الفضائيات العربية قناة للهروب من الواقع


اسماء اغبارية زحالقة
2004 / 4 / 3 - 08:04     

برامج تلفزيون الواقع مثل "ستار اكاديمي"، تكشف حدة التناقض الذي يواجهه المجتمع، واكثر من اي شيء تكشف الاحساس بالعجز عن التغيير، الامر الذي يخلق حاجة ماسة للهروب من الواقع. كيف ساهمت "الجزيرة"، القناة الواقعية، في دفع الناس لقنوات الوهم؟

اسماء اغبارية

شيء ما يمر هذه الايام بالشعوب العربية. فقد اعتكفت العائلات في بيوتها. عزفت عن الاهل والجيران، اغلقت الابواب وتحلقت حول التلفزيونات. عشرات الملايين من ازواج العيون مصوّبة منذ اشهر للشاشات اللبنانية، تنتظر الحدث. ويبدأ البث، ويظهر الابطال الجدد، نجوم "السوبر ستار" على قناة المستقبل و"ستار اكاديمي" على ال. بي. سي.

كانت هذه المفاجأة الاولى بالنسبة لنا، وكنا اصلا ننوي بحث امر آخر تماما، هو لماذا توقف العرب في البلاد عن متابعة اخبار اسرائيل، والتصقوا بالجزيرة؟ واذا بالامة قد عزفت عن الجزيرة، وادمنت المسلسلات المصرية المتتابعة وبرامج تلفزيون الواقع.

واذا كان السوبر ستار الباحث عن نجم جديد للغناء العربي، قد اثبت تحرّق الجمهور العربي للتصويت، فان البرنامج الذي نجح في اخراج زبدة الطاقات العاطفية لاهلنا كان برنامج "عالهوا سوا". فقد طحنت الناس امامه ساعات، تحديدا بسبب وقت الفراغ الكبير، واثبتت اخلاصا عجيبا ومعرفة دقيقة بتفاصيل حياة العرائس المرشحات للزواج.

ولعل البرنامج الاكثر جدلا وفضائح هو "ستار اكاديمي"، وفيه لا يكف الطلاب المشاركون عن معانقة وتقبيل بعضهم البعض، الى ان يتم انتخاب المطرب الواعد. ورغم ان الجميع يذمّ "التصرفات الممنوعة"، ولكن لا احد يستطيع منه فكاكا.

وكان لا بد من اقتحام هذه "الخلوة" التي ربطت المشاهدين بابطالهم الجدد، لدرجة الادمان. هكذا تسنى لنا ان نلاحظ ان المجتمع العربي ليس سلبيا بل ربما الاكثر تفاعلا. صورة من داخل بيت في ام الفحم ينقلها لنا العامل خالد محاميد (22 عاما) احب برنامج "عالهوا سوا"، ولكنه لم يُخفِ خيبة امله من المرشحة عايشة التي احبها اهله، وصوّتوا لها، ووصلت الامور الى درجة انها "ولّعت" بين الاخوة الثلاثة على تأييدها هي او المنافسة ميرفت، "ثم بعد كل هذا تبين انها تنوي الزواج بشخص من خارج البرنامج".

وقد اثارت نسبة المشاهدة العالية للبرامج الجديدة علامات استفهام حول اولويات الامة العربية اليوم. وبالغ البعض، مثل عبد الباري عطوان، محرر صحيفة "القدس العربي"، في اعتبار الظاهرة واحدة من علامات الساعة. واعتبرها البعض الآخر مؤامرة اسرائيلية او امريكية لحرف اهتمامات الناس عن قضايا فلسطين والعراق، بدليل ثناء اسرائيل على هذه البرامج. فهل هذه كل الرواية؟



ظاهرة اعلامية جديدة

برنارد طنوس، اعلامي في راديو "الشمس"، يعرّف ظاهرة "تلفزيون الواقع" كجزء من "التقدم التكنولوجي الكبير والتسابق نحو نسب المشاهدة الاعلى، اللذين يجعلان وسائل الاعلام تخترع امورا لم تكن في السابق. وهي ظاهرة غير خاصة بالعالم العربي، بل منقولة عن برامج نجحت عالميا، مثل "من سيربح المليون؟".

برنامج سوبر ستار، مثلا، هو النسخة العربية التي اشترتها قناة المستقبل من الشركة المنتجة للبرنامج البريطاني "بوب ايدولز"، الذي جذب 14 مليون مشاهد. وقد بثت محطة "فوكس" الامريكية برنامجا مشابها هو "البحث عن سوبر ستار".

