الأزمة الجديدة للرأسمالية: ماذا يقول الاشتراكيون؟


باسم شيت
2008 / 12 / 25 - 10:06     

نقدّم في هذا العدد من المنشور، ملخّصاً من إعداد باسم شيت عن أوّل ثلاثة فصول من الكتيّب الذي نشره "حزب العمال الاشتراكيين" في بريطانيا حول الأزمة الاقتصادية العالمية بعنوان "الأزمة الجديدة للرأسمالية: ماذا يقول الاشتراكيون؟"، للكاتب الاشتراكي البريطاني كريس هارمن Chris Harman، محرر دورية الاشتراكية الأممية وصاحب العديد من الكتب منها: "شرح الأزمة: إعادة الاعتبار للماركسية" (لندن، 1984)، "الاقتصاد المجنون: الرأسمالية والسوق اليوم" (لندن، 1995)، و"تاريخ شعوب العالم" (1999، 2008).يسعى هذا الملخصّ إلى الإضاءة على أهمّ الأفكار حول الأزمة الاقتصادية العالمية وأسبابها وعلاقتها بالنظام الرأسمالي، على أمل أن تتم ترجمة الكتيب بشكلٍ كاملٍ إلى العربية ونشره قريباً.

سقوط السوق الحرّ

شهدنا في الشهور القليلة الماضية تداعيات اقتصادية جمّة، من ارتفاع أسعار البترول ومشتقاته ومن ثَم هبوطه، إلى الصعود القياسي لأسعار الأراضي والشقق، وصولاً إلى ارتفاع قياسي أيضاً لأسعار المواد الغذائية. واليوم، نرى الانهيارات الضخمة في الأسواق المالية. رأينا شركات التأمين الضخمة والمصارف تنهار في غضون ساعات. أحد أثرى رجال الأعمال الأميركيين حذّر من "بيرل هاربر(1) اقتصادي" وجورج بوش قام بمقابلة تلفزيونية خاصة يحذّر فيها: "إن اقتصاد الولايات المتحدة بأكملها بخطر".

إن النظام الذي نعيش ونعمل فيه، يعاني من أزمة عميقة، وعشرات الملايين من العمال قلقون لأنهم هم مَن سيدفع الثمن. البعض قد بدأ فعلاً بالدفع، في بريطانيا مثلاً ينضم حوالي ألف شخص يومياً إلى خطوط الانتظار في مراكز البحث عن الوظائف، وأكثر من مليوني أميركي خسروا منازلهم في العام الماضي.

وراء كل هذا، هناك كلمة تم إبعادها عن النقاشات والحوارات العامة عبر العقود الثلاثة الماضية، هذه الكلمة هي: "الرأسمالية". بالمقابل كانوا يرددون كلمات كـ"صانعي الثروات" و"الشراكات المالية" و"حرية السوق". وكان مفروضاً علينا القبول بكل هذا، بينما يسلّمون القطاعات العامة إلى الشركات الضخمة كـ"المصارف المركزية" و"المؤسسات التربوية" و"الضمان الاجتماعي". لكن، كلّ الحماس بشأن حرية الاقتصاد وفتح الأسواق، بدأ فجأة بالسقوط والاندثار فوق ركام المؤسسات المالية الضخمة.

قد يسعى بعض الاقتصاديين وأصحاب الشركات إلى اعتبار أن الأزمة تقتصر على قطاع ما، ولكن حقيقة الكوارث هذه ليست سوى نتيجة طبيعية لنظام مبني عل التنافس، في سباق لمعرفة من هو الأكثر جشعاً. وهم يعلمون علم اليقين، إن طرأت مشكلة ما، يمكنهم دائماً الاعتماد على السياسيين، الذي يدّعون أنهم مع حرية السوق، كي يعطوهم الأموال العامة بينما يقلّصون من مالية الضمانات الاجتماعية ومعاشات التقاعد.

