مبادرة جماعة المرشد العام للإخوان المسلمين للإصلاح الداخلي في مصر


احمد زكي
2004 / 3 / 23 - 07:26     

أبشر بطول سلامة يا مربع
هناك مشهدان في فيلم "أسكندرية ليه"، للمخرج المصري المخضرم يوسف شاهين، زمنهما دقيقة أو اثنتان، لا أتذكر، ولكنهما مشهدين موحيان بدرجة كبيرة.  من جملة لقطاته السريعة لوقائع الحياة في الإسكندرية-مصر بعد الحرب العالمية الثانية، جاء هذا المشهد لضابطين وطنيين من الجيش المصري في ريعان الشباب يسعيا لمقابلة شخصية ترتدي الرداء الإفرنجي وعلى رأسها الطربوش العثماني (قام بأداء الدور فنان من أهم شيوخ التمثيل المصري الكلاسيكي: عبد الوارث عسر) داخل حجرة ضيقة بلا ملامح.  تحدث الشيخ في همهمة متلاحقة حماسية عن ’معالم الطريق، الذي ينشده لصلاح البلاد والعباد، وفي النهاية اعتبر أن يده فوق أيديهم، تبتغي نفس السبيل معا.  (قطع) – نفس الضابطان سائران على الأقدام، وفي الخلفية صحراء واسعة تبدو لا نهاية لها؛ قال احدهما ما معناه: "شيخ جليل وكلام جميل، لكن أنا ما فهمتش حاجة!"   رد عليه الآخر: "ولا أنا!!"   وقهقها محبطين! (قطع) - ثم باقي المشاهد...

لا يغيب عن فطنة احد أن المقصود بالمشهد هم جماعة الإخوان المسلمين.  وأن المشهد، بغض النظر عن جمالياته السينمائية، لا يأتي بجديد وإنما يردد الاتهام المتكرر الذي يلحق بجماعة الإخوان المسلمين، منذ نشأتهم، ومن قبل خصومهم جميعا، بأنهم جماعة تتستر وراء الدين بغرض الوصول للسلطة والحكم، ولذلك فهي تفتقد لأي برنامج سياسي له ملامح خاصة بها.

واليوم، يتخلى الإخوان المسلمون عن حصانة الإيهام بأن: دعوتهم هي الدين، وان برنامجهم هو القرآن.  انهم يطرحون بنودا مفصلة لجوانب حياة البشر في واقعهم المعاش، ويزعمون انهم يبتغون بها الحكم ولكن "بوسائل ديموقراطية".  وبذلك، تبدو صورتهم كما سائر اللاعبين السياسيين، يطرحون أفكارا بما يمس حياة الناس الأرضية في صورة برامج حزبية، قابلة للنقاش والجدل، وضعها بشر يسعون على الأرض، قابلون للحساب والمسائلة. 

وفي الأخير هذا تطور محمود بالطبع.  فبدلا من الكلام المرسل والعام أصبح لديهم برنامجا يتصدى لقضايا الأمة بأفكار تبدو أكثر تفصيلية (الحياة السياسية 18 تفصيلا، الحياة الاقتصادية 8 أساسيين+8 تابعين، التعليم 18....بما مجموعه 105 بند غير التفاصيل الفرعية)

صادف هذا التغيير الجديد، تولي مرشد عام، أيضا جديد، قيادة الإخوان المسلمين، خلفا لسلفه الراحل؛ حتى ليأتي العنوان الذي وضعته "القدس برس" للمبادرة عنوانين: الأول يسمي المبادرة: بمبادرة الإصلاح للإخوان..، والعنوان في السطر الذي يليه يسميها: مبادرة المرشد العام...  بل أن المبادرة مذيلة بتوقيع المرشد العام الجديد...  "محمد مهدي عاكف".  لذلك اخترت عنوانا فرعيا لهذا المقال، هو: "مبادرة جماعة المرشد العام للإخوان المسلمين للإصلاح الداخلي في مصر"

وتعيين المرشد العام الجديد لم يأت بجديد لجماعة الإخوان المسلمين، حيث انه احد رجال الحرس القديم (مواليد 1928) من أعضاء الجناح العسكري (الجهاز السري) للجماعة.  المرشد العام الجديد من نفس نوعية سلسة المرشدين الذين تولوا بعد الشيخين حسن البنا والهضيبي (الحسنان كانا رجال سياسة داخل التنظيم شبه العسكري).  فالتاريخ السياسي لهذه السلسلة هو تاريخ هذا الجهاز، تاريخ عمليات اغتيال وتفجيرات؛ أي ما نسميه هذه الأيام: إرهاب. المرشد العام الجديد محكوم عليه بالإعدام في قضية تهريب عبد المنعم عبد الرءوف 1954، وخفف الحكم إلى المؤبد، ليفرج عنه زمن السادات 1974.  

قد يكون مبررا في فترة اضطهاد السلطة للجماعة ومن ثم اختفائها الإجباري من على سطح الحياة السياسية في مصر، أن يتولى مكتب الإرشاد رجال العمل العسكري السري فيها.  ولكن المفارقة أن الجماعة دائما ما كانت تعتمد في أوج انتشارها وتعاظم نفوذها في الشارع - وقد يكون مرد ذلك طبيعتها - أسلوب الصدام مع الدولة بجهازها العسكري في مؤامرات فردية، ولا تعتمد الأسلوب السياسي بجماهيرها المنتشرة في شعب تغطي البلاد، بحريها وصعيدها. 

فرغم أن، المبادرة تشخص أن "الثالوث المدمر لهذه الأمة" هو "جمود سياسي، وفساد وظلم اجتماعي، وتخلف علمي وتقني..."، إلا إن الجماعة نفسها استمرت في التعايش، إن لم يكن مع الثالوث بأكمله –لأن من السابق لأوانه الحكم بذلك واقعيا – فإنها تستمر في التعايش فعلا مع احد أضلاعه وهو ’الجمود السياسي‘.  فالرداء الليبرالي الذي تنوي الجماعة ارتدائه – المتمثل في قولها في البند رقم (2): الالتزام واحترام مبدأ تداول السلطة، عبر الاقتراع العام الحر النـزيه – لم ترتديه هي بعد.  ويقتضي أن تبادر هي نفسها بتطبيقه داخلها.

إذا ما كانت الجماعة، كجماعة، قد انتوت فعلا وصدقا الدعوة لهذا التغيير المفصل في القوائم الطويلة من بنود هذه المبادرة، فلديها من الرموز والقيادات السياسية الشابة عدد وفير ممن يستطيع القيادة (الإرشاد) في المرحلة الجديدة التي يستشرفونها: ممن يحمل تاريخه السياسي انتصارات في انتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات المهنية ومجالس الشعب، ممن مثل الجماعة في حوارات سياسية مع القوى والتيارات الأخرى في مصر وعقد معها الاتفاقات، وممن قضى أيضا سنوات في سجن النظام، المسئول عن الأزمة، نتيجة اختلافه ومعارضته لسياساته (وليس بسبب تورط أو شبهة تورط في أعمال إرهابية). 

