حكايات عن نساء في غزة


صائب خليل
2009 / 1 / 16 - 07:15     

اقل من الموت ... أقل من الحياة.
بعد ما ارسلته بالإيميل في المرة الأولى، فضلت السيدة أماني أبو رحمه ان تستمر في نقل صورة الوضع المأساوي في غزة الينا هذه المرة بشكل قصتين تنبعان من الواقع المعاش في ذلك الجحيم ألإنساني مباشرة.

(1 )
نعمة ولمى

وحيدة في منطقة إلى الشمال من غزة , تعيش نعمة , امرأة في الخمسين من العمر , مع ابنتها الوحيدة . مراهقة مدللة ... ولا رجل في البيت.
نعمة تقرأ أذكار الصباح والمساء وتؤمن بالقضاء والقدر وتعرف منزلة الشهيد عند الله ولكنها لا تريد أن تموت وتترك لمى وحدها ولا تريد للمى أن تموت وتعيش بحسرتها . يمكن للجنة أن تنتظر قليلا.
تشهق المرأة مع كل قصف , وترتجف الصبية الدلوعة. يهرب الدم من وجه نعمة المتغضن... ربما أكثر مما يجب.
وفي ليلة مجنونة , السادسة في مسلسل "الرصاص المسكوب". كانت المجرات المخبولة تواصل عراكها الليلي فتتناثر نجومها وكواكبها صرعى وتنشر حممها اللاهبة على سكان غزة .ولولا لطف الله لسقطت السماء على الأرض كسفاً وقضى كل من في غزة نحبه. لكن الله يفعل ما يريد.
خلف البناية -حيث تسكن أم لمى- أرض فارغة تتصل شمالا بمنطقة العطاطرة التي احتلتها إسرائيل منذ الساعات الأولى من عمليتها, ولا زالت فيها تراوح مكانها. لا تتقدم خطوة إلا لتتراجع خطوات. حرقت الأخضر واليابس ولا زالت تواصل الحرق.

في تلك الليلة قصفت غربان الفولاذ الأبيض الأرض المحروقة خلف البناية, حيث نعمة ولمى,بخمسة صواريخ متتالية.
لا تذكر نعمة من تلك اللحظات سوى أنها ولمى غابتا في عناق ابيض طويل حتى هزتهما رجفة الحياة حين تدافعت الريح في صدريهما وأنهضت فيهما جسدين منفصلين .
رتقت المرأة خوفها على عجل وعادت إلى الحياة من الموت . ركضت إلى النافذة تستطلع الأمر,( نفعل ذلك بعد كل قصف) .
آه !!!!تهشمت النوافذ في البيت , النوافذ كلها , الزجاج يملأ المكان , احد الأبواب انغلق بإحكام حين انطحن القفل وما يحيط به من خشب .
انشطرت الغسالة إلى نصفين وانخلع باب الثلاجة.
بعد قليل, تساقطت الثريات والعاب لمى فقد استمر البيت يرتج حتى بعد القصف بوقت.

المهم الآن, ولا داعي للإسهاب, نعمة في شقتها بلا نوافذ، ولا يوجد زجاج في غزة كلها منذ ثلاث سنوات. الزجاج بضاعة لا يمكن تهريبها عبر الأنفاق لذلك استغنى عنه الغزيون المتكيفون ببراعة مذهلة مع كل قضاء وقدر.
نعمة في شقتها وفي العراء معاً . خوف وبرد ونباح كلاب وأسراب هواجس .
قطط ضالة تلجأ إلى البيت كل ليلة بلا استئذان .
ما زالت نعمة تحتضن لمى وتتمددان على فراش طويل قرب باب الحمام حيث الممر الآمن كما تسميه نعمة .
تنام لمى أمنة في حضن أمها فيما تقضي نعمة الليل وهي تحدق في الفراغ الأسود حتى تباشير الصباح.
نعمة ,التي ما تزعزع إيمانها لحظة, رفضت أن تغادر بيتها كي لا تهرب من موت محتمل إلى موت محقق كما حدث لكل من غادر بيته .

