بعض تأملات في بعض ذكريات التاريخ الحديث لمصر...الديموقراطية والناصريون والشيوعيون في مصر


احمد زكي
2004 / 3 / 28 - 10:43     

الأخ محمد أبو اليزيد من الإسكندرية بعث إلى بريد كفاية الالكتروني برسالة هذا نصها...
"واضح أنكم من الشياطين الحمر.. أما كفاكم ما حدث لمصر في عهد كاهنكم الأكبر المقبور المقهور جمال عبد الناصر، لا رحمه الله.. ماذا تريدون للمصريين أكثر مما نالهم على يد هؤلاء الفاسدين مما [ممن] سماهم الرئيس المؤمن أنور السادات بمراكز القوى.
عودوا إلى جحوركم فلم [فلن] يصدقكم أحد بعد اليوم.. لقد انتهى دوركم وولى عصركم وباعكم جورباتشوف بأبخس ألاثمان.. هذا إن كان لكم ثمن أو قيمة.
محمد أبو اليزيد
الإسكندرية"
أنا أظن أن السيد محمد أبو اليزيد من الإسكندرية ليس في مقتبل الشباب وإنما يدور عمره حول أعمارنا (اغلب محرري الموقع) زيادة أو نقصانا، وشواهدي على ذلك كثيرة... أما إذا كان شابا في مقتبل العمر ويملك هذه العلاقة بالتاريخ الحديث، لا بل وهذه الحرارة في الاختلاف، فلابد أن مستقبل البلاد مبشر بالخير!
فمن اول كلمات الرسالة، ورغم تردده قليلا في اختيار اللافتة التي يرتبنا تحتها (تقاليد القرن العشرين)، إلا أن السيد محمد أبو اليزيد اختار لنا لافتة "الشياطين الحمر". وهذا الاسم يعني عند الأخ أبو اليزيد شيئا واحدا ولكنه يقصد به تيارين سياسيين معا: "الناصرية" التي أطلق السادات على أتباعها اسم مراكز القوى، و"الماركسية" التي باعها جورباتشوف بأبخس الأثمان.
شجون شخصية
في أول الأمر استبد بي شعور بخيبة الأمل.  قلت لنفسي إن الأخ محمد لابد وأنه مر بعينيه سريعا على محتوى الموقع أو يمكن حتى عناوين نشرتنا الإعلامية، فأثارت بعض أكليشيهات الزمن الماضي، في نفسه، مرارات يحملها ضد هذين التيارين.  من الواضح انه يكره الخطاب السياسي لكلا التيارين بغض النظر عن أن موقفه هذا مبني على الخطاب السياسي للسادات، بحيث أن كلمات في موقعنا تحمل العداء لأمريكا أو الانحياز للفقراء قد استنفرت فيه عداءا لما يوقن انه القصد الحقيقي وراء هذه الكلمات؛ سياسات وممارسات هي، في المحصلة النهائية وعلى ارض الواقع، شمولية استبدادية وغير إنسانية، وهي النتائج التي دلت عليها كلا التجربتان: الناصرية والسوفييتية.
بعدها زادت وطأة شعوري بخيبة الأمل لمردود عملنا.  رغم ما كنا نعتقد أنه شوط كبير قد قطعناه في نقد هذه التجارب الوطنية، وما كنا نعتقد أنه خطاب جديد يحاول تطوير رؤية بديلة لمجتمع خال من المظالم التي تنزع عن الإنسان في عالمنا المعاصر إنسانيته، لأنه خطاب يبحث عن وضع مسئولية إدارة شئون معيشة الإنسان في يد جمهور واسع متضامن فيما بين أفراده، منتجيه ومستهلكيه. 
النتيجة التي يخبرنا بها الأخ محمد هي إننا لم ننجح بعد في قطع الشك حولنا كطبعة جديدة من الاستبداد القديم المستتر بالقيم التي يحلم بها الإنسان منذ غابر الأزمنة كالعدل والمساواة والحرية والأمان.  لا نزال موصومين بعار الماضي الكئيب، ولا نملك خطابا ناضجا يلهم الحاضر بأمل ورؤية أكيدة للمستقبل. 
