المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (4)


عبدالله تركماني
2009 / 3 / 9 - 09:47     

ثانيا- مرحلة الصراع ( 1913-1917)، وهي مرحلة هامة في تاريخ تعرّف الفكر الماركسي على المسألة القومية، لما تميزت به من مساجلات لينين مع رموز أغلب التيارات الماركسية. لقد تميزت هذه المرحلة بتمسك لينين بشعار " حق الأمم بتقرير المصير "، بمعناه السياسي، وليس الاستقلال الذاتي الثقافي، أي بما هو حق لكل أمة أن تقرر مصيرها، دون أي ضغط خارجي، وقد دعا الماركسيين إلى:
(أ)- أن يعبّروا عن مناهضتهم، دون تحفظ ، لكافة أشكال العنف التي تستعملها أمة مسيطرة بحق أمة تطلب الانفصال في دولة مستقلة.
(ب)- أن يشددوا على كون مسألة الانفصال ترتكز على قاعدة تصويت سكان المنطقة بالذات، بواسطة اقتراع شامل وسري.
(ج)- أن يخوضوا نضالا، لا هوادة فيه، ضد كل الأحزاب الرجعية التي تدافع عن الاضطهاد القومي بصورة عامة، والتي تنكر حق الأمم في تقرير مصيرها بنوع خاص. إذ أظهر أنه لا يجوز الانصياع لتأثير الحجج الواهية الكاذبة التي يقدمها القوميون الليبراليون حول خطر تجزئة الدولة " من وجهة نظر الديمقراطية عامة، فالعكس هو الحقيقة، لأنّ الاعتراف بحق الانفصال يقلل من خطر تفكك الدولة ".
فبقدر ما يكون النظام ديمقراطيا، بقدر ما تجد الأمم في هذه الدولة حريتها، ويزداد توطيد علاقاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية معها. وقد أكد لينين: أنه لا يجوز أن نخلط بين حق تقرير المصير وإرغام الأمم أن تنفصل عن بعضها البعض مهما كانت الظروف، فقد كتب " نحن، الاشتراكيون - الديمقراطيون، أعداء لكل نزعة قومية وأنصار للمركزة الديمقراطية، نحن خصوم للخصوصية، وأن تكون كل الأشياء متساوية، فنحن على ثقة أنّ الدول الكبيرة تستطيع أن تحل بنجاح، أكثر بكثير من الدول الصغيرة، المشكلات التي يولّدها التطور الاقتصادي والتي يطرحها نضال البروليتاريا ضد البورجوازية، لكننا لا نقبل إلا بالعروض القائمة على الرضى المتبادل الحر، ونرفض ما هو قسرا وعنوة ".
وبذلك طرح لينين، من الناحية العملية، مهمة مزدوجة: واجب على ماركسيي الأمة المضطهِدة أن يدعموا حرية الانفصال كما على ماركسيي الأمة المضطهَدة أن يدعموا اتحاد الأمم الموافَق عليه بحرية.
لقد كان لينين، في البداية، وحتى الثورة الروسية، يقدر عمق الشعور القومي لدى العمال الأوروبيين أقل من قدره، وتجلى ذلك من خلال الدهشة التي أصابته عندما رأى ردود الفعل إزاء اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكان أيضا قد استهان بالإمكانيات البناءة لدى الحركات القومية في أوروبا الوسطى، التي كانت تتجه نحو الانفصال عن الإمبراطورية النمساوية - المجرية. لكنه، تعلّم من التجربة أنه ليس لدى مواطني الأمم المضطهَدة إحساس بأية قضية قدر إحساسهم بالمسألة الخاصة بمساواتهم. وفي حين كان معتادا أن يعارض " القومية البورجوازية " بالأممية البروليتارية، فإنه قد أظهر، من خلال ترحيبه بالحركات القومية في البلدان المستعمَرة، أن هناك مكانا في تفكيره لمقولة ثالثة.
