الغاز اغتيال الشيخ ياسين


احمد زكي
2004 / 4 / 4 - 09:06     

على حد وصف الدكتور الرنتيسي، جاءت عملية اغتيال الزعيم الروحي لحركة
حماس،
عملية خالية من الفن والإبداع! ففي حوار معه، بثته قناة "العربية"
الفضائية،
مساء الثلاثاء 23 مارس، بعد سويعات من انتخاب مجلس شورى الجماعة له قائدا
لحماس
في غزة خلفا للشيخ الراحل، قال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي: "ما هو
الابداع
والفن في قتل رجل قعيد خارج من المسجد المجاور لبيته بعد أداء صلاة
الفجر؟"
الدكتور الرنتيسي معه حق، حتى ولو لم يكن الرجل قعيدا.
فسيناريو عملية الاغتيال وما تلاها يثير عدد من الألغاز!

أولا، أثارت عملية الاغتيال استنكارا فوريا واسع المدى على المستوى الرسمي
(ما
عدا الولايات المتحدة) امتد من وزير الخارجية البريطاني جاك استرو حتى
الشيخ
حسن نصر الله زعيم حزب الله في جنوب لبنان. أكثر من ذلك، أجمعت مختلف
الأطراف
على أن إسرائيل بهذا الاغتيال قد خرقت خطوطا حمراء متفق عليها ضمنيا بعدم
المساس بالقادة من الطرفين.
والباطل في هذا الحديث ليس هو الحقيقة المؤسفة بان حرفة السياسة لا ضمير
لها
وتسمح بقتل الأبرياء من أي ملة من اجل الغايات السامية العليا، ولكنها
تنزعج
لقتل أرباب الحرفة أي كانت مواقعهم؛ ولكن الباطل فيه هو تجاهله لحقيقة أن
كل
المنظمات الفلسطينية على اختلاف ألوانها لديها قوائم تتسع باستمرار لأسماء
قياداتها الذين اغتيلوا منذ أن اعتمد الكلاشينكوف في 1968، والآن القنبلة،
طريقة وحيدة لتحرير فلسطين! باختصار لم تتوقف اغتيالات قادة المنظمات
الفلسطينية لا قبل اوسلو ولا بعدها!
وبالتالي فالعملية في نظر هؤلاء الرسميين على اختلاف مواقفهم عملية غير
مبررة.
وسؤالنا هنا هو: كيف؟!
فرغم أن الشيخ ياسين كان هو كارت الآس في الكوتشينة الإسرائيلية التي صدرت
على
منوال الطبعة الأمريكية المزدانة بصور صدام حسين وأركان نظامه، ورغم تعرض
الشيخ
نفسه لمحاولة اغتيال سابقة أثناء اجتماعه مع احد صقور حماس في غزة منذ
شهور،
إلا أن كل ذلك لم ينتج عنه كل أو بعض هذا الرد فعل الاحتجاجي الرسمي
الواسع!
أظهرت عملية الاغتيال، أيضا، أن منظمة حماس لم تكن توفر للشيخ حراسة خاصة
مثل
تلك التي كانت حول الرنتيسي أثناء محاولة اغتياله مثلا من حوالي 8 شهور
سابقة،
أو تلك التي كانت حول خالد مشعل أثناء محاولة اغتياله المشهورة في الأردن
منذ
سنوات (1997). تحركات الشيخ كانت هي هي، ولم تكن تخضع لحسابات أمان شخصي
خاصة،
تحسبا لنية إسرائيلية في خرق الاتفاقات الضمنية. فالشيخ الذي كان يعتبر
الزعيم
الروحي لمنظمة حماس كلها، كان يشغل رسميا منصب قائد حماس في غزة، والدكتور
الرنتيسي نائبا له.
أكثر من ذلك، الشيخ ياسين هو ثاني المعتدلين في حماس الذي تنجح إسرائيل في
اغتياله بعد إسماعيل أبو شنب! الصحافة السياسية كانت تصفهما "بالاعتدال"
لأنهما كانا يقبلا بفكرة مناقشة "هدنة" مع إسرائيل في مقابل شروط ترضاها
حماس!
والحالة هذه، يبقى غريبا ومثيرا للتساؤل تلك الوحشية المبالغ فيها في
عملية
القتل. ثلاثة صواريخ! ورئيس وزراء يترك مهام منصبه الكثيرة ويشرف على
العملية
ويتابعها لحظة بلحظة كما أعلن بنفسه!