كان هذا هو تتابع الخواطر الذي مر بي فور قراءتي لرسالة الأخ أبو اليزيد.
واسيت نفسي بالقول: لا يزال أمامنا جهد ليس بالقليل حتى يتكون وعي عام في بلادنا بأن هذه التجارب قد أصبحت ماض يجب تجاوزه وان علينا أن نبدأ تجربتنا الجديدة بدون أي قيود تفرضها علينا أفكار التاريخ الذي ولى والتي أثبتت عجزها وقصورها عن ملاحقة تحديات الحاضر المتوالية، وتسد الطريق كذلك أمام المستقبل؛ وان تكون علاقتنا الوحيدة بهذه التجارب هي علاقة من يستخلص الدروس حتى لا نقع في نفس الأخطاء.  فقد ضاعت على الأمة فرص تاريخية لاحت سابقا وأهدرناها (محمد علي : اليابان، وعبد الناصر : الهند، والسادات : ماليزيا).
ولكن بعد أن تلاشت لحظات الشجن التي تستبد بمن يتخيل نفسه من حملة الرسالات أمام ثقل المهمة، قفز إلى ذهني ما تصورت إنها مفارقة مضحكة نتجت عن عصبية السيد أبو اليزيد الزائدة عن الحد بعد أن اكتشف حقيقتنا، التي يتصور إننا نحاول إخفائها.  اكتشفت أن السيد أبو اليزيد ربما ليمينيته المتطرفة ولعدم موضوعيته خلط بين الناصرية والماركسية ورآهما شيئا واحدا. 
ولكن بعد هنيهة قصيرة وجدتني أقول (لنفسي طبعا): السيد محمد أبو اليزيد لم يخطأ!  هو على حق، ما هي الاختلافات المادية الحقيقية بين الناصرية كنظام حكم وممارسات وبين التيارات الماركسية المصرية كبرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي، وأيضا كممارسات؟
 ذكريات حديثة
مر بخاطري، توا، لقاء حديث مع الأستاذ عادل سيف النصر، اليساري الماركسي المصري المعروف، وهو يقص علينا، عرضا، وقائع ما جرى في لقاء جمال عبد الناصر مع قادة اليسار الماركسي المصريين في مبنى الأهرام، مقر مجلة الطليعة، بعد نكسة 67.  كان الأستاذ عادل سيف النصر نفسه احد الذين حضروا هذا اللقاء.  كان لقاءا مشهورا.  نقل الأستاذ عادل لنا انطباعات عدة عن هذا اللقاء في معرض كلامه، ولكن ما انطبع في ذهني جيدا، كشريط سينمائي، كان هو منظر جمال عبد الناصر وهو يتصدر جلسة القادة الماركسيين، ربما يحيطه من على يمينه الأستاذ هيكل (رئيس مجلس ادارة مؤسسة الاهرام) بابتسامته المعدنية المميزة، وربما من على يساره المرحوم الأستاذ لطفي الخولي (رئيس تحرير مجلة الطليعة) بنظرته الحالمة الأحد ذكاءا.  مر أمامي منظر عبد الناصر وهو يحيط بعينيه الكاريزميتين القادة الجالسين أمامه كقادة كتائب الجبهة التي كان يبنيها، حينذاك من جديد، على شاطئ القناة - لتخوض معركته هو - كما لو كان يصوب ناحيتهم فوهة مسدسه العسكري سريع الطلقات.  ذكَرهم عبد الناصر في حديثه بالإنجازات التي حققها لصالح ’تحالف قوى الشعب العامل‘، وطبعا عن ’معاركه‘ ضد الاستعمار والإمبريالية العالمية.  وبعد أن أوفى نفسه حقها، توقف فجأة، وبنبرة لا بد وأنها كانت تحاول أن تتظاهر بطابع القافية المصرية ولكنها كانت فعلا نكتة سوداء تحمل معاني لا اعرف إذا كان عبد الناصر يقصدها كلها أم لا؟   (على الأرجح انه كان يقصدها فعلا).  وجه عبد الناصر كلامه إلى الدكتور فؤاد مرسي، المفكر والاقتصادي الماركسي المرموق، وزعيم منظمة الحزب الشيوعي المصري (الراية)، وصاحب الاسم الحركي الأسطوري؛ ’الرفيق خالد‘.   قال عبد الناصر: "بعد كل ذلك، أريد أن أسأل الدكتور فؤاد سؤالا؟!  من منا نحن الاثنين هو ’الرفيق خالد‘ الحقيقي؟!" (ضحكات)
 الموجة الثانية
بدأ ظهور الموجة الثانية من الحركة الشيوعية في مصر - منبتة الصلة بالحركة الأولى التي قامت في أوليات القرن العشرين - بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مواكبا لتصاعد ثورة جماهير المدن المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي من اجل الاستقلال، ومواكبة كذلك لتصاعد حركة التحرر الوطني في بلدان المستعمرات على مستوى العالم.  تحققت المنظمات الشيوعية في مصر وزادت عضويتها وحيويتها السياسية في خضم اضرابات ومظاهرات عام 1946 العظيمة ومن خلال دورها المحوري في "اللجنة العليا للعمال والطلبة"، ضد الاحتلال الإنجليزي والسراي. 