هذا بالضبط ما فعلته الدولة الأميركية في السابع من أيلول 2008، حين استحوذت على شركتي التسليف الضخمتين "فاني ماي Fanny Mae" و"فريدي ماك Freddy Mac"، منفقةً مئات المليارات من الدولارات، في ما بدا للاقتصادي ومستشار الدولة السابق نورييل روبيني، "أكبر عملية تأميم عرفتها البشرية". ثم قامت الولايات المتحدة بأمر مماثل، بعد 9 أيام فقط، مع شركة AIG، التي كانت حتى وقت قريب أكبر شركة تأمين في العالم.

عمليات التأميم هذه كانت أكبر ضربة ممكنة للسوق الحرّ، وللخطاب النيوليبرالي الذي كان ينشده السياسيون وصانعو القرار، الذين أٌجبروا بسبب الأحداث الأخيرة إلى نقض كلّ ما قالوه في العقود الماضية، ضاربين بعرض الحائط الأيدولوجيا التي كانوا يبشرون بها العمال والدول الفقيرة.

لماذا لا يقومون بحماية من خَسِرَ/ت عَمَله/ا، ومن خسر/ت منزله/ا أو من خسر/ت تعويضه/ا. منذ تأميمها؟ فقد كانت شركة "نورثرن روك Northern Rock" البريطانية سبّاقة في طرد الناس من منازلهم، فقامت بطرد عشر عائلات يومياً في شهر آب الماضي من خلال عمليات الاستحواذ.

الحماية، إذاً، كانت للنظام المالي الذي سبّب الأزمة. ولقد رأينا الإدارة الأميركية تتّجه نحو التأميم في محاولة لحماية الأثرياء، من خلال تأميم الخسائر، بعدما كانت قد خصخصت الأرباح على مدى الثلاثين سنة الماضية. وهذا ما جعل الاقتصادي المناصر للرأسمالية "ويلم بويتر" يصف ما حدث بأنه: "نهاية الرأسمالية الأميركية كما نعرفها".

السؤال الأهم الآن هو ماذا سيحل مكانها؟

"قف على رجليك"، نصيحة يعطيها مناصرو الرأسمالية لكلّ من يتضرّر عندما تقوم الشركات بصرف العمال. إنّها الحجّة التي يستخدمونها من أجل جعل العمال يتنافسون على وظائفهم، ومن أجل أن يتحمّل العاطلون عن العمل الذلّ في بحثهم عن العمل، ومن أجل أن يفرضوا على مَن لم ينعم بحياته بأجرٍ طبيعي أن يخزّن الأموال من أجل الحصول على تعويض نهاية الخدمة، وعلى الطلاب العمل خلال دراستهم لسدّ أقساطهم، ومن ثمّ العمل على تسديد ديونهم الضخمة للجامعات.

قالوا أيضاً للعمال الذين خسروا أعمالهم في الصناعات الالكترونية في اسكتلندا وصناعات السيارات في داغنهام أو في بيرمنغنهام، إن أسوأ ما يمكن أن يحصل، هو أن تقوم الدولة بتأميم هذه الصناعات من أجل حفظ الوظائف، وخطوة كهذه سوف تقضي على التنافس وعلى المبادرات، وتحدّ من الطموح.

أمّا الآن، فنراهم يهلّلون ويمجّدون الدولة لتدخلّها وتأميمها للشركات، فقط عندما تقوم (الدولة) بحماية من قاموا بالمقامرة البائسة في السوق المالية، وعاشوا حياة ترف خيالية من خلال ثروات أنتجها العمال، في حين أنّهم لم ينتجوا شيئاً يوماً سوى الديون الضخمة.

