أيها الكرد نشكو لكم مثقفيكم: 1- فلم كردي في أمسية ثقافية!


صائب خليل
2009 / 2 / 22 - 04:37     

مقدمة
كتب ساطع راجي في الحوار المتمدن مرة: "كل أزمة لا يتم الاعتراف بها أو يتأخر ذلك الاعتراف ستتجه بإستمرار نحو النمو والتضخم بطريقة يصعب معها العلاج وتزداد كلفته". وكان محقاً خاصة في مشكلة الموقف الثقافي الكردي من العرب في العراق (وغيره).
قبل فترة كتبت مقالة بعنوان "أيها الكرد نشكو لكم سياسييكم" وقلت فيها أنها جزء من إثنين، وأن الثاني يخص الشكوى من المثقفين الكرد، لكني لم أنشر هذا الجزء لترددي خوفاً من أن تزيد مثل هذه المقالات الطين بلة في ظرف حرج، وأملاً أن يتم تهدئة الأوضاع و "تطبيعها" مع الوقت، لكن للأسف كانت عبارة الزميل ساطع راجي صحيحة في هذه المسألة أكثر من غيرها، وكان الوقت يسير بالعلاقة نحو الأسفل، لذا قررت نشر المقالة لعل في المصارحة الصعبة نفعاً بعد أن فشل تجنب "الإعتراف" بالمشكلة فشلاً ذريعاً.