تبنت حركة "حدتو" (الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني)، التي كانت كبرى منظمات الحركة نسبيا وأوسعها عضوية وأكثرها فاعلية في الشارع السياسي، استراتيجية مشهورة باسم "خط القوات الوطنية"، وهي طبعة مصرية من فكرة جبهات التحرير الوطنية أو الشعبية التي اتبعها في ذلك الوقت العديد من التنظيمات الماركسية في بلدان المستعمرات وغيرها، والتي تعني عقد تحالفات مع قوى سياسية وطنية ممثلة لطبقات برجوازية من اجل القيام بالثورة الديموقراطية (مرحلة ما قبل الثورة الاشتراكية).  ورغم استهجان عدد من المنظمات الشيوعية الأخرى وصدمة عدد من أعضاء "حدتو" نفسها في هذه الاستراتيجية، لبعدها النسبي عن المبدأ الماركسي اللينيني في اعتماده على حزب الطبقة العاملة وخلاياه وسط فقراء الريف والجند للقيام بالثورة الاشتراكية، فإن هذا الخط السياسي أو هذه الاستراتيجية سادت تقريبا الرؤى والعمل السياسي لأغلب المنظمات الشيوعية في مصر حتى اليوم.  
مرة اخرى، وفي عام 1956، مع أزمة تأميم ’قناة السويس‘، ورغم وجود عدد كبير من أعضاء التنظيمات الشيوعية في المعتقلات الناصرية، قام الشيوعيون بدور بارز – أكثر من أي تيار إيديولوجي آخر، وبأداء أكثر حماسة وأثرا من أجهزة الدولة الرسمية - في تنظيم أعمال المقاومة الشعبية داخل بورسعيد ضد القوات الإنجليزية الغازية التي أعادت احتلال المدينة بالاشتراك مع فرنسا آنذاك.
أثناء الجحيم النازي المنظم داخل المعتقلات الناصرية، الذي انفتح عام 1959، ومع القرارات التي اتخذها عبد الناصر في بدايات الستينات بسيطرة الدولة على المؤسسات الاقتصادية الخاصة بشكل واسع (سميت بقرارات يوليو الاشتراكية)، انتصرت باكتساح فكرة "وجود مجموعة اشتراكية داخل السلطة" وتبنتها اغلب التنظيمات الشيوعية وقتها، رغم ما بينها من اختلافات سياسية عميقة.  بذلك أسقطت الشيوعية المصرية من أجندتها تماما قضية الحريات السياسية المدنية والعمل السياسي المستقل.