أما ستالين، الذي كان يعمل في صفوف الحزب الاشتراكي - الديمقراطي الروسي تحت إشراف لينين، فقد أصدر، في أوائل سنة 1913، مؤلفه الشهير " الماركسية والمسألة القومية "، الموجَّه ضد الاشتراكيين - الديمقراطيين النمساويين وضد المنشفيك الروس وسواهم، فقد عرّف الأمة بأنها " جماعة ثابتة من الناس، تألفت تاريخيا على أساس جامعة اللغة والأرض والحياة الاقتصادية والتكوين النفســي المشترك الذي يجد تعبيرا عنه في الثقافة المشتركة ". لقد وضع ستالين هذا التعريف بالاستناد على عدد من الأمثلة المأخوذة من تاريخ الشعوب الأوروبية، وأكد أنّ غياب أية من العلائم الأربع ( الأرض، اللغة، الاقتصاد، التكوين النفسي والثقافة ) يكفي لإسقاط صفة الأمة. وبما أنّ الاقتصاد المشترك لا يتحقق إلا بعد اندثار الإقطاعية وتكوّن السوق القومية والتكامل الاقتصادي الرأسمالي، فإنّ الأمة " مقولة تاريخية لعصر الرأسمالية الصاعدة ".
ونظرا إلى أنّ كتاب ستالين بقي، لسنوات طويلة، باعتباره القول الماركسي الرسمي في القومية، فإنه يتعين علينا أن نؤكد بأنه لم يكن علميا في مفهومه، حين ذكر قائمة/وصفة " عوامل" ينطوي عليها تكوين الأمة، مما يعيد إلى الأذهان العلم الاجتماعي في أسوأ أحواله. إذ أننا نحتاج إلى معالجة تاريخية، في العمق، لا إلى تعريف تخطيطي مدرسي لا جدلي إلى درجة بعيدة.
وقد اعترف لينين، أثناء إصدار كتاب ستالين، بأنه سُرَّ كثيرا ووصفه بأنه " مقال جيد جدا ". وفي نهاية عام 1913، كتب " إنّ مقال ستالين يأتي في المحل الأول من الأدبيات الماركسية الأخيرة حول المسألة القومية ". واستمر لينين في العمل، بالتعاون الوثيق مع ستالين، على المسائل المتصلة بالمسألة القومية. وأصبح ستالين مقبولا كخبير في المسألة القومية من جانب الحزب البلشفي، وعُين " قوميسيرا " للقوميات في الوزارة البلشفية الأولى، التي تشكلت بعد انتصار ثورة أكتوبر الروسية في العام 1917.
وفي غمرة النضال الذي خاضه لينين، من أجل تثبيت موقفه من المسألة القومية، ضد مختلف النزعات الشوفينية والانتهازية اليمينية واليسارية، كان عليه أن يواجه الاتجاه الماركسي النمساوي الذي كان له، بحكم ظروف الإمبراطورية النمساوية - المجرية، مساهمات كبيرة في التنظير للمسألة القومية، خاصة نظريته عن " الاستقلال الذاتي الثقافي ". لقد اعتبر التيار النمساوي أنّ حل المسألة القومية، في الإمبراطورية النمساوية - المجرية، لا يمر عبر الانفصال السياسي، بل عبر الاستقلال الثقافي. وكان من أبرز ممثلي هذا التيار أوتو باور، الذي وقف ضد الفكرة الماركسية التقليدية التي كانت تعتقد في ذوبان الفروق القومية في عصر الإمبريالية، وذهب إلى حد القول: إنّ التمايز بين الخصوصيات القومية سيتعزز في عصر الاشتراكية.
ولم يدخل لينين المناظرة مع باور، بصورة مباشرة ورسمية، إلاّ في شهر مايو/أيار 1913، عندما كتب مقالته " الطبقة العاملة والمسألة القومية "، التي ندد فيها بشعار " الاستقلال الذاتي الثقافي " بوصفه شعارا " قومي النزعة و خدعة بورجوازية ". لقد رأى أنه " يوحد البروليتاريا والبورجوازية ضمن نطاق الأمة الواحدة، ويقسّم بروليتاريا جميع الأمم ". واتهم واضعه ومنظّره الأول أوتو باور بـ " التهويل من شأن ما هو قومي والتهوين المخيف من شان ما هو أممي ". وقد ركز لينين، في دحضه المقدمات النظرية والنتائج العملية لموقف باور، على جوانب ثلاثة: الثقافة القومية، واللغة القومية، والتربية القومية.
