رياح بهمن العاتية


حميد خنجي
2009 / 3 / 2 - 09:38     

هبّت رياح ثورة بهمن الإيرانية بقوة قبل ثلاثين عاماً، مقتلعة الملكية الاستبدادية من جذورها، مختلطة الأوراق الإقليمية والمخططات الأمنية التي كانت مفروضة من قِبَل القوى الغربية، منهية دور إيران كشرطي للخليج. استبشرت الجماهير الإيرانية والعربية خيراً من هذه الثورة، التي أرعبت الأنظمة التقليدية - غير الديمقراطية- في المنطقة في حينه.. من هنا رأينا كيف تدخلت القوى التقليدية والرجعية مبكراً من أجل حرف أهداف الثورة، الحبلى بآمال عريضة، عن مسارها، سواء كانت تلك القوى في الداخل الإيراني أو في الدائرة الأوسع إقليميا ودوليا، حيث شجعت مجموعة القوى تلك (بمباركة وتمويل غربيين)النظام العراقي الاستبدادي البائد في الهجوم المباغت على إيران بُغية القضاء على الثورة في مهدها أوحرفها عن شعاراتها الجذرية- على أقل تقدير- مما أدى إلى نشوب حرب ضروس أكلت الأخضر واليابس، أهدرت الطاقات الجبارة للشعبين الجارين. وسهّلت تلك الحرب من مهمة القوى المحافظة الإيرانية من تطبيق خطتها الخاصة للاستفراد بالسلطة وتعليق الحريات السياسية والحزبية وتشكيلات مؤسسات المجتمع المدني ولم تسمح في النهاية بالنشاط السياسي إلا للتنظيمات الدينية!.. جاءت كل تلك الإجراءات تحت حجة وتبرير أولوية الدفاع عن الوطن بدل التحولات الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كونها من صلب أهداف الثورة التي ثارت الجماهير الإيرانية من أجلها ودفعت في سبيلها الغالي والنفيس في دروبٍ مخضبةٍ بالدماء والآلام!

على قدر ما كانت الثورة الإيرانية عظيمة مدوّية على قدر ما ينطبق عليها- أكثر من غيرها- العبارة البليغة؛ الثورة تأكل خيرة أبنائها ، التي أطلقها لينين إبان الثورة البلشفية، الخاصية التي اتسمت بها كل الثورات حتى الآن وان تجسدت بشكل أوضح وأبرز في ثورة بهمن الإيرانية! هكذا كان مصير أفضل المناضلين الذين صنعوا ثورة بهمن أمثال هاتفي وآلاف غيره! من هو رحمان هاتفي المشهور حركيا بـ حيدر مهركان وكيف استطاع هذا الجندي المجهول للثورة أن يلعب دوراً استثنائياً في ظرف سنوات قليلة، هي فترة نهوض وانتصار الثورة؟ كيف تمكن من تمويه أنشطته السرية والتغلب على حِرَفيّة السافاك العالية ؟ وما هي خلفيته السياسية وإمكانياته المذهلة ؟ كيف بدأ عمله الثوري المنظم وأين انتهى؟! ..هذا ما نوضحه (في هذا المقال) بإيجاز مقتضب، من خلال معلومات قيّمة نستهل في عرض شذرات منها لأول مرة للقراء العرب!

بدأ هاتفي ، الذي يرجع جذوره العائلية إلى منطقة الشمال القزويني، نشاطه السياسي الاحترافي في سن مبكرة، عند ستينات وسبعينات القرن الماضي، حين نجح بإقامة صلات وثيقة ومتداخلة مع مجموعات متنوعة من النشطاء السياسيين والمثقفين، يسارية وليبرالية وحتى دينية.. تمخّضت كل تلك النشاطات في السبعينات عن استقرار نظرته السياسية والفكرية ورؤيته الواضحة لضرورة فن التعبئة والنفس الطويل في النشاط السياسي قبل الوصول إلى وضع ثوري قد يتطلب النهج المسلح، في اللحظات الحاسمة. أي أنه أدرك المسافة التي تفصله عن أصدقائه ضمن مجموعات نهج اليسار الحاد ، الذي لم يرَ غير النضال المسلح طريقا وحيدا للثورة! والغريب أن تلك القناعات السياسية جاءت في وقت مبكر قبل أن يتمكن النظام القمعي الشاهنشاهي من بعثرة جهود الفصائل التي خاضت حرب العصابات في ذلك الوقت من قِبَل المسلحين المجاهدين و الفدائيين والإجهاز عليها، حين كانت الماوية موضة نضالية وسلعة سياسية رائجة تدغدغ مشاعر الشباب المتحمس!

