اليسار الماركسي والمقاومة


عمار ديوب
2009 / 2 / 2 - 08:32     

لا تغري المقاومة الدينية الطائفية أية مجموعة علمانية أو دولة ذات نظام وطني، فهي ذات برنامج اجتماعي رجعي ومتخلف وذات نظام سياسي إستبدادي، وكل ما يخص الحداثة من مواطنة وديموقراطية وعلمانية تعتبر بالنسبة لها رياح إستعمارية دينية تهدد كيانها وكيان أمتها. وبالتالي ليس هناك مشروعية تاريخية لهذه الحركات إلا من زاوية سد الفراغ وتعبئة الزمن الذي لم تعد القوى القومية أو الليبرالية أو الماركسية تملأه. هذا يعني أن سطوع التيار الديني بشقيه المقاوم والسياسي المحافظين بالضرورة عائد إلى فراغ تاريخي يتطلب تعبئة ما، فكان ذلك التيار.
أي أنّه، استند إلى قضايا لم يطرحها التيار الحداثي، أو تخلى عنها أو كان يطرحها بشكل جزئي، لذلك لا بد للتيار الحداثي من العودة مجدداً إلى تبني برنامج النهضة العربية، وهذا يتجاوز بالضرورة الدولة العربية القطرية باعتدالها المفترض وبممانعتها الايدييولوجية لا أكثر. مشكلة قسم من تيار الحداثة ولا سيما الليبرالي منه وقسم من اليسار في أنه يرهن نفسه، إما لمشاريع جزئية تتعلق بهدف جزئي، وإما أنّه متصالح مع تحالف دولتي عربي يدعي الاعتدال، بينما هو يشكل حلف برجوازي يسعى نحو تأبيد سيطرته الطبقية وتأهيل نفسه، كي يكون جزء من مشروع عولمي إمبريالي، يسمح ويتيح له الدوام، بعد أن تفسخ أكثر مما يحتمل.
هذه الوضعية تفترض بالضرورة أن تعيد كل تيارات الحداثة النظر العميق في معطيات الواقع العربي والدولي كي تستطيع تحديد موقفها بعيداً عن التخندق في رؤى ومشاريع لم تعد ابنت عصرها أو لها مبرر تاريخي فعلي سوى غياب قِوى حداثيّة جادة.
القوى الحداثية التي يستدعيها الواقع هي قوى الليبرالية وكذلك قوى اليسار وما بينهما من قوى قومية ووطنية وحقوقية ومجموعات ذات برامج خاصة كالمجموعات النسائية وسواها.
اليسار الذي يستدعيه تعقدات الواقع هو يسار نقدي، يتجاوز رؤى اليسار التاريخي الإصلاحيّة، نحو دور مركزي له، وتحالفات طبقية وسياسية بما يؤدي إلى تحولات عميقة تقدمية في الواقع. رؤيتنا هذه له، تنطلق ليس من وجوده العياني، فهو شديد الغياب، وما يحضر منه، ورغم سمة التعميم هنا، يكاد لا يبارح التاريخي منه. وبالتالي رؤيتنا تستند لموقعه الموضوعي في واقعنا وليس لوجوده العياني. أي أن وجود رؤية يسارية وماركسية وبرنامج يساري ويساري ماركسي هو ضرورة تاريخية كي يستطيع الواقع التحرك نحو أفقه التقدمي، خاصةً وان تعقد مشكلات الواقع وتغيّر معطياته، كتراجع النظام العربي عن إدعاءات الوطنية أو القومية أو الديموقراطية أو حتى الليبرالية، أو المقاومة. يتيح لهذا التيار، التقدم. وفكرتي هنا، تفترض أن الأنظمة العربية كانت تسحب البساط من تحت أقدام الرؤى الماركسية لأنها كانت تقدم شيء للشعب، أما وأنها أصبحت عارية بيمينيتها أو "يساريتها" فإن الطريق نحو تلك الرؤى أصبح معبداً بتعقيدات وتعميق المشكلات. وبالتالي اليسار لا يتقدم على أرضٍ كثيرة التماسك بل على أرض رخوة ومستنقعية بكل قوى ما قبل الحداثة، وإمكانيات الانحراف نحو رؤى برجوازية إمكانية قائمة وكثيرة الحضور. وربما تطرح هنا أسئلة على اليسار المفترض من قبيل، لماذا لا يزال اليسار غير حاضرٍ، ولماذا لم يعلن عن نفسه، ولماذا لم يتقدم في ساحة الصراع. كل هذه الأسئلة صحيحة وصائبة. وهي تفترض انّه لا يزال في طور الأسئلة وربما الوجود الفردي وربما لا يزال ملتبساً مع رؤى أخرى، ولذلك لا بد له وهو يشكل نفسه، من أن يعى تعقد كل ذلك نحو تمييز ذاته كرؤى وبرامج وممارسة عملية وأحزاب ماركسيّة.
