تراث الفقيد عبد السلام المؤذن حي لايموت//التطور التاريخي للتشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية بالمغرب//القسم الاول //صيرورة الانتقال من المجتمع اللاطبقي الى المجتمع الاقطاعي .


بلكميمي محمد
2009 / 3 / 11 - 10:46     

تقديم : ان الخاصية الاساسية التي تميز بها تاريخيا التطور الاقتصادي - الاجتماعي في المغرب هو كون المجتمع المغربي قد انتقل مباشرة من مجتمع لاطبقي الى مجتمع اقطاعي بدون ان يمر بالمرحلة العبودية ( منظورا الى المسالة من زاوية نمط الانتاج المحلي ) . وان هذا التحول الطبقي قد تم تدريجيا بعد الفتح العربي الاسلامي .
لقد عرف المجتمع العربي الاسلامي ، فعلا علاقات اجتماعية عبودية الا انها ، اما كانت خارج دائرة الانتاج حيث اتخذت شكل خدم في بيوت الارستقراطية واغنياء المدن ، او شكل جنود لدى بعض الملوك . واما انها حين ارتبطت فعلا بالانتاج ، فظلت هامشية ومعزولة ، وهي بدل ان تتطور وتتوسع لتصبح سائدة على صعيد علاقات الانتاج ، فانها بالعكس قد تقهقرت وانقرضت . هناك حالتان رئيسيتان من هذا النوع : الاولى تتمثل في زراعة السكر الذي كان موجها للتصدير ، سينهار تحت ضربات المزاحمة الشديدة التي مثلها ظهور البرازيل كاكبر بلد مصدر للسكر في القرن السادس عشر.
اما الحالة الثانية ، فتتمثل في النظام العبودي الزراعي الذي كان قائما في واحات وادي درعة بتافيلالت ، الا ان ذلك النظام الذي كان يستمد قوة العمل وتجددها من تجارة العبيد السود ، سينهار بانهيار التجارة مع بلدان افريقيا السوداء بعد ان تم تهميش الطريق التجاري المار عبر الصحراء الغربية .
من ناحية اخرى لقد عرف المجتمع المغربي بعد الارهاصات الطبقية الاولى قبل قرون من الفتح العربي الاسلامي ، تحت تاثير الغزو الفنيقي السوري ، وبشكل خاص تاثير الاحتلال الروماني . الا ان تلك الارهاصات كانت سطحية ، ولذلك عجزت عن النمو والتطور ، حيث سرعان ما تبددت وتلاشت ، ولعل اسطع دليل على ذلك ، وهو تجربة الاحتلال الوندالي للمغرب .
ان اجتياح القبائل الوندالية – الجرمانية للمغرب كان يدخل في اطار اجتياح اعم واشمل تمثل في الغارات العسكرية الواسعة التي قامت بها القبائل الجرمانية البربرية على الاقاليم الغربية من الامبراطورية الرومانية ( اوربا الغربية والمغرب ) . ولقد اتى ذلك الاجتياح الجرماني الذي انطلق في القرن الخامس الميلادي ، كنتيجة للازمة البنيوية العميقة التي انفحرت داخل النظام العبودي الروماني منذ القرن الثالث ، غير ان نفس القبائل الجرمانية التي اغارت على اوربا الغربية والمغرب لم تخلف نفس الاثار الاولى . لقد وجد البرابرة الجرمان انفسهم ، ليس فقط امام نظام طبقي شامل ومترسخ ، بل اويضا في طور تفككه وبداية انتقاله من نظام عبودي الى نظام اقطاعي . هنا سيؤدي الغزو الجرماني الى الاسراع بعملية الانتقال تلك ، وذلك عن طريق تحول القادة العسكريين الجرمان واعوانهم الى اسياد اقطاعيين بسبب احتكارهم الى السلاح . ففي هذه الحالة اذن ، لقد استطاع النظام الاقتصادي – الاجتماعي استيعاب القبائل المغيرة ودمجها في صيرورة الانتقال من العبودية الى الاقطاع .
اما في الحالة المغربية ، فقد وقع عكس ذلك تماما ، اذ وجدت القبائل الجرمانية البربرية نفسها وجها لوجه ، امام القبائل المغربية البربرية هي ايضا . هنا كانت المواجهة مواجهة الند للند بسبب تشابه التركيب الاجتماعي للطرفين ، وبالتالي لكون القبائل المغربية كانت قبائل بدو احرار يحملون السلاح ، لذلك تم في المغرب لفظ القبائل الجرمانية المغيرة .
مايريد الفقيد عبدالسلام المؤذن التاكيد عليه مما سبق ، هو ان المجتمع المغربي الماقبل اسلامي ، ظل في جوهره مجتمعا لاطبقيا . ان التحول من المجتمع اللاطبقي الى المجتمع الطبقي ، سيكون من انجاز المرحلة العربية الاسلامية ، وان هذه المرحلة نفسها ستطبع ذلك التحول بميزة خاصة ، هي الانتقال مباشرة الى نمط الانتاج الاقطاعي بدون المرور بمرحلة نمط الانتاج العبودي .

1- تشكيل الارستقراطية القبلية
ان الارستقراطية القبلية ، هي الشكل الجنيني الاول لبداية الانقسام الاجتماعي ، داخل القبيلة المساواتية القائمة على الديمقراطية البدائية . انها تمثل تناقضا مصلحيا بين رئيس القبيلة وبين اعضائها الاخرين الذين هم عبارة عن منتخبين محاربين احرار .
ان الارستقراطية القبلية اذن ، تعكس صراعا جنينيا بين نزوع الرئيس الى تطوير مصالحه وتركيز سلطاته ، وبين نزوع القبيلة الى الحفاظ على ديمقراطيتها البدائية الاصلية . ان هذا التناقض الدقيق هو الذي يحول القبيلة من مجرد كتلة اجتماعية ساكنة ، الى تنظيم اجتماعي – سياسي دينامي متحرك : فالطرف الاول في التناقض يضغط في اتجاه تطوير مبادرات الرئيس الفردية كشرط لتنمية مصالحه الخاصة ، بينما الطرف الثاني يضع تصرف زعامة الرئيس قوات القبيلة الضاربة لتحقيق الاهداف التي خططها الرئيس وقدمها في شكل مصلحة عليا للقبيلة . ان هذا الاندماج بين رئيس مبادر – مخطط ، ومحاربين منفذين هو الذي سمح ، في اطار التمويه بين مصالح الطرفين ، يجعل القبيلة الارستقراطية تتمتع بقوة وجبروت كانت تفتقدها كل القبائل الاخرى التي ظلت في مرحلة الديمقراطية البدائية المطلقة .