لعب هاتفي دوراً محورياً ككادرٍ قياديٍ ميداني سرّي إبان النهوض والتعبئة للثورة، بعد أن أيقن بحسه وحدسه الثاقبين أن شهاب الثورة - لا محالة- ساطع في السماء ورأى إمكانية نجاحها وكأن التاريخ قد أرسله في الوقت والمكان المناسبين، حيث نجح في تمثيل دور شخصيتين في آن واحد.. برز نجمه المهني والعلني كصحافي لامع بين الطاقم المتميز لدى كيهان بينما استطاع بحنكة متقدمة التغلب على حِرَفيّة السافاك العالية وتمويه شخصيته الحقيقية؛ متخفية خلف اسمه الحركي؛ حيدر ( بسبب إعجابه بالإمام علي)..قائدا لمنظمة سرية تهيّئ وتعبّئ الناس للثورة القادمة!

تعود جذور منظمته الثورية المسمية بداية بـ آذر خوش إلى حلقة نقاش صغيرة جداً، كان قد أسسها المناضل الآذري الشهيد هوشنك تيزابي باسم نشرتها الدورية السرية بسوي حزب (نحو الحزب). أجرى هاتفي أول اتصال سري له في سنة 1975 براديو بيك إيران، التابعة لحزب توده في الخارج، التي أخذت بعد ذلك تذيع تباعا أنشطةَ وأخبارَ مجموعةِ آذر خوش ( آذر هو الشهر التاسع في الرزنامة الفارسية وكلمة خوش بمعنى سعيد).. في نطاق التوجيهات العديدة والمعدة لمجموعات متفرقة لا رابط مركزي داخل البلد بينهم إلا رابط الخارج وبأسماء مستعارة (أصبح اسم هاتفي الحزبي لدى توده - حيدر مهركان) ورسائل مشفّرة غاية في الدقة.... واتفق من قبل القيادة في الخارج وبطريقة مبتكرة على الكلمة الرمزية نويد (البشارة) لتكون اسم النشرة والمنظمة، التي تطورت بتؤدة وثبات مع النهوض الجماهيري في النصف الثاني من السبعينات تلك ونجحت في لعب دور رئيس أكثر من أي تنظيم آخر ( على كثرتها وإسهاماتها) في الثورة، التي كانت تقرع الأبواب

إن ما يؤسف له حقا أن مناضلاً جسوراً وسياسياً محنكاً وقلماً لامعاً في وزن حيدر مهركان ،الذي كان رئيس تحرير أهم صحيفة يومية كيهان في سنة الثورة واختير بعد الثورة ليرأس تحرير صحيفة مردم (الشعب) اليومية، الناطقة باسم حزب توده في الفترة العلنية ( دامت حوالي ثلاث سنوات) وتدرج بسرعة البرق ليختاره الحزب المذكور ضمن أعضاء القيادة في مكتبه السياسي المستحدث بعد الثورة، قد أضحى أول ضحايا الثورة !..

يقول عنه رفيقه علي خدائي (أحد قادة نويد) في مذكراتــه أن هاتفــي لم يكن أحد أهم مخططي الثورة والمساهمــين الفعالين فيها فحسب، بل أن أبعــاد دوره الفعلي ظلت حتى الآن مجهــولة لأقرب المقربين إليه.. ويقول بأسف وحسرة شديدين من أن الكتوم (هاتفي)، الذي أبــدع في فن ليــس كل ما يُعرَف يُقال قد أخذ الكثير من تفاصيل أسرار نويد وغيرها من الحقائق التاريخية- شديدة الأهمية لإيران- معه إلى القبر بعد أن قُتل في السجن في 1983 بطريقة بشعة وذلك بقطع شرايين معصمه، مدعين أنه انتحر، كشكل من أشكال سلوكيات الأجهزة المخابراتية المعتادة التابعة للأنظمة الاستبدادية.