ولكنها نفس الآلية القديمة التي يبادرون بغيرها: اجتماع أهل الحل والعقد لاختيار مرشحهم بعد حساب حسبتهم هم، ثم مراسم البيعة التي لا تقدم ولا تؤخر من جمهور العوام أعضاء شعب الجماعة.  وهي نفس الآلية التي يقفون ضدها: اختيار رئيس الجمهورية (فيما بينهم) ثم عرضه على ’مجلس شعب‘ لا يقدم ولا يؤخر، ليعرضه بدوره على استفتاء عام لا يقدم ولا يؤخر.  مرشد عام لا تنتهي ولايته إلا بالموت أو بالاغتيال، صنو لرئيس جمهورية تتجدد ولايته حتى الموت أو الاغتيال.

وهكذا، مبادرة الإصلاح التي تدعو إلى تغيير المجتمع المصري لم تمس شيئا بالإصلاح في الجماعة ذاتها.

 

حيثيات المبادرة

تعترف المبادرة في حيثياتها ضمنيا بعدة أسباب كانت وراء إعلان الإخوان لها، أوضحهم في رأيي سببان: السبب الأول أنه، "تشهد المنطقة العربية والإسلامية اليوم محاولات دؤوبة ومستمرة من أجل فرض تغيير عليها من الخارج بالقوة حينًا وبالضغوط الشديدة أحيانًا أخرى"، والسبب الثاني هو ما بدا لهم من، "عدم تجاوب الحكومة المصرية مع المطالب الوطنية التي عرضها الإخوان المسلمون مع كل القوى الوطنية منذ عام 1987 وحتى اليوم".

ورغم أن سوء الظن السياسي بالجماعة (وللحق بغيرها من الأحزاب!) يدفع إلى التفكير بأن السبب ’الأول‘ هو ما جعل صبرهم على السبب ’الثاني‘ ينفد (صبر لحوالي 16 عام، منهم 5 أعوام تقريبا، كانت الحكومة منهمكة في حرب أهلية مع الإرهاب الديني في مصر) - وهو بالتأكيد صبر جميل - إلا انهم بددوا سوء الظن هذا بعبارة بليغة عن فهمهم لدوافع التغيير من الخارج، "ويقينًا منا أن هذه المحاولات الخارجية لا تستهدف في جوهرها ولا أغراضها إصلاحا حقيقيا لصالح شعوب المنطقة.."   والكثير من الأحرار في مصر، بل وفي العالم اجمعه، يتفقون معهم في ذلك القول.  ولكني لا اعرف ما الذي دعاهم إلى إعادة التأكيد مرات، "أولا: إن الإخوان المسلمين يرفضون كل صور الهيمنة الأجنبية...".  ولكن للحق هم لم يحلفوا بالأيمان المغلظة حتى الآن، كما يفعل القوميون، على انهم ضد صور الهيمنة الأجنبية، وأداءهم السياسي يسير إلى العكس!

وبعد ذكر الأسباب، خلصت المبادرة إلى الاستنتاج التالي: " لذا ارتأينا أن نتقدم بهذه المبادرة". 

ولكن المبادرين لم يبوحوا لنا، في صفحات المبادرة الثمانية، إلى من يتقدمون بهذه المبادرة! 

هل تتقدم الجماعة بها إلى جماهير أعضائها كرؤية استراتيجية جديدة ومنهاج للعمل جديد يستجيب للظروف العصيبة دوليا ومحليا التي تمر بها البلاد والعباد، وتدعو تلك الجماهير نفسها للتغير؟ 

أم تتوجه الجماعة بها إلى القوى والتيارات السياسية في مصر بمختلف اتجاهاتها الأيديولوجية لعقد تحالف ما في مواجهة مرحلة معينة، طالت أم قصرت؟ 

أم أنها ليست مبادرة ولكنها إعلان مواقف تتوجه به إلى الدولة في صورة طلب التحاق بالشرعية، طال انتظارها (اليوم مر خمسين عام على حرمانهم منها منذ اصطدم عبد الناصر بهم في 1954، رغم عفو السادات الشفوي 1971)؟  

وبالتبعية، والأكثر أهمية، هل المبادرة هي طلب استمرار التحاق بالحياة السياسية خوفا من شطبهم - كالبعث العراقي - بواسطة العامل الخارجي الداهم (أسوة بسنة الأنظمة الرسمية الحالية من رفض علني ’لمشروع الشرق الأوسط الكبير‘، وتنفيذ لبنوده حرفيا بيدها حتى تمتص صدمة الشكل الجديد لهيمنة الغرب الاستعماري)؟ 

أم انهم يتقدمون بها إلى أول مستجيب أو بعضهم؟  أم يخاطبون بها كل هؤلاء، حيث يجد أيهم ما يخصه فيها؟  أي انهم يضربون بالودع كحال كل الفرقاء المحليين والعالميين!!! 

مرة اخرى يخرج لنا وجه الفنان الراحل عبد الوارث عسر من بين سطور مقدمة المبادرة!  ولكن تمهل!  بينما نقرأ بنود المبادرة، سوف يطالعنا، مرات ومرات، وجه الفنان العظيم يؤدي هذا الدور المتقن!!

--

·        لو كنت عضوا في الجماعة قبل المبادرة، فأنت بعد المبادرة غير مطالب بأن تلقي وراء ظهرك ما قد لقنه لك مشايخك الكبار من قبل، فالخطاب الايديولوجي بعد المبادرة هو نفس الخطاب الايديولوجي قبلها.  اقرأ!

...ومن منطلق أن هداية البشر إلى الحق، وإرشاد الناس جميعًا إلى الخير، وإنارة العالم بمبادئ الإسلام هي الغاية العليا لدعوتنا...

...ولا أمل لنا في تحقيق أي تقدم يُذكَر في شتى نواحي حياتنا، إلا بالعودة إلى ديننا وتطبيق شِرعتنا...  

...فإن لنا مهمة محددة، نقدمها كتصور أساسي للإصلاح..... وتتمثل هذه المهمة إجمالاً في العمل على إقامة شرع الله.... من خلال تكوين الفرد المسلم والبيت المسلم والحكومة المسلمة، والدولة التي تقود الدول الإسلامية (دور مصر كسمسار إقليمي كما يتصوره القوميون، لن يتنازل عنه الإسلاميون)، وتقيم شتات المسلمين، وتستعيد مجدهم، وترد عليهم أرضهم المفقودة وأوطانهم السليبة (هذا كل ما ذكر عن القضية الفلسطينية في الصفحات الثمانية التي سودتها المبادرة!  هل هناك صفقة تتم في الخفاء؟)، وتحمل لواء الدعوة إلى الله (هل هذه هي فريضة الجهاد في شكلها الليبرالي؟)...