تاريخيا : لقد ظهر الشكل الاول للارستقراطية القبلية في المغرب ، كنتيجة للحروب التقليدية بين القبائل . ان القبيلة التي كانت تنظم غارات عسكرية على قبيلة اخرى قصد السطو على ثرواتها ، ستكتشف مع تكرار التجارب بان احد افرادها يتوفر على كفاءة حربية عالية ومواهب عسكرية متفوقة . ان هذا التفوق الشخصي سينعكس تدريجيا على مستوى توزيع الغنائم ، بحيث سيتم الاعتراف للرئيس الموهوب بحصة اكبر ، مما سيدفع الرئيس بدوره الى المبادرة لتنظيم الغارات والتخطيط لها ، ليس من منطق الحاجة الموضوعية للقبيلة ( كما كان الامر في البداية ) ، بل من منطلق مراكمة الثروة لصالح الرئيس.
هذه الارستقراطية القبلية التي انفصلت عن النظام الاجتماعي القبلي الديمقراطي البدائي ، لكن بدون ان تصبح مع ذلك طبقة اجتماعية متميزة ، هي التي سيواجهها الفاتحون العرب عند قدومهم الى المغرب في القرن السابع . فلقد ابانت عن مقاومة شديدة حيث لم يتمكن الجيش العربي من اخضاعها عسكريا ، الا بعد نصف قرن من المواجهات المتكررة ( من مرحلة عقبة بن نافع الى مرحلة موسى بن نصير والنعمان ) .
لكن المفارقة الكبرى هي ان الارستقراطية القبلية المغربية ، اذ كانت في البداية قد رفضت باستماتة الغزو العربي للمغرب ، فانها بعد ذلك قد قبلت واعتنقت الديانة الاسلامية بسهولة وسرعة كبيرتين . وهذا لايرجع لقوة روحية خارقة يتمتع بها الاسلام في حد ذاته ، بل للمشروع السياسي الواقعي الذي قدمه الاسلام للارستقراطية القبلية . فالطبقة التجارية العربية متزعمة المشروع الاسلامي ، والتي تملك افقا فكريا – سياسيا واسعا ، سوف تفتح امام الارستقراطية المغربية افاقا اوسع ، حين تقنعها بان مصلحتها المادية الفعلية ، لاتكمن في تنظيم الغارات العسكرية على القبائل المحلية ، التي لايمكن من ورائها جني سوى غنائم محدودة ، بل في تنظيم الحملات العسكرية الكبرى ضد البلدان الاجنبية ، ان فتح الاندلس اعتمادا على القبائل المغربية المحاربة ، وبزعامة الارستقراطية القبلية المغربية التي كان على راسها طارق بن زياد ، يعتبر اول تحالف سياسي قوي بين الطبقة التجارية العربية والارستقراطية القبلية المغربية ، الذي وضع الاسس الصلبة للتغلغل الايديولوجي الاسلامي في المغرب .

2 تحول الارستقراطية القبلية الى ارستقراطية تجارية .
ان التناقض بين الارستقراطية القبلية واعضاء القبيلة المسلحين ، مادام لايزال في شكله البسيط ، فانه يسمح بامكانية تضامن القبيلة مع ارستقراطيتها ، وبالتالي تعبئتها لخدمة المشاريع السياسية للارستقراطية . واذا كان ابرز انجاز سياسي حققه التضامن القبلي خارج المغرب هو فتح الاندلس ، فانه على الصعيد الداخلي يتجلى في قابليته لجعل الارستقراطية القبلية على راس دولة . ام الدول الكبرى الثلاث ، المرابطية والموحدية والمرينية ، تشكل امثلة ساطعة على ذلك .
في القرن التاسع ، برز المغرب كحلقة وصل اساسية بين افريقيا السوداء وبلدان المشرق الاسلامي . لكن هذا الدور سيصبح حاسما عند تعاظم تجارة الذهب المتدفق من تومبكتو بمملكة مالي ، ومن جاو والمناطق المجاورة ، الى بلدان الشرق واروربا عبر الصحراء الغربية المغربية .
ان تجارة الذهب قد اعطت للارستقراطية القبلية التي تمكنت من الوصول الى راس الدولة فائضا اقتصاديا هاما سمح لها ببناء حضارة مغربية خلال تلك الحقبة التاريخية . وان مدينة فاس التي ارتبط اسمها تاريخيا بتلك الحضارة ، انما تستعد دورها الاشعاعي هذا مع موقعها التجاري المركزي . ذلك انها جغرافيا كانت تحتل موقعها استراتيجيا على مفترق الطريقين الرئيسيين في نقل تجارة الذهب ، فمن جهة ، ان تواجدها قرب مدينة تازة التي تعتبر الممر الوحيد الممكن في اتجاه الشرق ، بسبب تواجدها في نقطة الانقطاع بين جبال الاطلس وجبال الريف ، قد مكنها من ربط السهول المغربية الممتدة على الساحل الاطلسي ، ببلدان المشرق الاسلامي عبر الجزائر وتونس .
ومن جهة اخرى ، ان تواجدها على الطريق الرابطة بين سجلماسة في الجنوب التي هي بمثابة بوابة الصحراء نحو افريقيا السوداء . وبين مدينة سبتة في الشمال على البحر الابيض المتوسط مكنها من نقل الذهب من مصادره في افريقيا السوداء الى اوربا .