ما الذي سبّب الأزمة؟

هناك سبب واحد بسيط يفسّر الأزمة الحالية: "جشع من يملك الأموال من أجل الحصول على المزيد من الأموال". السبب هذا لا يقدّمه مناهضو الرأسمالية فقط، بل إنّه أيضاً السبب الذي يعطيه اليوم عدد من أكبر المدافعين عنها. جون ماكين، المرشح الرئاسي الأميركي يلوم "صناديق التحوّط(2) والمضاربين" والذين "حوّلوا أسواقنا إلى كازينو". الدايلي إكسبرس، المملوكة من قبل الناشر الخلاعي المليونير، يدين "الفائض الّتي تتمتع به مدينة لندن" و"تجّار السوق السوداء(3)" الذين "يدمّرون بريطانيا". كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي راغورام راجان يلوم المكافآت الضخمة التي يتلقاها المصرفيون. مارتين وولف، كبير كتّاب "فاينانشيل تايمز"،الذي كتب منذ ثلاثة سنوات فقط كتاباً تحت عنوان "لماذا العولمة مجدية؟"، يلوم "عدم مسؤولية المصرفيين".

الدور المدمّر للسوق المالية كان بسيطاً جداً. في سعيها للربح، جابت العالم باحثة عن فرص لإقراض المال وذلك بهدف جني مبالغ هائلة في عائدات الفوائد، الدخول في المضاربات، وتحصيل الرسوم من خلال الإشراف على عمليات الاستحواذ والخصخصة.
في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، تم التركيز على البلدان الأفقر في العالم من خلال تقديم القروض الضخمة ذات الفوائد العالية. حيث تصبح الطريقة الوحيدة الّتي يمكن بها لهذه الدول سداد ديونها هي من خلال الاقتراض مرّة أخرى بفوائد أعلى من سابقتها. وعندما تدخل هذه الدول في الأزمات وتواجه المشاكل الاقتصادية، ترسل كلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا والإتحاد الأوروبي "صندوق النقد الدولي" لإخضاع هذه الدول لإرادته، فيجبرونهم على فتح الأسواق أمام الشركات الغربية العملاقة لبيع صناعتهم الوطنية لها، ولخصخصة الضمانات الصحية، وتحميل أفقر العائلات أعباء المبالغ العالية لتعليم أولادهم.
ولكن هنالك حدود لكمية الأموال الّتي نستطيع أن نعصرها من هذه الدول، خصوصاً أنها الأفقر في العالم. عندها، وبشكل متزايد، سعت الأسواق المالية إلى زيادة اهتمامها في الدول الأغنى، وبشكلٍ خاص الأرباح الّتي يمكن جنيها من خلال المضاربات في البورصات، وفي العقارات التجارية، وفي السلع كالنفط، وفي صناديق التقاعد، وفوق كل شيء، في السكن.

الأموال التي يمكن جنيها من عمليات الإقراض يمكن أن تكون مذهلة. مذهلة لدرجة أن قطعة ورق تتضمن وعداً من بعض الناس المقترِضِيْن بتسديدهم لديونهم، أصبحت قيّمة جداً. شركات الرهانات العقارية تبيع هذه الوعود إلى البنوك، وتقوم الأخيرة بتجميع هذه الوعود وتسميتها بالـ"الأدوات المالية" وبيعها إلى مصارف أخرى بأرباح. مجموعات من أصحاب الثروات ينضمّون إلى العملية وينشئون صناديق التحوّط. نشأت صناعة كاملة توظف مئات الآلاف من الناس حول هذه الصفقات.

الاستفادة من الفقراء

الأرباح المتأتية من عملية الإقراض وتجزئة الديون وجمعها وإعادة بيعها، حفّزت أكثر من أي وقت مضى البحث عن مجالات جديدة لتوسيع عملية الإقراض والبحث عن مصادر جديدة للربح.

بعد هذه العملية، أصبحت الأسواق ممتلئة في كثير من المجالات. وهكذا، قام العباقرة الماليين باكتشاف السوق "دون العليا subprime market"، أي الناس ذوي الدخل غير الآمن والدخل المنخفض والذين كان يتمّ رفض إقراضهم أو إعطائهم بطاقات ائتمان في الماضي. حيث أصبحت هناك إغراءات كبيرة للحصول على الأرباح من خلال إقراضهم الأموال لشراء الأشياء التي هم بأشد الحاجة إليها، خاصة المسكن. وتم منحهم القروض العقارية ذات فوائد منخفضة.