...إلا أنه في الفترة الأخيرة رانت على القلوب غلالة من الغفلة والأنانية وسادت بعض القيم المادية والشهوات الآنية، فأثرت تأثيرا سلبيا على الشخصية المصرية السوية (سواء حق الأمير في السمع والطاعة بعد البيعة)، ومن ثمّ كان لا مناص لمن يريد الإصلاح أن يسعى إلى تطهير جوهر هذه الشخصية وإعادة بنائها ولا سيما الأجيال الجديدة منها على أساس من... (هل هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الليبرالي؟)

3. إطلاق حرية الدعوة لشرح مبادئ الإسلام وطبيعته وخصائصه وأهمها شموله لتنظيم كل جوانب الحياة (إذا، بعد كل البرامج الأرضية والفضائية لأحمد فراج والدكتور زغلول النجار وأندادهم الكثيرين، ما زال "صفوت الشريف" يحارب الدعوة إلى الإسلام..)

5. تنقية أجهزة الإعلام من كل ما يتعارض مع أحكام الإسلام ومقتضيات الخلق القويم... (من الرقابة العلمانية القومية إلى الرقابة الإسلامية الليبرالية... وأكمل أنت المثل!)

·        أما إذا كنت من القوى السياسية العلمانية التي ترغب في الاستدفاء بشعبية الأخوان أو الدين، وعبس وجهك مللا مما نسوقه، باعتبار أن الجماعة جماعة، ويجب أن تحافظ على كيان أعضائها ولا تعرضهم لزلزال يفقدهم مصداقية الأفكار التي نشأوا عليها...، سوف يطالعك وجه الفنان المتمكن ويبشرك...

رابعا: إن القيام بريادة هذا الإصلاح لا تقوى عليه حكومة ولا أي قوة سياسية منفردة، بل هو عبء يجب أن يحمله الجميع.... فريضة الوقت (1) ليس لمجرد الوقوف ضد المخططات الهادفة إلى استباحة المنطقة، (2) بل للنهوض من عثراتنا وعلاج مشكلاتنا.

ويرى الإخوان المسلمون أن واجب الوقت يقتضي من كل القوى السياسية والنخب الفكرية والثقافية وكافة المهتمين بالشأن العام أن يلتفوا حول إطار عريض ينطلق من المقومات الأساسية لهذا المجتمع...

انه تحالف طويل الأمد إذا!!  وليس تحالفا من اجل مواجهة موقف خارجي فقط، مهما طال فهو طارئ.  إنه أيضا تحالف من اجل النهوض بالمجتمع من عثراته...  هذه هي البشرى التي يحملها وجه الشيخ لكل التيارات السياسية المعزولة جماهيريا وتطمع في الاستقواء (أو الاستدفاء) بجماهير الإخوان...  ولكن لا تنس أن وجه الفنان الشيخ وجه رجل محنك... عركته المحن والتجارب، ولا يفوته أن يعرف موازين القوى ومن أين تؤكل الكتف..

(أولا: إن الإخوان المسلمين يرفضون كل صور الهيمنة الأجنبية) – (..لا تقوى عليه حكومة ولا أي قوة سياسية منفردة..) – (نرى أن الغاية لدعوتنا هذه هي الإصلاح الحقيقي الشامل الذي يجب أن نتعاون عليه "جميعًا"، "من خلال القنوات الدستورية والقانونية")...

·        لأول وهلة، يظن الغافل أن الإخوان يحشدون قوى المعارضة السياسية بكل أطيافها.  ولكن انظر: الإخوان يمدون أيديهم، من فوق الرؤوس جميعا، بطلب شرعية وتعاون مع الحكومة، فهي من ضمن "الجميع" الذي يدعونه للتعاون.. ولكن أهمهم!  فهم يحتكرون النفوذ والسلطة اللتين عركهما [الإخوان] جيدا.  الجماعة تؤكد للحكومة أنها ترفض صور الهيمنة الأجنبية على نفس المنوال الذي ترفض به الحكومة هذه الصور. الجماعة تتوسل إخلاصا بأن الهم ثقيل، وإنها ترجو ان تتحمل نصيبا من العبء، وليس لتنفرد بالبلية وحدها.  وتؤكد الجماعة أيضا أنها لا تنوي الانقلاب ولا الغدر كسابق العهد، ولكنها سوف تلجأ لحكم "القنوات الدستورية والقانونية"، وهي تعلم جيدا، كما تعلم الحكومة أيضا، أن في هذا البلد الأصيل، ومنذ زمن طويل، لا يوجد قانون ولا يوجد دستور، وإنما هو احتكار طاغي للسلطة، وانقلابات على القوى السياسية الأخرى في اقرب فرصة بقوانين الطوارئ والتدابير الاستثنائية، ثم بطش النفوذ والقوة...  وللكلام بقية... 

---

حتى هذه النقطة التي وصلنا إليها في التحليل، نستطيع الاتفاق أو الاختلاف على الشواهد المستقاة من نص المبادرة ودلالاتها؛ ولكن أين إذا شواهد مخاطبة الإخوان للقوى الخارجية؟

·        بنود المبادرة كلها تخاطب القوى الخارجية، وقد يصعب فهم سياقها إذا ما اعتبرنا أن أي بند من البنود الكثيرة يقصدنا نحن – عباد الله من أهل مصر المستضعفين.

فالشيخ قادم لنا توا من مجلس الإرشاد الدولي، وقد خبر كشاهد عيان فشل التجارب الإسلامية المختلفة.  فشلت في السودان مرتين: مرة بالحكم على يد النميري، ومرة اخرى بشراكة الترابي للجيش في انقلابه على الحكم المدني بعد النميري. وهزيمتهم في تجربة الاصطدام بالدولة في الجزائر لاقتناص السلطة وحدهم مرتين: الأولى بالوسائل الانتخابية فانقلبت عليهم السلطة هناك، ثم الثانية بالحرب الأهلية، استغلالا للتناقض بين الأمريكان في سعيهم لبسط النفوذ على منابع الطاقة وبين الفرانكوفونية وحقوقها الاستعمارية القديمة والجيوبولوتيكية الدائمة.  والشيخ يعرف أكثر من أي واحد فينا تفاصيل اكثر عن سحق حكم الطالبان في أفغانستان المدعوم بمخابرات الجار الباكستاني المسلم.  وأخيرا زلزلة الوهابية في السعودية وتراجعها الحاصل.  وهو أيضا ليس ببعيد عما قام به آيات الله الإيرانيين بعد الحرب على أفغانستان مع فلول المجاهدين لصالح الولايات المتحدة، وما يقومون به في العراق الآن من خدمة لكبح جماح انتشار المقاومة المسلحة في مناطق الشيعة، ثمنا لبقائهم في السلطة ضد التذمر الشعبي الداخلي الواسع ضدهم الآن.

