محمود أمين العالم: مناضل من الزمن الجميل


صالح سليمان عبدالعظيم
2009 / 1 / 19 - 07:41     


هناك بعض الوجوه التي نعهدها دائما كبيرة في العمر مثل وجه الممثل الراحل عبد الوارث عسر. فمهما تقلبت بها السنون نطالعها على الشاكلة والهيئة نفسها. وبالمثل كان وجه الراحل العظيم محمود أمين العالم، على الأقل بالنسبة لي. فعبر سنوات طويلة من متابعة الكثير من ندوات ومناقشات الرجل بدا لي ثابتا في الشكل والملامح التي تعاركت مع الكثير من الأحداث والتغيرات المختلفة.
في المرات القليلة جدا التي رأيته فيها، لم تكن تفارقه تلك الابتسامة العريضة التي بدت كما لو كانت لصيقة به. أغلب الظن أن الرجل لم يكن يعبث أو يكشر أبدا في وجوه الآخرين، رغم حدته في المناقشة، ورغم تلك الروح الشبابية الأقرب للنضال في نقاشاته المختلفة.
لكن الرجل بدا لي كبيرا ليس فقط في عمره بقدر ما بدا كبيرا وعظيما في أخلاقه وطريقة النقاش معه. فلم يكن ديكتاتوريا في فرض آرائه على المحيطين به، كما كان رقيقا جدا مع الأجيال الجديدة الأصغر منه بعقود بعيدة. فلم يكن إيمانه بأفكاره مثل هؤلاء الأكاديميين وغيرهم من المثقفين الذين يدجنون من هم أصغر منهم، ويمارسون عليهم ذلك القدر من الاستبداد والهيمنة الفكرية الأقرب للممارسات الحزبية السياسية.
ورغم الاتهامات التي يلصقها البعض باليساريين والماركسيين من جمود وتراتبية حزبية، فقد كان "العالم" أبعد ما يكون عن تلك الاتهامات والخصال. لقد ارتبط برحابة الماركسية ومشروعها الإنساني المرن الباحث عن العدل والأمان في شموليته وتنوعه. وربما يشهد على ذلك التنوع الهائل في كتاباته التي جاءت مواكبة لمجمل التغيرات العالمية المختلفة، سواء في مجال الكتابات الفكرية أو النقدية أو الفلسفية مثل: "في الثقافة المصرية" 1955، "تأملات في عالم نجيب محفوظ" 1970، "الوجه والقناع في المسرح العربي" 1973، "ثلاثية الرفض والهزيمة: دراسة نقدية لثلاث روايات لصنع الله إبراهيم" 1985، "الماركسيون العرب والوحدة العربية" 1988، و "مواقف نقدية من التراث" 1997.
كان "العالم" مثقفا موسوعيا بمعنى الكلمة، تحركه نوازع الفهم الموضوعي للواقع المصري والعربي والتحولات المختلفة التي تواجهه. كما كان محاربا مشاغبا يثير الكثير من المعارك الثقافية والفكرية المختلفة، سواء مع أبناء جيله أو مع الأجيال الأسبق عليه مثل معاركه مع العقاد وطه حسين. ولم تكن معاركه مفتعلة بقدر ما كانت تؤسس لتيارات فكرية جديدة تثير النقاش والجدل، وتؤسس لمدراس فكرية واعدة وراسخة في الحياة الفكرية والنقدية المصرية.
ولم تكن تلك الكتابات العديدة تدور هكذا غير متسلحة بمنهج وضابط علمي حقيقي، بقدر ما انطلقت من المادية الجدلية التاريخية بطروحاتها النظرية المختلفة التي أسست للعالم ذلك القدر المتواصل عبر ما يزيد على نصف قرن من التعامل مع الظواهر المختلفة، والقدرة على تحليلها وتفسيرها. ولا يعني ذلك التخندق في إطار النظرية، كما فعل بعض الأتباع والمريدين، بقدر ما يعني استلهام حيوية الفكر الماركسي التي ارتكزت بدرجة كبيرة على التصور الجدلي لحركة التاريخ، والاستناد لفعل التغيير، وعدم الارتكان لنهاية ما للواقع المعيش. فطالما استمرت المجتمعات البشرية، واستمرت الطبقات الاجتماعية، تصاعدت قدرة الإنسان على الحركة والتغيير والنضال من أجل بناء عوالم جديدة أكثر إنسانية وحرية وعدالة.
ولعل ذلك يفسر تلك الروح المتفائلة دائما التي انطوى عليها "العالم"، ولم يتخلي عنها أبدا في أحلك الأوقات التي حبسته فيها مصر عبد الناصر والسادات في سجونها ومعتقلاتها الأشد شراسة. كما أن هذا التفاؤل والإيمان بحتمية التغيير وحركة الشعوب هو الذي جعله يدافع عن عبدالناصر ويصر على وطنيته وإخلاصه لشعبه ووطنه وأمته. وكما عبر غالي شكري في كتابه "النهضة والسقوط" حينما بيّن كيف أن المثقفين كانوا ضد ديكتاتورية ناصر لكنهم كانوا مع مشروعه الوطني العروبي، قسم مع وقسم ضد، حالة من التناقض الوجداني عايشها معظم مثقفي الستينيات ممن ارتبطوا بالمشروع الناصري واكتووا بناره في الوقت نفسه.
لقد كان التفسير الجدلي وحضور التاريخ عند "العالم" خير هاد له ليميز عبدالناصر بوصفه زعيما وطنيا مضادا للاستعمار ومرتبطا بشعبه، وبشكل خاص الفقراء منه الذين ما زالوا يذكرونه بكل خير وتبجيل واحترام. لم يخن ناصر مصر، ولم يخن المصريين، لذلك ظل في ضميرهم حتى الآن. ومثلما كان الزعيم وطنيا ومخلصا وشريفا كان "العالم" عبر مشروعه الماركسي مدافعا صلبا لا يلين عن حقوق الفقراء والعمال والمطحونين. وهنا تكمن عظمة النظرية حينما تلتحم بالواقع وتتضافر معه، عبر ذلك الطوفان من البشر التواقين إلى العدل والحرية والمساواة، التي لن تتم بأي حال من الأحوال إلا بالقضاء على القوى العالمية المهيمنة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والصهيونية الفاشية.
لا يطرح "العالم" أية أطر عنيفة في مواجهة تلك الهجمة الأميركية العدوانية على الحضارات البشرية المختلفة، لكنه يرى إمكانية تحقيق ذلك "بالمواجهة العقلانية النقدية الحقة والامتلاك المعرفي والعملي لحقائق العصر ومنجزاته العلمية والتكنولوجية، والتضامن العلمي مع كل القوى الفاعلة المنتجة والمبدعة والمجتمعات المدنية والديمقراطية والهيئات والتنظيمات الشعبية والوطنية والدينية المستنيرة والاشتراكية والتقدمية". رحم الله محمود أمين العالم وأمدنا ببعض من تفاؤله الذي نحتاجه هذه الأيام في كربنا العربي الحالي.