حسين مروة ومهدي العامل والتحليق عاليا !


جمال محمد تقي
2009 / 3 / 13 - 08:54     

عالم جليل فيه عبق شيوخ الحكمة التقى في محطة المراجع والمصادر والمتون والهوامش والماضي والحاضر والمستقبل ، في محطة السفر بحثا عن وفي المعرفة ، بعالم شاب يتدفق نبوغا ، فاتفقا على ان يواصل الاول سفره في الموروث ، والثاني في الماثل والقائم ، ثم يلتقيان ثانية باتجاه السفر نحو المستقبل ، كانا شعلة من النشاط ، من العطاء ، من السفر الدائم بين الازمنة الثلاثة ، كانا نجمين ساطعين في سماء انقطعت عنها النجوم وسادها الوجوم ، لم تنتهي رحلتهما بعد ، لكن رصاص الحقد الاعمى ، رصاص قطاع الطرق ، رصاص المقامرين المأجورين الذين لا انتماء حقيقي لهم رغم وجودهم على نفس الارض وبين ظهرانين شعب يريد ان يتطهر من الادران ، كان له قولة اخرى !

لم يكن اغتيالهما عشوائيا ولا تحصيل حاصل ، لقد عرفوهما جيدا ، وترقبوهما ، ولاحقوهما ، وكانوا يخشون منهما اكثر مما يخشون من قبضة القانون ، او مدافع المناوئين ، خافوا علمهما ، كما فعلوا مع غاليلو ، والحلاج ، والحسين ، وغيرهم من المتصدين المقاومين عبر التاريخ ، ارادوا اسكاتهم ، والى الابد ، قتلوهما خوفا من التعرية خوفا من انفضاح اسرار طائفيتهم وتبعيتهم وعدميتهم وتخلفهم ولصوصيتهم ، التي كان العالمان يمتلكان كل ادلة الادانة عليها ، تاريخيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ونفسيا ، نعم نجحوا في اغتيال جسدي المفكرين المتألقين حسين مروة ومهدي العامل ، لكنهم وحتى هذه اللحظة عاجزين عن اغتيال ارواحهم التي تجوب بما اجادت وجودت من عطاء فكري وشواهد ثورية ثرة تحفز في الاحياء من الثوار والاحرار وكل التواقين لغد افضل على مواصلة نفس المشوار ودون توقف او خوف وتردد ومهادنة ومساومة مع خفافيش الظلام ومن يغذيهم في الداخل والخارج !

كتب الطيب تزيني تخليدا لذكرى استشهاد حسين مروة قائلا : "خسرنا رائدا مؤسسا في البحث التراثي العربي " ، ثم سرد حكاية تاريخية كان قد كتب عنها الشهيد في مقالة له تحمل عنوان " الفكر العربي في عاصفة التاريخ " عام 1955 معلقا على المقولة التالية التي خاطب بها اخر خلفاء بني أمية مروان الثاني الاديب عبد الحميد الكاتب ، اثناء فرارهما من ملاحقة جيوش السلطة الجديدة ، العباسية ، " أنج بنفسك يا عبد الحميد ، فانهم ان قتلوني خسرني اهلي وحدهم ، وان قتلوك خسرك العرب جميعا ! " ، يقول تزيني : ان ما اطلقه من كان رأسا للسلطة الاموية في حينه ، يمثل اعترافا عميقا من سلطة طبقية خارج حقلها السلطوي بموقع المفكر ، فكأن الامر كان بحاجة الى انتزاع السلطة من رموزها لكي تنكشف تلك المقولة من وجهة نظر تلك الرموز . . . " !