(أ)- إنّ الوحدة الثقافية للأمة هي، في نظر لينين، خدعة بورجوازية تستهدف تمويه الصراع الطبقي ضمن نطاق الأمة الواحدة، كما تستهدف تمزيق وحدة النضال الطبقي لبروليتاريا شتى الأمم. لكنه استدرك أنّ كل ثقافة قومية تشتمل على عناصر من ثقافة ديمقراطية واشتراكية " إنّ كل أمة معاصرة تشتمل على أمتين. وكل ثقافة قومية تشتمل على ثقافتين اثنتين ".
ويبدو أنّ الخطأ المحدد الذي اقترفه لينين يكمن في انه رفض شعار الثقافة القومية دونما اعتبار لصدوره عن الأمة الظالمة أو المظلومة. مع أنّ رفع شعار الثقافة القومية، من قبل الأمة المظلومة يمكن أن يكون له، في شروط محددة، محتوى ديمقراطي وتقدمي مناهض للاضطهاد والاستغلال.
(ب)- صاغ لينين، في معرض مناظرته مع أنصار" الاستقلال الذاتي الثقافي " وأثناء سلسلة المحاضرات التي ألقاها في المدن السويسرية الرئيسية في شهر يوليو/تموز 1913 عن المسألة القومية، صاغ شعار " رفض اللغة الروسية كلغة رسمية وحيدة للدولة ". وكان رأيه أنّ اللغة الرسمية فائضة عن الحاجة، وليست ضرورية البتة في روسيا التي ينتمي سبعة أعشار سكانها إلى الشعوب السلافية، وأنه لو وجد تعليم حر في دولة حرة لتوصل السكان، بلا صعوبة، إلى التفاهم، دونما أي امتياز رسمي لأي لغة من اللغات، وذلك بحكم ضرورات التبادل الاقتصادي.
(ج)- أكد لينين أنه ما دامت الأمم المختلفة تعيش في نطاق دولة واحدة فإنها تكون موحَّدة بالعديد من الروابط الاقتصادية والاجتماعية، فكيف يجوز استثناء المدرسة من هذه الروابط ؟ كما يطرح أنصار برنامج " الاستقلال الذاتي القومي الثقافي ". وفي الواقع فإنّ معارضة الاشتراكيين - الديمقراطيين الروس لبرنامج الاستقلال الذاتي، ومطالبتهم ببرنامج مدرسي مشترك علماني وديمقراطي في جوهره، لا تعني إنكارهم لحقوق الأقليات القومية، بما فيها حقها في أن يتلقى أبناؤها تعليمهم بلغتهم الأم. ولكن هذا ممكن فقط على أساس الحكم الذاتي الإقليمي، أي على أساس تدريس اللغة الأم في المناطق التي يتكلم غالبية سكانها هذه اللغة.
كما خاض لينين مناظرة مشهورة مع ممثلة تيار العدمية القومية روزا لوكسمبورغ، التي ولدت فيما كان - آنذاك - بولونيا الروسية. وقد تميزت الفترة من 1893 إلى 1914 بمناقشة بين الحزبين الاشتراكيين البولونيين لموضوع تقرير المصير القومي. وكان الحزب الاشتراكي البولوني يؤيد إعادة تكوين بولونيا، أما الحزب الاشتراكي - الديمقراطي البولوني الذي أسسته لوكسمبورغ وآخرون في العام 1893، فقد واصل تقليدا ماركسيا مبكّرا في معارضة تقرير المصير الذاتي لبولونيا.
عرضت روزا لوكسمبورغ موقفها في سلسلة مقالات تحت عنوان " المسألة القومية والحكم الذاتي "، نُشرت في الفترة 1908-1909. حيث ركزت على المفاهيم التالية:
(1)- إنّ حق تقرير المصير هو حق ميتافيزيقي أجوف " كالحق المزعوم بالعمل " في القرن التاسع عشر، أو الحق السخيف " لكل إنسان أن يأكل في صحون مذهّبة " الذي كان يطالب به الكاتب تشيرنفسكي.
(2)- إنّ مساندة حق الانفصال هي - في الواقع - مساندة للوطنيين البورجوازيين. الأمة ككل موحَّد ومتناسق لا توجد: كل طبقة في الأمة لها مصالحها و " حقوقها " المتناقضة مع الطبقة الأخرى.