 ولم يبق من التجارب الإسلامية من له بريق إلا التجربة الملتبسة في تركيا.  وربما ماليزيا!

·        جملة اعتراضية: أما جوانب القوة الاقتصادية للقطاع الخاص التركي، وجوانب التحديث في المجتمع التركي (البريق)، بغض النظر عن درجتها وعدم توازنها، فهي تعود لسنوات طويلة قبل اعتلاء الإسلاميين لمؤسسات الحكم هناك.  كل ما قدمه الإسلاميون الأتراك في طبعاتهم المجددة هو الاستقرار للنظام السياسي هناك، الذي يحلم بالالتحاق بالاتحاد الأوروبي وكذلك يحلم إسلاميو تركيا. ومشكلتنا في مصر ليست عدم الاستقرار السياسي ولكنه الجمود كما يقول الشيخ!!  وبعد التعود على أضواء الإبهار التركية، سيبقى الجوهر في تجربة الإسلاميين الأتراك هو أنها التجربة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لا تزال تنال تأييدا قويا من الأمريكان، وعلى علاقات مصالح، اقتصادية وعسكرية، متينة بالمشروع الصهيوني في إسرائيل!

بنود المبادرة: الإصلاح السياسي

بنود المبادرة في المجالات ثانيا-الإصلاح السياسي: (18) بندا، وثالثا-الإصلاح القضائي: (3) بنود، ورابعا-الإصلاح الانتخابي: (5) بنود – أي ما مجموعه 26 بندا من مجموع بنود المبادرة (105) بندا رئيسيا – يقوم بنيانها على حقيقة او فرصة يراها الجميع بوضوح، ألا وهي أن أي انتخابات برلمانية محايدة سوف تعطي الإخوان نسبة أصوات اكبر بثمانية مرات على الأقل مما يحصلون عليه حاليا (نصيبهم الآن حوالى 17 عضوا في البرلمان الحالي). 

قد يحصلون على نسبة أعلى إذا ما جرت انتخابات برلمانية تحت إشراف دولي مثلا.  ولكنهم يعرفون أن الظروف كلها (وتجربة الجزائر ماثلة، وكما تخبر دروس التجربة الحلم تركيا)، لن تسمح إذا سمحت إلا بعملية تقسيم للسلطة.  هذا هو سر ليبرالية الإخوان المسلمين لمن لا يصدقها، وهم يعنون ما يطالبون به ( الـ 26 بند) لأنها الطريق الوحيد الممكن الآن لتحقيق الحلم؛ حصتهم في السلطة، كشركاء أنداد بنسبتهم (وهم يرون أنها ستكون أغلبية) وليس على شاكلة حصة الباقوري أيام عبد الناصر أو حصة د. عبد العزيز كامل والشعراوي أيام السادات!!

لذلك تأتي البنود في المجالات الثلاثة في صورة احتياطات لضمان سير أي عملية انتخابية دون ضغوط السلطة القائمة المعروفة لنا جميعا، الضغوط الإدارية والأمنية والإعلامية وقوانين الطوارئ أو المقيدة للحريات. 

فضلا عن أن مطلبهم الثاني عشر (لاحظ الترتيب!) بـ "إبعاد الجيش عن السياسة ليتفرغ للدفاع... وعدم استعانة سلطة الحكم به بالطريق المباشر أو غير المباشر..."، هو تدبير وقائي يكبل للخصم (النظام القائم) قوته الوحيدة.  والشاهد، أن المطلب هنا لا يتوجهون به بطبيعة الحال إلى الخصم – أنت لا تطلب من خصمك أن يلقي بسلاحه قبل أن تبدأ المعركة – كما انهم لا يتوجهون به إلى جماهير يعرف الجميع، ومن ضمنهم اقل أعضاء الإخوان خبرة، أنها جماهير لا حول لها ولا قوة.  إذا، الإخوان يتوجهون بالمطلب الثاني عشر(إبعاد الجيش عن السياسة)، بل بالمطالب الـ 26 كلها، والدعاء كذلك، إلى من بيده الأمر؛ العامل الخارجي.  

ولو كانت أجندة الإخوان ديموقراطية لهذا القدر، وإذا كان سياق الوهم بالديموقراطية الذي نستخلصه الآن من أجندتهم، هو سياق ناتج عن سوء ظن أعداء فكريين (ونحن كذلك)، فإلى أين ستذهب الصلاحيات الواسعة، مثلا، التي يملكها رؤساء جمهوريات يوليو بحكم دساتيرهم، بعد تنفيذ البند رقم (14) المطالب بـ "تحديد سلطات رئيس الجمهورية... ويكون بعيدًا كل البعد عن المسئولية التنفيذية للحكم، وتحديد مدة رئاسته...".  هل إلى فضيلة رئيس الوزراء، إذا؟!  أم إلى مجلس حكم هم ممثلون فيه, كلي السلطات ولكن من وراء ستار (هل يا ترى على شاكلة مجلس صيانة امن النظام الإيراني؟ أم سيكون تركي أيضا؟)  مؤسسة كمؤسسة الرئاسة الحالية بلا أي آليات موضوعية لخضوعها، هي الأخرى، للحساب والمسائلة!

الإخوان هنا لا يتحدثون عن وقفة لتغيير الدستور كديموقراطيين ينشدون التحالف مع الآخرين، وإنما يطالبون، فقط، بالشروط التي تسمح لهم بالوصول إلى نصيب في السلطة مباشرة.   قد لا يكون كبيرا، حتى، في هذه المرحلة، ولكن من يدري كيف تتطور الأمور....

·        صوت ضعيف: ثم أين ديموقراطية المحليات إذا.  هل يستقيم نظام سياسي ديموقراطي دون طرح آليات ديموقراطية لانتخابات المحافظين ورؤساء الأحياء والمدن والقرى... وسلطات المجالس المحلية والتنفيذية؟  أم هي ديموقراطية كسيحة، لتمسك بالرأس فيتداعى لك سائر الأعضاء... لا ذكر من قريب أو بعيد لرؤية تهدم أصول الاستبداد الحقيقي بشعبنا.

"ثالثا: إن البداية يجب أن تكون من الإصلاح السياسي الذي هو نقطة الانطلاق لإصلاح بقية مجالات الحياة كلها.."