الخطأ المركزي، الذي لاشك عندي بتعمده من قبل بعض الجهات، والذي وقع فيه غالبية المثقفين الكرد هو اعتبار الكوارث التي مرت بأكراد العراق ذات طابع قومي: أن العرب هجموا عليهم ليأخذوا نفطهم وأن الكرد يدافعون عن أرضهم أمام الهجمة العربية المتوحشة...أنتهى!
لقد كانت بالفعل هجمة متوحشة، بل هجمات وحروب متوحشة، لكن الأمر لم يكن يوماً عرب مقابل كرد، بل حكام مقابل العرب والكرد والحقائق الكثيرة تثبت ذلك.
باختصار، لقد قتل من العرب في العهد الأكثر دموية، عهد الدكتاتور صدام حسين، اكثر بكثير مما قتل من الكرد، وسجون صدام كانت تحتوى من العرب أكثر كثيراً مما كانت تحتوي من الكرد والذين تعرضوا لتعذيبه من العرب أكثر، والذين قتلوا في حروب صدام من العرب ليسوا فقط أكثر من الكرد، بل أن نسبتهم تزيد عن نسبة الكرد إلى عدد سكانهم. فمذابح حربه المجنونة ضد إيران كان حطبها العرب في أشد معاركها طحناً، وليس الكرد. فكيف تكون معركة صدام معركة عرب ضد كرد؟
وحتى إن نظرنا إلى معارك صدام التي احرق فيها القرى الكردية وقتل حوالي مئتي ألف كردي حسب تقديرات حكومة كردستان، نلاحظ أن نسبة الكرد الذين شاركوا في تلك المعارك وغيرها من الجحوش إلى نسبة السكان الكرد، تزيد عن نسبة العرب في تلك المعارك إلى نسبة السكان العرب، إعتماداً على تقديرات عامة فلا توجد إحصاءات دقيقة، فكيف تكون تلك معارك عرب ضد كرد؟
لقد كان العرب، خاصة في العراق دون غيره من الدول المجاورة التي يتوزع فيها الكرد يحبون الكرد بشكل خاص، ولا أعرف عربياً من أصدقائي لم يمتدح الكرد من أصدقائه ويفضلهم على العرب، عدا أؤلئك الذين شاركوا الكرد في حربهم ضد صدام والطغاة الذين سبقوه فكيف هي حرب عرب ضد كرد؟
وإن كان اللوم ينصب على تعاون عرب مع صدام وغيره في حربه على الكرد، فالسؤال وماذا عن الكرد الذين تعاونوا معه والذين لولاهم لما تمكن من تحقيق ما حققه من مذابح؟ ثم من كان يجرؤ أن يقول لصدام "لا" حتى حين يقتل من العرب أهلهم فيبيد العوائل والعشائر، فكيف يطالب من يعجز عن الدفاع عن نفسه من أن يدافع عن غيره وأن يرفض التعاون؟ إن قلة من الأبطال فعلوا ذلك وانتهى أغلبهم، فهل هذا مبرر للوم الشعب العربي؟ لم لا يجد الكردي مشكلة في التسامح مع الكردي الذي تعاون لذبح الكردي مقابل المال ويطالب العربي بأن يخاطر بحياته لنفس السبب؟ الم يستدع مسعود البرزاني قوات صدام لقتال الكرد حين شعر أن مصالحه تقتضي ذلك، فلماذا مازال هذا بطلاً قومياً في نظر الكرد ومن قام بمثل عمله ولأسباب مماثلة من العرب يعتبر إنساناً خسيساً؟
الم يقم "البطل القومي الآخر" بتنفيذ مذبحة بإعداء صدام من العرب الملتحقين بالثوار الأكراد في بشتاشان؟ ألم يقم هذا البطل بمحاولة مستميته لإنقاذ صدام من المشنقة على العكس من العرب الذين أصروا على إعدامه؟ ألم يعين أحد أهم مجرمي الحرب ضد شعبه كمستشار خاص للأمن القومي وساعده على الإفلات من نيل جزائه العادل, الم يضع نفسه في إحراج شديد من أجل "علاج" المجرم الآخر برزان، شقيق صدام؟ ألم يترك طيارين من المساهمين في قصف الكرد بالسلاح الكيمياوي يهربون من السجون؟ فكيف هي قصة عرب مقابل كرد؟
لقد نهب قادة العراق من العرب خيرات كردستان كما نهبوا خيرات بقية البلاد وليس لأنها خيرات كردية ولم توزع تلك الخيرات على العرب بل على الموالين لهم من عرب وكرد، وما أثرى الأثرياء الكرد غير حصصهم من تلك السرقات، لا فرق بين عربي وكردي لدى صدام إلا بمدى الإخلاص له، وهاهي الأحداث تبين أن لافرق بين ثروة كردية أو عربية لدى القادة الكرد، فكلها مشروع للنهب. هاهم يسلبون ثروات كردستان فتستمر حكومتهم لعشرة سنين بدون تحديد ميزانية لكردستان، وهاهم يبنون "العوجة الجديدة" في "سر بند"، وهاهو وزير نفطهم ينقل حقول كردستان المكتشفة إلى ملف المناطق الإستكشافية ليبرر عقوداً لصوصية مع الشركات الأمريكية وغيرها، فما الفرق بينهم وبين صدام؟ ألا يكون النظر إلى القضية بعد كل هذا على أنها حرب عرب ضد كرد، نظرة بلهاء، بل جريمة كبيرة؟ كيف يلوم الكرد العرب لعدم اتخاذ موقف مبدئي صحيح في مواجهة الموت، ويسامحون انفسهم على عدم اتخاذه في موقف ابسط كثيراً؟ كم مثقف كردي احتج على اللصوصية المفضوحة في وضح النهار للإبتزاز الذي قام به الكرد في الحكومة عندما اتفقوا مع اللص الكبير أياد علاوي على اعتبار اعتباطي برفع نسبة الكرد من 11% الى 17% في تفسيم الخزانة، وثم إصرارهم عليها في البرلمان بوقاحة متناهية واعتبار تلك الحادثة انتصار للكرد؟ إنتصار على من؟