ويلاحظ طنوس انه "بالنسبة للشباب الذين هم دون سن الثلاثين ليست هذه الظاهرة بغريبة، فهم معتادون على مشاهدتها عبر الانترنت، وذلك تحت غطاء من السرية، مما يطوّر حاسة "التلصّص" على حياة الآخرين. اليوم يقوم التلفزيون باداء دور مشابه، عندما يكشف هذا العالم لاول مرة امام الجيل الاكبر من الناس".

برهان جبارين (21 عاما) من ام الفحم، يعمل في مجال الديكور، يستغرب انه كان في الماضي يجلس الى رجال كبار في المقهى، ويتحدث معهم فيما يحدث في العراق كما نقلتها الجزيرة وابو ظبي، "اما اليوم فصار كل ما يشغلهم هو اخبار رنا وعايشة، ومن ربح في ستار اكاديمي".

احد عوامل نجاح البرامج يعزوها الدكتور خليل ريناوي، محاضر في قسم الاعلام في كلية الادارة بتل ابيب الى "كوننا مجتمعا عاطفيا، اذ ان تلفزيون الواقع يعتمد على عنصر التعاطف بين المشاهد والابطال".

ويضيف ريناوي: "منذ منتصف عام 2003 تشهد الفضائيات البديلة للاعلام العربي العادي، عملية تغيير. وبدأت تأخذ منحيين، فهناك الفضائيات التي تبث الاعلام الجدي، الديني، الاخلاقي والسياسي، وهناك الترفيهي كالذي تبثه قناة "روتانا" و"دريم" للفيديو كليب، وهذه تتنافس من "تنزل البنطلون وترفع البلوزة" اكثر لتجذب اكبر نسبة من المشاهدين".

مصطفى الخرز (23 عاما) عامل بناء من ام الفحم، الذي يعارض الظاهرة بشدة، يقول: "ان الناس لا ترى هذه القنوات للاستمتاع بالموسيقى والاغاني، بل لرؤية النساء العاريات". وفي هذا تكتب الكاتبة دلال البزري ان اغاني الفيديو كليب العربية "تحولت من إمتاع الاذن بالاغنية الى امتاع النظر بها.. فلا يرى الناظر غير قِطع خاطفة من موضوع الاثارة، تَعِد للمرة القادمة بالمزيد".

ويقدر ريناوي ان "هذه الفضائيات ستصل الى ابعد من ذلك من ناحية الاباحية، ولن تتوانى عن كسر الاطر الاجتماعية والاخلاقية في سبيل تحقيق الارباح".



ديمقراطية اعلامية؟

كيف تحققت الارباح؟ عدا عن الدعايات التجارية، كانت شركات الاتصالات والهواتف الخلوية اكثر المستفيدين. نسبة التصويت لانتخاب نجم "السوبر ستار" مثلا، وصلت في مجملها الى 79 مليون و550 الف اتصال من ارجاء العالم العربي. واذا كانت تكلفة الاتصال من القاهرة ربع دولار للدقيقة الواحدة، ومن الاردن ثلاثة ارباع الدولار، فاضرب واجمع لتتخيل كم مليونا من الدولارات صنعتها شركات الهواتف والاتصالات التي تتداخل علاقاتها بالقنوات الفضائية واحيانا بالسلطات الحاكمة، كما هو حال قناة "المستقبل" التابعة لرئيس الحكومة اللبنانية، رفيق الحريري.

وقد طار صواب الحركات الاسلامية، عندما قارنت بين نسبة التصويت للسوبر ستار وبين نسبة التصويت على عريضة داعمة لافغانستان مثلا التي لم تتجاوز الاربعة ملايين.

ويفسر ريناوي ارتفاع نسبة التصويت بحاجة العرب الى "افراغ الكثير من العقد النفسية النابعة من حرمانهم من التعبير عن الرأي والمشاركة في الاعلام. فقد كان الاعلام حتى عهد قريب سلطويا، ويتم باتجاه واحد".

ولا يعني هذا ان الاعلام لم يعد سلطويا، يقول ريناوي: "الاعلام العربي يتأرجح بين الخضوع لاملاءات سلطوية وبين املاءات اقتصادية ربحية تجارية، لذا فهو لم يكن موضوعيا ابدا، ولم يكن الهدف منه تثقيف احد". وهو يجزم بان "برامج تلفزيون الواقع تخدم الحكام، لانها تلهي الناس عن القضايا المهمة، وتفسح لها المجال لتفريغ غضبها واحباطها من المعاناة اليومية في قنوات لا تشكل خطرا على الانظمة". مثالا على ذلك يسوق ريناوي رواية ان الملك الاردني افسح المجال لشعبه للتصويت مجّانا لديانا كرازون، الفائزة بسوبر ستار.