 الحركة الثالثة
وهذا لعمري هو شقاء جيلنا المظلوم (ما اصطلح على تسميته مؤخرا بجيل السبعينات، وهي تسمية ظالمة من عدة أوجه، فربما كانت التسمية المبكرة، بـ "الحركة الثالثة", تنم عن دلالات اصدق).  فبعد انهيار جدران القفص الايديولوجي، والسياسي الناصري بهزيمة 1967 المروعة، خرج أفراد هذا الجيل من عباءة منظمة الشباب مشردين يبحثون عن قفص أيديولوجي بديل.  ربما كانت تلك سمة العصر، لأننا نتحدث عن تاريخ مر عليه أكثر من ثلث قرن.  بعضنا وجدها في الماركسية اللينينية، والآخرون وجدوها مع القوميين العرب الذين هجنوا خطابهم السياسي بطابع ماركسي لينيني.  آخرون رفضوا الأيديولوجيات العلمانية كلها واتجهوا إلى الأيديولوجية السلفية الدينية؛ ورغم أن الأخيرون لم يكونوا التيار السائد منذ البداية إلا أن أعدادهم تعاظمت رويدا ويدا، وتجاوز نفوذهم السياسي نفوذ الآخرين بمراحل.
وكان الإعلان عن الميلاد هو تظاهرات واعتصامات الطلبة الكبرى في 1972، 1973 من اجل تحرير سيناء من الاحتلال العسكري الإسرائيلي.
وقد تعرض كل هؤلاء، على اختلاف نحلهم، لبطش الدولة المستبدة، إلا أنهم انخرطوا جميعا في نشاط سياسي مكثف بأجندات متباينة ولكنها تشترك جميعا في أنها تخلوا من أي دفاع متماسك عن الحريات السياسية والثقافية للمواطن.  وقتها، لم تكن كل هذه الأيديولوجيات تهتم بقضايا حقوق الإنسان (التي تأتي من ضمنها حريته السياسية والفكرية كبديهة مسلم بها)؛ حيث أن كل منها ومن زاوية رؤيتها الخاصة، يمينا أو يسارا، كانت ترى هذه الحريات السياسية والثقافية على أنها: آليات شكلية للغرب الرأسمالي يسارا، أو بدع الغرب الكافر يمينا.  
 السادات والجمهورية الأولى
كان السادات اسبق أعضاء مجلس قيادة الضباط الأحرار ظهورا، وأكثرهم خبرة، في العمل السياسي العام.  اقترن اسمه بالنشاط اليميني الفاشي (قضية عوامة الراقصة حكمت فهمي والجاسوسان الألمانيان- 1943)، والنشاط الإرهابي (قضية اغتيال أمين عثمان ’1949‘، مع مجموعة حسين توفيق التي كانت تمارس الاغتيال الوطني).  كانت المناصب التي تقلدها السادات تحت حكم عبد الناصر بعيدة كل البعد عن العمل التنفيذي، وارتبطت بالعمل السياسي داخليا وخارجيا.  من رئيس تحرير صحيفة الجمهورية ودار التحرير (55-1956)، إلى نائب رئيس مجلس الأمة –برلمان نظام يوليو (57-1960)، إلى رئيس هذا المجلس (60-1968)، والسكرتير العام للاتحاد القومي في مصر – التنظيم السياسي الأوحد الذي كان مسموحا به وقتها- (57-1960)، إلى رئيس مجلس التضامن الافرو-آسيوي (1960)، وعضو المجلس الرئاسي (62-1964) وغيرها، حتى نائب رئيس الجمهورية لمرتين (64-1966، 69-1970).  