اللغز هنا: ماذا كان، يا ترى، يشغل وزير الدفاع الإسرائيلي وقتذاك إذا؟
أم أن
شارون كان، يا ترى، غير واثق من قدرة ضباط جيش الدفاع على اصطياد طائر بلا
أجنحة في وضح النهار؟!
شارون، الجنرال صاحب السجل العسكري الحافل– يعرف جيلنا انه قائد كتيبة
الدبابات
التي التفت حول الجيش المصري في سيناء واحتلت المضايق بنفس الطريقة مرتين:
مرة
في 56 ومرة في 67؛ وقائد الاختراق المضاد لشاطئ قناة السويس الغربي،
بمعونة
أقمار التجسس الأمريكية (ما نسميه الثغرة) في 73، ومهندس اجتياح جنوب
لبنان
ودخول أول عاصمة عربية - بيروت في 83 – ينتهي الحال بهذا الجنرال الذي
أصبح،
الآن هو الآخر، عجوزا هرما، إضافة إلى إفراط هائل في البدانة، إلى محاولة
إضافة
عملية قتل دنيئة، لرجل غير منتبه باستخدام أعلى تكنولوجيا التوجيه عن بعد
والتدقيق لإصابة الهدف، وبكثافة نيران مبالغ فيها جدا، إلى سجله العسكري
الذي
أغلقت صفحاته!
إذا، هل اغتيال الشيخ ياسين كان غيلة وغدرا؟!
---
حرك اغتيال الشيخ مظاهرات تلقائية حاشدة غاضبة بعشرات الألوف في جميع
المدن
الرئيسية والغير رئيسية بالبلاد العربية والإسلامية من ماليزيا وبنجلاديش
حتى
المغرب!
قبلها بثلاثة أيام، في العشرين من مارس، انقشع غبار حركة التيارات
السياسية
المعارضة في المنطقة: التيار القومي وتيارات اليسار التقليدي – وشاركتهم
هذه
المرة المنظمات الغير حكومية وكذلك التيار الديني بوضوح! – انقشع غبار
حركتهم
هذه من اجل الحشد والتعبئة لهذا اليوم، عن بضع مظاهرات، لبضع ألوف، في بضع
مدن
عربية، احتجاجا على غزو العراق، الذي مر عليه عام. رسميا، اتخذ قرار
التظاهر
في يوم عالمي ضد الحرب على العراق ليكون العشرين من مارس، في المنتدى
الاجتماعي
العالمي الذي انعقد هذا العام في بومباي بالهند في الفترة من 16 حتى 20
يناير
2004. ورغم أن وجدان نساء ورجال الشارع العربي والإسلامي يقف تماما
بأغلبيته
مع الشعب العراقي في محنته ضد الاحتلال الأمريكي والبريطاني وذيولهم، إلا
أن
أشكال الاحتجاج في شوارع الغرب (الشمال الغني) كانت نسبيا اكبر وأكثر وزنا
كالمعتاد.
للحقيقة المطلقة، كان حجم مظاهرة القاهرة هذه المرة (20 مارس 2004) اكبر
بعدة
مرات منه في اليوم الحافل لنفس المناسبة من العام الماضي (14 فبراير
2003).
كان جسم مظاهرة القاهرة الذي كانت تستره عن أعين الناس الحشود الأمنية
الكثيفة
(أصبح عرفا معتادا، ومقبولا من الجميع، أن يكون حجم قوات الأمن التي تحيط
بجسم
مظاهرات القاهرة من هذا النوع اكبر بعشر مرات من حجم المتظاهرين، وان
يجبرها
الأمن على أن تراوح في مكانها الذي يسمح بالكاد لأصوات المتظاهرين أن تصل
إلى
أسماع السفير الأمريكي داخل قلعته الأسمنتية الحصينة بجاردن سيتي)، كان
هذا
الجسم يتكون من النخب السياسية نفسها وجمهورها الضيق اللصيق بها، وان
اتسعت كل
درجات طيف النخب هذه المرة لتشمل حتى التيارات المحجوب عنها الشرعية
السياسية،
او التي كانت تتملص من الظهور في مثل هذه الاحتفالات السياسية الصريحة.
