محمود أمين العالم في الحياة الفكرية العربية الحلقة الأولى


سعيد مضيه
2009 / 2 / 28 - 08:56     

1ـ في حضرة الفكر الوطني التقدمي
محمود أمين العالم وجه بارز من وجوه الثقافة العربية المعاصرة، ومساره في الفكر والثقافة والنضال السياسي طويل وخصيب لأنه مسار حواري : اشتبك في حوارات مثمرة مع الواقع المصري والواقع العربي وحاور الوضع الدولي؛ دخل في حوارات نقدية ملهمة مع المثقفين ومع الذات. وارتقت المسيرة الفكرية للعالم عند محطات عدة كان للصدفة تأثير واضح في معظمها. فلا عجب أن يأتي تحوله الصدفي إلى الماركسية بأطروحته العلمية عن "الصدفة في علوم الفيزياء الحديثة"، حين عثر على كتاب لينين " المادية ومذهب النقد التجريبي" ثم كتاب إنجلز "ديالكتيك الطبيعة"؛ فحدثت نقلة نوعية في حياته الفكرية إلى المادية الجدلية، ومضت حياته الفكرية وممارسته العملية بيانا صريحا ضد الانطواء والتعصب والتزمت. التقاؤه المباغت بالفكر الماركسي تحول بالباحث الشاب من الفكر الفلسفي شبه الوجودي إلى الفكر المادي الجدلي التاريخي. لكنه التحول الذي تسبب في فصله من جامعة القاهرة . كان يعد لأطروحة الدكتوراة عن "الضرورة في علوم الفيزياء الحديثة". فحسب النظرة الماركسية يوجد تفاعل وتكامل بين الصدفة والضرورة. أما ابتعاده عن المجتمع الأكاديمي فقد وسع بوابات عبوره إلى خضم الحياة الاجتماعية.
لم تحظ شخصية سياسية او ثقافية في العالم العربي بمثل ما حظي به محمود العالم من تقدير عال وإجماع على تقييم جهوده في دنيا المعرفة والنضال السياسي. انكبابه على البحث النظري والفكري لم يحل بينه وبين النضال السياسي، منه يغرف القضايا الناضجة للبحث وإمعان الفكر، بينما معاناة البحث النظري تحاول الإجابة على أسئلة الواقع.
عادة ما تجنح المراثي إلى المبالغة، وبعضها ينشغل بوضع خاتمة تكفر عن مساجلات ومناكفات متبادلة؛ غير ان الكتابات بحق محمود أمين العالم تتالت إبان حياته، وفاء وتقييما لمنهجية علمية في البحث ولجهد دؤوب لم يتوقف عن إثراء الفكر الاجتماعي العربي. "لقد ارتبط برحابة الماركسية ومشروعها الإنساني المرن الباحث عن العدل والأمان في شموليته وتنوعه. وربما يشهد على ذلك التنوع الهائل في كتاباته التي جاءت مواكبة لمجمل التغيرات العالمية المختلفة، سواء في مجال الكتابات الفكرية أو النقدية أو الفلسفية مثل:’في الثقافة المصرية‘ 1955، ’تأملات في عالم نجيب محفوظ‘ 1970، ’الوجه والقناع في المسرح العربي‘ 1973، ’ثلاثية الرفض والهزيمة: دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم‘ 1985، ’الماركسيون العرب والوحدة العربية‘ 1988، و ’مواقف نقدية من التراث‘ 1997".
وبمناسبة بلوغه الخامسة والثمانين كتب حلمي سالم المفكر المصري مقالة نشرت يوم 25 شباط 2007، ركزت على تميزه ب" الرؤية الشاملة المتكاملة التي لا تنحشر في مجال ضيق واحد، تتكون هذه الرؤية من البعد السياسي والبعد الفلسفي والبعد الفكري والبعد الشعري والبعد العلمي والبعد التبشيري... هنا مثال جلي للمثقف العضوي الذي يتحدث عنه المفكرون. وهو المثقف الذي يمزج النظرية بالتطبيق. وينزل من برجه العاجي إلى الشارع العادي، ويلتحم بالناس، فتغتني النظرية بالعمل، ويغتني العمل بالنظرية، مصداقاً للحكمة الصائبة التي تقول "النظرية رمادية، لكن شجرة الحياة خضراء...". يضاف لذلك " الحيوية الفكرية والمرونة العقلية، التي تجعله يراجع أفكاره ويعيد النظر في رؤاه كل فترة، من دون أن يتحرج، ومن دون أن يتورع عن النقد الذاتي"، ثم ... "الإيمان العميق (نظراً وسلوكاً) بالتعدد والتنوع والحوار الفكري، وبعدم امتلاك أي تيار فكري للحقيقة المطلقة وحده،على رغم مرجعيته الاشتراكية".
