هامش على متن: مبادئ الشيوعية لفردريك انجلز (1)


مجدي الجزولي
2009 / 2 / 4 - 08:47     

ولد التصور الحديث للأطروحة الشيوعية في خضم القرن التاسع عشر والثورة الصناعية في أوروبا تعصف بالهياكل الاقتصادية والاجتماعية الموروثة، وتهدم بشراسة الواقع الجديد مفاهيم الاجتماع البشري الساكنة والأسطورية، وتثير تغييرات سكانية مهولة بالانتقال العنيف من الريف إلى المدينة. بل وتشكل مدينة جديدة بحريق طاقة الصناعة، وتنشئ الانقسام والتناقض التاريخي بين البروليتاريا ورأس المال، أي الفتح الطبقي للقرنين التاسع عشر والعشرين، والذي أطاح بضربات متتالية بسلطة الارستقراطية وتقاليدها ودشن البرجوازية طبقة ثورية ترفع أعلام الليبرالية، وفي ذات ساعة الميلاد البروليتاريا الصناعية صاحبة الاشتراكية.
في هذا العمر المبكر صاغ فردريك انجلز إشارات لوعي الطبقة العاملة اليافعة في برنامج الدائرة الباريسية للعصبة الشيوعية تحت عنوان مبادئ الشيوعية، وثيقة نشرتها العصبة بجانب أربع وثائق أخرى في كراسة مؤتمرها الأول المعنونة الوثائق التأسيسية للعصبة الشيوعية، ذلك في منتصف العام 1847. ثم ما لبث أن وجه نقدا شديدا لصياغته هذه في خطاب إلى كارل ماركس بتاريخ 23-24 نوفمبر 1847 كتب فيه "أعتقد أن نتخلى عن صيغة العقيدة (الشيوعية) ونسمي هذا الشئ البيان الشيوعي. الصياغة الحالية غير مناسبة، فهي أقرب إلى الحكاية المبسطة، وعباراتها مريعة، فقد كتبتها على عجل مخيف..". في المؤتمر الثاني للعصبة الشيوعية (29/11 – 08/12/1847) اختص الإثنان، كارل ماركس وفردريك انجلز، بكتابة برنامج العصبة تحت عنوان البيان الشيوعي، الذي أصبح دون شك الوثيقة السياسية الأشهر والأكثر نفوذا في التاريخ، وذلك على أساس من تبسيطات انجلز "المخلة"!
اليوم وقد تاهت الأطروحة الشيوعية بين كساد المشروع السياسي للسوفييت والاستئساد الشقي للرأسمالية المعاصرة يعود الفكر إلى تلك اللحظات الأول علنا ننير بمصباح منهجها بعضا من تعقيدات الحاضر، ليس ذلك استعادة لانجلز القرن التاسع عشر على وجه النقل، كما شراح السير، وإنما تقصيا تاريخيا لولادة الأطروحة الشيوعية ورغبة في تحريرها مرة أخرى طليقة حية وليس منكبة على تأمل ذاتها متآكلة. اخترنا أن نبدأ بالإجابة على أسئلة انجلز الواردة في مبادئ الشيوعية نختبر المفاهيم مرة أخرى ونجربها، إن قبلت مدا من غنى الواقع الموضوعي وإن رفضت. مثالنا في هذا المسعى "خياط أولم" الذي عاش أبدا في قصيدة برتولت بريشت: "صنايعي" ألماني من القرن السادس عشر مسكون بحلم الطيران صنع آلة بدائية لهذا الغرض وذهب بها إلى القسيس قائلا: "انظر، أستطيع الطيران"، فتحداه رجل الدين أن يثبت زعمه. هب صاحبنا متسلقا سقف الكنيسة وقفز بآلته البدائية يريد الطيران ليسقط فيلقى حتفه أشلاء انسان وحلم على قارعة الطريق. لكن كما قال بريشت: بعدها بقرون قليلة تعلم الإنسان فعلا كيف يطير. بذات القدر من الحدة التاريخية تأمل كم من القرون احتاجت الرأسمالية، كم من المعارك والدماء، من التقدم والتراجع، لتحول أوروبا الغربية – الأشد تخلفا وبربرية حينها من معظم بقاع الأرض – إلى هيئتها المعاصرة حيث "الفلاح" الاقتصادي والمؤسسات السياسية المنفتحة والثقافة العقلانية. في هذا الطريق تنكب مشروع الرأسمالية السياسي تناقضات جمة ومخيفة بين الأمثولة الحذقة – الانسانية المشتركة، حرية الفكر والتعبير، السيادة الشعبية - وبين الممارسات والأفاعيل التي طالما كذبت المثال: العبودية، الهيمنة الكولونيالية، دحر الفلاحين عن أراضيهم، حروب الأديان. في كل كان الفكر الليبرالي مصدقا للتناقض الاجتماعي: فكرة أن الحرية لا يستحقها سوى من يستطيع الاستفادة منها بفضل الملكية والثقافة وكذلك العرق واللون والنوع؛ وتصور أن ملكية المنتجات ووسائل الإنتاج حق فردي مطلق لا يقبل الانتهاك، ما ظل حائلا دون المساواة السياسية. لماذا إذن نحرم الأطروحة الشيوعية ذات الحق في الاختبار، في التناقض وفي التردد، الحق في الانكسار والنهضة، وقد ساهمت عبر تاريخها القصير مساهمة المدشن في ترويض المشروع السياسي للرأسمالية وجبرها على التنازل تلو التنازل بفاعل اجتماعي ثوري هو البروليتاريا الصناعية والتي "صنعت" حقا تاريخ قرن ونصف على الأقل، نصف التاسع عشر وكل العشرين!