ان التناقض الكامن بين الارستقراطية القبلية واعضاء القبيلة ، سيحتد بمجرد وصول الارستقراطية الى الحكم وسيكون محور الصراع بين الطرفين هو مسالة الفائض الاقتصادي الناجم عن المداخيل التجارية. فالارستقراطية ستستغل نفوذها السياسي المتعاظم من اجل الاستحواذ على الجزء الاعظم من الفائض التجاري . اضافة الى ذلك فقد تولدت لديها ميولات سياسية الى خلق نظام ملكي وراثي مطلق ، وهو ما يتناقض مع التقاليد القبلية الديمقراطية البدائية .
ان انفجار التناقض الاقتصادي – السياسي بين الارستقراطية القبلية المتحولة الى ارستقراطية تجارية وبين القبيلة ، سيؤدي حتما الى تفكيك التضامن القبلي الذي كانت تستمد منه الارستقراطية كل قوتها . لذلك تضطر الارستقراطية التجارية الى الاعتماد على مصادر اخرى للقوة العسكرية ، حيث ستجدها في تجنيد المرتزقة ، غير ان هذا الاختيار له منطق خاص مليئ بالتناقضات التي سرعان ما سترتد على اصحابها : فتجنيد المرتزقة يتطلب الاموال واقتطاع الاراضي لصالح الزعماء . والزعماء الذين يملكون الاراضي يريدون الاستقلال عن الدولة للسيطرة على كل الفائض الاقتصادي الناجم عن استقلال الفلاحين . والدولة لكي تردع هؤلاء المتمردين مضطرة الى تجنيد المزيد من المرتزقة . وهذا يتطلب بدوره المزيد من الاموال ، التي لايمكن الحصول عليها الا بواسطة الرفع من الضرائب على التجارة البعيدة وعلى الفلاحين ، والنتيجة : تدهور الوضع الاقتصادي وانفجار الازمة الاجتماعية .
وفي خضم هذه الازمة ، تتسرب الى الحكم ارستقراطية قبلية جديدة ، حيث ستكرر نفس الذي سلكته الارستقراطية السابقة . وستنتهي بدورها الى الانهيار لتفسح المجال لارستقراطية اخرى .
وهكذا يظل تعاقب دول الارستقراطية يدور في حلقة مفرغة . ان هذا القانون الدائري قد عبرت عنه احسن تعبير ، نظرية العصبية القبلية لابن خلدون ، التي تتميز بمنطقها القوي من الناحيتين الجدلية والمادية .
ان جوهر الصراع بين الارستقراطية التجارية المتقهقرة والارستقراطية القبلية الصاعدة الطامحة لان تحتل مكان الاولى على راس الدولة .كان دائما جوهرا ماديا يتمحور حول الرغبة في السيطرة على الفائض الاقتصادي الناجم عن التجارة البعيدة . لكن في مجتمع اصبح رسميا مجتمعا دينيا اسلاميا . فان الصراع بين المصالح المادية سيكتسي طابع الصراع الايديولوجي الصرف ، ان اسطع دليل على ذلك هو تجربة الدولتين المرابطية والموحدية .
اولا – بالنسبة للدولة المرابطية : لايمكن فهم طبيعة الايديولوجيا التي اعتمدتها تلك الدولة في بداية دعوتها السياسية ، لتبرير شرعية الاستيلاء على الحكم ، بدون فهم طبيعة الايديولوجيا التي سبقتها ولا يمكن فهم هذه الايديولوجيا بدورها ، بدون ربطها بالوضع الاجتماعي المادي الذي كان سائدا في المغرب مباشرة قبل قيام الدولة المرابطية ، فماهو اذن هذا الوضع ؟ .
بعد الفتح العربي الاسلامي للمغرب ، اصبح المغرب بالتالي مجرد اقليم من اقاليم دولة الخلافة التي يوجد مقرها في الشرق . ان اندماج المغرب في دولة الخلافة . قد جعله يتاثر بالضرورة بكل الصراعات السياسية الكبرى التي كانت تعصف بتلك الدولة في مركزها . ان اول صراع سياسي كبير انفجر في الشرق ، والذي كانت له انعكاسات سياسية بالغة الاهمية في المغرب . هو الصراع الكبير التاريخي بين علي ومعاوية .
ولقد كان ذلك الصراع يتمحور حول الخيار بين الحفاظ على البنية القبلية ، العشائرية القديمة للدولة ( وهو موقف علي وبعده الشيعة والخوارج ). وبين بناء دولة طبقية مهيكلة على الطراز البيزنطي والفارسي ، مع ضرورة القبول بكل الشروط المؤدية الى ذلك . وفي مقدمتها تعميم الخراج على الجميع سواء كانوا مسلمين او غير مسلمين( وهو موقف معاوية والبورجوازية التجارية العربية ) . ولقد حسم ذلك الصراع لصالح الاتجاه التقدمي الذي كان يمثله معاوية ، على حساب الاتجاه المحافظ الطوباوي المشدود الى الماضي الذي كان يمثله علي .
غير ان الايولوجيا الشيعية ، الخوارجية التي انهزمت في المركز ، بسبب التقدم الحاصل هناك في التركيب الطبقي ( بلاد فارس ، العراق ، سوريا ، مصر ) فانها قد انسحبت الى اطراف دولة الخلافة وضمنها المغرب . حيث الشروط الاجتماعية – المادية اكثر ملائمة لدعايتها . تعميم الخراج اذن على الفلاحين المسلمين المغاربة من طرف الحكومة المركزية في دمشق . سيلاقي معارضة من قبل هؤلاء الفلاحين ، حيث ستستغلها الايديولوجيا الخوارجية بهدف تنظيم عصيانهم ضد الحكومة المركزية . وان الحرب الفاصلة التي دارت رحاها فوق ضفاف نهر سبو ، بين القبائل المغربية الرافضة للخراج بزعامة الخوارج ، وبين الجيوش العربية القادمة من دمشق ، والتي انتهت بانهزام هذه الاخيرة ، ستكون بمثابة الاعلان النهائي عن استقلال المغرب عن دولة الخلافة في الشرق . والبديل الذي سينتج عن ذلك . هو تشرذم المجتمع المغربي بين مجموعة من الامارات الخوارجية المتعايشة مع امارات تعتنق خليطا من الديانتين الاسلامية والوثنية كان ابرزها امارة برغواطة في سلا .