ولد حسين مروة عام 1908 في منطقة جبل عامل جنوب لبنان وقد جهزته عائلته مبكرا ليكون عالما بشؤون الدين ، درس حسين مروة في مدارس النجف الاشرف الدينية مطولا وعلى مدى 14 عاما من 1928 ـ 1938 وتشبع وهو يافع وبشغف متواصل بكنوز التراث العربي الاسلامي ، ودون الانعزال به عن مسار الحداثة الفكرية الذي فرض نفسه وتسرب حتى الى اكثر الزوايا محافظة في المجتمع بما فيه المجتمع النجفي ذاته ، ففي النجف ذاتها كان مروة تواقا لمعادلة الجرعات الدراسية التي يتشرب بها اي دارس نجفي ، كالفقه والتاريخ القديم للاسلام ومدارسه والشريعة واللغة وفلسفة المذهب ، بما تقع عينه عليه من اداب الحداثة ومدارسها الفكرية الجديدة ، ليست المسألة عنده مجرد مصادفة ، وانما ميل داخلي متقد نحو التعادلية والموازنة ، بالبحث عن تجسير بين الماضي والحاضر ، فكان مهتما بالتردد على باعة الكتب والمجلات والصحف القديمة والجديدة ، كان مهتما بمتابعة مجلات ـ العرفان ، الهاتف ، المقتطف ، الهلال ـ وكان مهتما بقراءة كتب شبلي شميل ، ونقولا حداد ، وفرح انطوان ، والشاعر الشبيبي ، والشاعر الشرقي ـ وتواصل مع بعضهم بالكتابة المباشرة وتواصل مع ما احب من بعض الصحف وقتها ، وكان يتحمس للمشاركة بالمناسبات والاحداث الوطنية والقومية ، فشارك بالعديد من المواجهات الى جانب العراقيين بالضد من الانكليز والحكومة الملكية !
مر تطور المسار الفكري لحسين مروة بثلاثة مراحل متميزة ـ المرحلة النجفية ، المرحلة العقلانية الديمقراطية ، المرحلة الماركسية ـ وليست هناك قواطع حادة بين تمرحل المسارالفكري بل انها جميعا تتساوق لتشكل تمايزا عند حسين مروة المفكر ، وحسين مروة الناقد الفكري ، اي ان مروة لم ينقطع وهو ماركسيا بصورة تامة عن مرحلتيه السابقتين ـ حسب تشخيص الطيب تزيني ـ !
كانت موسوعته الهامة والتي تعد من ابرز الدراسات الحديثة التي استخدم فيها المنهج المادي التاريخي لدراسة تاريخ الفكر العربي الاسلامي ـ النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية ـ والتي صدرت عام 1978 تعتبر ثمرة ناضجة لاستغراق طويل في سفره النقدي والفكري ، وعملية غوص منتجة في اعماق المرحلتين السابقتين ، النجفية والعقلانية ، مستشرفا ومحققا فيها ما اعتبره ملحا وضروريا في الاستفاضة بتطبيقاته المنهجية للماركسية ، وهي من جهة اخرى ايضا تلخص مرحلة اندماج فكرالناقد ، بالمفكر ، وبمنهج جدلي تاريخي يريد صياغة معرفة جديدة عن تاريخ عمومل بالعموم معاملة دوغماتية ووظف لخدمة ايديولوجيات سلطوية ، ولم يغب عنه الحاضر المعزوف على اوتار ذاك الماضي ، وكأنه يستشرف معادلات كيميائية من جيلوجيا التاريخ بعد الكشف عن نواميسه الميكانيكية والفيزيائية ـ من كشف نقدي لخامات الماضي + تعدين نقدي لخامات الحاضر = مستقبل مسبوك نقدا ـ !
لقد كانت الجهود الريادية للعلامة بندي صليبا الجوزي منارة هادية له في الانطلاقة الكبرى ، فقد اعتبر كتابه تاريخ الحركات الفكرية في الاسلام ، اول تناول منهجي استخدم المفهوم المادي للتاريخ في دراسته للفكر والحركات الاجتماعية في التاريخ العربي الاسلامي !