قولنا أنّه بالضرورة نقدي، يفترض مسبقاً الاطلاع العميق على مشكلات الواقع وتكوين رؤية عميقة للواقع العربي وللواقع الدولي، كتشكيلة عالمية واحدة، دون افتراض قطيعة أو انفصال لسبب أو لآخر، وبالتالي رؤية اليسار بالضرورة رؤية تتجاوز ما هو إيجابي في عالم اليوم، وتستند إليه نحو عالم أفضل.
العالم الأفضل عربياً سيواجه بأنظمة تمنع حضوره، وبالتالي لا بد لذلك اليسار من خوض مواجهة معها، ومع الامبرياليات العالمية، التي هي جزء من العالم التابع لها، وباعتبار إسرائيل قلعة متقدمة لتلك الامبرياليات لا بد من موقف واضح بخصوصها، خاصة وأنها كانت القوة التي ترصد وتفني كل حركة يسارية متقدمة وتمتلك رؤية تتجاوز رؤى قوى اليمين العربي ويعاونها-لاسرائيل- في ذلك الأنظمة العربية الشديدة الحساسية لكل قوى تمتلك مشروع تغييري.
واقع الدول هذه يفترض تأبيد ذاتها بصورة دائمة، واستخدام كل الطرق الممكنة والمشروعة وغير المشروعية من أجل تلك الأبدية..! وبالتالي رؤية الواقع تفترض عدم بناء الفكر على معطيات محدودة أو متسرعة، والوصول إلى رؤية عميقة، تستدعي وتتطلب قراءة ما تمّ من مشاريع نقديّة له، وهضمها في سياق تشكيل الرؤية اليسارية الماركسية.
وسأكتفي في هذا المقال بالرؤية الماركسية للمقاومة ضد الاحتلال: إن وجود الاحتلال يفترض، وجود المقاومة، والوقوف معها ضد الاحتلال. الوقوف مع المقاومة مشروط بكونها ضد الاحتلال. وقد تمتلك القوى اليسارية رؤى مختلفة حتى بالنسبة للمقاومة. وبالتالي الموقف المؤيّد لها، لا يعني عدم وجود شكل مختلف عنها في المقاومة، وأما أوجهها الأخرى من إجتماعية وإقتصادية وسياسية وثقافية وغيرها، فهي مشاريع خلافية بامتياز خاصة إذا كانت المقاومة ذات طبيعة طائفية. رصدنا لها كما لحركات الإسلام السياسي يظهر وجود خلاف معها، ولكن وعودة إلى المقاومة الدينية الطائفية، فإنها كانت دائماً ملتبسة الحضور، بمعنى أنها مدعومة من أنظمة استبدادية وأحياناً من أنظمة إقليمية، وبالتالي مشروع المقاومة ليس مشروع وطني بقدر ما هو مشروع سياسي طائفي، ولكن ومجدّداً، كونها مقاومة لا بد من الوقوف إلى جانبها، وكونها سلطة أو مشروع سلطة لا بد من الاختلاف معها ومصارعتها. وهي دون أدنى شك تخوض صراعاً مستديماً كي تأبد رؤاها ضد قوى الحداثة بكليتها، عدا عن صراعاتها مع السلطة القائمة، وهو ما لا يزال فاعلاً في لبنان وفي فلسطين، وبغض النظر عن كون سلطة تلك الدول سلط وطنية أو تابعة أو طائفية أو مجرد قوى امن لقمع الفلسطينيين، ومشروع لبعض مافيات منظمة التحرير.
المقاومة إذن وكموقف ماركسي ضرورة تاريخية ما دام الاحتلال موجوداً وهي قضية مشروعة وعادلة دولياً وليس بهذا جديد. تلك المقاومة لها أشكال متعددة ويجب أن تخاض بكليتها وبما يتناسب مع شروط الصراع، الصراع هنا ليس ضد الاحتلال فقط بل وضد الأنظمة العربية التي تمنع وجود مقاومة إلا ذات طبيعة دينية.
اليسار كان سباقاً إلى المقاومة، وإذ تراجع عن خوضها، فهذا يعود لأسباب ذاتية في اليسار وإلى أسباب موضوعية، أي تكالب الأنظمة ضده وكذلك المقاومة الدينية ذاتها، وبالتالي، وجود اليسار الفاعل يتطلب وجود موقف من مقاومة الاحتلال لا لبس فيه، ربما في ظل الاحتلال، على اليسار عدم الانخراط في سلطات تنفيذية والاكتفاء بسلطة تشريعية أي يكون جزءاً منها إن تمكن، ومن اجل نشر رؤاه وبرامجه.