إلا أن مظاهرات الاحتجاج على اغتيال الشيخ ياسين كانت من نسيج مختلف ومن
روح
مختلفة. انطلقت المظاهرات تلقائيا بعد ساعات قليلة من سماع النبأ. كان
الجمهور شبابا من الطلبة الجامعيين في جامعة القاهرة وجامعة الأزهر
الدينية.
كانت الحناجر تصرخ من الغضب والإحباط للكرامة الجريحة. وعلى امتداد
العالمين
الإسلامي والعربي كان هذا هو الحال.
ورغم هذا التماثل على طول الرقعة الجغرافية الممتدة (والتي أصبح اسمها
الجيوبوليتيكي الجديد "الشرق الأوسط الممتد")، برز لغزان غاية في الوضوح،
يفتح
فك إلغازهما آفاقا جديدة للحركة الاجتماعية الحقيقية لشعوب المنطقة!
اللغز الأول كان في ليبيا، خرجت تظاهرات متزامنة حاشدة، حرة الإرادة! حتى
نظام
العقيد القذافي البشع لم يملك أمام المشاعر الشعبية الغاضبة في ليبيا إلا
أن
يسايرها، فتخرج ولأول مرة منذ عقود هذه المظاهرات التي تبعث الفرح في كل
قلب
حر. تظاهرات حقيقية لشعب حقيقي ليست على غرار المعهود من حشود لجانه
الشعبية
المصطنعة.
العقيد القذافي هو النظام الوحيد الباقي في المنطقة، بعد صدام حسين، صاحب
السجل
التاريخي الذي لم يستخدم جماعات الإسلام السياسي، والذي لم يستعير حتى
خطابها
السياسي، كأساس في صيغة استبداده بالحكم. وإذا ما أضفنا إلى الصورة
خطواته
السريعة من اجل الانضمام إلى حلف "الحرب على الإرهاب" بزعامة الولايات
المتحدة
وبريطانيا - لشراء مدد حكم إضافية بآخر برميل بترول يملكه الشعب الليبي –
يدعونا، اذا، نزول الشعب الليبي الفوري إلى الشارع بهتافات ضد "الصهاينة
عملاء
الأمريكان"، إلى سؤال له معنى وحيد، وهو هل سيستعيد هذا الشعب حيويته
النضالية
عامي 1964 و 1968 فينزل إلى الشارع مرات اخرى ولكن ليرفع شعارات أكثر
مباشرة ضد
ظالميه.
اللغز الثاني كان إيران! كانت البلد الاسلامي الوحيد الذي لم تخرج فيه أي
مظاهرات فورية إلى الشارع من أي نوع؛ لا شعبية ولا حكومية! الوضع السياسي
المتوتر بين الشارع وحكم آيات الله في إيران كان يوحي بأن الأمور سوف تسير
بشكل
آخر، حيث يستغل الحدث أي من قطبي الصراع للحشد والتعبئة كما فعلت القوى
الأخرى
في البلاد الأخرى.
انتبه لتلك الظاهرة احد المعلقين السياسيين المغمورين في احد القنوات
الفضائية
المغمورة الناطقة باللغة العربية؛ قناة "العالم". كان رد مراسل القناة
الصحفي
في إيران على سؤال المذيع له بعدم خروج الشعب الإيراني إلى الشارع احتجاجا
على
اغتيال الشيخ مثل سائر المسلمين في العالم أو حتى على الأقل مثلما فعل
الشيعة
في العراق ولبنان – هو "ربما أن الشعب الإيراني مشغول في أجازة عيد
النيروز"!
عيد النيروز هو تقليد قديم العهد لشعوب تلك المنطقة (على شاكلة عيد "شم
النسيم"
في مصر ولكن احتفالهم به اكبر)، تحتفل به هذه الشعوب مع قدوم الربيع ولم
تفلح
حكومة آيات الله الإسلامية في منعه في ايران. ورغم أن ذلك العيد ملتصق
بمنطقة
فارس، ربما لأنه خرج منها، إلا أن هذا العيد تحتفل به الشعوب الأخرى
المجاورة
حتى تركيا. ولكن المظاهرات خرجت أيضا في تركيا!
ربما تكون الإجابة الصحيحة هي أن الشعب الإيراني لديه الكثير من أمثال
الشيخ
ياسين والذين حكموا لسنين طويلة، وقد شرب الشعب الإيراني من حكمهم المر
حتى
الثمالة، وأصبحوا يتمنون لهم نفس مصير الشيخ، ولكن على أيديهم هم، وليس
على يد
شارون!