(3)- إنّ استقلال الأمم الصغيرة بشكل عام، وبولونيا بشكل خاص، هو، من وجهة نظر اقتصادية، يوتوبيا مدانة بقوانين التاريخ.
وتولى لينين مهمة مناقشة الأفكار التي طرحتها لوكسمبورغ، فكان كتيبه " حق الأمم في تقرير مصيرها " موجها، بصفة محددة، ضد أطروحاتها في المسألة القومية. ويمكن التوقف عند أهم الاختلافات بينهما على النحو التالي:
(أ)- أكد لينين حق تقرير المصير للأمم، بينما قالت روزا أنه لا وجود لمثل هذا الحق، وأنّ وضع هذا الشعار في وقت لم تكن المصطلحات فيه محددة بعناية لا يمكن أن يعني إسهاما في حل المشكلة، إنما يعني تحاشيها.
(ب) - أكد لينين دور البورجوازية في بناء الأمم الحديثة، وقالت روزا: إنّ هناك ظروفا يكون فيها دور البورجوازية في بناء الأمة في أدنى حدوده.
(ج) - أتاحت لوكسمبورغ مكانا للفيدرالية وللحكم الذاتي، أما موقف لينين من الفيدرالية فكان غامضا، فقد عارضها في البداية ثم تبناها فيما بعد. وكان تفكير لوكسمبورغ أكثر مرونة في هذا الصدد، ويلقى نقدها للينين اليوم اهتماما متزايدا.
(د) - فسّرت لوكسمبورغ تقرير المصير على أنه يعني تقرير المصير الذاتي للطبقة العاملة، أما لينين فقد عارض، وهو محق، هذه الصيغة.
(هـ) - عارضت لوكسمبورغ القومية باعتبار أنها تفضي إلى التجزؤ، أما لينين فقد أكد مزايا الوحدات القومية الكبيرة، ولكنه - في الوقت نفسه - قدّر قوة الميل إلى التجزئة، الذي لم يكن عديم التعاطف معه كليا.
(و)- رأت لوكسمبورغ أنّ الحروب القومية التقدمية التحررية غدت مستحيلة " في عصر الإمبريالية المنفلتة من عقالها "، أما لينين فقد رأى العكس: الإمبريالية ، إذ تشدد الاضطهاد القومي، تشدد الثورة القومية.
لقد كانت مناظرة لينين مع روزا لوكسمبورغ جزءا هاما من مناظرته الكبرى حول المسألة القومية بصفة عامة، وحول الشعار البلشفي الرئيسي فيها: حق الأمم في تقرير مصيرها، بصفة خاصة.
وخلال الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد في عام 1916 حرّر لينين كتيبا آخر تحت عنوان " الثورة الاشتراكية وحق الأمم في تقرير مصيرها "، ومما ورد فيه " لا بد للاشتراكية الظافرة من أن تحقق بالضرورة الديمقراطية الكاملة، ومن أن تحقق بالتالي لا المساواة التامة في الحقوق بين الأمم وحسب، بل أن تطبق أيضا حق الأمم المضطهَدة المظلومة في تقرير مصيرها بنفسها، أي حقها في حرية الانفصال السياسي ".
وفي ردها على موضوعات لينين، خطّت روزا لوكسمبورغ كتيبا عنوانه " أزمة الاشتراكية الديمقراطية "، نشرته في العام نفسه (1916) تحت اسم مستعار " يونيوس "، ومما ورد فيه " إنّ الاشتراكية الأممية تعترف بحق جميع الشعوب في أن تكون أمما حرة ومستقلة ومتساوية في الحقوق، غير أنّ الاشتراكية الأممية هي وحدها التي تستطيع أن تخلق أمما كهذه، وهي وحدها التي تستطيع أن تنقل إلى حيّز الفعل والواقع حرية الشعوب في تقرير مصيرها ".