محمود العالم تجسيد حي لحيوية الماركسية وانفتاحها ومواكبتها للتطورات. وكل من يطلع بنزاهة على الإبداعات الفكرية للعالم لابد وأن يقتنع بهشاشة التقولات على الماركسية أنها تحتكر الحقيقة،او تخص مرحلة خلت أو مجتمعا محدد المعالم، أو أن تحيزها يفقدها الموضوعية. لم يكن الرجل من فصيلة «الدوغما» يميناً أو يساراً - التي ترى أن رأيها هو الحق الأوحد، وأن رأي الآخرين هو الخيانة المطلقة أو الكفر المطلق.
وقدمت مجلة "الطريق"، المجلة النظرية للحزب الشيوعي اللبناني، ملفا خاصا عن العالم في عددها الصادر عام 1997بمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين، أسهم فيه عدد من المفكرين العرب.
كتب محمد دكروب رئيس تحرير المجلة يقول، " يبدو هذا الكادح الثقافي، محمود أمين العالم، واحدا من أولئك المفكرين النهضويين الذين يملكون إمكانية الخوض في شتى حقول المعرفة والإنتاج الثقافي، ويشعرون أنهم يحملون عبء مستقبل الأمة، وعبء الإسهام في التأسيس لمرحلة انتقال، والإعداد لجديد ما، ليس على صعيد الكتابة فقط، بل على صعيد تغيير المجتمع ودفعه إلى نظام جديد، ويتحملون عذابات هذا التصدي، وسعادات الإحساس بالإنجاز أو الثقة به...وإمكانات الوقوع في الخطأ وأحيانا في الخطيئة...وأزعم أن الناقد الأهم والأساسي والفعلي لكتابات محمود أمين العالم، بمراحله المختلفة، هو محمود أمين العالم نفسه . "

وسجل عبد الغفار شكر، أمين عام تحالف الاشتراكيين المصريين لفقيد الفكر العربي "تجنبه مصير العديد من الكوادر الشيوعية التي شغلها العمل اليومي عن اكتساب المعرفة الجديدة والتعمق في النظرية، وأعطت معظم وقتها وجهدها لمهمة دون أخرى... يتفرغ للبحث النظري أو ينخرط في النضال العملي فيصبح مفكرا او فيلسوفا على حساب التزاماته السياسية، أو يتحول إلى قائد سياسي على حساب اهتماماته الفكرية، ويبقى في النهاية عدد محدود نجح في الجمع بين الاهتمامين، ومنهم محمود أمين العالم. يعود هذا في اعتقادي إلى هذا التزاوج الخصب الخلاق بين الفكر والممارسة في شخصيته؛ فهو الذي ساعده على أن يكون مفكرا مرموقا ومناضلا سياسيا في نفس الوقت. كما أن هذه الخاصية ميزت كتاباته السياسية وأعطتها طابعا خاصا؛ ذلك أن العالم لا يستطيع الاقتراب من أي فكرة إلا من مدخل تطبيقي هو يصل إليها من خلال الواقع وملابساته ويعالجها في ضوء الأحداث والتطورات. ولا أبلغ إذا قلت أن كل ما كتبه العالم في مجلة "اليسار العربي" (1979ـ1983)، ومداخلاته في المؤتمرات والندوات العلمية خلال هذه الفترة وما كتبه في المقالات الافتتاحية لمجلة " قضايا فكرية" التي صدر منها حتى الآن ثلاثة عشر عددا( الكلام عن عام 1997)هي مجلدات ضخمة تعالج القضايا والمشكلات الأساسية للمجتمع العربي المعاصر، هذه الكتابات كلها نموذج لكيفية معالجة القضايا الفكرية السياسية انطلاقا من الواقع الملموس".