المقالة طويلة بالضرورة، لذا ارتأيت تقسيمها إلى أجزاء صغيرة، وستكون ثلاثة أو أربعة أجزاء، فأرجو أن يفهم الأمر هكذا ولا يؤخذ على أنها "حملة" لإنتقاد المثقفين الكرد أو ضدهم. وهنا من الضروري أن انبه إلى أن المقصود هنا فعلاً "بعض" المثقفين الكرد، فعلى العكس من انتقادي للسياسيين الكرد، الذين يصعب استثناء أي منهم من سياسة الخطأ واللصوصية التي تسير فيها حكومة كردستان، فأن هناك من المثقفين الكرد ممن نأوا بوضوح عن الخط الشوفيني المتزايد في الثقافة الكردية تجاه القومية العربية ككل، ولا أقصد هنا بالضرورة الخصوم السياسيين للحزبين الكرديين الكبيرين من المثقفين، فكتاب من مثل نموذج "شمال عادل" يذكرني دائماً بوجود هؤلاء ويعطي الأمل بتغير هذا الحال المريض، إضافة إلى عدد من الأصدقاء الكرد الذين لايكتبون، أو قلما يكتبون....للأسف!

قصة فلم كردي

في امسية ثقافية، حضرت في هولندا عرض فلم سينمائي كردي انتج بعد سقوط صدام، وكنت أسعى لكي أعمق إحساسي بما عاناه الشعب الكردي من ألام لكي أتمكن من فهمه أكثر، فقد تبين لي أن معرفة أرقام الضحايا لا تعني كثيراً في نهاية الأمر، فيجب الإحساس ولو جزئياً بما عانته تلك الضحايا. لكن ما شاهدته كان مخيباً!

قصة الفلم هي قصة كرديان يريدان إيصال وجبة طعام "قصعة" إلى فصيلهما من البيشمركة على ما يبدو، لكنهما يجدان نفسيهما في وضع خطر أثناء دخول الإحتلال الأمريكي للعراق، وانتشار الفوضى والعصابات الصدامية الخ.
وفي أثناء تجوالهما في سيارتهما يجدان صبياً عربياً تائهاً، ويبدو أهبل او خائف، وحين يسألانه عن اسمه يقول: "صدام" وهو لا يعرف أين بيته فيذهبان رغم الخطر الشديد، يطرقان الأبواب بحثاً عن أهله لكن السكان العرب، يغلقون بوجههم الباب بمجرد معرفتهم بأنهم أكراد. نتيجة هذه المخاطرة من أجل إيصال الطفل العربي إلى أهله، يقتل الشاب الكردي الأكثر طيبة ومرحاً من بين الأثنين بواسطة عصابات صدام، ليعود صديقه الى الطريق بعد أن يطرد الصبي الذي يكرهه بسبب إسمه، ثم يعود ليحمله معه وهو يبكي.

تتخلل الفلم لقطات لعرب يأكلون بأيديهم، ويركز المخرج الكامرة (كلوز أب) على طريقة تناولهم الطعام بهذه "الوحشية" بطريقة تذكر بأفلام منتصف القرن العشرين الدعائية المباشرة المفضوحة بينما يأكل الأكراد بالملعقة!
أب الطفل يبحث عنه ويعامل أمه بشكل متخلف فيسير أمامهما مسافة، وهما في وضع يثير الأسى والإحتقار معاً.

باختصار، كل شيء عربي ظهر في الفلم كان سيئاً متخلفاً شريراً (عدا الطفل المسكين الذي أضاعه ابواه العربيان المهملان ليرعاه الكرديان اللذان وجداه )، وطبعاً كل شيء وكل شخص أمريكي جيد وطيب!