وحول كتيب " يونيوس " رد لينين، خاصة على الموضوعة الخامسة منه التي تنفي إمكانية الحروب القومية في عصر الإمبريالية، قائلا: " إنّ الحروب القومية من جانب المستعمرات وأشباه المستعمرات، في عصر الإمبريالية، ليس أمرا محتملا فحسب، بل هي أمر حتمي لا مفر منه ... فاستمرار سياسة التحرر القومي في المستعمرات، لا بد أن يقود هذه المستعمرات إلى الدخول في حروب وطنية ضد الإمبريالية ".
إنّ ما كان مجرد رأي لروزا لوكسمبورغ أخذ، إبان الحرب العالمية الأولى، صفة اتجاه فكري كامل في أوساط الاشتراكيين - الديمقراطيين، وهو الاتجاه الذي أطلق عليه لينين اسم " الاقتصادية الإمبريالية ". فقد انقسم هذا الاتجاه إلى تيارين: تيار يميني، تزعمه الاشتراكيون الاستعماريون، من أمثال الهولندي فان كول والألماني هنري كونوف، راح يكيل المديح للإمبريالية، بوصفها تطورا حتميا وتقدميا. وتيار يساري، يؤكد حتمية التطور الإمبريالي وتقدميته، حيث يمهد الطريق أمام الثورة الاشتراكية، وكان من أبرز ممثلي هذا التيار، بالإضافة إلى روزا لوكسمبورغ، كارل راديك البولوني وبوخارين وبياتكوف الروسيين. وكان القاسم الرئيسي المشترك بين أنصار هذا التيار هو: أنّ حق تقرير المصير القومي هو حق " وهمي " و " طوباوي " و " غير قابل للتحقيق " في عصر الإمبريالية، ولا ضرورة له وفائض عن الحاجة في المجتمع الاشتراكي.
إنّ نقطة انطلاق لينين الأساسية هي : أنّ المسألة القومية لا يمكن أن تُطرح، من وجهة نظر العلم الماركسي، على صعيد المجرد والعام. فالخطأ الفادح الذي يرتكبه " الاقتصاديون الإمبرياليون " أنهم يجرّدون " العصر الإمبريالي "، الذي هو مقولة تاريخية عينية، من صفته المحددة هذه، وينزلونه منزلة المطلق. إنهم يتناسون " أنّ تفاوت التطور الاقتصادي والسياسي هو قانون مطلق للرأسمالية "، وأنّ العصر الإمبريالي - بالتالي - ليس عصرا كليا شموليا متعادلا في كل الأقطار. من هنا، فإنّ لينين طرح وجوب أن يركز البرنامج الماركسي على تمايز أمم العالم وانقسامها، لا على تماثلها واندماجها، كما يتصور " الاقتصاديون الإمبرياليون "، الذين غاب عن أنظارهم أنّ وحدة العصر الإمبريالي، التي يتغنون بها، إنما هي وحدة الاضطهاد، اضطهاد الأمم المحظوظة للأمم المحرومة " إنّ انقسام الأمم إلى أمم مضطهِدة وأمم مضطهَدة هو جوهر الإمبريالية وماهيتها ".
وعندما انتهى بوخارين، خلال المناظرة التي قامت في صفوف البلاشفة في صيف عام 1917، إلى المطالبة بحذف برنامج الحد الأدنى الديمقراطي، وهو البرنامج الذي ينص على حق الأمم في تقرير مصيرها، واستبداله ببرنامج اشتراكي مباشر. تصدى لينين لتفنيد هذه الآراء، التي تنتمي إلى " المدرسة الاقتصادية الاشتراكية الإمبريالية "، وكان تفنيده بمثابة محاكمة حقيقية لأضاليل النزعة الميكانيكية.
ثالثا - مرحلة المواجهة العملية للمسألة القومية/ الثورة الروسية والمسألة القومية ( 1917 – 1923)، لقد كانت المسألة القومية في روسيا القيصرية، قبل كل شيء، مسألة تصفية الاضطهاد القومي الذي كان يعاني منه ما ينوف على نصف سكان الإمبراطورية ( كانت نسبة الشعوب غير الروسية 57%)، كما كانت مسألة تحرير الأمة الروسية نفسها من كونها أمة ظالمة. وإضافة إلى ذلك، كان لا بد من تصفية العداءات والكراهية التي كانت سائدة بين شعوب الإمبراطورية الروسية، وضمان تطورها القومي الحر، وتصفية عدم تكافؤها الفعلي، وجعل مستوى هذا التطور متقاربا، وتربية الشغيلة كلهم بالروح الأممية، وبروح الأخوة والمودة والوحدة .