وركز الدكتور رفعت السعيد أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي الوحدوي التقدمي على اندماج السياسي والفيلسوف في شخصية العالم. "وهو إذ يقترب من السياسية يأتي مغلفا بالتفلسف ، بل ومتخذا لنفسه مبررات فلسفية ربما ليبرر لها ما فعله بها ...مضى الفيلسوف في طريقه ، ارتدى ثياب المناضل ، قاتل من أجل العصر الذهبي للإنسان ـ الحلم الذي أصبح رسالة ومعركة معا....". دعوته "ليست ببساطة إلا دعوة لتنمية الثقافة الثورية العربية باعتبارها امتدادا وتطويرا لأشرف ما في تراثنا القومي العريق، وإلى التعجيل بثورة ثقافية جذرية تعمق قدرة التحرير والاشتراكية والوحدة القومية، وتعيد بناء الإنسان العربي بناء حضاريا جديدا غير منقطع عن أشرف ما في تراثه القديم، غير منعزل عن حقائق مجتمعه المصري".
وحسب تقدير الدكتور ماهر الشريف يرجع اهتمام العالم بالفلسفة إلى كون محنة العالم العربي تتمثل في الشتات الفكري والتخبط الفكري والتسطيح الفكري وفي وجود تيارات فكرية ضبابية تغفل حقيقة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يعيشها العالم العربي أو تتغافل عنها.، وتسعى لمعالجتها بأسلوب يبرر الأوضاع المزرية ويكرسها . يؤكد العالم عدم وجود جوهر ثابت للفكر العربي الإسلامي قديما وحديثا ، باعتبار أن كل فكر مرتبط ببنية تاريخية واجتماعية هو تعبير عنها ووظيفة فيها دون أن يعني ذلك أنه لا توجد خصوصية عربية ـ إسلامية ذات جذور اجتماعية تاريخية وليست مطلقة ثابتة. إن إنتاج فكر نظري متسق يسلحنا برؤية استراتيجية شاملة لتغيير الواقع وتجديده، لن تتم على مستوى ثقافي نخبوي، وإنما ستتم في غمرة الفعل من أجل التغيير والتجديد.

يسجل لمحمود العالم دوره الطليعي في قضية وحدة الشيوعيين المصريين ومد الجسور مع الحركة القومية العربية. كان من النخبة التي تمردت على التشظي وأنجزت وحدة الشيوعيين في حزب يضمهم جميعا. وبهدف تجنب الصدام مع النظام الناصري المندفع خلف قومية عربية فقد "كلفه الحزب إعداد تقرير يبحث في المشترك بين الفهم الماركسي للقومية والفهم القومي الدارج. تعاون في هذا المسعى مع صديقه عبد العظيم انيس. وتوصل البحث في الواقع العياني إلى خلاصة تقول أن القومية العربية هي حصيلة تاريخ مشترك لجماعة من الناس عاشوا وتآلفوا وناضلوا معا مئات السنين. والقومية العربية ـ ثانياـ لها لغتها الواحدة الحاملة لتراثها وخلاصة خبراتها التاريخية ، وهي ـ ثالثاـ تشترك في رقعة واحدة من الأرض مهما اختلفت وتعددت مظاهرها الجغرافية... لكنها لا تشترك في حياة اقتصادية واحدة، مشْكلة لا تشكل عائقا أمام وجود القومية العربية بسبب التجزئة الاستعمارية للوطن العربي... ومهما كانت الفوارق السطحية التي تبدو لنا هنا في مصر مقنعة للبعض منا أننا في نهاية الأمر مختلفون نفسيا عن بقية العرب إلا أن هذه النظرة ليست إلا بقايا الانعزالية في مصر إزاء القومية العربية، ثم محاولة أخرى للإغراء أن القومية العربية في جوهرها حركة شعبية نضالية معادية للاستعمار. فالاستعمار هو الذي أقام الحدود والحواجز في وجه القومية العربية ، وهي بالضرورة حركة تقدمية من الناحية الاجتماعية"
وبقيت مسألة الديمقراطية عنصر افتراق عن النهج الناصري؛ ولم تنفع محاولات الترويض فصدر الأمر بإجراء اعتقالات جماعية بين الشيوعيين المصريين ودخل محمود أمين العالم المعتقلات وكابد عذاباتها. في الاعتقال تعرض الشيوعيون لمعاملة وحشية، واستشهد تحت التعذيب شهدي عطية من قادة الحزب والمشارك مع العالم في توحيد الفصائل الشيوعية. بلغت المعاملة الهمجية ذروتها عامي 1959و1960. ولمحمود العالم تجربة مروعة خلال اعتقاله في أوردي أبو زعبل؛ " إذ تطوع ذات يوم ليطالب بوضع حد للتعذيب، وأن يعامل المعتقلون حسب القانون . ولإفهامه ان " القانون في إجازة"، والقول لأحد جلادي الأوردي، تعرض لضرب مبرح ولجلد ولدق رأسه مرات متعددة في حوائط فناء المعتقل، حتى يكون العقاب الصارم عبرة لكل المعتقلين.
