. وذكرت بأنّ بعض الأولاد يأتون من مدينة السويداء إلى دمشق ويعودون في نفس اليوم كي يتعلموا في الموسيقى. وأشارت أنّ الموسيقى تقي الاولاد من عصر العولمة حيث يأخذ الكمبيوتر معظم الوقت.
الأساتذة ليسوا أكفاء:
مدرس الموسيقى باسل والعازف والمؤلف الموسيقى رأى بأن الاهتمام بالموسيقى ربما عائد إلى رواج الاغاني والفيديو كليبات وإلى بروز جيل جديد ومختلف عن جيل الذهنيات الدينية ولديهم رغبة في إكتشاف مواهب اولادهم، وتعليمهم ما لم يستطيعوا تعلمه هم .أما المعاهد وبصورة عامة مع وجود استثناءات لا تقدم توجيهات صحيحة للاطفال في مجال الموسيقى، وهي ليست بالمستوى المطلوب وأغلبها تجاري المنحى، حيث أن الأساتذة ليسوا أكفاء، فلا يكفي أن يعزف الانسان حتى يصبح مدرساً والاغلبية لا تعرف الاساسات الموسيقية التي يجب أن تُعطى للأطفال. وعن دور الأهل في تعلم الموسيقى رأى ان فرض الاهل لها على الاطفال أمر صحيح وليس خاطىء، فالطفل لا يعرف ما يريد بالضبط ومحاكمته العقلية ضعيفة، وهي-الموسيقى- توسع المدارك وتعلم الصبر والتصميم، ولكنها تتطلب في البداية الكثير من التدريب وسيما التعب الجسدي الإضافي. والأغاني يجب أن تكون مخصصة للطفل وبما يناسب عمره، وقد سبقنا المصرين لتأليف أغاني مخصصة للاطفال، ولدى الدول الغربية الكثير منها. والطفل الذي يستمع للموسيقى ترتقي شخصيته وتتوسع خيالاته، وأضاف أن الدماغ يقوم بعمليات خاصة أثناء الموسيقى، ويتعزز نفسيا ويقوى لديه قوى التمييز والحس والذوق الموسيقي ويزداد وعيه، وأضاف: الموسيقى لغة وهي أمر محسوس وكل البشرية تتفاهم بها، وعبرها تصل أحاسيسك وآلامك، وحتى همومك إلى الاخرين، ويعرفون ماذا تريد.
مدراسنا المبتلاة بكثير من التشوهات لا تخصص منهاجاً للاطفال في الموسيقى، وفقط يعطى المدرس/ة بعض الالحان والمقطوعات كما يشاء ووفق منهاج يتحكم هو به، ونادراً ما يكون في المدرسة ألة موسيقية، وإذ وجدت، فهي لا تعد أكثر من منظر جميل يتامله بعض الاولاد وقد يلمسونه أو يتصورون معه. في المرحلة الثانوية لا شيء له علاقة بالموسيقى، وطبعاً لا اعرف السبب!!
القراء الأعزاء، وجدت في هذا التحقيق، ومن خلال كثير من النقاشات أن الموسيقى لم تعد أمراً خاصاً بالطبقات الثرية، وان كثير من أصحاب الدخل المحدود يوجهون أولادهم إليها بالاضافة لتعليمهم الرسم والرقص واللغات وغيرها. وأن هذا النمط من الاهتمام يتناسب مع عالم المدينة المحصور"كمدجنة" كي يشعر المرء بالفرح. و هذه الهوايات-العلوم- تعبر عن رقي وتطور وإكتشاف مميزات في الشخصية الانسانية كانت مجهولة قديمة ومحدّدة بشكل مقيت في عمل إو إختصاص محدد. وأن الموسيقى لغة عالمية ومن خلالها، ننقل ما نفكر به وما نتألم منه ونعبر عن مشكلاتنا وأحلامنا كذلك، والطفل يشعر بالقيمة والمعرفة والتميّز وبانه ممتلىء داخلياً ومتوازن نفسياً. ولا يشعر الكبار بأنه كتلة إزعاج متنقّلة كما حال كثير من الأولاد. هذه الموسيقى دخلت منذ بعض السنوات في علاج بعض الامراض المستعصية، وترافق الانسان في كل حين، وان التلفزيون يتعلم الأطفال منه أشياء هامة إذا بث برامج لها معنى. وبالتالي، أجازف بالقول: لقد خسرت البشرية كثيراً حين لم تتعلم بأكملها الموسيقى وسيخسر كل فرد ذلك ما دامت لم تتعدى فئات قليلة من المجتمع، ولم تسعى الدول إلى إدخالها في المناهج التعليمية، واعتبارها كالماء والهواء. وربما من الضرورة الاشارة، أنها لم تعد امراً مرذولاً، وصارت مقبولة إجتماعياً، وفي بعض البيئات الاجتماعية مصدر فخر واهتمام، رغم استمرارية التأفف المستمر لرجال الدين منها.