نعم، الأمر في غاية الوضوح.  تلك هي نقطة الانطلاق، الإصلاح السياسي الذي يفسح الطريق لمغانم السلطة.  ولكنه "إصلاح" تطالب به قوى الهيمنة العالمية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) تهدف به لتنصيب حكومات ألعوبة بدلا من الطراز الذي انتهت صلاحيته لحكومات طغاة العالم الثالث التي تقمع شعوبها وتغالي في طلب الثمن [تابع تجربة مجلس الحكم الانتقالي في العراق]، ومع ذلك يجدها الإخوان فرصة سانحة لأخذ نصيبهم في كعكة الحكم التي تضاءلت لحد بعيد؛ ومع ذلك يسيل لعابهم لها، وكل شيء يهون من اجل أن يتذوقونها، وبعدها هم على استعداد لتنفيذ الأجندة المطلوبة.

وإذا كان ذلك كذلك، فما هي الأجندة؟  هذا ما سوف تنبئك به المجالات الباقية:  

 

بنود المبادرة: خامس اهتماماتهم - مجال إصلاحهم الاقتصادي

لا جديد!  ثمانية بنود أساسية وثمانية فرعية.  فقط، إذا ما حذفت منها نصف كلمات البند رقم (1) "...مع تحريم وتجريم الربا كمصدر للتمويل أو الكسب" فأنت تقرأ أفكار ’لجنة السياسات في الحزب الوطني الديموقراطي‘، أو بالأكثر نقرأ لأحد "مفكري" مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، يميني الميول، الذين بدورهم، ناقلين عن أجندات إصلاح البنك والصندوق الدوليين.

ما تخرج به من البنود الـ (16) جميعا هو أن الإخوان المسلمين يشجعون القطاع الخاص؛ ولا حرج - فهم طبعا لم يضبطوا يوما ناقلين عن أبي ذر الغفاري:

"فنحن نعمل على تشجيع القطاع الخاص، وذلك من خلال برنامج مدروس للخصخصة يتسم..."

ولكن مع استكمال البنود التالية تصبح الصورة أوضح:

"...ومن ثَمَّ نعتمد تحرير التجارة والانفتاح أسلوبا رئيسيّا لعلاقاتنا مع الدول الأخرى..."

"...سوف نعمل على تعظيم إيجابيات اتفاقية الجات، ومنظمة التجارة العالمية، والحد من سلبيات هذه الاتفاقيات..."

يعد الإخوان برنامجا ’مدروسا‘ للخصخصة بدلا من برنامج خصخصة د. عاطف عبيد ’غير المدروس‘.  والسؤال هو هل بقي شيء يخصخص بعد الذي كان، اللهم إلا إذا كان الإخوان يفكرون جديا في البترول وقناة السويس والنيل والبنوك الحكومية؟!!  هذا ما بقي.  تدبروا ذلك!  الأمر جد خطير، ولا نسوقه من قبيل تسفيه كلام الخصوم.  خصخصة عمر أفندي وحدها لن تغنيهم فتيلا!

أكثر من ذلك، راجع البنود أعلاه جيدا: خصخصة، ثم تحرير تجارة، مع تعظيم ايجابيات الجات. 

إذا الإخوان فعلا يشجعون القطاع الخاص، ولكنه القطاع الخاص غير المصري (الأجنبي).  طبعا، من من الرأسمالية المصرية، مسلمة كانت أم قبطية، يطيق وحده شراء مشاريع الحكومة الكبيرة التي يفكرون في خصخصتها بعد دراستها؟  وبعد الشراء، من من القطاع الخاص المصري يطيق المنافسة العالمية وقد فتحت حكومة الإخوان البرلمانية الأبواب للتجارة الحرة على مصراعيها (الانفتاح الإسلامي)؟  من من الرأسمالية المصرية سوف يطيق المنافسة وقتها، حتى ولو أوتيت تلك الحكومة المسلمة إخلاص وحماسة "لولا" الماركسية لتعظيم "ايجابيات الجاتس والحد من سلبياتها"؟ 

وإذا قلت أن الإخوان المسلمين يتخذون نهجا واقعيا يعرف أن القطاع الخاص المصري، بعد إنهاك سنين ثورة يوليو الطويلة له، لا يملك إمكانيات النهوض وحده بمهام الإصلاح الاقتصادي الثقيلة ولابد من الاعتماد على الاستثمار الأجنبي، لأنهم يقولون: "7) عدم الاعتماد على الاقتراض من الخارج لتمويل الفجوة الادخارية (الفرق بين الاستثمار المطلوب والادخار القومي) وذلك من خلال تشجيع الاستثمار المباشر العربي فالإسلامي، ثم من بقية دول العالم ومؤسساته"، فتمهل قليلا واقرأ بتمعن البند الرئيسي رقم (4):

4) ربط الصناعات الصغيرة المغذية والوسيطة بالصناعات الكبرى لدعمها وتطويرها واستهلاك منتجاتها، ودعم هيئة الرقابة على الجودة للالتزام بالمواصفات العالمية لضمان استمرار تسويق منتجات هذه المشروعات وذلك عن طريق:
- تشجيع رؤوس الأموال المصرية والعربية على الاستثمار في هذا المجال.

أولا، هل لفت نظرك حكاية "الرقابة على الجودة للالتزام بالمواصفات العالمية" التي سوف تنصاع لها الصناعات الصغيرة المغذية.  إذا، هل يأمل أطفالنا في مصر، في عهد حكومة الأخوان النيوليبرالية، بورش حدادة ولحام صغيرة تصنع فانوس رمضان محلي الصنع، وخاضع للمواصفات القياسية العالمية، ينافس الصيني؟!

يبدو أن الأمر واضح، والنية مبيتة لتشجيع رأس المال الأجنبي (عربي وإسلامي ودولي) لبلع مشروعات البلاد، مهما بلغ حجمها، عن طريق ربط ما يبقى منها، كبيرها (المخصخص) ومتوسطها وصغيرها، ربطا محكما بالسوق العالمي.  وهكذا، أعضاء الإخوان، من تجار الجملة الكبار ونصف الجملة في المواد الغذائية، وأصحاب محلات البقالة الصغيرة الذين انتفضوا مع جموع زملائهم في المهنة، ضد شركة "سنسبري" العالمية، حتى اجبروها على الرحيل من مصر وتصفية أعمالها، سوف يرحبون بعودة نفس الشركة مرة أخرى إلى السوق المصري، وشركات كثير غيرها، للارتباط بها تحت دعوى الالتزام بجودة المواصفات القياسية العالمية.

باختصار الأخوان سوف يبيعون ما تبقى من البلد؛ سيبيعون ما تورع الدكتور عاطف عبيد عن بيعه، شفقة بمن تنزل بسببهم رحمة ربك بالعباد!

