مابعد الإتفاقية - 2- الخيار الصعب بين إغراء الإستسلام للراحة وفتنة الحرية الإنسانية


صائب خليل
2008 / 12 / 26 - 09:43     

لاتزال طرية في ذاكرتي لقطات رائعة كثيرة من فلم "الفراشة" (1) الذي شاهدته لأول مرة في إحدى سينمات الموصل في السبعينات من قرننا الذي مضى، لكن واحدة منها تبقى متميزة بعمق معناها وفهمها للروح الإنسانية.
فبعد أن يلاقي الصديقان اللذان يمثل دروهما الممثلين القديرين(ستيف ماكوين) و (داستين هوفمان) أشد المآسي والصعوبات التي انهكت جسديهما وعمرهما ونفسيهما، بسبب محاولاتهما الفاشلة في الهرب من سجن ناء في غويانا الفرنسية، ينفيان إلى جزيرة صغيرة في وسط المحيط حيث تترك لهما حرية الزراعة والعيش في كوخ صغير ليقضيا بقية عمرهما. ولأن الجزيرة بعيدة في اعماق المحيط، لم يكن هناك ضرورة لأية حراسة على ما يبدو.

المفاجأة الأولى كانت حين التقى الصديقان القديمان اللذان مرا سويةً بكل تلك الأهوال، نفاجأ بأن (هوفمان) يتهرب من صديقه وينكر معرفته!!
لكننا سرعان ما نفهم ما يدور بخلده. لقد أرتبط وجه صديقه بكل المعاناة التي رآها، وصار يعتبره مسؤولاً عن كل ألآمه. لقد كان (ماكوين) دائماً المبادر إلى الدعوات للهرب، والتي فشلت جميعاً حتى تلك اللحظة ولم تجلب سوى الشقاء في نهاية الأمر، لذا فأن صديقه ينفر منه ويتجنبه خوفاً مما قد يجلب له من مصائب جديدة، وفوق كل ذلك فهو يراه العائق المزعج الذي يحول بينه وبين رغبته الشديدة بالإستسلام بعد كل ما مر به!

بعد قليل يعانق (هوفمان) صاحبه ويقبله صديقاً من جديد، وقد توقع أنه لابد أنه قد رضي مثله بالحياة في الجزيرة وتعب من الهرب.

لكن، وفي صباح يوم ما، يفاجئ ماكوين صديقه بأن لديه "فكرة" جديدة للهرب!!
يهرب هوفمان منه ويلحقه هذا يحاول أن يشرح له منطقية الفكرة وفرص نجاحها. لكن هوفمان كان قد أرهق تماماً، ولم تعد أية أفكار من هذا النوع تثير في نفسه سوى مشاعر وذكريات الأهوال التي رآها فيما مضى، فيهاجم صاحبه غاضباً ويلقي عليه بالأشياء التي تقع تحت يده في حالة هستيرية ولسان حاله يقول: "إبتعد عني، دعني من أفكارك التي تسببت لي بالكثير من الألم، لم يعد بإمكاني أحتمال المزيد من الأهوال".

ورغم أنه كان قد أعد "طوافة" من جوز الهند لكل منهما، يتفهم ماكوين إنهيار إرادة صاحبه، فيطلب منه أن يرافقه لوداعه فقط،.
على حافة الصخرة التي سيقفز منها "ماكوين" بعد قليل في رحلة الحياة أو الموت، يكشف هذا لصديقه سر الفكرة التي ابتكرها من مراقبة الأمواج التي تضرب الصخرة في الأسفل، ويريه مثالاً عليها، فيلقي بكيس مليء بالجوز في البحر ويريه كيف أن الأمواج تحطمه على الصخور، لكنه إن ألقى الكيس في "الموجة السابعة" فأن الكيس سيفلت من هذا المصير بفضل حركة تيارات البحر! وعلى هذا يودع ماكوين صديقه ويقول له أنه عرف الآن السر إن غير رأيه مستقبلاً ويقفز إلى كيس جوز الهند الذي ينتظره في الأسفل، ليعبر به البحر وأخطاره وهو يصرخ شاتماً سجانيه غير عابئ بالنتائج.

خرجت من السينما وكانت الشمس ترسل آخر أشعاعاتها على بيوت الموصل القديمة. مشيت في ذلك المساء من "الدواسة" في مركز المدينة عابراً الجسر القديم ومخترقاً الحقول إلى "المجموعة الثقافية" حيث قسمنا الداخلي في الجامعة دون أن أحس بالوقت أو الطريق، وأنا لا أمل من التفكير بـ (هوفمان) ألذي لم يكن جباناً أبداً، متفهماً وصوله إلى نهاية طاقته بعد كل الأهوال التي مر بها، ومعجباً وفخوراً بـ (ماكوين) الذي بقيت صورته في رأسي طوال الطريق، وهو يترنح بجسمه النحيف ووجهه الأشيب بين أمواج البحر على طوافة الجوز التي صنعها مراهناً بآخر أوراقه، وغير عابئ بالنتائج، تصرخ من خلال حنجرته إرادة الإنسان بأعلى من أصوات أمواج البحر شاتمةً سجانيها "أيها الأوغاد...ما أزال حياً أيها الأوغاد"، وهي تقود الطوف إلى قبلتها وقدرها الذي لاخيار لها فيه: الحرية.


(1) الفلم (Papillon) عن قصة واقعية: http://www.dvdtimes.co.uk/content.php?contentid=5068
ويعرض اليوم (غداً؟) الجمعة 26 ديسمبر الساعة الثامنة والنصف مساءً على قناة (RTL7) الهولندية لمن يلتقطها، ويمكن الحصول عليه بلا شك بسهولة من مخازن بيع الـ (DVD) بالنسبة للجميع.