سأتعرض في هذه الكلمة المطولة لعدد من المقولات التي تتكون منها وثيقة انجلز، وهي ذات ارتباط متسلسل ببعضها البعض، محاولا الإجابة على الأسئلة التي تبدأ منها المقولات ومحاورا لها، عل في ذلك ما ينشط أذهاننا لمجابهة مهام معاصرة لا نجد لها "تأويلا" في قراءة الكراسات، وإنما تستلزم إبداعا فكريا لأفق يجدد عملنا والفرضية الشيوعية.
ما هي الشيوعية؟
عند انجلز الشيوعية هي "العقيدة" التي تعرف الشروط اللازمة لتحرير البروليتاريا، وقد اختار "العقيدة" لا "العلم" عنوانا. المأخذ الليبرالي الدارج على هذه العبارة هو القول بخيبة العقيدة أمام الواقع المعقد ولزوم استبدالها بمقولات عملية تتبدل وتتغير بمقتضى التحولات التاريخية؛ وهو انتقاد يبدو للوهلة الأولى صحيحا بل عميقا لكنه عند الامتحان حجاب رقيق معتم يغطي على الفضيحة الليبرالية. فالليبرالية إذ تزعم تجاوز العقائد تشيد عقيدة بديلة مستترة المضمون، مثلها والسلع الاستهلاكية في الرأسمالية المعاصرة: كولا دايت عديمة السكر، وقهوة عديمة الكافيين، ومنتجات ألبان خالية من الدسم، أي تحتفظ بوظيفة العقيدة دون أن تحدد لها محتوى جلي. فهي إذن عقيدة سالبة تقوم بالأساس على نفي غيرها، بل تنفي احتمال أي مشروع سياسي ذو محتوى إيجابي بالزعم أن كل محاولة من هذه الشاكلة محتم عليها التدهور الشمولي، أي بعبارة بسيطة: "ليس في الإمكان أحسن مما كان"، ومنتهى السياسة هو اختيار الأقل ضررا من بين جملة خيارات سيئة.
يمكن الاستمرار في هذه الحجة والقول أن الحقوق والحريات ذات الصبغة الإيجابية التي تولدت عن الليبرالية لم تأت ببركة متضمنة فيها وإنما تم انتزاعها انتزاعا عبر الصراع المرير الذي خاضته الطبقة العاملة وحلفائها في الدول الرأسمالية عبر تاريخ القرنين التاسع عشر والعشرين. الدليل الأبلغ هو المكاسب الإصلاحية التي حققتها الاشتراكية الديموقراطية حتى تضعضعها أمام اختبار الحرب العالمية الأولى، والهزيمة الماحقة التي لحقت بالفاشية، ثم التنازلات التي تحتم على الرأسمالية تقديمها لضمان الاستقرار السياسي في غرب أوروبا والولايات المتحدة حتى الانفجار الاجتماعي في ثورة 1968 بالتواز مع حركة التحرر من الاستعمار والروح الثوري الذي عم العالم آنذاك (هوبسباوم، 1994). الشاهد إذن أن "الديموقراطية" في صيغتها الراهنة حرث من العقيدة اليسارية والنضال الطبقي أفلح النظام الرأسمالي في تطويعه بما يضمن استمرار "الواقع" وإجهاض مطالبه الأقصى.