وإذا قلت أن الإخوان لا يضعون ثقلهم على الصناعة، ويعتبرون أي استثمار داخلي فيها مضيعة للمال والوقت، وان أجندتهم في الزراعة سوف تتجه لتطويرها لصالح أهلها وليس لصالح المستثمر الأجنبي (العربي فالإسلامي ثم باقي دول العالم)، اقرأ ما يلي:

....تحديث العملية الزراعية، خاصة لصغار المزارعين....

ولا نعرف تحديثا لكبار المزارعين أو صغارهم - الصغار يزرعون أغلبية الحيازات الزراعية في مصر، فالحيازة اقل من فدان ونصف هي الأغلب الأعم وبشكل كاسح في وادي النيل والدلتا - أكثر من التحديث الذي اقترفه بهم الدكتور يوسف والي وأسلافه من وزراء زراعة يوليو السابقين.  فالفلاح المصري الكبير والصغير قد خرجت من يده تقريبا معظم مدخلات عملية الإنتاج الزراعي من بذور وتسميد وطاقة على يد طابور وزراء زراعة يوليو الوطنيين؛ فضلا عن نهب مخرجها منذ احتكار الحكومة للتسويق الزراعي في المحاصيل الأساسية (الإنتاج الزراعي الذي يحمله الفلاح مباشرة إلى السوق المحلي هو اقل القليل، رغم انه الشيء الوحيد الذي يحافظ الآن على استمراره فلاحا).  أصبح الإنفاق الاستثماري على الإنتاج فوق طاقة الفلاح الصغير والمتوسط، ويأكل أغلب العائد للحد الذي يتركه على شفا الخسارة والإفلاس.  ومزيد من التحديث للحيازات الصغيرة يعني مزيد من ارتفاع التكلفة الاستثمارية ومزيد من المخاطرة الرأسمالية، وتعني في نفس الوقت مزيد من الأرباح للشركات الضخمة المتعدية الجنسيات (التي تزوده بالغالب الأعظم من المدخلات، ويطالب الإخوان باحتكارها للمخرجات عن طريق الإنتاج من اجل التصدير للسوق العالمي، بدلا من الحكومة القومية).  هذا يدفع المزارع الصغير إلى الإفلاس المحتوم وبيع الأرض، إما لتجريفها والبناء عليها وهو الأرجح، وإما للمالكين الأكبر.  أجندة الإخوان الزراعية هي تعميق للمشكلة الزراعية التي تطال الأغلب الأعم من سكان الريف في مصر، من المستأجرين الصغار والمالكين الفقراء، وتدفع بالملايين منهم إلى البطالة تحت دعوى التحديث.

أما الحديث عن (ملكية الدولة بالنسبة للمرافق العامة، والمنشآت الحيوية) – (تقرير مسئولية الدولة في حماية النظام الاقتصادي) – (ولكننا ضد الهيمنة والتبعية التي تهدف إليها حركة العولمة المعاصرة)، فهذا من قبيل لغو الكلام الذي ينقصه الأساس الذي يقوم عليه.  بل انهم حتى يسارعون بالتماس الأعذار قبل أن يصدقهم احد، فيقولون، "نؤمن بضرورة إقامة المشروعات العامة الكبرى، شريطة دراسة متأنية لجدواها الاقتصادية، والتمويلية والفنية، ومشاركة عامة في الإحاطة بها ودراستها واعتمادها".   يا سلام!

 

بنود المبادرة: سادس وسابع اهتماماتهم - مجال تعليم وبحث "باول" العلمي ومجال أزهرهم:

مرة اخرى يخرج وجه الفنان القدير ملحا من بين السطور.  ولا يتبدى وجه الفنان الشيخ ماكرا مستخفا بهذا الوضوح قدر تبديه في هذا المجال، بل قل المجالين.  الشيخ يستهل حديثه بهمهمة كلام ناعم ملفوف بغلالة من الحكمة التي تبعث على التخدير: 

"التعليم والبحث العلمي هما وسيلتا أي تقدم مأمول... لا تبخل الدول المتقدمة بالمال والتدريب والإعداد وتوفير الأبنية والمكتبات والملاعب والمعامل والأجهزة على أجيالها "الراغبة في التعليم"، ولما كنا نريد أن نلحق بهذا الركب وجب علينا أن نهتم بالتعليم معلما ومنهجا ومعهدا أو مدرسة"

كلام جميل.  ولكن ما هي حكاية "أجيالها الراغبة في التعليم"؟  هل يوجد احد في مصر الآن، كائنا من كان: ثريا ام بسيطا، لا يرغب في تعليم أولاده؟  سوف تكون الإجابة "بنعم"، في حالة واحدة: حالة الفقر المذل...  وهو قادم [الفقر]، ليس فقط على يد الإخوان إذا جاءوا، ولا على يد النظام القائم إذا عدل من نفسه واستمر، بل على يد النيوليبرالية العالمية التي تحطم الحواجز القومية والاقليمية، وتفرض آليات السوق الرأسمالي الحر، بينما يكرر أجندتها كلا الطامعان فيما يبقى من الجثة بعد تعفنها!

الإخوان لا يتحدثون عن تعليم أساسي إلزامي (في طول وعرض الـ 18 بند مدني ولا حتى الـ 8 أزهري)، ولا يجددون التأكيد على مسئولية اجتماعية – يفرط فيها النظام القائم قطعة، قطعة - لضمان تعليم كل أفراد المجتمع - مجانية التعليم لم يرد لها ذكر في مبادرة الإخوان!   فالإخوان يطرحونها هكذا: من لا يستطيع منكم تحمل تكاليف تعليم أولاده في أي من القسمين – المدني أو الديني – سيجد بديلا في وعد غامض من الإخوان بـ "العمل على معالجة جادة لمشكلة الأميّة بطريقة عملية ونهائية".  وهو حديث كحديث عاطف عبيد عن خطة قومية لمحو الأمية في خمس سنوات، مضى منها عام دون أن يدري بها احد.  رياء، ومزايدة على عار الأمة!!  [راجع نص مبادرة الشرق الاوسط الكبير الذي نشرته جريدة الحياة اللندنية]

لن تعرف المقصود تماما إلا بعد أن تقرأ بنود مجال الأزهر أيضا.  تستطيع بعد عقد مقارنة بين المجهود الذي يتعهد الأخوان ببذله في المجالين أن تصل إلى مراميهم الحقيقية.  فالمحصلة النهائية لموقف الأخوان من المجالين (18 بند تعليم مدني و8 أزهري)، هو انهم سوف يقسمون التعليم في مصر إلى قسمين؛ قسم تعليم مدني علماني متروك لباول (وزير الخارجية الأمريكي) وللقطاع الخاص إياه، ومن لديه "الرغبة" في هذا التعليم، عليه ان يدفع بالكامل ثمن إشباعها! (تدبر اللفظ الذي يستخدمه الإخوان)، وقسم تعليم ديني يقع تحت طائلة الإخوان، مدعوم من حكومتهم الليبرالية. 

