تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت//التطور التاريخي للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية بالمغرب//تحول الاقطاع القديم الى اقطاع جديد


بلكميمي محمد
2009 / 3 / 18 - 09:31     


■ المساهمة التي نواصل نشرها للفقيد عبد السلام المؤذن هي جزء من مساهمة اوسع من مساهمة اوسع « حول التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية المغربية » للرفيق عبد السلام المؤذن في النقاشات التي عرفتها سنة 1985 تحضيرا للمؤتمر الوطني الاول لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي سابقا ، حزب اليسار الاشتراكي الموحد الان .
وقد تناولت جريدة انوال الناطقة باسم منظمة العمل الديمقراطي الشعبي هذاين الجزئين على حلقتين ، طبيعة نمط الانتاج في المغرب ما قبل الاستعمار ، ويحدد هذه الطبيعة في « نمط الانتاج الاقطاعي » منذ القرن السادس عشر .
ومما لاشك فيه ان مساهمة الفقيد الرفيق عبد السلام المؤذن تثير العديد من النقاشات وتتطلب تمحيص عدد من المفاهيم وتدقيق عدد من المعطيات .. وفي هذا المجال ذكر على سبيل المثال بما اثاره الحديث عن الاقطاعية في كثير من البلدان غير الاوربية في اعتراض ، وبالجدل العالمي الواسع الذي مازال مستمرا حول الموضوع .. وفي نفس المجال ايضا ، اشير الى اهمية استجلاء مدى واقعية الاطارات القبلية والجماعيات الفلاحية المغربية ، لتحديد خصوصية الاقطاعية المغربية ، اذا صح وجودها ، وصدى مدى هيمنتها وتعايشها مع غيرها من اساليب الانتاج ..
لكن ، مما لاشك فيه ايضا ، ان مساهمة الفقيد الرفيق عبد السلام المؤذن ، تعتبر مساهمة جادة وجريئة في اقتحام موضوع بالغ الاهمية ، وكثيرا ما يقع التوجس من اقتحامه ، واملنا ان يثير ما يستحق من الاهتمام والنقاش .
1- تحول الاقطاع القديم الى اقطاع جديد :
• في سنة 1830 تتمكن الجيوش الفرنسية من احتلال الجزائر لاخضاعها للاستعمار ، الغزو الفرنسي سيواجه بمقاومة شديدة من طرف القبائل الجزائرية بقيادة الامير عبد القادر .
وفي نهاية سنة 1843 ، يتمكن الفرنسيون من هزم الامير عبد القادر ، مما جعل الدولة المخزنية المغربية بقيادة السلطان عبد الرحمان ، تهب لمساندته . وفي سنة 1844 ، تقع المواجهة العسكرية بين القوات المغربية والجيش الفرنسي قرب وادي ايسلس ، حيث ستنتهي بانهزام ساحق للجيش المغربي . ان هذه الهزيمة العسكرية ستفرض على المغرب توقيع معاهدة طنجة ، القاضية باعتراف المخزن بالوجود القانوني الفرنسي على التراب الجزائري ، وبحق الجيش الفرنسي بمطاردة المقاومين الجزائريين داخل التراب المغربي .
ان اول درس سيستخلصه المخزن من تجربة معركة ايسلي ، هو التخلف الكبير للسلاح المغربي امام السلاح الفرنسي الحديث والمتطور . من هنا كان قرار العمل على تزويد الجيش المغربي ببعض الاسلحة الاوربية الحديثة . غير ان شراء تلك الاسلحة يتطلب نقودا ، والنقود لايمكن الحصول عليها الا بواسطة بيع المنتوجات المغربية في الاسواق الاوربية ، وهذا معناه القبول بالانفتاح على التجارة الاوربية .
لكن اذا كان ذلك الانفتاح في البداية ، يعبر عن حاجة اضطرارية ( اقتناء السلاح الاوربي ) ، فانه سرعان ما سيتحول في المرحلة التالية الى اختيار استراتيجي ، ينسجم مع مصالح الاقطاع المخزني المغربي . فهذا الاخير سيكتشف بسرعة بان التجارة مع اوربا مربحة بسبب ارتفاع اسعار المواد المغربية في الاسواق الاوربية .