لكن ألا نقع في ذات الفخ إذ نكتفي بنقد الليبرالية وتعريتها مرة تلو الأخرى دون أن نستطيع تصور الشريعة اللازمة لتجاوزها. في هذا الفخ اليسار منقسم بين حالين هما في الجذر واحد. الأول الاكتفاء بنضالات مجزأة تقع ضمن المحددات الآيديولوجية والهيكلية للنظام الرأسمالي: نضالات الهوية الثقافية والعرقية والنوعية..إلخ. والثاني اعتزال النضال السياسي الفعال بالمرة والركون إلى رمي الجمرات على الرأسمالية لا غير حفاظا على السنن الشيوعية. وفي الحالين قبول منكفئ بالزعم الليبرالي أن منتهى تحرير الإنسان هو الشهود الرأسمالي وأن الظلامات البنيوية الناجمة عن النظام عرض جانبي لفلاحه في إدارة الحال الإنساني، ولا تقارن بالمهددات الملازمة لأي مغامرة فعالة لمقاومته، كانت تلك من اليسار أو من اليمين.
إذا كانت "شيوعية" انجلز محتم عليها التدهور الشمولي بالقياس الليبرالي فهي في العالم الستاليني مضادة للثورة، إذ أن الشيوعية عند جماعة ستالين لم تعد عقيدة سياسية تختبر نفسها في الواقع إنما "العلم" التاريخي الذي يصف الواقع، بل هي ترجمته المباشرة على لسان الحزب الطليعي. في العالم الستاليني كل سنة الحزب الطليعي، القولية والفعلية، هي الشيوعية بالضرورة. التاريخ بحسب التصور الستاليني يزحف زحفا نحو منتهاه الأخروي - المرحلة الشيوعية - وما من دور للفاعلية الإنسانية سوى التطابق مع هذا التوجه المسبق. يشرح هذا التصور بعض غرائبيات الحياة السياسية في الاتحاد السوفييتي: بعد أن أصبح من غير المقبول إرسال كل مخالف سياسي إلى معسكرات الاعتقال ابتدع معهد الطب النفسي التابع للأكاديمية السوفييتية للعلوم الطبية تشخيصا مرضيا – الفصام المتباطئ - لوصف حال "المارقين" ومن ثم اعتقالهم في المصحات العقلية غرض الإصلاح. وهو تشخيص دمغت به السلطات المختصة 18% من المترددين على مركز موسكو للطب النفسي تشمل أعراضه الأفكار العاطفية، السطحية، انغلاق التفكير، انعدام البصيرة، والحديث النمطي (المجلة الطبية البريطانية، 13/09/1986). الأقرب أن هذا التشخيص لم يكن مجرد تكأة لتبرير الاعتقال بل يعكس التصورات الآيديولوجية الملكية في الاتحاد السوفييتي؛ وجوهرها أن من يعارض الشيوعية "القائمة"، منتهى التاريخ ومصير البشرية، ويحتج عليها لا بد مخبول. بذات القدر الذي تصور العقائد السائدة اليوم كل معارض أو حتى مشكك في الديموقراطية الليبرالية والنظام الرأسمالي إما كاريكاتور سياسي فاته قطار العصر أو إرهابي أصولي لا مكان له في المجتمع البشري الحديث.
إذن، في شيوعية انجلز حق حري بنا تحريره من الطعن الليبرالي دون اعتذار بل بصيغة الهجوم، فتحرير البروليتاريا يستند في المقام الأول إلى "عقيدة" في إمكانية هذا التحرير، مما يجعل التحرير فعلا لينينيا، أي يقع في حيز الممكنات وليس الضرورات، كما كانت أكتوبر 1917 إحدى الاحتمالات المدركة من فتح فبراير 1917 وليست ضرورة تاريخية.
إن التمييز الذي يجعل للشيوعية نصلا جارحا هو هذه العقيدة في المستقبل على الخلاف التدهور الليبرالي للسياسة "ما بعد السياسة" إذ تصبح محض مسعى إداري لتنظيم الحياة الاجتماعية يقوم به متخصصون تتماسك ببث الذعر: الخوف من الفوضى، الخوف من الإرهاب، الخوف من العطالة، الخوف من الدولة المتعاظمة، الخوف من الكارثة البيئية، الخوف من المهاجرين والخوف من المعدمين. بهذا المعنى ليس التعارض بين الشيوعية والصيغ الليبرالية المختلفة تعارضا بين رؤيتين متقابلتين أو مشروعين للعالم وإنما بين احتمال سياسة تقوم على جملة من القيم الكونية وسياسة ترفض البعد المكون للسياسة بالأصالة فتنتهي إلى حالة صفرية – إدارة وتنسيق المصالح المختلفة.