تدخل الإخوان في قضية التعليم المدني هو تدخل كسول، فاتر الحماس، يستعير خطابة وكلاء ومستشاري وزارة التربية والتعليم الحاليين – في زمن وزارة عضو منظمة الشباب والتنظيم الطليعي القديم، وأستاذ الجامعة وطبيب الأطفال النابغة - نقلا عن أحدث النظريات التربوية وتطبيقاتها من دول العالم المتقدم.  ولأنه نقل بليد، فهم –والإخوان- لا يبصرون أي سياق مختلف عن سياق المؤسسة التعليمية الاستبدادية التي وضعها دنلوب في أول القرن الماضي، وتستمر به حكومات يوليو من الضابط كمال الدين حسين حتى الدكتور حسين كامل بهاء الدين!  الإخوان يبيتون النية لبيع قضية التعليم المدني وإسقاطه عن كاهل دولتهم البرلمانية.  والدليل....

أول وثاني بنود الإصلاح الـ 18 بلغ من استخفافها بالقضية الحد الذي يوقع بجماعة الإخوان المسلمين في جريمة سب علني لفئة المدرسين في مصر قاطبة.  الإخوان ينظرون إليهم على أنهم فئة فسدت [المدرسون] بسبب ظروفهم الاقتصادية الرديئة التي يضعهم فيها إجحاف وظلم الحكم العلماني القائم، مما يضطرهم إلى بيع ضمائرهم والإخلال بواجبهم الوظيفي داخل الأبنية التعليمية، فيجبرون التلاميذ على الذهاب إلى سوق الدروس الخصوصية السري المنتشر كالنار في عموم مصر. 

نحن لا ندعي عليهم بالباطل!  كلامهم بالنص، في أول البنود الـ 18 هو كالتالي: "1. تحسين أوضاع المعلمين الوظيفية والمادية حتى يستغني المعلم بدخله الرسمي من وظيفته عن الحاجة للدروس الخصوصية، فيستعيد مكانته الأدبية والاجتماعية، ودوره الغابر كقدوة ومرب للأجيال".   (تذكر النغمة الميلودرامية المكررة في الأفلام المصرية الرديئة عن الفتاة التي تقع في ضائقة مالية لعلاج أمها المشرفة على الموت، فتندفع إلى المواخير تمارس الدعارة من اجل إنقاذ حياة أمها). 

هذه هي قضية إصلاح التعليم الذي يقوم عليه مستقبل البلد أو أي بلد آخر في نظر الإخوان.  لذلك أول شيء سيقومون به فور توسدهم للسلطة هو رفع مرتبات المدرسين حتى يتوبوا عما يقترفونه من آثام. 

الإخوان يتحدثون عن "التوسع في إنشاء الكتاتيب والحضانات..." في مجال التعليم الديني (8 بند)، ولا ذكر للتوسع في مدارس التعليم المدني (18 بند)، سواء ببناء الجديد أو إصلاح الآيلة للسقوط، لحل مشكلة نقص أعدادها الفادح (العدد بعشرات الالاف مدرسة جديدة أو يجب تجديدها في أكثر الروايات تفاؤلا لقوائم الانتظار)، مما يجعلها مكدسة بالتلاميذ، مكدسة على مرحلتين وثلاث، فتصبح عقبة كأداء تقضي على أي احتمالات لتطوير مناهج حديثة أو لتطبيق برامج تعليمية متقدمة، أو أي عملية تعليمية من الأصل.   فهذا هو السبب الأهم في تفشي الدروس الخصوصية، ليس في مجال التعليم الأساسي وحده، ولكن لاستفحالها أيضا في مجال التعليم الجامعي.  تلك الأسباب الثانوية الأخرى - التي قد يكون من بينها ضمائر "بعض" المدرسين التي تضطرها حاجتهم إلى المال - ليست بالجديرة لأن تتصدر البنود، لولا أن الإخوان لا يهتمون بالتعليم المدني أساسا.

·        ملحوظة لصوت ضعيف: نحن نصر على أن الإخوان يستخفون بموضوع التعليم، ولا يهمهم في شيء، لولا أن باول تحدث عنه وتم التركيز عليه في أجندة إصلاح الشرق الأوسط.  لأن في المقابل، يمكننا أن نسأل: لماذا لم تتصدر بنود الرعاية الصحية في مبادرة الإخوان، إذا استخدمنا نفس منطقهم، حكاية رفع مرتبات الأطباء، مثلا، حتى ننهض بخدمات الرعاية العلاجية المتردية في المستشفيات الحكومية، تحت دعوى أن ظاهرة قد اتسعت بتكاسل بعض الاطباء عن أداء واجبه الوظيفي داخل المستشفى الحكومي لصالح عيادته الخاصة أو لصالح المستوصف الخيري الإسلامي الذي يعمل به بعد انتهاء أوقات عمله الرسمي!!  لأن طرح القضية هكذا مغلوط من الأساس.  فلا يستطيع احد حل مشكلة بان ينتقي عرضا لسبب المشكلة - كبيرا كان أم ضئيلا - ويترك أسبابها الحقيقية تشيع أنواع الفساد في نظام خدمي بيروقراطي احتكاري، وقوي، لا يحاسبه احد، ولا حتى أعضاؤه المنتسبون له في نقابات يسيطر عليها، بالتعاون مع الحكومة، قيادات من جماعة الإخوان المسلمين.

الإخوان يتحدثون عن، "الاهتمام بالكليات الأزهرية المدنية حتى تخرج الطبيب والمهندس والمحاسب.. إلخ الداعية الذي يدعو إلى المعروف بلسانه وكيانه وسلوكه كما كان مستهدفا منها"، ولا ذكر من الأصل للتعليم العالي المدني (الكليات والمعاهد والجامعات) في البنود الـ 18!

الإخوان يتحدثون عن "إعادة أوقاف المسلمين إلى هيئة أوقاف مستقلة عن ميزانية الدولة، وصرف عوائدها فيما أوقفت عليه، وبالذات مخصصات الأزهر ومرتبات شيخه وعلمائه وطلبة العلم فيه"، كمصدر قوي لتمويل تعليمهم الديني، بينما يترك التعليم المدني عاريا في مهب الريح مع وعد هزيل منهم بزيادة مخصصات التعليم في ميزانية دولتهم التي سوف تصبح بلا موارد سيادية كافية بعد برنامجهم المدروس للخصخصة.