وفعلا ، فقد تظافرت في هذه المرحلة من بداية الانفتاح ، مجموعة من العوامل المناسبة التي سمحت بتشديد الطلب الاوربي على المنتوجات المغربية ، وعلى راسها الحبوب والاصواف ، وبالتالي امكانية رفع اسعارها . ان هذه الظروف المساعدة هي التالية :
1- بعد اجتياز الازمة الاقتصادية التي عصفت باوربا في السنوات 1848- 1850 ، وانتهاء الثروات التي صاحبتها ، دخلت اوربا في محصلة جديدة من الازدهار الاقتصادي ، التي استمرت من سنة 1851 الى سنة 1873 . ان الانفتاح المغربي الفعلي على التجارة الاوربية ، يبدا بالضبط من سنة 1851 .
2- تاريخيا ، ادى تطور صناعة النسيج الانجليزية الى حفز الملاكين العقاريين الانجليز الى تحويل اراضيهم من مزارع منتجة للحبوب الى مراع لتربية الغنم ، وذلك لتوفير الاصواف للصناعة ، بسبب اشتداد حدة الطلب على تلك المادة ، ولقد كان من نتائج ذلك ، لجوء بريطانيا باستمرار الى الاسواق العالمية للتزود بالحبوب .
3- لقد شهدت تلك المرحلة انطلاقة قوية لصناعة النسيج الفرنسية ، وكانت مدينة مرسيليا ابرز رموزها .
4- ان تواجد جيش فرنسي ضخم في الجزائر بعد استعمارها دفع المسؤولين الفرنسيين الى التفكير في المغرب ، البلد المجاور ، لتامين حاجيات الجيش ، وذلك لان تلك الحاجيات كبيرة واثمنة سوق مرسيليا مرتفعة بالاضافة الى ربط النقل وصعوباته .
5- توقف روسيا عن امداد اوربا بالحبوب
6- تقلص اهتمام المزارعين الاوربيين بانتاج البطاطس .
7- تزايد النمو السكاني في تلك الفترة .
ان كل هذه العوامل المساعدة ، ساهمت في تشجيع الاقطاع المغربي المخزني على الانفتاح على التجارة الاوربية ، وهو كلما خطا خطوة في هذا الاتجاه ، الا وعمدت الدول الاوربية الى تعميقه عبر تاسيسه وفق تعاهدات دولية واتفاقات قانونية ، وهكذا ، ففي سنة 1856 تمكنت بريطانيا من فرض معاهدة اقتصادية بالغة الاهمية ، كان من ابرز نتائجها : من جهة ، الغاء احتكار المخزن للتجارة الخارجية ، وبالتالي تمكين قوى اجتماعية اخرى من المتاجرة مباشرة مع اوربا بدون المرور بالوساطة المخزنية . ومن جهة ثانية ، تخفيض الرسوم الجمركية وجعلها متساوية بالنسبة لجميع الموانئ المغربية ( مما سمح لميناء الدار البيضاء بالتطور السريع على حساب ماونئ اخرى ) .
وفي سنة 1859 ، تشن اسبانيا حربا عدوانية على مدينة تطوان ، حيث تحتلها ، ولا تقبل الانسحاب منها الا مقابل تعويضات مالية ضخمة تقدر ب 105 مليون فرنك ، تسدد بالذهب او بالعملة الصعبة ، الشيء الذي يعني دفع المغرب الى تعميق ارتباطاته التجارية مع اوربا للحصول على جزء من موارده المالية قصد تسديد تلك الديون .
وفي سنة 1863 ، تتمكن فرنسا بدورها من فرض معاهدة تعترف بالحماية الفرنسية للاشخاص الاجانب والمغاربة مع ممتلكاتهم . وهذا معناه اعفاؤهم من كل انواع الضرائب المحلية ، وعدم اخضاعهم للقانون المغربي .