نشاط مروة الصحافي والكتابي والنضالي لم ينقطع منذ ماقبل الخمسينيات ولكنه ومنذ مطلع منتصف القرن الماضي اخذت كتاباته منحى اكثر عمقا في الاقتراب من تمثل المنهج المادي لدراسة الواقع التاريخي والواقع الراهن ، لقد كتب عام 1952 " ابن سينا ، فكرة تقدمية " ، " ثلاث شخصيات صلبها التاريخ " عام 1954 ، ثم " نحو تجربة جديدة . . . لبعث التراث العربي الفكري " و " الفكر العربي في عاصفة التاريخ " في عام 1955 ، وعام 1956 كتب " القصة العربية خلال التاريخ " و " كليلة ودمنة ـ تراث عربي اصيل " وعام 1957 كتب " المتنبي شاعر الجهاد العربي " ، اضافة الى " ابو العلاء المعري في سقط الزند " وفي عام 1958 " نظرة في حركة اخوان الصفا ومغزى دعوتهم " و" الطبقات لكبرى لابن سعد " ، وفي عام 1961 كتب " ابو حيان التوحيدي " ، و" ادب المقامات نشأ ظاهرة اجتماعية فنية لا ظاهرة فنية " ، وكتب " ازدواجية ام تقية ؟ " و " المنهج العلمي عند جابر بن حيان ـ امم العلوم الطبيعية " و" الشعوبية في التاريخ العربي " عام 1962 ، وكتب عام 1964 " وطوق الحمامة لابن حزم " ، وكتب عام 1975 " السمات الثورية في التراث لادبي العربي " ،اضافة الى مئات المقالات والدراسات التي يصعب حصرها !
ان العقلية الجدلية النقدية التي طبعت معظم عطاءات مروة لم تستثني الحركة الاستشراقية ومباعثها ومناحي خطلها في الكثير من المنطلقات ، ومنها تعاملها مع الفلسفة العربية الاسلامية وكانها مسخا عما سبقها من فكر فلسفي يوناني ، فيقول حسين مروة نفسه عن هذا الموضوع مايلي : " المركزية الاوروبية ـ الغربية ، فرضت صفة التناقض على مسالة الصلة بين طرق التفكير الشرقية وطرق التفكير الغربية ، ثم اهملت طابع الوحدة في طرق التفكير البشري ، واضفت الطابع المطلق على الفوارق الكائنة بينها فعلا " .
نعم الفلسفة العربية الاسلامية نسق فكري بخصائص محددة ومتميزة وهي ليست منعزلة ، وهذه صفة لصالحها بالمطلق اي انها متفاعلة ايجابا مع ما سبقها ومؤثرة بذاتها على ما لحقها ، فلا وجود لفلسفات قومية او مناطقية ـ نقية ـ فكرة النقاء الفكري هي رديف للعزلة والتحجر وهي عنصرية تطغي على الفكر المنحدر والباحث عن مبررات للهيمنة القسرية على تاريخ الفكر ، وبالتالي على حداثته واحداثياته ، وهذا ما ينطبق على افكارومنطلقات فكرة العقل التحليلي للغرب ـ عقلانية الغرب ـ والعقل التركيبي للشرق ـ لا عقلانية الشرق ـ المنطلقة من عقال اسطورة المركزية الاوروبية !!
يقول الطيب تزيني في جانب اخر من دراسته حول هذا الموضوع ضمن تسلسل الاحاطة بحسين مروة الكاتب والناقد والمفكر ما يلي : " ان احد منجزات مروة ، في ارثه الكبير ، يكمن بالضبط بتحقيق ذلك التجادل العميق بين ايديولوجيا المنهج وبين ابستيمولوجيا المعرفة ، اي معرفة علمية منتجة لمعرفة علمية ، بالرغم مما يكون قد نشأ عنده من بعض المسائل او المواقف التي تستوجب مزيدا من التدقيق والتخصيص . . " !
مهدي العامل نفسه وضمن ما كتبه عن موسوعة مروة اكد قائلا : " ان النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية ، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بوجود نزعات مادية اكثر منه على وجود الصراع بين هذه النزعات التي نسميها احيانا ، بلغة هيجلية ( جنينية ) وبين النزعات المثالية المهيمنة في الفكر الواحد " !
قرأت كتاب دسم للمفكر مهدي عامل " حسن حمدان " شرح به بتفليس نظري مدهش هشاشة مستويات المنهج وتخبطات اجترارات المدارس الهجينة في بعض دراسات ندوة ازمة الحضارة العربية التي عقدت في الكويت في النصف الثاني من عقد السبعينات ، وكان عنوانها " ازمة الحضارة العربية أم ازمة البرجوازيات العربية " ، وكانت هي " القراءة " فاتحة لاصرار وحرص فضولي مني على متابعة ما يصدر عنه ، وتحفزت اكثر لمراجعة ما كتبه قبل كتابه " ازمة الحضارة العربية ام البرجوازية العربية " !