جاد قضماني من جمعية "الرؤيا" بالقدس، علّق على "الظاهرة الديمقراطية" الجديدة بالقول: "ان الحكومات تسمح بالتصويت في امور تحددها هي". "وهنا"، يلاحظ قضماني، "تتغير معالم المسموح والممنوع حسبما يقبل به النظام او يرفضه، وليس بالضرورة حسب تعليمات الدين او العادات والتقاليد. وهذا ما يفسر الاباحية في برامج تمولها السعودية، وبالمقابل انعدام البرامج التي تنتقد الانظمة.

"النظام لا يريد مجموعات ضاغطة او نقابات، بل يريد ان يكون "الزمالك" و"الاهلي" احزابنا، ان تكون كرازون او عايشة رموز الامة العربية. الناس تعرف ذلك ولا تقترب من الممنوع كيلا تحترق، لذا ينصب اهتمامها في امور "مسموحة" مثل الزواج وبناء الاسرة، ولكنها، سواء مضطرة او مقتنعة، تتداول اللعب التي يرمي بها النظام اليها".

فاطمة اغبارية (27 عاما) من يافا تقول تعليقا على برنامج "عالهوا سوا": "كل العالم من الهند للسند اتصل بالبرنامج ليهنئ العروسين، وكان بودي ان اتصل ايضا لاقول مبروك، ولكننا في الحقيقة لم نكسب قضية تهم العالم العربي. الناس كلها تنتظر العرس، وغير مهتمة بالامور السياسية، لان السلطة تبعدها عن الاهتمام بمشاكلها الحقيقية".



بين عمرو خالد وستار اكاديمي

هل تُساق الناس بعيدا عن قضاياها، مرغَمة؟ البعض يظن ان نعم. برهان الذي اقتبسناه آنفا، يعترف انه يشاهد ستار اكاديمي رغم انه يكون من داخله غير سعيد: "استمتع بالجو الموجود هناك، بالموسيقى والرقص والصبايا، كما يسعد بذلك كل شاب في العالم". ويحاول تفسير ذلك بالقول: "من ابتكر هذا البرنامج ذكي فوق التوقعات، لانه صنعه بطريقة تجذب الناس رغما عنها".

زينات ابو حريري (18 عاما) من الناصرة لا تعرف سر انجذابها لنفس البرنامج، وتخمّن ان يكون السبب حبها لنمط الحياة الجديد الذي يقدمه شباب وفتيات يعيشون في بيت واحد، مع انها تستبعد ان تكون في موضعهم. وتضيف ان السبب قد يكون "الكبت النفسي الذي يعانيه الشباب والفتيات".

السبب بالنسبة لفاطمة خطيب (28 عاما) من مجد الكروم بسيط وواضح: "نحن في ضائقة، وبحاجة الى امور ترفيهية تنفس عن غضبنا".

بعد سوبر ستار، يعتبر ستار اكاديمي اكثر ما يثير حفيظة الحركات الاسلامية في كل ارجاء الوطن العربي. الدعوة ضده تُشنّ بكل ضرواة، كما تظاهرت حركات اسلامية في البحرين، وحملت البرلمان على القرار بوقف برنامج شبيه هو "الاخ الاكبر" في قناة "ام. بي. سي."، بسبب قبلة بين شاب وفتاة. ولكن هذا لا يغير موقف الاغلبية العظمى من المشاهدين، بضمنهم الملتزمين بالدين.

وتفسر ذلك فاطمة من مجد الكروم: "كل محطة فيها حرام، ولكن لا يمكن اغلاق التلفزيون. انا اتابع عمرو خالد في قناة اقرأ ولكن ايضا اتابع ستار اكاديمي. في الحياة العادية هناك امور كثيرة محرمة فهل نتوقف عن الحياة؟ الحركة الاسلامية غاضبة على التصرفات في البرنامج، وهي محقة، فهذه ليست عاداتنا ولا تقاليدنا، ولكن ما يهمني هو ان اشاهد كيف تطوروا وحققوا النجاح".

مصطفى الخرز لا يرى في الامر تطورا على الاطلاق، ويقول: "ان المشكلة اننا لسنا متطورين بل مقلّدين. وكيف يمكن ان نتقدم ونحن جاهلون؟ كيف اذا كان الطلاب اليوم يهملون دروسهم وينشغلون بنجوم ستار اكاديمي؟".

وعن وضع المرأة تحديدا في برنامج "عالهوا سوا"، تقول فاطمة اغبارية: "لاسباب تجارية واضحة، يستعملون المرأة ويضعونها 24 ساعة تحت الكاميرات. اتساءل لماذا لا يضعون الرجل ايضا؟ الا يجب ان نعرف انه فعلا العريس المثالي، كما باعوا لنا ميرفت كعروس مثالية؟ الحقيقة انهم يدّعون التطور، ولكنهم بقوا تقليديين فقد ابقوا المرأة في القفص، حبيسة، وقالوا للاسد اختر اية فريسة تريد. اذا اراد مجتمعنا ان يكون معاصرا فليكن معاصرا في كل شيء".