يلقي محمد دكروب الضوء على مسيرة العالم فيقول: "مع صدور كتاب مواقف نقدية من التراث(1997) يصل عدد الكتب التي صدرت لمحمود أمين العالم إلى العشرين كتابا .. والأيام الآتية تحمل لنا كتبا جديدة لهذا المنتج الذي يتعب ولا يتعب.. عشرون كتابا ومئات من المقالات والدراسات لا تزال متناثرة في صفحات عشرات من الصحف والمجلات العربية، تتوزع اهتماماتها حقولا ومجالات متعددة متنوعة، من الإسهام في دراسات علم النفس قديما، إلى دخول في مناخات الفلسفة المثالية، إلى انتقال مدهش سريع وعاصف نحو المادية الجدلية خلال العمل على أطروحته حول نظرية المصادفة في علوم الفيزياء الحديثة، وعثوره مصادفة على كتاب لينين " المادية ومذهب النقد التجريبي"، فزلزل الكتاب أفكاره وقناعاته، وقذف به مباشرة إلى المادية الجدلية...( فإلى المنظمات الشيوعية السرية لاحقا)..والدخول بعد هذا مجالات النقد الأدبي ومعارك النقد الأدبي، ذات الأساس السياسي والهدف السياسي، إلى عدد من المعارك الفكرية على جبهات الفلسفة والموقف من التراث العربي، ، والمذاهب والنظريات والتيارات الاجتماعية السياسية ، وحمل راية الاشتراكية والدخول في معاركها .. فكتابات في النقد المسرحي وإسهامات في النقاشات حول القضية القومية وأفاق الوحدة العربية ... واستمرار في تطوير أدوات النقد الأدبي باتجاه التكامل والتشامل ... والإسهام في العديد من الندوات والمؤتمرات الثقافية والفكرية والنقدية، مشاركة أو إعدادا أو تنظيما، والخوض في سجالاتها الحارة والحادة والمتوترة أحيانا، والخصبة في مختلف المجالات."
ويقدم الدكتور رفعت السعيد عرضا مختصرا للمؤثرات الحياتية في وعيه فيقول في مداخلته بمجلة "الطريق" : " صباه ابنا لشيخ من أتباع الشيخ محمود خطاب مؤسس الجمعية الشرعية، وشقيقه طالب أزهري ضرير كان ينقل كتبه الدراسية إلى طريقة " بريل "، يستذكر محمود تلك الحقبة فيقول " ظللت أملي عليه وأقرأ له منذ أن استطعت القراءة حتى سن المراهقة ، خائضا في مختلف كتب التفسير والحديث وأصول الدين، وعلم الكلام واللغة إلى غير ذلك ، أفهم بعض المعاني، ويغيب عني بعضها ؛ ولكني أعيش ثقافة عريقة لا يزال رحيقها الغامض يغمر نفسي".