كان الصراع الضاري بين مؤسسة الرئاسة والجيش مأساة شكسبيرية مميزة لحياة جمهورية عبد الناصر (الأولى)، وكذلك جمهورية السادات (الثانية)، وهكذا دواليك.  لم تكن الصداقة نادرة المثال بين "ناصر وعامر" هي العقدة الدرامية لهذه المأساة، كما يحاول الصحفيون القوميين (وعلى رأسهم الأستاذ هيكل) الترويج لذلك.  الحقيقة المادية الواضحة هي أن مؤسسة الرئاسة في نظام يوليو تستمد شرعيتها الوحيدة من حماية الجيش لها، ولكنها تحكم منفردة بلا أي مؤسسة حقيقية موجودة في الواقع للحساب والمسائلة.  وكذلك ترفض مؤسسة الرئاسة بعناد نزوع قيادات المؤسسة العسكرية للتدخل في العملية السياسية للحكم.  دافعت مؤسسة الرئاسة باستمرار عن شرط تغيير الزي العسكري، لمزاولة العمل السياسي من خلال مناصب قيادية في الجهاز المدني للدولة.  من هذا الوضع المركب تولدت علاقة الأشقاء الأعداء، المتفقون بالمصلحة في الوضع: عدم تقسيم الميراث (الاحتفاظ بسيطرة الدولة المحكمة على كافة أوجه النشاط الاقتصادي والسياسي والثقافي) حتى لا يظهر مطالبون آخرون؛ والمختلفون حتي الموت حول توزيع الريع.  في الجمهورية الأولى (عبد الناصر)، جاءت المقادير بانتصار اللاعب في الزي المدني على اللاعب في الزي العسكري، وكاد أن يكون هو أول رئيس لجمهوريات يوليو الثلاثة، الذي تنتهي فترة رئاسته اغتيالا.
 الجمهورية الثانية
لذلك لم يصطدم السادات في بواكير فترة رئاسته بمشير واحد، ولكنه اصطدم بعشرة (ممن سماهم بمراكز القوى).  كان السلاح الذي استخدموه ضده هو نفس السلاح الذي كان يستخدمه المشير عند بلوغ الأزمات قمتها الدرامية؛ الاستقالة!  أي التهديد برفع يد الجيش عن مؤسسة الرئاسة، أو بكلمات اخرى، الإضراب عن العمل!  اعتكاف المشير بعد أزمة السويس في 1956، وبعد الانفصال في 1961، وبعد النكسة في 1967.  كان هذا السلاح يجبر عبد الناصر على الجلوس إلى طاولة المساومات وكانت النتائج بالترتيب: حاكما لسوريا (1958-1961)، عضوا بالمجلس الرئاسي وتولي الجيش لتصفية الإقطاع وفرض الحراسات على ممتلكات أعداء الشعب (1961-1967)، والانتحار!! (أغسطس 1967).
إلا أن الرقعة، بعد هزيمة 1967، كانت قد تغيرت، واستجدت بها ظروف جديدة جعلت تفاصيلها وأطرافها أكثر تعقيدا وتركيبا.   كان السادات قد استفاد مؤكدا من خبرته كشاهد على الصدام الهائل الأخير لسلفه الراحل مع المؤسسة.  واستطاع بمحاكمته واعتقاله لخصومه أن يحقق انتصارا سهلا وكبيرا لمؤسسة الرئاسة، ولكنه انتصار غير حاسم.  كانت جولة أولى من جولات.
شعارات دولة المؤسسات وحرية الصحافة والديموقراطية النابعة من قيمنا (التي يؤمن بها الأخ محمد أبو اليزيد، ولا يصدقها المصريون حتى الآن) لم تكن خطابا فريدا للسادات لتأسيس نظام جديد أو شكل جديد من الحكم.
بل أن المفارقة تكمن في أن المطالبة بالديموقراطية والحريات السياسية كانت هي خطاب المؤسسة العسكرية، تحت قيادة المشير، فقط في وقت احتدام الأزمة مع مؤسسة الرئاسة.  واستبدل السادات الأدوار في أزمته الأولى معهم وأصبح هو حامل لواء الديموقراطية.
 ديموقراطية يوليو: الأسباب
بعد 67، كان عبد الناصر قد بدأ هذا الخطاب.  كانت صيغة الحكم قد وجدت ضرورة لمؤسسة مدنية ذات ثقل محدود وتحت السيطرة تلوح بها كخطر يهدد النظام ككل لكبح جماح مؤسسة الجيش (بيان 30 مارس).  ولكنه كان يخاف المدنيين ويخشى تنظيماتهم (مظاهرات فبراير ونوفمبر 68 للطلبة والعمال، واعتقال اللجنة المركزية لمنظمة الشباب 69، هذا إذا كنا ننسى خبرته السلبية بأحداث مارس 1954).  لذلك لم يسع عبد الناصر إلى إحداث أي تغيير له شأن في شكل النظام السياسي.  كانت لديه الجماهيرية الشعبية الواسعة (مظاهرات التنحي 9 - 10 يونيو 1967، واستقبال الخرطوم سبتمبر 1967، والجنازة أكتوبر 1970)، فضلا عن انهيار مصداقية الجيش أمام الأمة لفداحة الهزيمة العسكرية؛ تلك الهزيمة التي انتهت بأن تحملتها كاملا المؤسسة العسكرية وتم غض الطرف عن المسئولية السياسية لمؤسسة الرئاسة عنها.   كل ذلك جعله [عبد الناصر] يتوقف بعد خطوات قليلة لم تكن ابعد من التصريح بالبيان [30 مارس]، ولم تعقبه خطوات جوهرية اخرى.