في البداية، يتم إقناعهم بالتوقيع على القرض، ومن ثَمّ، يتم رفع الفوائد بطريقة مربحة، كل سنتين أو ثلاثة. كانت هناك أرباح ضخمة لتُجنى إذا ما قام مَن وقّعوا على القروض بتسديد ديونهم. وكانت هناك مكاسب كبيرة إن لم يستطيعوا ذلك، بما أن الشركات لها الحقّ بالاستحواذ على المنازل وبيعها، بينما أسعار العقارات في ارتفاع.

اعتبرت شركات الرهن العقاري، كـ"نورثن روك"، هذه الوسيلة مربحة من دون أية خسارة أو خطر. إغراءات هذه الأرباح غشّت كلّ من راقبها. الجميع في وول ستريت ومدينة لندن أرادوا الانضمام، فاقترضوا الكثير من الأموال ليستطيعوا شراء هذه القروض، وعملوا على طمأنة كل من المصارف وصناديق التحوّط التي أعطتهم الأموال في البداية بأنهم سيستردون أموالهم، لأن هناك من يدينون لهم بالكثير.

إن أي شخص منطقي كان باستطاعته أن يرى أن الّلعبة سوف تصل إلى نهاية مفاجئة بعد وقت قصير. فالذي دفع أسعار العقارات للصعود هو، بالضبط، التنافس المجنون الحاصل ما بين شركات الرهن العقاري لإقراض من هم أشد فقراً من الناس. وإن أيّ هبوط في قدرة الناس على تسديد دينهم سوف يؤدي إلى صعود في معدلات الاستحواذ العقاري، الأمر الذي يؤدي تباعاً إلى هبوط أسعار العقارات، وبالتالي يبدأ كلّ مَن دخل في سوق القروض العقارية بخسارة الأموال. وهذا بالضبط ما حصل في 2006 في الولايات المتحدة الأميركية عندما بدأت مؤشرات البطالة بالصعود وتبعتها معدّلات الفوائد على القروض.

لكنْ، كل الذين شاركوا في شبكة الإقراض والاقتراض هذه، رفضوا علامات التحذير... حتى الأسبوع الثاني من آب/أغسطس 2007 عندما أصبح واضحا أن صناديق التحوّط التي تملكها المصارف لم يعد بمقدورها استرداد ما قدّمته من قروض، وذلك لتسديد ما عليها من ديون. كل مصرف حينها كان يخشى انه لم يعد يقدر على تحصيل الأموال التي أقرضها لمصارف أخرى.

هذه الّلعبة المجنونة من الاقتراض من أجل تقديم القروض وصلت إلى طريق مسدود. لم يكن بمقدور "أسياد الكون" الماليين بأن يكملوا إلى ما لا نهاية إقراض المال الذي لا يملكوه إلى ناس لا يستطيعون تسديده.

لم تكن السوق "ما دون العليا" فقط هي التي تأثرت، بل كذلك سوق الرهانات العقارية العادية، حيث هبط في بريطانيا وحدها إلى حوالي النصف في الحجم وارتفعت الفوائد على القروض المعطاة. يعني ذلك، إن جميع أنواع المنازل لم يكن من الممكن بيعها من جديد، وهبطت أسعار المنازل بشكلٍ أسرع، وتسارعت عمليات الاستحواذ عندما لم يستطع الناس تسديد قروضهم، وأصبح صعباً جداً على المصارف وصناديق التحوّط استرجاع ما أقرضوه من أموال.