(2 )
الحاجة رقية.

امرأة في الخامسة والخمسين , عرفتها حين اضطررت للعيش وحيدة مع أطفالي , لم تتزوج قط , تشعر وكأن عيونها من زجاج حين تحدق فيك، وهي تفعل ذلك كثيرا.
أصيبت قبل نحو عام بسرطان الثدي. لم تتأثر كثيرا للأمر, فقد تساوى عندها الموت مع الحياة منذ زمن طويل.
ألححت عليها أن تنتظم بالعلاج بعد أن أجرت عملية الاستئصال. الحاجة رقية تحتاج إلى متابعة دقيقة لأن حالتها ليست مستقرة كما قال الاطباء. فحوصات وعلاج تحصل عليه مجانا من المستشفى الحكومي, وأحيانا لا تجده بسبب الحصار , فتستغني عنه.
غدا, موعد الفحص الدوري. وأنا التي اعتدت مرافقتها في كل فحص خجلت أن اخذلها.
قلت لها : بنروح وبنيجي بسرعة علشان ما اترك الأولاد لحالهم وإذا في فحص بياخد وقت بتركك هناك وبرجع أخدك لما تخلصي .
اتفقنا..
في صباح اليوم السابع من الرصاص المسكوب-( أجندتنا الجديدة)- على غزة , خرجنا أنا والحاجة رقية وتوجهنا إلى مستشفى الشفاء.
غزة كلها في مستشفى الشفاء, جموع غفيرة , أناس يسيرون في كل اتجاه, فيما يسيل الدم من أعناقهم, تتبعهم أقدارهم وهم ماضون باهتون, باردون, مشوهون .
أنوف بلا عيون وعيون بلا آذان بلا وجوه .آخرون يصطفون على جنبات الشوارع الفارغة فيما تعزف عفاريت الأسى الحان الشقاء.
رائحة الموت تملأ المكان وتزكم الأنوف و جثث تتوالى , تقلبها الأيدي ثم تدفعها لمصيرها المجهول . نعم, فقد امتلأت القبور وما عاد في جوف الأرض متسع .
جثث متفحمة , محروقة , فولاذ يخترق طينا ودماء فيفتت الأجساد والعظام , أيد وأرجل , أطفال وأجنة, فتية وكهول , نساء وصبايا . لا فرق .
سيارات إسعاف متوقفة بلا وقود .
"كل ما في غزة يستحق الانصهار" شعار هذه الحرب الملعونة .
اه من أخرج هذا الطاعون من قمقمه؟
لا نوم ولا صحو لا حياة ولا موت هنا.
لكن في ممرات المستشفى يفرد الموت ذراعيه منتشيا , حيث محصوله الوفير و هل من مزيد . أطباء وممرضات نسوا تكاليف الحياة لا ينامون, ولا يأكلون, ولا يشربون, ولا يتحدثون, فقط يعطون إذنا بالدفن ويغادرون.
أمهات يبتلعن حسراتهن ورجال يحملون جثث أبنائهم, يهزونها بعنف عل الحياة تعود إليها .
(اه يا صغيري, يا طري الأجنحة, يا ولدي الأجمل, يا نجمة أسرجت الروح ذات مساء بهي وغادرت في حلكة معتقة يا حبيبي ). وتمضي مواكب الجنائز .
نبحث بصمت عن الممرضة التي تتابع حالة رقية . نلمحها بعد عناء, تركض في الممر وما أن رأتنا حتى انفجرت في وجه رقية صارخة:
" انت؟...مين فاضيلك ؟ مش شايفة اللي احنا فيه يعني أنت أحسن من كل اللي ماتوا"!! تتركنا وتواصل السير في دروب الموت الطويلة .
الحجة رقية وقد كسا وجهها ذهول ممزوج بخجل تنظر إلي بصمت. أشدها لنغادر المكان.

أماني أبو رحمة
غزة
15/1/2009