شبه العراء الذي تعرضه المرأة العربية في التلفزيون كتحرر، انما هو تقليد للشكل دون المضمون. فرغم ان جسد المرأة لا يزال يستخدم في الغرب ايضا لاغراض دعائية تجارية رخيصة، الا ان المرأة هناك حققت انجازات هامة في سبيل تحررها الاقتصادي والاجتماعي، وهو امر لا تزال المرأة العربية بعيدة عن تحقيقه، الامر الذي يجعل تعرّيها الوجه الثاني لنفس العملة من التقاليد والتخلف.



بائعو الاحلام

ان هذا الانبهار من واقع لا يمكن تحقيقه، في وضع يسيطر فيه اليأس والضغط النفسي على الشارع، يتحول الى نوع من الادمان هدفه الهروب من الواقع واللجوء لراحة نفسية ولو وهمية. فمن على الكنبة امام التلفزيون، يشترون حلما جميلا تبيعه لهم القنوات العربية: جنّة عصرية، فيها كل ما تشتهيه الانفس ولا تستطيع تحقيقه – من اختلاط النساء والرجال، اشباع الغرائز، الزواج الذي اصبح حلما بعيد المنال مع انتشار ظاهرة العنوسة، وانتهاء بحق التصويت والتأثير المحرّمين في عالمنا العربي.

ان "تلفزيون الواقع" هو ابعد ما يكون عن الواقع المتخلف الذي تعيشه الناس. والحقيقة ان الجزيرة هي الوجه الآخر لنفس الظاهرة الاعلامية التي تسوّق الوهم. فاذا كانت "روتانا" تبيع النساء العاريات فان الجزيرة تبيع الدماء، وكلها تجارة.

والواقع ان الجزيرة تتحمل مسؤولية كبرى في تنمية الرغبة في الادمان والهروب من الواقع لدى المشاهد العربي. وذلك عندما بدأت تبيعه "الدم" بوجبات مضاعفة، غير واقعية، حتى ادمن عليها وصار التلفزيون مفتوحا طوال النهار والليل. المشاهد الذي اعتاد استقبال الخبر بالبث الحي والمباشر، ملّ من الدم، ولكنه اراد بديلا اكثر اثارة، تماما كما يحدث للمدمن الجديد، يبدأ بالحشيش حتى يطلب جسمه الهيروين. والسؤال لماذا هربت الناس من الجزيرة؟

لقد باعت الجزيرة للعرب الشعور بانهم اقوياء، بان لامريكا سي. ان. ان. وان لنا نحن العرب الجزيرة، نقاتل بها العدو. للسي. ان. ان. بوش وللجزيرة بن لادن، لامريكا الاستعمار وللجزيرة الجهاد. لقد حرّضت هذه القناة العرب بخطابها المتطرف ودفعتهم للخروج للشوارع في الانتفاضة، حتى انتكسوا فعادوا يجرون اذيال الهزيمة، كما جروها لاحقا في افغانستان، حتى جاءت الضربة القاصمة بسقوط بغداد. لسنا اقوياء اذن، مع اننا نبدو كذلك في الاستديوهات العصرية. فالسي. ان. ان. وراءها قوات المارينز الامريكية، اما الجزيرة فلا حول ولا قوة لها الا دولة قطر التي تمولها بمليار ريال سنويا، وهذه ايضا حليفة لامريكا.

في هذا يكمن جزء مهم من الاجابة على سؤالنا الاول، لماذا توقفت الناس عن متابعة اخبار اسرائيل واتبعت الجزيرة؟ ودون ان نهمل عوامل مثل الجوانب التقنية والقيمة الخبرية الاقوى التي تقدمها الجزيرة، بالاضافة لعامل الكراهية الشعبي المتنامي ضد اسرائيل، الا ان العامل الحاسم يمكن ان نجده اذا قارنّا بين الحال في الانتفاضة الاولى والثانية.

في الانتفاضة الاولى، وقبلها، كانت للناس قيادة، وكان لها برنامج وطريق ودعم عالمي، لذلك كانت متوازنة، قوية وواثقة بقدرتها على التغيير، فما خافت اخبار اسرائيل. اما اليوم فقد فقدت كل ذلك، والى الفراغ دخل الخطاب الاسلامي المتطرف الذي تنتهجه الجزيرة والذي ادى لخيبة امل واحساس عميق بالضعف. ومن نقطة ضعف، لا تريد الجماهير ان ترى الجبروت الاسرائيلي يصول ويجول، ليذكّرها بمرارة عجزها وقلة حيلتها، فكان الانعزال عن الواقع ملاذها الاخير.