انتشار السمّ

انتشر السمّ من قطاع في النظام المالي إلى مجمل النظام. لم يكن هناك فقط مَن اقترض من أجل تقديم القروض، بل كان هناك أيضاً مَن دفعهم الجشع إلى الاتكال على الأرباح التي قد يجنونها من خلال التأمين على قروض المصارف وصناديق التحوّط. الأموال المشتركة في سوق الائتمان كانت ضخمة. وصل حجم المعاملات في سوق الائتمان إلى 62 تريليون دولار في أيلول 2008، رابطين أكثر من ألف مليار دولار أمريكي من السيولة.

كل نوع تجارة في النظام الرأسمالي يعتمد على الاقتراض والإقراض. تقوم الشركات المنتجة للبضائع بإعطاء الائتمان للموزعين، والموزعون يقومون بإعطاء الائتمان إلى الباعة ومن ثم الباعة يقومون بإعطاء الائتمان للمستهلكين. خوف المصارف المفاجئ من إقراض بعضها البعض هدد بإيقاف هذه العملية بأكملها. وقد وصفها الكثيرون بأنها كالذبحة القلبية للنظام الرأسمالي. لهذا، قامت الحكومات والمصارف المركزية بضرب كل ما كانت تبشر به من فضائل التنافس الحر وحرية السوق بعرض الحائط وتدخلت محاولة منها لإنقاذ السوق المالية.

هذا ما فعلته الإدارة الأكثر يمينيةً في الولايات المتحدة الأميركية منذ ثلاثة عقود عندما قام جورج بوش، رغم الاتهامات بالـ"الاشتراكية" من قبل حزبه، بالتحذير بأن النظام بأكمله سوف ينهار إن لم تقم الدولة بشراء كلّ هذه الديون المشكوك بأمرها بثمن يقدّر بـ700 مليار دولار أميركي.

ولكن هل سيتأثر الاقتصاد الحقيقي؟

هناك الكثير من المحاولات لجعل الأمر يبدو وكأن اللوم يقع فقط على المضاربين الماليين، وإن باقي النظام بريء من هذه الأزمات. ولكن السوق المالي ليس منفصلاً عن بقية النظام الرأسمالي، فهو أيضاً يقوده نفس التنافس الأعمى من أجل الربح.
أكبر الشركات الصناعية ذهبت نحو السوق المالية من أجل رفع مستوى أرباحها في السنوات القليلة الماضية. "جنرال إلكتريك"، أكبر الشركات الصناعية في الولايات المتحدة الأميركية كانت قد قامت بذلك، كما فعلت "فورد" و"جنرال موترز".
مجالس إدارة الشركات المالية الضخمة تتضمن أثرى الصناعيين. فمجلس إدارة "ليمان براثرز Lehman Brothers" يضم كل من الرئيس السابق لشركة IBM، الرئيس السابق لشركة "هاليبرتون Halliburton"، الرئيس السابق لمجموعة الإعلام "تيليموندو Telemundo" (كما هو مدير "سوني/م.ج.م. Sony/MGM")، كما يضم الرئيس الحالي لغلاكسو-سميث-كلاين GlaxoSmithKline" للعقاقير (الذي هو أيضاً الرئيس السابق لشركة "فودافون Vodafone" للاتصالات)، أدميرال متقاعد في الجيش الأميركي (ورئيس "زهرات" الكشافة الأميركية)، الرئيس السابق لدار المزايدة الفني "سوثبيز Sotheby s"، والرئيس السابق لـ"سالومون بروثرز Salomon Brothers".
مجلس إدارة أكبر مصارف الاستثمارات يضم مدراء "جنرال موتورز General Motors" (سيارات)، "موبيل Mobil" (بترول)، "نوفارتيس Novartis" (عقاقير)، "كرافت فودز Kraft Foods" (أطعمة)، كولغايت (مستحضرات نظافة شخصية)، "بالموليف Palmolive"، "دو بونت DuPont" (صناعات كيماوية)، "بوينغ Boeing" (طيران)، "تكساس انستريومنتس Texas Instruments" (إلكترونيات)، "وأرسيلور ميتال ArcelorMittal" (فولاذ).