ان الطبقة الاقطاعية المغربية ، ستجد نفسها مندفعة اكثر فاكثر نحو الاندماج في التجارة الراسمالية الاوربية ، حيث اصبح همها الاساسي هو تجميع اكبر قدر ممكن من الفائض الاقتصادي للفلاحين ، في شكل حبوب واصواف وجلود ، وتصديره الى اسواق اوربا لتحويله الى نقود ، بل اكثر من ذلك ، فهي وراء تهافتها المسعور على النقود الاوربية ، اصبحت تطمع حتى في الجزء من الانتاج الضروري لمعيشة الفلاحين ، مما جعل هؤلاء يضطرون الى اللجوء الى الشاي والسكر المستوردين كغذاء جديد يعوضهم اصطناعيا عن غذائهم الحقيقي الذي اصبح يصدر الى اوربا في شكل حبوب للبيع . وهكذا ستساهم الطبقة الاقطاعية في ربط الفلاح المغربي نفسه بالتجارة الاوربية ، من خلال خلق حاجيات استهلاكية جديدة لديه ، لن يحصل عليها الا في الاسواق الاوربية . ان المراقبين الاوربيين في تلك الفترة ، كانوا يقدرون عدد الجمال المحملة بالحبوب التي كانت تتوافد يوميا على ميناء الدار البيضاء قصد التصدير ، بعدد يتراوح مابين الفين وثلاثة الاف جمل في موسم الحصاد .
ان هذا الانفتاح على التجارة الاوربية ، قد غير تغييرا جذريا طبيعة الاقطاع المغربي ، وذلك بتحويله من اقطاع قديم الى اقطاع جديد . ان جوهر الاقطاع القديم ، هو الاعتماد اساسا على الاقتصاد الطبيعي ، الذي يتميز بالاستحواذ على فائض انتاج الفلاحين من طرف الاسياد الاقطاعيين ، واستهلاكه مباشرة على حالته الطبيعية الاصلية ، دون اخضاعه لعملية التبادل التجاري . واذا ما حصل نوع من التبادل التجاري ، فان ذلك لايمس سوى جزءا ضئيلا من الفائض الاقتصادي ، وان عملية التبادل نفسها تتم في الاسواق الداخلية .
اما جوهر الاقطاع الجديد ، فهو نهج الاقتصاد النقدي الذي يتميز بتحويل فائض انتاج الفلاحين الى نقود عبر اخضاعه للتبادل التجاري ، وان هذه التجارة تتم مع الاسواق الخارجية وليس الاسواق الداخلية .
ومع ظهور النقود وهيمنتها ، تزداد وتتنوع الحاجيات الاستهلاكية للطبقة الاقطاعية بتنوع البضائع المعروضة في الاسواق الخارجية ، كما يشتد الحرص على تنمية الموارد النقدية مما يدفع الطبقة الاقطاعية الى القيام ببعض الاستثمارات لتحسين ظروف التجارة ( مثلا تجهيز الموانئ التجارية بمنشان حديثة ، بناء المحلات التجارية قرب الموانئ لاستقبال البضائع ، انشاء بعض الطرق ... الخ) .
ان تحول الاقطاع المغربي من اقطاع جديد مرتبط بالتجارة الرسالمية الاوربية قد طبع الجياة الاجتماعية المغربية بمجموعة من الظواهر الجديدة تماما ، مثل النمو السريع لبعض المدن الساحلية كالدار البيضاء ( ان المرحلة الاقطاعية القديمة لم تكن تعرف مدنا فعلية ، باعتبار ان ما سمي بالمدن كان مجرد حواضر ، اما كمقر اقامة السلطان وحاشيته ، واما كمركز ديني ... ان المدينة الفعلية الحديثة المتميزة بوظائفها الجديدة ، لم تظهر الا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وهي بنت التجارة مع اوربا الراسمالية ) ، وهو مثل انتشار بعض المواد الاستهلاكية كالشاي والسكر ، وظهور مؤسسات مالية ، كالبنك الانجليزي في طنجة ، زظهور التلغراف الذي يربط المغرب باوربا ، وظاهرة الصحافة الطنجوية التي كان يشرف عليها يهود مغاربة ينتمون الى الفوج الاول من المثقفين خريجي مدارس الرابطة الاسرائلية وظاهرة الجالية الاوربية التي بلغ عددها في نهاية القرن 19 ثلاثة الاف فرد .
في الحلقة المقبلة : ازمة الاقطاع الجديد .