بعد نهاية الفلم، وربما سعياً لإيجاد مبررات "موضوعية" لهذا العرض القبيح، سألت صديقاً كردياً إن كان الأكراد، حتى القرويين منهم، يأكلون دائماً بالملعقة؟ فقال بالإيجاب. سألت الم تصادف رؤية أكراد يأكلون بأيديهم قال لا! لكن عائلة كردية أخرى أكدت أن ذلك غير صحيح! ومهما يكن الصحيح فمن الواضح أن الفلم كان يسعى لبناء الثقة بالنفس لدى الأكراد على حساب نظرة شديدة التحيز ومليئة بالإحتقار للعرب.
يبدو أن من صنع الفلم ومن عرضه يرى أنه "كشف للحقيقة" وأن النية هي لردم الهوة بين العرب والأكراد، فهل يمكن أن يكون هذا صحيحاً؟ هل تردم الهوة بتأكيد ما هو سلبي وتضخمه وتركز على تخلف الجانب المقابل وتسعى لإهانته؟
فهل أن اسم "صدام" أسم منتشر لدى العرب فعلاً؟ أنا لا أعرف معرفة شخصية احداً بهذا الإسم، لا كبير ولا طفل، علماً أنني أنحدر من "المثلث السني"، فلماذا اختار المخرج أن يقنع مشاهديه أن العرب متمسكين باسم صدام ويسمون أولادهم به؟ ولماذا يركز المخرج على أن العربي يسير أمام زوجته بمسافة؟ هل قرويو كردستان أفضل معاملة للمرأة من القرويون العرب؟ لو أن كردستان لم تسجل الرقم القياسي العالمي في جرائم الشرف لربما وجدنا عذراً لإشارة المخرج إلى المعاملة المتخلفة للعربي لزوجته...وحتى لو فرضنا أن ذلك صحيح، هل هذه طريقة لبناء علاقة أم لتبادل الإهانات والكراهية؟

الفلم مريض، ورد الفعل أكثر مرضاً

باختصار كان كل شيء في الفلم رخيص ومفضوح ومثير للغضب، لكن رغم ذلك، ولعل هذا هو الجزء ألأكثر خطراً، لم أجد أحداً من الذين حضروا العرض، حتى العرب منهم، قد غضب للصورة التي قدمها الفلم، وحتى أنا لم أنتبه إلى عمق الدس السيء الذي يقدمه الفلم سوى تدريجياً، فقد تعودنا جميعاً على ما يبدوا على قبول "إهانة العرب" على أنها شيء طبيعي وأن قبولها شيء من "التقدمية" و "اليسارية" أما الإحتجاج عليها فيدل على مشاعر قومية "شوفينية" يجب الخجل منها. أي دفاع عن العرب "شوفيني" بالضرورة! هل سمعت بأحد يفعل ذلك دون أن يتهم بالشوفينية من العرب اليساريين قبل غيرهم من العرب او الكرد؟ إنها تهمة تشمل الجميع يجب العمل على إثبات براءتك منها بالكتابة بين الحين والآخر "نقداً للذات" لتنجو من التهمة، وكلما كان النقد أقسى، وكلما كان تجريحاً يخجل أن يكتبه أي مثقف لا عن قوميته بل عن أية قومية أخرى، كنت انظف من الشوفينية! اما إن تجرأت على الرد على من كان يهاجم العرب، حتى لو قدمت براهينك لتدحض الهجوم، وحتى لو بينت ان من يهاجم، يفعل ذلك بأقصى ما توصف به الشوفينية من قبح، فلن ينفع كل تاريخك اليساري أو الثقافي بعد ذلك، فتلك جريمة الجرائم التي تلغي ما تقدم من جهودك لإثبات براءتك من الشوفينية وما تأخر!
هذا الوضع الشاذ والمريض أنتج جواً أصبح به ما سوف يأتي في أجزاء المقالة الأخرى من قباحات، أمراً ممكناً، بل و طبيعياً. إن المثقفين الكرد يتحملون مسؤولية إنقاذ شعبهم من التحول إلى شعب شوفيني وهو ما يناسب مخططات بعض القوى الكبرى في الشرق الأوسط. المثقفين الكرد يتحملون مسؤولية تجنب الطريق الثقافية المنحدرة وتشوه الحقائق التي يوجه إليها الشعب الكردي وخلط أعدائه بأصدقائه، لذا يتحمل المسؤولية ليس فقط من يشارك في التضليل والمهاجمة الشوفينية المنحطة للعرب، بل وأيضاً من يسهم من خلال السكوت عن هذا الطريق الخطر، وتأجيل الإعتراض عليه.