ففي يوم 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 نُشر " إعلان حقوق شعوب روسيا "، بما تضمنه من مبادئ أساسية لسياسة السلطة البلشفية الجديدة فيما يتصل بالقوميات، وهي: المساواة والسيادة لشعوب روسيا، وحق شعوب روسيا في تقرير مصيرها بحرية، بما في ذلك حق الانفصال وتكوين دولة مستقلة، وإلغاء كافة الامتيازات والقيود القومية والدينية، والتطور الحر للأقليات القومية والجماعات الإثنوغرافية التي تقطن أراضي روسيا.
وفي الواقع العملي، كانت سياسة لينين تجاه شعوب المناطق الحدودية ذات حدين: فمن جهة، ذهبت الحكومة السوفياتية أشواطا بعيدة نحو الاعتراف برغبة هذه الشعوب في الحرية ( كما جرى بالنسبة لفنلندا ودول منطقة البلطيق ). ومن جهة ثانية، تم تعبئة أصدقاء الثورة، في كل إقليم، لتشكيل حكومة سوفياتية، وتأمين وصول هذه الحكومة إلى السلطة بمساعدة قوات الجيش الأحمر إذا لزم الأمر. وفي النهاية، تمت إعادة إدماج أغلب المستعمرات الروسية السابقة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. أما حيثما وطّدت الدول الغربية احتلالها العسكري، كما حدث في فنلندا وجمهوريات منطقة البلطيق، أو هُزم الجيش الأحمر، كما حدث في بولونيا، فإنّ تقرير المصير أصبح أمرا واقعا.
وقبل الانتقال إلى التعرّف على كيفية تكوّن وتطور الاتحاد السوفياتي واقعيا، ينبغي أن نتوقف عند التطور الذي سجله الفكر اللينيني بصدد مبدأ " الاتحادية القومية ". فقد كان لينين نصيرا متحمسا لمبدأ المركزية، وخصما لدودا لمبدأ الاتحادية. وكان يردد " إنّ البروليتاريا لا تستطيع أن تستخدم سوى شكل الجمهورية الواحدة غير القابلة للانقسام ". وكان قد أكد، منذ عام 1903، أنّ مطلب الاشتراكيين - الديمقراطيين يجب أن يكون الجمهورية الديمقراطية لا الجمهورية الاتحادية، لأن المبدأ الاتحادي، حسب تعبيره، ضارٌّ وبمثابة تكريس للخصوصية القومية.
بيد أنّ الظروف التي استجدت، بعد ثورة أكتوبر، جعلت لينين يعدل عن عدائه لمبدأ الاتحادية. ولعل السبب الرئيسي في ذلك أنّ السياسة الشوفينية، سياسة الأمة الروسية الكبيرة التي انتهجتها الحكومة المؤقتة، بين فبراير/شباط و أكتوبر/تشرين الأول 1917، دفعت ببعض القوميات، التي ارتضت البقاء ضمن نطاق الدولة الواحدة، إلى المطالبة بضمانات لحقوقها.
وفي الواقع، إنّ تبدل موقف لينين قد بدأ منذ وضع كتابه " الدولة والثورة "، حيث نظر إلى الدولة كأداة للهيمنة الطبقية، ورأى ضرورة تحطيمها واستبدالها. ويبدو الآن، أنّ موقف بليخانوف، الذي رأى في سنة 1917 أنّ روسيا مقبلة على ثورة سياسية ديمقراطية بورجوازية، لا بروليتارية، كان محقا. فروسيا كانت متخلفة، واقتصادها فلاحي مجزأ، وصناعتها بدائية، وطبقتها العاملة ضئيلة العدد. وبالتالي، فإنّ بلدا بهذه المواصفات كان لا يمكن أن يعطي سوى دولة أوتوقراطية استبدادية، حتى لو ارتدت رداء بلشفيا.