إنه هراء من يتحدث في قضية لا تعنيه. ويردد أفكار الغير حتى يطمئنهم لإمكانية أن يلعبوا دورهم المطلوب بإجادة.  فعشق السلطة والسلطان جعل ضمائرهم تموت عن أهم ثروة ذات إمكانية حقيقية تمتلكها البلاد؛ البشر.   بفضل البشر، فقط، قد نستطيع الخروج من الأزمة الحضارية الخانقة، بشرط تنميتها تنمية حقيقية على أسس يوفرها تفكير علمي ديموقراطي متنور. الإخوان المسلمون لا يلتفتون مثلا - هذا إذا كانوا مسلمين حقا - إلى تجربة ماليزيا ذات الأغلبية المسلمة، التي كانت منذ 25 سنة في مثل حالتنا من التدهور الاقتصادي والاجتماعي، وتعدادها السكاني الآن يفوق تعدادنا المحسودين عليه، واعتمدت لنهضتها، من بين ما اعتمدت، تطوير نظاما تعليميا مدنيا تحسدها عليه كثير من دول الشمال الغني!

 

بنود المبادرة: بنود اخرى...

لو كنت في مكان الوحوش الضارية التي تحكم العالم وتحكمنا، وقرأت هذه المبادرة، ستصاب بالقرف من كم الرياء والنفاق في هذا الحماس للخدمة.  ستصاب، كوحش ضار، بالدهشة من كم الزيف والخداع الموجه للجميع بما فيهم الوحوش الضارية نفسها. 

اقرأ ما يقترحونه لعلاج الفقر!  اقرأ ما يقترحونه في المجال الاجتماعي والثقافة والرعاية الصحية!  اقرأ موقف الإخوان من المرأة، ومن "الإخوة" الأقباط!  لا يزيد ولا ينقص عما تلوكه وسائل إعلام النظام القائم الآن من زيف.  وإذا زاد ففي الاتجاه الأكثر جهامة، وتسلطا، وحجرا على بهجة المعيشة. 

كان أفضل رد على الإخوان هو تعليق قرأته لأحد أعضاء مجموعة "التقدم" الحوارية بالانترنت؛ حيث قال ما معناه "لا أستطيع أن أوافق على صدق نوايا الإخوان الليبرالية، إلا بعد أن يعلنوا موافقتهم على إمكانية أن تتولى امرأة مصرية قبطية رئاسة الجمهورية في مصر لو جاءت بها الانتخابات".  كان ردا وافيا سريعا كالطلقة على ريائهم الخبيث.

هل بلغت كراهيتهم للأقباط والمرأة هذه الدرجة التي لا يستطيعون بها حتى التظاهر بالأريحية التي يتظاهرون بها في موضوع الجمهورية البرلمانية الدستورية؟  (يعني بالمصري: ’عزومة مراكبية‘).  فمن يقول أن في مصر، اليوم او في المستقبل القريب، تلوح أي بارقة أمل لإمكانية أن تنتخب الأغلبية المسلمة، ذات الثقافة الذكورية العميقة، امرأة مصرية قبطية لمنصب رئيس الجمهورية!  ولكن الإخوان يرفضون حتى الإيهام بالفكرة، ويطلقونها قاطعة: ما عدا "ولاية المرأة".  هذا في الوقت الذي يلتمسون فيه، وغيرهم من المشايخ والملالي، مجازا، السبل إلى أبواب "كونداليسا رايس".  فما أعطوه من حق الانتخاب والترشيح للمرأة في مبادرتهم ليس بجديد، ولا ينسب إليهم الفضل فيه، بل ينسب الفضل لأمهاتنا أو حتى لأمهات أمهاتنا.  ربما لو صدقت نياتهم كانوا يطالبون بذلك للنساء المسلمات قاطبة (زعماء الدولة المسلمة التي تقود باقي الدول المسلمة!)، أو حتى لا نصعب الأمور عليهم، فليطالبوا فقط بحق المرأة السعودية في قيادة سيارتها.

إنهم يحملون الود المعسول زيفا للأقباط، ما داموا أهل ذمة، وكل ما قدموه لهم في المبادرة هو انهم سكتوا عن مطالبتهم بالجزية!  فلا حديث عن كسر القانون الغير مكتوب – الذي تسير عليه دولة القوميين العلمانيين أيضا – القاضي بمنع تولي المناصب العليا والسيادية بسبب النوع أو الدين.

المبادرة في الأخير تهافت رخيص على خدمة نهابي ثروات الشعوب في شكلهم "النيوليبرالي" العسكري الجديد، على حساب شقاءنا.  وهي مبادرة متهافتة لا تخدع احد، وواضعيها ينطلقون من نقطة استسلام للانهيار والهزيمة، وليس من موقف صحوة ونهوض.  فلا شيء فيها أصيل، وينم عن امتلاكهم لرؤية ما يستطيعون بها ولو حتى تسكين آلام الجسد العليل إلى حين.  فضلا عن أنها مبادرة مطلبية، تدعي حقا وتنتظر؛ ليس بها دعوة للناس من اجل التحرك ولو في اتجاه واحد ولو لخطوة واحدة، لتحقيق مكسب ولو ضئيل للتغيير للأفضل.  إنها إحباط قوة سياسية أخذت تهذي بعد كبتها لعقود طويلة، وبعد ما ضجرت مما تلاقيه من عنت في الأسلوب الشحيح لتوزيع الأنصبة شفويا، ودون قواعد ملزمة.  المبادرة تلتقط فرصة سانحة لتكيد للنظام القائم وهي اعلم منه بتواضع وزنها في مواجهته وحدها، فتجأر بالشكوى للقوي الجبار حتى يسخر لها إنصافا مما تلاقيه!

وهو تطور في الاتجاه السلبي لقوى كانت تعبر عن منحى واضح في ثقافة الأمة، لا يوجد ما يعيق تطورها لان تكون دافعا لتقدم ونهضة الأمة، سوى قيادات مجبولة على الاستبداد والاستهانة المفرطة بالآخر.

ولولا ضبابية الموقف وزلزلة الأرض تحت أقدام العتاة الذين يستبدون بنا منذ خمسين عاما أو يزيد، لحملنا بشرى لهم كالبشرى التي حملها جرير لمربع:

زعم الفرزدق أن سيصرع مربعا                    فابشر بطول سلامة يا مربع

الإخوان لا يهددون السلطة، فالوليمة بالكامل – شعوب المنطقة ومن بينها نحن بلا أي دفاع هم الوليمة - على مائدة سادة العالم، ويقف الخدم والحشم يتنافسون ويتشاحنون بصوت مكتوم، في انتظار من يشيرون إليه ليقوم بالخدمة، والمقابل كما يعرف الجميع سيكون شحيحا.  الجميع، بما فيهم نحن وقود النيران، ينتظر بدء مذبحة اللئام!!