هذا بوجه عام هو الوضع الاجتماعي الذي كان سابقا في المغرب ، عند بداية ظهور المرابطين ابان تعاظم دور المغرب كوسيط تجاري بين افريقيا واوربا ، انه الوضع الذي ارادوا تغييره من اجل السيطرة على تجارةالذهب .
ان تحكم الارستقراطية القبلية المرابطة في تجارة الذهب ، كان يتطلب منها التحكم في مراقبة كل الطرق التجارية التي يمر منها الذهب . وتلك المراقبة كانت تتطلب بدورها اخضاع جميع المناطق الاستراتيجية المحيطة بالطرق التجارية . وهذا بدوره يقتضي توحيد المغرب في ظل دولة مركزية . ان عبد الله بن ياسين المنظر الايديولوجي للمشروع السياسي المرابطي ، سيبلور الايديولوجيا التي تستجيب لذلك المشروع . ولقد تاسست هذه الايديولوجيا على ركيزتين اساسيتين : 1) التاكيد على الجانب الشمولي الوحدوي للاسلام ، عن طريق اعادة الاعتبار لمفهوم اجماع الامة ، وذلك من اجل محاربة الاتجاهات الايديولوجية الاقليمية الانعزالية التي كان يمثلها في ذلك الوقت في المغرب ، كل من الخوارج والشيعة والبرغواطية . 2) اختيار من بين المذاهب الفقهية الاسلامية الاربعة ، المذهب الاكثر ملاءمة مع الشروط الاجتماعية – المادية المغربية التي لم تتطور بعد الى الطور الطبقي من حيث واقع التركيب الاجتماعي الذي ظل قبليا – عشائريا . ولقد كان ذلك المذهب هو المذهب المالكي .
ان الانتصار السياسي لدولة المرابطين ، كان في نفس الوقت انتصارا ايديولوجيا كبيرا . اذ لاول مرة يتم فعلا دحر جيوب رواسب الوثنية الماقبل توحيدية ، ولاول مرة يتم تعميم نشر الاسلام في جميع المناطق . والجدير بالذكر هنا ، هو ان هذه المهمة كانت من انجاز البربر سكان المغرب الاصليين انفسهم . وكما كانت التجارة من قبل ، هي صانعة الوحدة السياسية والايديولوجية بالنسبة لقبائل الجزيرة العربية ، فان التجارة هي نفسها التي صنعت الوحدة السياسية والايديولوجية بالنسبة للقبائل المغربية .
ثانيا – بالنسبة للدولة الموحدية : بعد ان اكتملت الدورة المرابطية على راس الدولة ، ودخلت في ازمتها البنيوية التي اصبحت تهددها بالسقوط ، قامت الارستقراطية القبلية الموحدية المرشحة للاستلاء على الحكم ببلورة الايديولوجيا الجديدة التي ستتخذها سندا في دعوتها السياسية . ولقد كانت تلك الايديولوجيا الجديدة من تاسيس المنظر الكبير المهدي بن تومرت . ان بن تومرت سينطلق من التناقض الذي كان ينخر الايديولوجيا المرابطة المالكية . وهذا التناقض يتجلى في التالي : ان الدولة المرابطية بعد ان تحولت الى امبراطورية ، اصبحت لا تتحكم في المغرب وحسب ، بل وفي الاندلس ايضا . وهذا معناه ، انها اخضعت لنفس الايديولوجيا المالكية الرسمية الواحدة ، مجتمعين شديدي الاختلاف من حيث مستوى تطور بنيتهما الاجتماعية المادية . واذا كانت الايديولوجيا المالكية تتلاءم مع شروط المجتمع المغربي العشائرية – القبلية البسيطة ، فانها لا تتلاءم مع شروط المجتمع الاندلسي المتطور طبقيا .
لقد كان هدف ابن تومرت اذن ، هو بلورة ايديولوجيا شاملة تكون قادرة ، في نفس الوقت ، على الاستيعاب ، والتعبير عن خصوصيات المجتمعين معا المغربي والاندلسي . ولقد استلهم هذه الايديولوجيا من الفكر الاشعري . ان ابن تومرت نفسه قد تعرف شخصيا ، لدى سفره الى الشرق على الغزالي كبير الفلاسفة الاشعريين .
ان الدولة الموحدية التي وصلت الى الحكم ، ستخضع هي بدورها لنفس قانون الصعود والسقوط ، وكما تم سابقا اسقاط الارستقراطية التجارية المرابطة على ايدي الارستقراطية الموحدية الصاعدة ، فقد تم لاحقا اسقاط الارستقراطية التجارية الموحدية نفسها على ايدي الارستقراطية المرينية الصاعدة .
لكن هذه الحلقة المفرغة بين الارستقراطيات التجارية المتعاقبة لم تدم ، اذ سيتم تكسيرها في منتصف القرن الرابع عشر .


3- تحول الارستقراطية التجارية الى طبقة اقطاعية .

في القرن الرابع عشر ، تتمكن دولة المماليك الحاكمة في مصر ، من التوغل الى اقصى الجنوب ، حيث ستعمل على اسقاط مملكة النوبة المسيحية التي كانت تشرف على اعالي وادي النيل . مما مكنها من التقدم غربا عبر التشاد والنيجر الى البلدان المنتجة للذهب حيث اقامت هناك نظاما سياسيا حليفا لها والنتيجة الحاسمة لذلك هي تحويل اتجاه تجار الذهب . من الطريق الغربية المارة عبر المغرب الى الطريق الشرقية عبر التشاد .
من ناحية اخرى ، ان الاوربيين الذين كانوا يتزودون بالذهب من المغرب ، الشيء الذي يسمح بتنشيط حركة تجارية واسعة ومتنوعة ، سيضطرون بدورهم تحت ضغط تحويل اتجاه تجارة الذهب نحو الطريق الشرقية ، الى فتح طريق بحرية عبر المحيط الاطلسي تربطهم مباشرة بمصادر الذهب وهكذا ، ففي منتصف القرن الرابع عشر سيصل الايطاليون ( تجارة مدينة جنوا ) الى ماديرا واتور ، ثم في نهايته سيتعزز الوجود البرتغالي على الشواطئ الافريقية القريبة من المناطق المنتجة للذهب ، وذلك باحتلال منطقتي مينا واكسيهم .