أما السادات فلم يكن لديه كل هذا الرصيد.  حتى انتصار العسكرية المصرية في 1973، لم يكن يحسب، في الميزان التاريخي، له خالصا؛ بل شاركه العسكريون ذلك، وبسهم وافر.  ورغم ما كان يشيعه كتبة السادات في الصحف بين السطور من محدودية العمل العسكري مقارنة بالعمل السياسي للرئيس (بطل الحرب والسلام، حرب تحريك لا حرب تحرير، زيارة القدس التاريخية، اتفاقية السلام)، فإن حرب أكتوبر 1973 المجيدة أزالت عن حق وصمة عار حرب 1967، التي كانت ستلصق بالشعب المصري كله وليس بجيشه فقط، ذلك العار الذي تورط فيه جيش غير مستعد، تحكمه قيادات عسكرية اغلبها غير مؤهل للقيادة العسكرية في ميدان الحرب، وقيادة سياسية وعسكرية تعلم عنه ذلك جيدا وتضحي به [رجالا ومعدات] في جحيم مقامرة دولية وداخلية لا شرف فيها على الإطلاق.
ولكن الأداء العسكري المبهر في 73 (العبور) فرض عودة إشكالية النظام بشكل حاد وإيقاع متصاعد من جديد.  لم يكن حفل توزيع النياشين على كبار القادة في قاعة مجلس الشعب (البرلمان) يخلو من دلالة رمزية حادة. 
وبدأت صور الصراع تطفو على السطح من جديد، هذا إذا كان إحلال وتجديد القيادات حتى في زمن التحضير للمعركة قد هدأ البتة، (1970 – 1973).  وبدا كما لو كان ذلك تدبيرا وقائيا أو استباقيا من مؤسسة الرئاسة وقتها، لمنع ظهور مشير جديد.  حتى الذين من كان له منهم دور بارز في "ثورة التصحيح" (الفريق محمد صادق، الفريق الليثي) أو في حرب أكتوبر (الفريق الشاذلي، الفريق احمد بدوي وطاقم قيادته)، اختفوا بأسباب مختلفة.
وبعد أن هدأ غبار المعارك، لم يهدأ الصراع وإنما بدأ في التصاعد بإيقاع سريع.  وكان على السادات أن يلجأ إلى الخيار الذي أرجأه عبد الناصر حتى تنتهي المعركة: مؤسسة مدنية ذات ثقل محدود وتحت السيطرة لمناوأة مؤسسة الجيش...  وكانت كل أسباب السادات تدعوه إلى الإقدام على ذلك.  فما يعتبر إنجازه الأكبر لتأسيس شرعيته الخاصة، وهو ’حرب أكتوبر‘، يشاركه فيه، وبسهم وافر، أبطال المؤسسة الخصم التي لا يمكن الاستغناء عنها.  ورغم أن السادات كان على نفس الدرجة من الشك والكراهية للتنظيمات المدنية مثل سلفه الراحل (مظاهرات الطلبة 1972-73، مظاهرات الطعام يناير 1977)، فقد اضطر تحت ضغط الظروف المذكورة إلى تفكيك الاتحاد الاشتراكي، والإسراع بتعبئة التيارات السياسية المدنية الناشئة في منابر، ثم سرعان ما سمح لها بأن تكون أحزاب تمتلك صحيفة للصياح، وحركة محدودة تمولها الدولة رسميا.  وأفرغ المعتقلات من الإخوان المسلمين (1974).