في حالة دولة إسرائيل أو وجود الاحتلال الأمريكي في العراق لا بد أن يتبنى ذلك اليسار المقاومة الوطنية الشاملة، والتخلي عن كل منصب تنفيذي حكومي، وعدم مهادنة الاحتلال، إلى حين زواله. هذا بما يخص العراق، ولو لم يفعل ذلك كيف سيبرر إنحيازه للفقراء وإنصافهم من اجل واقع متقدم. وبما يخص فلسطين، فإن المقاومة جزء من برنامج اليسار وكذلك رفض وجود دولة فلسطينية، إلى جانب رفض وجود دولة إسرائيلية؛ فإسرائيل بوجودها الحالي دولة عنصرية استعمارية. وبالتالي لا بد من مقاومتها، وهذه ليست مهمة يسارية فلسطينية فحسب بل مهمة اليسار العربي برمته. أي أنّ الحل الممكن فلسطينياً للصراع هو وجود دولة واحدة لكل من الفلسطينيين العرب واليهود من غير الصهاينة، ولهم، إن غيروا من طبيعتهم العنصرية. ضمن هذا الإطار يصير على اليسار الفلسطيني كي ينسجم مع نفسه، كقوة ضد الاحتلال أن يكون ضد وجود دولتين إلى أرض فلسطين، ويصير على اليسار العربي، أن يرفض كل ما له علاقة باتفاقيات السلام، دون لبس، ورفضه ذاك يتطلب منه خوص صراع ضد الأنظمة التي تعقد الاتفاقيات، والسعي نحو نظام ديموقراطي علماني وطني، يسمح بنشوء مقاومة وطنية وواقع متقدم، فالديمقراطية ليست من اجل رفض الاحتلال بل من أجل تقدم الشعب كذلك، وأيضاً الوطنية بدون ديموقراطية لن تفضي إلى مقاومة وطنية، وربما ستتحفنا فقط بأنظمة استبدادية.
التدقيق السابق في موضوع المقاومة، ينطلق من كون الدولة الإسرائيلية الاستعمارية هي آخر واخطر من يمثل الامبرياليات العالمية في العالم. وبالتالي تتطلب مواجهتها شروط وقوى وبرامج ورؤى تتجاوز ما هو وطني نحو ما هو قومي دون نسيان الوطني، وتتجاوز ما هو قومي نحو ما هو عالمي، دون الاستناد إليه فقط، وبالتالي تعتبر مقاومة المشروع الاستعماري الصهيوني، من اخطر ما يواجه الأمة العربية والقوى الماركسية في العالم. وهو جزء من برنامجها بالضرورة.
ما تمّ في غزة أخيراً من عدوان إسرائيلي همجي، تطلب مقاومة ثورية، وهذا ما قامت به كل القوى الفلسطينية، وقد قامت الجبهة الشعبية الفلسطينية بمقاومة رائعة ومميزة ضدّه، ورفضت إيقاف إطلاق النار وهذا عمل صائب، وهذا ينطبق على ما أوردته من تحليلاتٍ هامة ولا سيما لجهة رفض الوقوف إلى جانب حماس أو فتح. ولكن ما هو خاطئ في تحليلاتها تلك هو تبنيها، مشروع الدولة الفلسطينية على أراضي ال1967 ، فهذا الموقف يتجاهل رفض إسرائيل لكل اتفاقيات أوسلو، عدا عن تجاهلها لكل الاتفاقيات ومشاريع الاتفاقيات معها من قبل العالم العربي. والوقائع على الأرض أكثر من أن تتطلب الشرح. وبالتالي ورغم عظمة ما قدمته هذه الحركة تاريخياً وفي غزّة، فإن مشروعها لا يتجاوز مشروع فتح أو حماس في أراضي الاحتلال، أي سلطة على الشعب وتحت الاحتلال!. ولذلك، ربما ستربح قليلاً من التأييد الشعبي ولكنها ستخسره سريعاً ما لم تتجاوز رؤيتها الضيقة نحو رؤية فلسطينية تجبّ رؤية الدولتين نحو تبني رؤية الدولة الواحدة، وهذا ليس بالمعنى المستقبلي كما يشير البعض بل كجزء من برنامج سياسي وخوض كل الصراعات ضمن ذلك السياق وانطلاقاً من وجودها في كل أصقاع الأرض.
فهل نستطيع بعد كل ما حللناه، تشكيل موقف واضح من مسالة المقاومة والاحتلال والماركسية، هذا ما سعى إليه هذا المقال.