ان عزل المغرب عن التجارة الدولية ، وبالتالي التدهور الكبير لموارد التجارة البعيدة ، سيضع الارستقراطية القبلية ، التجارية الحاكمة ، في مازق تاريخي دقيق . فهذه الارستقراطية التي اعتادت على العيش الرغد القائم اساسا على احتكارها لفائض اقتصادي تجاري . قد وجدت نفسها فجاة امام خيار عسير : اما الاختناق اقتصاديا كفئة اجتماعية ذات مصالح خاصة ، واما البحث عن بديل جديد لفائض التجارة الخارجية .
ولقد اختارت الحل الثاني ، وهذا البديل لن يكون بديلا داخليا يقوم على الاستحواذ على الفائض الاقتصادي للجماهير الواسعة من الفلاحين المنتجين .
غير ان الارستقراطية الحاكمة ، لكي تتمكن من السيطرة الى اقصى الحدود على الفائض الاقتصادي ، كان ضروريا تدمير علاقات الانتاج القديمة واحلال مكانها علاقات جديدة تستجيب للوضع الجديد . والشرط الاول لذلك نزع السلاح من الفلاحين ، وتحويلهم من فلاحين محاربين احرار الى فلاحين خاضعين تابعين .
ان حربا طبقية مريرة وطويلة ستندلع اذن بين الارستقراطية الحاكمة ذات النزوع الاقطاعي وبين الفلاحين . ولقد انفجرت تلك الحرب في المرحلة الثانية من الحكم المريني بعد اغتيال السلطان ابي عنان من طرف احد وزرائه في منتصف القرن الرابع عشر ، واستمرت حتى العهد الوطاسي .
ولقد كان طبيعيا ان يكون الميدان الذي دارت عليه رحى الحرب هي المناطق الزراعية والرعوية الاكثر خصوبة ، وهي السهول الساحلية الاطلسية والسهول الداخلية .
ان هذه الحرب الطبقية ستنتهي بانهزام الفلاحين ، وبانهزام الفلاحين سيتعزز لاول مرة في التاريخ المغربي ، موقع الطبقة الاقطاعية .
ان الارستقراطية المرينية والوطاسية لم يكن في وسعها الانتصار على الفلاحين والتشكل كطبقة اقطاعية ، بدون تجاوز اصولهما القبلية الضيقة والاندماج مع ارستقراطيات قبلية اخرى . ان نفي الذات القبلية هي خطوة ضرورية نحو الارتقاء الى الطبقة المجردة . وهذا بالضبط ما حصل خلال الحرب ضد الفلاحين . ففي تلك الحرب استعانت الارستقراطية الحاكمة بالعديد من القبائل العربية ، كان اهمها : قبائل خلط وسفيان وبني جابر وبني هلال ومعقل . وبعد التشكيل الطبقي الاقطاعي ، وقع اندماج اجتماعي عميق بين العنصر البربري والعنصر العربي ، نتج عنه انتفاء طابع الصفاء العرقي لدى الطرفين معا ، وظهور خليط جديد يتكلم العربية في السهول . هكذا ستنقرض نهائيا كتلة القبائل البربرية الزناتية ، وسيتم استعراب جميع القبائل البربرية الخاضعة للاقطاع في السهول ، ان الذين سيحافظون على طابعهم البربري المتميز هم الفلاحون والرعاة المنسجمون الى جبال الاطلس والريف والسهول الساحلية في الجنوب ، بعد هزيمتهم في حربهم ضد الاقطاع ، وكذلك سكان تلك المناطق الاصليون .
ومرة اخرى ، فكما ان البربر المرابطين لعبوا دورا اساسيا في نشر الاسلام في المغرب تحت تاثير انتقالهم الى ارستقراطية تجارية ، فكذلك ان البربر المرينيين والوطاسيين لعبوا دورا اساسيا في تقريب المغرب تحت تاثير انتقالهم الى طبقة اقطاعية .


4- طبيعة النظام الاقطاعي الناشئ.
ما معنى نمط الانتاج الاقطاعي بوجه عام ؟ أي ماهي الخاصية الجوهرية التي تؤسسه ، بغض النظر عن الاشكال العارضة التي قد تطرأ عليه هنا وهناك حسب تغير الظروف والملابسات التاريخية ؟
ان الاقطاع هو علاقة اجتماعية – اقتصادية ، بين الفلاحين الخاضعين المنتجين ، الذين لايتصرفون سوى بجزء الانتاج الضروري لمعيشتهم ، ولهذا فهم يعتبرون اقنانا وبين المسيطرين المباشرين على فائض انتاج الفلاحين بقوة الاكراه ، ولهذا فهم يعتبرون اسيادا .
ان القنانة اذن هي شكل وجود قوة العمل في النظام الاقطاعي تماما كما ان العمل العبودي هو شكل وجود قوة في النظام الراسمالي .
ماهو جوهري اذن في النظام الاقطاعي . هو الاستحواذ على فائض عمل الفلاحين من طرف الاسياد ، اما الاسلوب العملي لتنظيم ذلك الاستحواذ ، فيخضع لعدة صيغ متنوعة حسب شروط المجتمع ومراحل تطوره . في اوربا مثلا ، تجسد النظام الاقطاعي في ثلاثة اشكال رئيسية هي :
1) ريع العمل ( منح الفلاح بقعة من الارض يعيش من غلتها ، مقابل تسخير فائض عمله للعمل في اراضي السيد ) ..
2) ريع المنتوج ( تفويت السيد كل اراضيه للفلاحين ، مقابل الحصول منهم على فائض الانتاج ) .
3) الريع النقدي ( اخذ فائض الانتاج في شكل نقود بدل شكل منتوج عيني ) .