كما ينقل من ذكرياته التي نشرها بمجلة الهلال عن سنوات الجامعة " كنت أتراوح فكريا بين نبتشوية ووجودية عبد الرحمن بدوي واشتراكية لويس عوض" . ونظرا لأن العالم لم يتناول الأفكار مغمض العينين فوجد في وجودية عبد الرحمن بدوي وجودية مغدورة، إذ صبها في قوالب ومقولات تجمد طبيعتها الوجودية . "وكان موقفي مشابها من اشتراكية لويس عوض كنت أراها اشتراكية ملتبسة غير علمية." في الجامعة نال درجة الماجستير في الفلسفة، عين مدرسا مساعدا لمادة المنطق. بدأ يعد لرسالة الدكتوراه عن الضرورة باعتبارها الوجه الآخر للمصادفة... " وفي عصر يوم من أيام صبف 1954 استدعيت لمقابلة د. يحيى الخشاب عميد الكلية . وجدت معه د. لويس عوض، أبلغنا بحزن عميق وتأثر صادق قرار فصلنا من الجامعة. وأتذكر الآن الطريق الذي أخذنا نقطعه بتمهل، لويس عوض وأنا من كلية الآداب حتى ميدان الجيزة، ما تكلمنا كثيرا، لا شك أن حزنا ذاتيا كان يملأ قلبينا. كنت أحس شخصيا بأن حلمي بالمشروع الفلسفي أخذ يتلاشى، وأشعر بتهديد غامض لمستقبل ابنتي الوليدة؛ لكنني أتذكر أننا، ونحن نفترق قلنا معا شيئا واحدا واتفقنا عليه بوضوح وحسم: سوف نغيب عن ساحة الجامعة، ولكن لا ينبغي أن نغيب أبدا عن هذه الساحة التي نمضي نحوها، ساحة شعبنا، بلادنا، ساحة مصر كلها. سنواصل فيها الرسالة التي يؤمن بها كل منا".

ويتناول عبد الغفار شكر نشاط العالم في عقد الستينات، حين تعرف عن بعد على محمود العالم: "كنا نعرف أن محمود أمين العالم عضو في السكرتاريا المركزية للتنظيم (الطليعي للاتحاد الاشتراكي العربي)، وأنه مساهم بدور أساس في إعداد الأوراق التثقيفية ومواد النشرة الدورية للتنظيم ... كان هناك فرق بين ما يعده العالم وما يكتبه غيره؛ فهو يفتح أمامك أبوابا واسعة للتعرف على ما يدور حولك برؤية علمية تربط بين الأحداث وكيف تتبادل التأثير فيما بينها، وما يترتب على ذلك من نتائج.... تكوّن عندي انطباع إيجابي عن هذه الشخصية التي تجمع بين الاهتمامات الفكرية والفلسفية وبين الدراسات الأدبية والالتزام السياسي والمسئوليات الإدارية ( بقي عضوا بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي المصري حتى وفاته). وأخير التقينا في أوائل السبعينات بعد انقلاب السادات في 15 مايو ، وما ترتب عليه من إعادة فرز مواقف الكثيرين من النشطاء السياسيين ، حيث تشكلت جبهتان أساسيتان إحداهما مع استمرار الثورة ، والأخرى مع تصفية إنجازاتها. لم تكن الثورة في ذلك الوقت تعني عندنا فقط مرحلة 23 يوليو بل الثورة المصرية بشكل عام."
حدث الطلاق الفعلي مع تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي مع تولي السادات، وتضييقه على معظم المثقفين الخناق، رحل العالم إلى باريس بعد أن طاله رذاذ الاتهام بالضلوع في ما سمّاه السادات مؤامرة مراكز القوى (1971)، وبعد أن فُصل مـــن الاتحاد الاشتراكي العربي ومن التنظيم الطليعي. وفي فترة فرنسا - التي امتدت عقداً كاملاً من منتصف السبعينات إلى منتصف الثمانينات، أنشأ العالم، بالاشتراك مع ميشيل كامل، مجلة «اليسار العربي» كمنبر لكل الاتجاهات اليسارية العربية.