إنّ حاجات التطور العملي لم تكن تتفق مع المبادئ النظرية التي طرحها لينين حول المسألة القومية، خاصة منها حق الأمم في تقرير مصيرها، وبناء الدولة الحديثة. كما أنّ تلهف لينين إلى الثورة البروليتارية في الغرب، قد جعلته في الفترة ما بين 1918-1923 يعطي قيمة كبيرة لألمانيا، التي امتُهنت قوميا في معاهدة فرساي، بحيث بدا مهتما بالمسألة القومية ليس في الشرق فقط، بل في أوروبا أيضا.
لقد جاء تشكيل الأممية الثالثة " الكومنترن "، التي عقدت مؤتمرها التأسيسي الأول يوم 2 مارس/آذار1919، ليوضح أكثر فاكثر تطور الموقف البلشفي من المسألة القومية. ففي المؤتمر الثاني للأممية، الذي انعقد في صيف عام 1920، قدم لينين موضوعات حول المسألة القومية ومسألة المستعمرات، ومما جاء فيها " إنّ أساس كامل سياسة الأممية الشيوعية حول المسألة القومية ومسألة المستعمرات ينبغي أن يتجه إلى إيجاد تقارب بين البروليتاريين والجماهير الكادحة في جميع الأمم والبلدان، لأجل النضال الثوري المشترك ... ولأنّ هذا التقارب هو الأمر الوحيد الذي يضمن الانتصار على الرأسمالية، وبدون هذا الانتصار يستحيل القضاء على الظلم القومي وعدم المساواة القومية ".
وفي موضوعة أخرى، جرى التأكيد على " أنّ الاتحاد الفيدرالي هو شكل الانتقال إلى الوحدة الكاملة بين شغيلة الأمم المختلفة ". وفي الموضوعة الثانية عشرة ورد " أنّ ظلم الدول الإمبريالية للشعوب المستعمَرة والمستضعَفة ترك في نفوس الجماهير الكادحة لا النقمة فحسب، بل الحذر وعدم الثقة حيال الأمم الظالمة بوجه عام بما في ذلك بروليتاريا هذه الأمم ".
كما ناظر لينين الشيوعي الهندي مانا بندرا نات روي، الذي كانت أفكاره تمثل الشكل الآسيوي الشرقي لأفكار الماركسية اليسارية "الاقتصادية الإمبريالية"، فقد مَحْوَرَ روي الثورة العالمية على قارة آسيا، على الشرق، ورفض أي نوع من التحالفات مع البورجوازية الوطنية في بلدان الشرق. كما كان موقف روي أقرب إلى مواقف العدمية القومية، حيث اعتبر أنّ الحركة القومية " ليست شعبية ".
لقد دافع روي عن الفكرة القائلة أنّ مصير الحركة الثورية في أوروبا يتوقف كليا على سير تطور الثورة في الشرق " إنّ الرأسمالية الدولية تستجرُّ مواردها ومداخيلها الرئيسية من المستعمرات، وخاصة من المستعمرات الآسيوية. ويمكن للرأسماليين الأوروبيين، إذا لزم الأمر في النهاية، أن يعطوا العمال فائض القيمة برمته، فيجرّونهم في النتيجة إلى جانبهم ويقتلون تطلعاتهم الثورية. ويمكن لهؤلاء الرأسماليين بالذات أن يستمروا باستغلال آسيا بدعم من البروليتاريا وبمساعدتها، وأنّ مسارا كهذا بالغ النفع بالنسبة للرأسماليين ".
وقام لينين بدحض أفكار روي، وركز دحضه خاصة في نقطتين " على الشيوعيين الهنود دعم الحركة البورجوازية الديمقراطية دون أن يذوبوا فيها ". وأنّ روي " يغالي عندما يؤكد أنّ مصير الغرب يتوقف حصرا على درجة نمو الحركة الثورية في البلدان الشرقية وقواها ".
وفي مقالته الأخيرة، قبل وفاته، التي وردت تحت عنوان " من الأفضل أقل، شرط أن يكون أحسن "، والذي أملاها في شهر فبراير/شباط1923، حيث كانت الثورات في الغرب قد تحطمت، والنظام الرأسمالي كان يبدو أنه قد وطد مواقعه في أوروبا لمرحلة لا يمكن تقدير مداها، استخلص لينين أنّ مصير الثورة الروسية إنما يتوقف على التطور الثوري في الشرق " إنّ الشرق قد دخل نهائيا، من جراء هذه الحرب الإمبريالية الأولى، في الحركة الثورية العالمية ". وإنّ مستقبل الثورة العالمية " يتوقف - في النهاية - على كون روسيا والهند والصين، الخ، تشكل الأغلبية الكبيرة من سكان الكرة الأرضية. وهذه الأغلبية بعينها قد انخرطت وانجرفت بسرعة لا تصدق في النضال لأجل تحررها ".