ديموقراطية يوليو: النتائج
السيد محمد أبو اليزيد معه حق في أن عصر السادات (1970 – 1981)، قد شهد فترة حريات سياسية ولكن هذه الحرية السياسية لم تستمر حقيقية أكثر من بضعة اشهر قلائل.  شهدت المعركة الانتخابية لبرلمان 1976 (مجلس الشعب)، والتي شملت البلاد من أقصاها إلى أقصاها ظهورا علنيا ومكثفا لكل التيارات السياسية المدنية التي طال كبتها داخل المنظمات البيروقراطية لنظام يوليو، او معتقلاتها.  فقد تم فعلا رفع يد الأمن الداخلى ولحد بعيد عن كل أشكال النشاط السياسي لكل التيارات السياسية من اليمين إلى اليسار في الدعاية لمرشحيها.  والتقى جمهور المصريين الذين حرموا من طعم السياسة طويلا بالنشطاء (كانوا يسمون وقتها بالمناضلين) يرفعون أصواتهم [النشطاء] علانية في مسيرات قليلة الأفراد على قارعة الطريق وفي تجمعات السرادقات الانتخابية ولقاءات المقاهي بالمرشحين، وبالكتابة على جدران المباني، وتوزيع أصناف المطبوعات، منددين بالمظالم الاجتماعية والاقتصادية التي تعانيها الأغلبية – وكانت الأغلبية تعاني من سوء الأحوال المعيشية وقتها فعلا (مثلما هو حادث اليوم).  واصطف الشعب على جانبي الشارع السياسي، يتفرجون ويخزنون!
لم يتحمل النظام هذه الثلاثة اشهر من حرية العمل السياسي - بل ولم يتحمل البرلمان ذاته الذي جاءت به أشهر الحرية السياسية الثلاثة هذه، وتم حله 1979، بعد أن فصل ثلاثة من أعضائه لأسباب غير جنائية، كسابقة في برلمانات يوليو (لأن النظام كان يأتي دائما بالأعضاء المرغوب فيهم فقط، ويشطب أسماء المرشحين الغير مرغوبين من البداية).
أما أهم واخطر نتيجة لهذه الأشهر الثلاثة من حرية العمل في الشارع السياسي، كان حدوث ما لم تكن تستهدفه مؤسسة الرئاسة من معارضة مدنية محدودة داخل الإطار المرسوم، وجاءت من فاعل لم يكن داخلا في الحسبان؛ الشعب.  أحداث 18، و 19 يناير 1977، المشهورة بمظاهرات الطعام (والتي اسماها الرئيس السادات ’انتفاضة الحرامية‘)، والتي اجتاحت مدن مصر: من الإسكندرية إلى أسوان، كانت صاعقة ارتجت لها جميع المؤسسات (الحكم بمؤسستيه والنخبة السياسية المدنية معا).  تخطت الجماهير كل الأشكال القائمة وقتها، وتحركت وحدها بقرارها المستقل عن الجميع، بقياداتها الطبيعية، في مظاهرات ساخطة ترفض قرارات ليبرالية اقتصادية، صدرت بناء على طلب من صندوق النقد الدولي، برفع أسعار حزمة كبيرة من أصناف الطعام الأساسية مرة واحدة.  نزل الجيش إلى الشارع بعد أن عجزت أجهزة الأمن الداخلي. وتراجعت الحكومة عن قراراتها، واتهمت زورا احد المنظمات الماركسية (من الجيل الثالث: منظمة حزب العمال الشيوعي المصري) بأنها المدبرة لهذه الأحداث.   وعرف الجميع (الحكم بمؤسستيه، وعقلاء النخبة السياسية المدنية) أن ما حدث كان لعبا بالنار.  لم يسمح بتكرار ذلك أبدا من وقتها حتى الآن.  ولم يسمح احد بعودة الشعب إلى الحلبة مرة اخرى.  وكان هذا هو الدرس الذي تعلمته تماما، والخبرة التي ورثتها، الجمهورية الثالثة!