يخلص شكر إلى القول بأن "شخصية محمود أمين العالم هي نموذج واضح للجدل الخلاق بين الفكر والممارسة، فهو لم يصل إلى قناعاته الفكرية من خلال التأمل أو البحث العلمي المجرد، بل استمدها من خلال اهتمامات أسرته الثقافية ومعايشته لأبناء الدرب الأحمر ومجاورته للآثار الإسلامية بالقاهرة المعزية ( نسبة للخليفة الفاطمي، المعز لدين الله) ومعاناته الشخصية في تدبير مصدر للرزق من خلال عمل وظيفي كتابي لا ينسجم مع اهتماماته الفكرية والعلمية ؛ بل يصبح أحيانا عبئا عليها. وهو لم يتبن المادية الجدلية أو يعتنق الاشتراكية العلمية دفعة واحدة، ومن خلال كتاب أو كتابين، بل عبر فترة زمنية ممتدة امتزجت فيها خبراته العلمية والحياتية بتحصيله الفكري. إن التكوين الفكري بهذا الشكل، أي القائم على الانطلاق من خبرات الممارسة والمعايشة إلى آفاق الفكر والنظرية هو الذي يصمد في مواجهة الأحداث وخاصة غير المواتية، وهو الأساس الموضوعي لنظرة التفاؤل التي تملأ المناضل السياسي ثقة في المستقبل الأفضل وتحميه من الانهيار أو التحول من اليسار إلى اليمين كما حدث للكثيرين تحت وطأة المتغيرات العاصفة، لآن الموقف الفكري في هذه الحالة يستند إلى معطيات الواقع والنظرة العلمية معا.
أوائل عقد السبعينت احتفل التقدميون العرب بكتاب " الماركوزية أو الطريق المسدود" يتصدى للنزعة الاستهلاكية التي قدمتها الامبريالية الأمريكية ف العقد السابق غذاء ثقافيا ونهجا اقتصاديا يغلق سبل التنمية والتطور المستقل بلدان العالم الثالث. في هذا المؤلف ، الذي سحب بأوامر أمنية من المكتبات، أجرى العالم مراجعة نقدية لموقفه عام 1965 ، حين صادق على قرار حل الحزب الشيوعي المصري والانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي العربي في قمته. كان مباشرا وجسورا في النقد الذاتي.
ويأتي تكرارا على الموضوع فيقول في مداخلة له أمام ندوة عالمية نظمتها جامعة باريس (17ـ20 آذار 1983)بمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على وفاة كارل ماركس، " لعل تشكل التيار اليساري داخل حزب الوفد بتأثير فصيل شيوعي والمشاركة في إعداد وإنجاح ثورة يوليو بالتعاون مع فصيل شيوعي آخر، أن يكون تعبيرا عن هذا التفهم لخط التحالف الوطني وممارسته عمليا؛ إلا أن الخط اليساري الانعزالي كان ينتصر في بعض الأحيان فيفضي إلى ما يشبه انتحار الحزب الشيوعي المصري، كما حدث في الثلاثينات نتيجة لقرارات المؤتمر السادس للكومنترن الخاص بإدانة البرجوازيات الوطنية بالخيانة. كما أن التمادي في خط التحالف الوطني دون ضوابط مبدئية وطبقية كان يفضي كذلك إلى انتحار يميني للحزب، كما حدث عام 1965، عندما قامت التنظيمات الشيوعية المصرية بحل نفسها والاندماج في التنظيم الناصري للاتحاد الاشتراكي العربي". .. لا يمنعه هذا التقييم السلبي لموقف الحركة الشيوعية المصرية من حل تنظيماتها عام 1965 انه كان من أنشط الماركسيين داخل تنظيمات الاتحاد الاشتراكي."

العالم، إذ يلقي الضوء على الطابع الديمقراطي للماركسية يرد على النهج الناصري في التحولات الاجتماعية ، إذ أدخل الإصلاحات لمصلحة الجماهير وغيب الجماهير عن الحياة السياسية في آن معا. الجماهير عامل أساس في الممارسة. و بلور الموقف من ديمقراطية الثقافة في افتتاحية الكتاب الثاني عشر من "قضايا فكرية" بالقول "... لا قيمة للمعرفة إن اقتصرت على حدود نخبة متعالية من المثقفين او البيروقراطيين أو أصحاب المصالح الذاتية أو الاستغلالية أو العنصرية. وإنما قيمتها في أن تصبح وعيا مجتمعيا جماهيريا شاملا ، يتسم بالعقلانية والاستنارة والتفتح وروح النقد والإبداع، وأن يتحول هذا الوعي إلى فعل جماعي ديمقراطي مشارك، تأسيسا على هذه المعرفة العلمية ، واختيارا وتحقيقا للمصلحة المجتمعية والإنسانية العامة.... ومن هنا جاء القول إن الاشتراكية هي بحق مرادف للديمقراطية وعيا علميا بتعدد إمكانات الواقع ، وفعلا إراديا جماعيا إنسانيا فيها".