وهكذا، فإنّ أهمية أفكار لينين في المسألة القومية أنه وضع الفكرة القائلة بأنّ شعوب الشرق تستطيع، في بعض الظروف، أن تتجنب المرحلة الرأسمالية من التطور، وسوّغ الشعار القائل " يا عمال جميع الأقطار وأيتها الأمم المضطهَدة اتحدوا ".
وما أن توفي لينين حتى بدأ شطط ستالين في المسألة القومية، ففي المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي الروسي، الذي انعقد في الفترة ما بين 15-27 أبريل/نيسان1923، دارت نقاشات هامة حول المسألة القومية، وحول وسائل العمل ضد التيارات القومية المحلية بصورة أساسية. وقد قدم ستالين تقريرا إلى المؤتمر تحت عنوان " العوامل القومية في بناء الحزب والدولة "، أكد فيه على أنّ النزعات القومية ظاهرة داخلية بالغة الخطورة، في حين أنّ لينين كان ينظر إليها على أنها ردُّ فعل ضد شوفينية روسيا العظمى.
وفي المحاضرة التي ألقاها في جامعة سفيردلوف، في أوائل شهر أبريل/ نيسان1924، حول " مبادئ اللينينية "، قال: "... اللينينية تعترف بوجود طاقات ثورية كامنة في حركة التحرر القومي للشعوب المضطهَدة ... بيد أنّ هذا لا يعني أن تدعم كل حركة قومية .. إنما المقصود هو تأييد تلك الحركات القومية المتجهة إلى إضعاف الإمبريالية والقضاء عليها، لا إلى الحفاظ على مواقعها وتدعيمها ".
لقد مثّلت الستالينية ظاهرة انحطاط وابتذال في الماركسية بشكل عام، وفي موقفها من المسألة القومية بشكل خاص. فإذا عدنا إلى تعريف ستالين للأمة، نجد أنه يقول " أنها تكونت تاريخيا "، وفي الوقت نفسه يقول " الأمة ليست مجرد مقولة تاريخية، ولكنها مقولة تاريخية تنتمي إلى عصر محدد، عصر الرأسمالية الصاعدة ". ففي التعريف يقول أنها تكونت تاريخيا، أي تشكلت عبر التاريخ، وبهذا المعنى، من الممكن ألا يرتبط تشكلها بمرحلة الرأسمالية الصاعدة. وقد عرفت القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، أمما تكونت قبل عصر الرأسمالية الصاعدة، ولكنها لم تستطع بناء دولها القومية بسبب عوامل عديدة، من أهمها السيطرة الاستعمارية على مقدراتها.
أما عن اشتراطه وحدة الحياة الاقتصادية، فإنّ اقتصاد المستعمرات كان جزءا من اقتصاد دول المتروبول، فكيف يمكن أن تتحقق وحدة الحياة الاقتصادية ؟
إنّ ستالين وضع تعريفا إجرائيا اعتباطيا كان يخدم السياسة العملية للبلاشفة في ذلك الوقت، ولكنه أوقع الشيوعيين في العالم العربي بأخطاء كثيرة في المسألة القومية العربية، حيث تحدثوا عن " أمة في طور التكوين " و " أمم وقوميات عربية ".
وفي النهاية تغلبت مصالح الدولة السوفياتية على مصالح الثورة العالمية، التي قلل ستالين من شانها، وجعل منها أداة للدولة السوفياتية، ليقوم بأعمال التطهير والتفكيك والإصلاح على هواه، فإذا ما انسجمت الحركات الثورية مع هذا الهوى، وكانت تحت السيطرة السوفياتية، فإنها تتمتع بالدعم والتأييد، وإلا فهي " منحرفة " و " عميلة " للإمبريالية !!