في المغرب ، في عصر الدول التجارية الكبرى ، كان الشكل الاول والرئيسي الذي تجسدت فيه علاقات الانتاج الاقطاعية ، هي الشكل الضريبي ، الا انه نظرا الى ان الارستقراطية التجارية الحاكمة ، كانت تستمد الفائض الاقتصادي من مداخيل التجارة البعيدة اساسا ، فبالتالي لم يكن ذلك الشكل الضريبي يبلغ حده الاقصى .
هذا الوضع سيتغير جديا ابتداءا من المرحلة الثانية من الحكم المريني ، ومن حكم الوطاسيين ، اذ في هذه المرحلة ، من جهة سيبلغ فائض الانتاج المنزوع من الفلاحين في شكل ضرائب مداه ، مما حوله الى ريع منتوج سافر . ومن جهة اخرى ، كانت ضرورة مراقبة الانتاج بشكل مباشر ، تقتضي امتلاك الاراضي ، وبالتالي السيطرة على فائض عمل الفلاحين في شكل ريع عمل . ان السهول الشاسعة التي كانت خاضعة في ذلك الوقت لسلطة الدولة ، كانت مليئة بالاقطاعات المفوتة لزعماء الحرب الذين تحولوا الى اسياد اقطاعيين ( رغم عدم استقرار الملكية الاقطاعية في ايدي نفس الاشخاص . لكن الثابت كان دائما انتزاع فائض الانتاج من الفلاحين ، سواء استحوذ عليه هذا الاقطاعي او ذاك ، ان ضعف استقرار الملكية الاقطاعية لايمس طبيعة النظام في حد ذاته ، بل فقط جوانبه المتعلقة بتطوير ( الانتاجية ) . ولقد كان الملوك هم اكبر الاقطاعيين ، ان محمد الشيخ مثلا ، مؤسس الدولة الوطاسية ، برفضه حمل لقب الخليفة ، او اية القاب ملوكية اخرى ، وتفضيله لقبا متواضعا هو لقب الشيخ ذي النبرة البطريركية القبلية . انما يعبر من خلال ذلك على ان عصر الامبراطوريات قد انتهى ، وبدا عصر اخر ، هو عصر الممالك الاقطاعية .


5- ظهور اقطاع الزوايا .
ان الحرب الاهلية التي دارت في سهول المغرب ، بين الاقطاع المريني – الوطاسي الناشئ وبين الفلاحين والرعاة الاحرار ، والتي انتهت بانهزام هؤلاء ، قد احدثت تحولا عميقا في البنية الاجتماعية المغربية ، ولقد كانت ابرز مظاهر ذلك التحول ، هي ، من جهة ، انقسام المجتمع في السهول الى طبقتين اجتماعيتين : واحدة اقطاعية تتكون من الاسر البربرية – الوطاسية الحاكمة ومن اسر زعماء الحرب العرب ، والاخرى من الفلاحين المنهزمين الخاضعين للاقطاع . ومن جهة اخرى ، انسحاب الجزء الاخر من الفلاحين والرعاة البربر والعرب ، الفارين الى السهول الساحلية الجنوبية وجبال الاطلس والريف .
ان ظاهرة الزوايا التي برزت بالضبط في هذه المرحلة التاريخية الكبرى ، انما تعبر في العمق عن انقسام المجتمع المغربي الى طبقات ، وتمثل بالتالي رد فعل ايديولوجي للفلاحين والرعاة الاحرار الذين انتزعت منهم اراضيهم بالعنف ، والمضطرين الى التراجع الى المناطق الطرقية في الجبال وتخوم الصحراء . فليس صدفة اذن ، ان تكون جميع الزوايا التاريخية ، التي سيكون لها دور اساسي بالغ الاهمية ، قد تاسست بالتحديد في تلك المناطق الطرقية، فالزاوية السملالية انطلقت من سوس وتافلالت ، وكانت عاصمتها ايليغ . والزاوية الدلالية انطلقت من الاطلس المتوسط ، وكانت عاصمتها خنيفرة ، والزاوية الوزانية تاسست في الريف حول ضريح زعيمها الروحي عبد السلام بن مشيش .
ان الزاوية في واقعها التاسيسي ، هي عبارة عن اندماج بين نخبة دينية شريفة ( واذن بالضرورة عربية ، على الاقل من الناحية النظرية ، بسبب انتمائها الى بيت الرسول وبين قاعدة جماهيرية بربرية في غالبيتها ) .
ان مفهوم الشريف ليس نسبا عائليا فقط ، بل هو اساسا علاقة اجتماعية من طبيعة مزدوجة : فهو من جهة يطرح نفسه كموقع اجتماعي مقابل اجتماعي اخر .. موقع العربي المتحالف مع جماهير البربر الكادحة ، مقابل العربي الاخر المتحالف مع الطبقة الاقطاعية البربرية ، ان الشريف بالتالي في الاصل هو : الارستقراطي العربي ، الذي لامكان له داخل طبقة الاقطاع البربرية – العربية .
ومن جهة اخرى ، ان مفهوم الشريف هو علاقة اجتماعية بين النخبة الارستقراطية ، وبين الجماهير التي لاتملك ، ولا يمكن لها ان تملك ، امتيازات النسب الارستقراطية . لذلك فان الزاوية ، رغم انها ، تاريخيا ، قامت اصلا كتعبير ايديولوجي عن تطلعات الفلاحين والرعاة الى التحرر من قبضة الاقطاع الصاعد ، الا انها حملت معها ، منذ نشاتها ، تناقضا بنيويا لايمكن الا ان يتطور ويتعمق مع الزمن ، ان اساس هذا التناقض هو انقسام الزاوية والتابعين لها ، الى شرفاء وغير شرفاء .
فالامتياز الذي كان في البداية مجرد امتياز يتعلق بالنسب . سيصبح مع التطور امتيازا ماديا قويا . والشرفاء الذين ظهروا اصلا كاعداء لذوذين للاقطاع . سيتحولون هم انفسهم الى اقطاعيين جدد . والزاوية التي تاسست في البدء كاداة لتحرير الفلاحين ، ستصبح اداة استغلالهم .