بل إن العالم يشخص الضعف النسبي للحركة الجماهيرية المصرية فيرد أبرز الأسباب لهذا الضعف الجماهيري (النظرية والتاريخ افتتاحية "قضايا فكرية " الكتاب 11و12ـ يونيو 1993) "هو الرؤية الطبقية العلوية الضيقة لحركة التاريخ السياسي والاجتماعي المصري. فلم تتوفر معرفة علمية للواقع المصري في جذوره الشعبية العميقة فضلا عن مؤسساته السياسية والاجتماعية العلوية. ولم تتراكم خبرة حية ولم يتحقق التحام عضوي بالقضايا الأساسية للجماهير الشعبية المنتجة والمبدعة، خاصة العمال والفلاحين والمراتب المختلفة من المثقفين. ولم يتم استيعاب وامتلاك معرفي خلاق للفكر الماركسي وخاصة منهجه الجدلي.
وبغية التوجه مباشرة إلى الجماهير ، كما يقتضي الفكر الثوري، وليس الاكتفاء بمناشدة الحكام، مجد محمود امين العالم يترشح للانتخابات البرلمانية. فبعد عودته إلى مصر من غياب استمر قرابة العقد من لزمن ـ منتصف عقد السبعينات ومنتصف عقد الثمانيناتـ - خاض حملة انتخابات مجلس الشعب (البرلمان)، لا لكي ينجح أمام عتاولة الحزب الوطني المزيفين، بل لكي تتاح له بضعة شهور يلتقي فيها مع الجماهير في مؤتمرات وتجمعات مباشرة، محمية بالشرعية القانونية، يدعو فيها إلى برنامجه التقدمي وتصوراته المستنيرة لمستقبل الوطن في العدل والحرية والكرامة البشرية. ونشط في حملته لفيف من المثقفين المصريين.
الصراع السياسي الجماهيري، في نظر العالم يجنب زحلقة الممارسة السياسية. في هذا الصدد يقول عبد الغفار شكر،" هذا الأساس الموضوعي لا يكمن في البيئة الاقتصادية وحدها ؛ وإنما كذلك في منهج ممارسة الصراع السياسي نفسه، بل في منهج الممارسة السياسية نفسها، هل هي ممارسة فوقية أم ممارسة سياسية جماهيرية ديمقراطية. إن الممارسة السياسية الفوقية معرّضة لداء " الزحلقة"، خاصة إذا لم يساندها أساس اقتصادي مستقل متطور. بل لعلها أن تكون مصدر خلل في هذا الأساس الاقتصادي نفسه بوعي منها او بغير وعي، أرادت ذلك أم لم ترد. أما الممارسة السياسية الجماهيرية الديمقراطية فهي ضمان من داء " الزحلقة" بل ضمان التنمية الاقتصادية المستقلة نفسها. فلا تنمية اقتصادية بغير المشاركة الواعية المنظمة للجماهير في التخطيط والتغيير (البسار العربي8 مايو1979).
ويؤكد العالم قيمة الطابع الجماهيري للتحالفات الجبهوية كذلك. ظل العالم يشدد على خط التحالف مع البرجوازية الوطنية كخط سائد منتصر في أغلب الأحيان داخل الحركة الشيوعية المصرية؛ والتحالفات لا تعني سيطرة طرف على آخر، أو اتفاقات علوية ، بل " هي أساسا تحالفات اجتماعية ، أي تتحقق في الأساس بين قواعد الأطراف الاجتماعية والسياسية المتحالفة . وفي إطار عمل جماهيري مشترك منسق ، على مختلف مستويات الممارسة الاجتماعية ( اليسار العربي يونيو 1979) ) .