يقول عنه مسعود ضاهر ـ استاذ التاريخ الحديث في الجامعة اللبنانية عام 1987 ـ " لم يكن مهدي عامل مثقفا ماركسيا فحسب بل حرص على تجديد الفكر المادي في الوطن العربي بشكل لم تسبقه اليه كثرة من المثقفين الثوريين العرب ، واذا كانت مقولاته النظرية حول التناقض ، ونمط الانتاج الكولونيالي ، والدولة الطائفية ، وغيرها قد اثارت الكثير من الجدل في اوساط الماركسيين وخصوم الماركسية على السواء ، فلأنها مقولات تحمل الكثير من الجدة ، او لم تكن مألوفة سابقا في الفكر الماركسي في لبنان وباقي الاقطار العربية . . . " !
د . خضر زكريا كتب عنه قائلا : " ان الباحث في فكر مهدي عامل سيكتشف منهجا علميا جديدا حقا ، سيجد امامه ادوات جديدة لاكتشاف المعرفة ، وسيتعلم النقد العلمي البناء ، النقد على الطريقة الكانتية ، او كما يقول مهدي ـ بفورة كانتية جديدة ـ التي تبدأ بنقد الذات ، ان نقد مهدي عامل للطريقة التي فهمت بها بعض الاحزاب الشيوعية العربية الماركسية ، وللكيفية التي مارست بها هذا الفهم جدير بان يدرس وتعاد دراسته لا من قبل الماركسيين وحدهم بل من قبل جميع الوطنيين ، من قبل جميع الذين يناضلون في صفوف حركة التحرر الوطني العربية ، اي على الجميع ان يتعلمون نقد الذات فيعيدون النظر في كثير من المفاهيم والمقولات والممارسات الشائعة لديهم ، وبذلك يتكون ويتعمق " التحالف الوطني الطبقي الثوري " الذي دعا اليه مهدي عامل بين جميع الذين يناضلون من اجل حل التناقض الرئيسي القائم حاليا في وطننا العربي لصالح قوى التحرر والتقدم الاجتماعي . . " !
د . يمنى العيد ، في مقطع من مقالتها التأبينية كتبت قائلة : " منذ اول سطر خطه الى اخر صفحة تركها مفتوحة على البياض بعد اغتياله ، ناضل مهدي لنقض مقولات ترسخت في ثقافتنا العربية ، في كتاباتنا الادبية ، والفلسفية ، والسياسية ، بما فيها احيانا الكتابات الماركسية ، مقولات بدت ، بالوهم ، تقدمية ، او علمية ثورية ، لكنها تتكشف ، في نهاية تحليله لها ، ككتابات تنتمي الى ايديولوجية البرجوازية الكولونيالية ، وتدعم ، من ثم ، عن وعي او غير وعي ، سلطتها ، على حساب الفهم الثوري لعملية التغيير الثقافي والتحرر الوطني . . " !
ككل الثوار الموهوبين ، ككل الحالمين بالحرية الانسانية ، ككل المتحمسين عشقا للجمال ، كان مهدي عامل شاعرا ايضا ، ومن ديوانه الشعري " تقاسيم على الزمان " نعيد اختيار هذا البيت الشعري الذي اختارته يمنى العيد كمسك ختام لحواريتها معه " تهديك في ذلك الدرب الطويل نجمة حمراء يرسمها دمك " !
هامش :
كانت امنية حسين مروة في اواخر حياته : انجاز الكتاب الثالث من كتابه ( النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية ) ، وكتابة رواية ( سيرة ذاتية ) بعنوان ( ولدت رجلا واموت طفلا ) .
كان اخر عمل يهم بانجازه مهدي عامل قبل اغتياله الاثم في ايلول من عام 87 كتابه( نقد الفكر اليومي ) وكان يخطط لانجاز كتابة القسم الثالث من بحثه الموسوعي " تمرحل التاريخ " .