ان جميع الزوايا التاريخية الكبرى ، قد خضعت في تطورها لهذه الصيرورة المكونة من ثلاث مراحل :
المرحلة الاولى : مرحلة التاسيس ، وتتميز اساسا باهتمام الصالح ( شيخ الزاوية ) بادئ الامر بنسخ روابط الولاء والتبعية . لذلك فهو ملتزم موقف الحياد تجاه الجماعات القبلية المتنازعة ، لاستقطاب اكبر قدر ممكن من التاييد ، في هذه المرحلة تنحصر مهمة الزاوية في القيام ببعض الخدمات الاجتماعية مثل : نشر التعليم ، ايواء ابناء السبيل واطعام الطعام .. كما ان وظيفة الشيخ تتحدد في (المعجزات) التي يظهرها لمعالجة بعض الظواهر الاجتماعية والطبيعية ، بذلك يتم جمع تبرعات متواضعة في شكل هدايا وفتوحات تمنح للزاوية .
المرحلة الثانية : يترسخ فيها الموقع الاجتماعي ، المادي للزاوية . فمداخيل الزاوية التي كانت محدودة وظرفية ، وكانت عبارة عن هدايا وفتوحات طوعية فانها تتوسع وتتعاظم وتصبح اكثر تاسيسا وانتظاما بعد تطور نفوذها وتزايد الاعتراف بكرامات الشيخ هكذا يتم فرض انتزاع الزكوات بانتظام ، ويصبح اعشار جميع انواع الغلات مسالة قارة ، كما ان المقدمين التابعين للزاوية ، المكلفين بجمع الزيارات ، يصبحون ، من حيث طريقة طوفانهم على القبائل يشبهون ولاة الاقاليم في جمعهم للجبايات . اضافة الى ذلك ، فان المداخيل في شكل ضرائب ، التي تجنيها الزاوية من انعقاد الاسواق والمواسم الدورية في المناطق التي توجد تحت حرمتها .
ان النتيجة المترتبة عن ذلك ، هي اذن تراكم الثروة لدى الزاوية ، وتراكم الثروة يدفع بدوره الى البحث عن مصادر جديدة للثروة . هكذا تتوصل الزاوية بشتى الاساليب والوسائل الى الاستيلاء على الاراضي والمنابع المائية ، كالعيون والسواقي والخطارات . وبتمركز الاراضي في قطب ، وتحول الفلاحين الى خاضعين ، لايملكون حق التصرف في فائض انتاجهم او فائض عملهم في القطب المقابل ، يحصل بذلك انقسام اجتماعي الى طبقة اقطاعية بزعامة الزوايا والى طبقة الفلاحين الخاضعين الى الاستغلال ، من طرف ذلك الاقطاع .
المرحلة الثالثة : ان تحول الزاوية الى طبقة اقطاعية ، بعد تمكنها من بناء قاعدة اقتصادية صلبة ، يولد لديها بالضرورة الحاجة الى التوسع الاقتصادي خارج نطاق منطقتها الاصلية ، وهي كلما تقدمت في التوسع واخضاع مناطق جديدة لنفوذها ، كلما تعزز ، بالتالي ، لديها نزوع التحول الى اقطاع محلي ، اقليمي ، الى اقطاع مركزي . وذلك عن طريق تاسيس دولة اقطاعية مركزية ، ان تجربتي السعديين والعلويين الناجحتين ، وتجارب الزوايا الاخرى ، وخاصة منها السملالية والدلالية الفاشلة ، ليست شيئا اخر سوى التعبير السياسي ، الاقتصادي عن حركة الانتقال من لحظة الزاوية الى لحظة الدولة .. من لحظة الاقطاع المحلي الى لحظة الاقطاع المركزي .
فبالنسبة للسعديين استطاعوا اسقاط دولة الوطاسيين وتاسيس دولة جديدة بفضل وجودهم على راس تحالف بين زاويتين جزولتين انطلقتا من منطقة سوس وواحات درعة ، حتى تمكنتا من الاستيلاء على سلطة الدولة .
وبالنسبة للعلويين : قد انطلقوا من تافلالت ، الا انهم اصطدموا منذ البداية مع الزاوية السملالية المجاورة ، التي كانت تسيطر على سوس ، ولان المنطقة لا تتسع لقوتين اقطاعيتين متنافستين . فبالتالي كان لابد ان ينفجر الصراع بينهما ، حيث سينتهي بانهزام العلويين وانسحابهم مؤقتا الى الصحراء ، قبل ان يتوجهوا الى الشرق للاستناد على زاوية تازة .
وبالنسبة للزاوية السملالية ، فبعد ان تمكنت من بناء قاعدتها الاقطاعية في سهول سوس ، وواحات درعة ، اخذت تتجه في اتجاه سهول عبدة ودكالة بالحوز ، ثم انها بعد ان تحكمت في تجارة الصحراء ، ستجد نفسها في تناقض مباشر مع البرتغاليين الذين كانوا يحتلون بعض الثغور الساحلية الاطلسية ، مما جعلها تخوض ضدهم حربا مكنتها من تحرير ميناء اكادير وميناء ازمور .
وبالنسبة للزاوية الدلائية . فبعد ان تاسست قاعدتها الاقطاعية في جبال الاطلس المتوسط . نزلت من هناك للتوسع في سهول تادلة ، ثم لتتقدم بعد ذلك نحو سهول الغرب ، فمناطق فاس ومكناس ، ثم احتلالها لمدينة سلا ، وسيطرتها على ارباح التجارة والقرصنة لذلك الميناء النشيط في ذلك الوقت .
هكذا اذن ، بعد انفجار ازمة الاقطاع المركزي لدولة السعديين ستبرز في الساحة السياسية ثلاث قوى متنافسة ، تنتمي للاقطاع المحلي : هي الزاوية الدلائية والزاوية السملالية ، والعلويين ، حيث سينشب بينها صراع مرير من اجل الاستيلاء على دولة السعديين المنهارة .
ان هذا الصراع سينتهي بانتصار العلويين بزعامة المولى رشيد ، مما سيمكنهم بعد ذلك من سحق وتدمير الزاويتين الاخيرتين اللتين كانتا تنافسهما على السلطة المركزية .