الجشع لا يعرف الحدود بين السوق المالية والصناعة والتجارة، بالإضافة إلى الثقافة وغسل أدمغة الشباب حول فضائل العسكرة. لم يكن المصرفيون والمضاربون الماليون فقط مَنْ توقّع الحصول على الأرباح الطائلة والمداخيل الهائلة. فقد ذهب في نفس الاتجاه الصناعيون على كلا الجانبين من الأطلنطي. في الولايات المتحدة، حسب قول "س.ن.ن. موني CNN Money"، فإن "معدل الفارق ما بين مدخول المدراء التنفيذيين للشركات والمدخول المتوسط للعاملين ارتفع من 301 مرّة في 2003 إلى 431 مرّة في العام 2004".

الأزمة والرأسمالية

الأزمة التي ضربت النظام المالي ليست بعارض جديد. تاريخ الرأسمالية الصناعية كان مفعماً بالصعود والهبوط أو ما يسميه اقتصاديو النظام بـ"الدورة التجارية" (Business Cycle). ولمدّة 200 عام تقريباً، كان التوسع المحموم للإنتاج تتم عرقلته من خلال انهيارات مفاجئة لقطاعات كاملة من الصناعة. فقد شهد العالم 4 أزمات كبيرة في الربع الأخير من القرن العشرين والكثير من الأزمات الأصغر. وفي كلّ أزمة كان من يدفع الثمن هو من يعمل في هذا النظام، فيتم تدمير حياتهم ومنازلهم. هذه الأزمات ليست عارضاً طفيفاً نابعاً من اختلال في النظام المالي، بل هو خلل في صلب النظام الاقتصادي.

يصعب على المفاهيم الاقتصادية المهيمنة التي يتم تلقينها في المدارس والجامعات أن تتفاهم مع هذا. الفشل مبني في صلب المفاهيم الاقتصادية العامة، فهي ترى الرأسمالية كنظام يخدم الحاجة البشرية وكما يسمونها "الفائدة" (utility). ولهذا لا تستطيع أن تفهم لماذا يصبح هناك توقف مفاجئ لقطاعات منتجة بأكملها بينما هناك العمال المستعدّين للعمل، والمواد الّتي هم بحاجة إليها، والناس الذين هم بحاجة إلى هذه المنتجات.

التفسير بسيط. القوّة المحرّكة للرأسمالية ليست إرضاء حاجات الناس، بل هي المنافسة ما بين الرأسماليين لتحقيق الأرباح. وتكون الاحتياجات البشرية مؤمّنة فقط إذا كانت تدر الأرباح.

اليوم، مستوى التعاون الموجود في توفير سبل عيش الناس هو أكبر من أي وقتٍ مضى. إذا نظرنا إلى الملابس التي نرتديها سنرى قطعة قماش مصنوعة من الصوف مصنوعة في جزء من العالم والقطن من مكان آخر، والألياف الصناعية في نهاية المطاف يكون مصدرها من حفرة نفط من بقعة ما في العالم. كلها تُنقل عبر السفن والطائرات التي يشغّلها مجموعة من الناس من جنسيات مختلفة.

كلّ منّا تعتمد حياته على عمل الآلاف من الناس حول العالم. في الواقع، إن النظام الذي نعيش فيه هو شبكة تعاون ما بين ستة مليارات نسمة وأكثر يشكّلون سكان العالم. لكن تنظيم هذه الشبكة بعيداً كلّ البعد عن مبدأ التعاون.

هذه الشبكة تقع تحت سيطرة قلّة من الناس التي تسيطر على الأدوات والآلات والأراضي اللازمة للإنتاج. أي شخص يريد الوصول لهذه الأشياء، من أجل تحصيل لقمة العيش، عليه أن يعمل لديهم ضمن شروط يفرضونها هم. وهذه القلة من الناس هي في تنافس دائم فيما بينها من أجل تحصيل الأرباح وبشكل غير مقنّع. وإن كان الإنتاج لا يساهم في أرباح هؤلاء الرأسماليين فهو بشكل بسيط لا يتمّ ولا يحصل، مهما كانت المعاناة الناتجة عن ذلك.