النخبة السياسية المدنية: أجندة عسكرية
إلا أن الماركسيين والناصريين (القوميين) لم يشعروا داخل تنظيماتهم الخاصة (غير المؤممة) بالامتنان نحو السادات الذي منحهم كل ذلك الدور، واختاروا الاصطفاف في خندق خصومه.  وقفت النخبة السياسية المدنية لتحركاته على الصعيد الداخلي (الانفتاح وخلق مؤسسة اقتصادية مدنية في مواجهة احتكار الدولة الاقتصادي) بالمرصاد، والخارجي تدعيما للخط السياسي الأجوف المتطرف قوميا، الذي هو التاريخ المجيد للمؤسسة العسكرية في الستينات (عملية السلام في الشرق الأوسط). 
فبعد اقتراب الحركة الشيوعية المصرية خطوات قليلة في اتجاه فهم أسباب وداوفع اليهود الغربيين القومية بعد الحرب العالمية الثانية لتأسيس دولة إسرائيل على ارض استلبوها من سكانها الأصليين، مع رفضهم الصريح للحركة الصهيونية كايدولوجيا، وهو ما تبدى في موافقتهم على حل الأمم المتحدة آنذاك بالتقسيم (1947)، إلا أن الموقف الذي تبنوه بعد ذلك وحتى الآن كان هو الموقف الناصري بحذافيره المبني على عنصرية قومية لا تلين ولا تطرح حلا بديلا متماسكا.
كانت مواقفهم في قضية الديموقراطية بلا حماس حقيقي وعلى الأكثر مجرد مطلبية أنانية من اجل توسيع هوامش حركة المجموعات السياسية، كل فيما يخصه – وحاليا من اجل الإثابة المادية على ما تؤديه من وظائف- مع عدم الاصطدام في اقل القليل بأسس الاستبداد السياسي للحكم. 
ولهذا كان السادات يراهن على قوى الفاشية الدينية بتلاوينها لتقوم بالدور: خطر يهدد النظام ككل، يكبح جماح المؤسسة العسكرية، ويحاصر ويدمر جماهيرية القوى العلمانية الذين اسماهم السادات بـ "أفندية القاهرة الأرازل".  وهي القوى [الفاشية الدينية] التي، لسخرية التاريخ، أصبحت الأداة التي لقي حتفه على يديها.  
وفي أخريات سنوات حكمه، اخرج السادات من متحف التاريخ الاجتماعي ممثلي الطبعة المصرية من الحكم الليبرالي (الوفد ’الجديد‘! 1979)، أيضا لتهديد جماهيرية نخبتي الوطنية الشمولية المتطرفة (الناصريين والماركسيين)، إلا أن هؤلاء الممثلين، وقد بلغ الكبر بهم عتيا، تهالكوا في اقرب فرصة على ما تصوروه شعبية التيار الديني ليستحلوها.  وهكذا أدوا دورهم في تراجيديا الحكم بطريقة فارس (كوميديا المسخرة).   
إلا أن المؤسسة السياسية المدنية - رغم أنها، كلها، كانت بدرجات لا تسعى لتجاوز الخط الأحمر- تمردت على الدور الذي كان السادات قد رسمه لها لتلعبه.  انقلبت بجميع طوائفها ضد السادات، في هستريا قومية دينية مختلطة: تحرير فلسطين، العداء لأمريكا وقضايا التعصب الديني- تطبيق الشريعة، الحجاب، الجزية... ولم تحظ منهم قضية الديموقراطية والحريات السياسية بأقل القليل.  وكان رد السادات الديموقراطي على ذلك، هو اعتقال الجميع (تلك التي أسمتها صحافته وقتها بقرارات "التحفظ" ربما للتأكيد على ديمقراطيته).  طال الاعتقال معظم شخوص المؤسسة المدنية الآبقة: ليبراليون، ماركسيون، قوميون، دينيون مسلمون، أقباط.. الخ (سبتمبر 1981).
أصبح الوضع منذرا بخطر الانفجار على الجميع. 
كانت عقدة الدراما الشكسبيرية قد وصلت إلى ذروتها.  أما الباقي فقد أصبح تاريخا، نعلمه جميعا... بدرجات.