ان مانريد التاكيد عليه مما سبق ، هو الصراعات التي عرفها المغرب منذ القرن السابع عشر ، لم تكن صراعات بين بلاد المخزن وبلاد السيبة سببها رفض اداء الضرائب ، بل كانت اساسا عبارة عن صراع طبقي بين اقطاع مركزي تمثله دولة المخزن واقطاع محلي اقليمي تمثله الزاويا . وكلما اخذ الاقطاع المركزي يضعف ويتقهقر / كلما اخذ بالتالي الاقطاع المحلي يتوسع على حسابه ، الى ان تتمكن زاوية قوية من الانقضاض عليه وهزمه ، وبالتالي تحول الاقطاع المحلي بدوره الى اقطاع مركزي وتحولت الزاوية الى مخزن .
6- ظهور اقطاع القرن التاسع عشر.
ان المناطق التي لم تخضع سوى للاقطاع المحلي ، احتفظت ببنية اجتماعية ديمقراطية بدائية . ان تاقبيلت هي الوحدة الاساسية لتنظيم تلك البنية الاجتماعية ، وتتشكل تاقبيلت على اساس اتحاد مجموعة من الاسر البطريركية تسمى - الايخس -، يوجد على راس – تاقبيلت- ، الجماعة التي هي بمثابة جهاز السلطة المكلف بتسيير شؤونها الداخلية والخارجية والجماعة تتكون من ممثلي- الايخس - الذين ينتخبون رئيسا ليسهر على تنفيذ قرارات وتوجيهات الجماعة وهذا الرئيس يسمى –امغار- .
ان امغار يكون دائما في مستطاعه تقوية سلطته الشخصية على حساب سلطة الجماعة مستفيدا اول الامر من الوسائل التي وضعتها الجماعة تحت تصرفه لتسيير شؤون تاقبيلت ، ثم نسجه تحالفات خاصة يستخدمها لاغراضه .
ان امغار يساهم دائما ، عبر نزوعه الى ترسيخ مصالحه الخاصة . في تدمير مؤسسات تاقبيلت القائمة على الديمقراطية البدائية . انه بالتالي يطمح الى التحول من مجرد عضو في اسرة بطريركية الى ارستقراطي قبلي ذي نزعة طبقية .
لكن هذا المشروع يتعرض دائما للفشل بسبب صلابة البنية الاجتماعية لتاقبيلت . وقدرتها على تدمير كل تطور ينحو في هذا الاتجاه . ان محاولات امغار المتكررة تبدو اذن وكانها تدور في حلقة مفرغة .
بيد ان هذه الحلقة المفرغة ، سيتم تكسيرها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بفعل تدخل عام خارجي . ان المخزن ، ممثل الاقطاع المركزي ، سينفتح على التجارة الاوربية مما سيسمح له بتحسين موارده المالية ، الامر الذي يمكنه بدوره من شراء اسلحة اوربية حديثة فعالة . هكذا اذن سيحصل تغير نوعي في ميزان القوى الحديث والبندقية الحديثة ذات الطلقات النارية الحديثة والسريعة .
ان امغار سيستغل التغير الحاصل في ميزان القوى ، حيث سيطلب تزكية المخزن له على راس قبيلته ، وبذلك يتحول امغار الى قائد اقطاعي يتقاسم الفائض الاقتصادي للفلاحين مع المخزن .
ان ظاهرة القواد تمثل الشكل الاقطاعي الجديد المميز للنصف الثاني من القرن التاسع عشر . هكذا ظهرت اسرة المتوكي الاقطاعية سنة 1850 واسرة الكندافي سنة 1855 ، واسرة الكلاوي سنة 1856 .

7- ظهور اقطاع القرن العشرين .

بعد اعلان الحماية الفرنسية على المغرب 1912 ، لجات بعض القبائل المغربية الرافضة للحماية الى مقاومة الاستعمار الفرنسي بالسلاح . لقد كانت هذه القبائل من ناحية التطور الاجتماعي ، لازالت في طور الديمقراطية البدائية . ان تنظيم وقيادة تلك المقاومة كانتا تحت مسؤولية زعيم حرب ، سبق له ان اعلن عن اهليته القيادية في بعض الحروب المحلية ضد قبائل اخرى . لكن رغم المقاومة المستميتة التي ابدتها تلك القبائل ضد الجيوش الفرنسية الغازية . فانها انهزمت في الاخير بفعل الاختلال الموضوعي الكبير لميزان القوى لصالح الفرنسيين . غير ان قوات الاحتلال الكولونيالي الفرنسي . قد مارست سياسة دقيقة تجاه القبائل المهزومة .
فعوض ان تزيح الحرب المنهزمين ، فانها بالعكس قد احتفظت بهم على راس قيادة القبائل . وفي هذه الصيغة السياسية وجدت كل الاطراف المتصارعة ما يلائمها : فبالنسبة للفرنسيين كانوا مطمئنين لتزكيتهم سلطة زعيم حرب ، يتمتع بنفوذ داخل وسطه الاجتماعي الاصلي . وبالنسبة للقبيلة ، فانها تفضل ان تطيع اوامر الشخص الذي سبق ان عينته هي ذاتها للدفاع عن مصالحها بدل ان يفرض عليها من الخارج من طرف المستعمر المنتصر .
ان زعيم القبيلة سيستفيد من الدعم العسكري ومن الجهاز القضائي الذي وضعتهما الحماية الفرنسية تحت تصرفه . وبهذه الطريقة سيتمكن من تدعيم سلطته السياسية بقاعدة عقارية . وبالتالي التحول تدريجيا من زعيم حرب الى ملاك عقاري اقطاعي .
هكذا يتضح ان صيرورة الانتقال الى النظام الاقطاعي ، التي انطلقت منذ منتصف القرن الرابع عشر في عهد المرينيين . قد اكتملت اخر حلقاتها في عهد الحماية الفرنسية . لكن ما ان اصبح النظام الاقطاعي نظاما شاملا في المغرب . حتى كان نمط انتاج اخر جديد . مهيا لمنافسته : انه نمط الانتاج الراسمالي الذي ظهرت نواته الاولى مع انفتاح المغرب على التجارة الراسمالية الاوربية في القرن التاسع عشر .