الاستغلال والاستلاب

الرجل الذي يعتبر أب الرأسمالية، آدم سميث، كان أكثر صراحة من تابعيه اليوم. في حين كان الرأسمال الصناعي ما يزال في بداياته. في أواخر القرن الثامن عشر، لاحظ آدم سميث إن العمل هو الذي يخوّل الإنسان تحصيل الثروة من الطبيعة التي يعيش فيها، وإن الربح ليس إلا فائض العمل الذي تستحصل عليه فئة "مرموقة" من الناس من خلال سيطرتها على الأدوات، الآلات والأراضي التي نحن بحاجة إليها من أجل الإنتاج. سميث لم يكن متناسقاً في آرائه، لكن كتاباته حفّزت كارل ماركس أن يبني قراءة للرأسمالية، هي في نفس الوقت بمثابة نقد لها.

رأى ماركس إن التنافس ما بين الرأسماليين من أجل بيع المنتجات المنتجة من خلال استغلال عمل الآخرين سيؤدي إلى إنتاج نظام اقتصادي خارج سيطرة الناس، وسيُستعمل ضد من يشغّله، أي العمّال. ما يسمّيه مناصرو الرأسمالية بقوانين السوق، ليست سوى أشكال من الإكراه تنتج عن النظام نفسه، والذي شبّهه كارل ماركس بوحش فرانكنشتاين الذي انقلب ضد صانعيه. ويسمي ماركس هذه العملية بالاستلاب (Alienation). ولكن النظام لا يخرج فقط عن سيطرة الناس الذين يعملون فيه، بل في بعض الأحيان يخرج عن سيطرة الرأسماليين أنفسهم.

التنافس الأعمى

يمكن النظر إلى عدم قدرة الرأسماليين السيطرة على نظامهم من زاوية أخرى. فالتنافس الرأسمالي يؤدي، من دون شكّ، إلى خلق الظروف التي تهدد برمي النظام نحو الفوضى. إن الإنتاج الذي تقوم به الشركات المتنافسة مربوط بالسوق. مما يعني أن أيّ رأسمالي لا يمكنه الإبقاء على الإنتاج مرتفعاً إذا ما كان لا يستطيع بيع منتجاته. ولكنّ القدرة على البيع تعتمد على ما يصرفه الرأسماليون الآخرون ـ إمّا على الكماليات لاستهلاكهم الشخصي أو على المعدات والآليات، أو على الأجور التي سوف يستعملها عمالهم لشراء البضائع من المحلات. السوق تجعل الإنتاج، في أي مكان في النظام، يعتمد على ما يحصل في كل مكان آخر. إذا ما انقطعت حلقة البيع والشراء في أية لحظة، عندها يتوقف النظام بأكمله عن العمل. عندها تبدأ الأزمة الاقتصادية.

كلّ شركة تعمل لجمع أكبر كمية من الأرباح. وإذا ما كانت هذه الأرباح تحصّل بشكل سهل، عندها ستقوم الشركات في كل أنحاء النظام بزيادة الإنتاج في أسرع وقت ممكن. يفتحون المصانع والمكاتب الجديدة، ويقومون بشراء المعدّات وتوظيف العمال، مؤمنين أنه بإمكانهم بسهولة بيع المنتجات التي ينتجونها. في فعلهم هذا، يخلقون سوقاً جديدة لشركات أخرى، التي يمكنها بسهولة بيعهم المعدات والمباني أو المواد الاستهلاكية لعمّالهم. وهذا ما يسمى بالازدهار الاقتصادي، فتزيد عجلة الإنتاج وتتقلّص البطالة.

لكن هذا لا يمكن أن يدوم. فالاقتصاد الحرّ يعني أنّه ليس هناك تنسيق ما بين الشركات المتنافسة. مثلاً، منتجو السيارات قد يقررون زيادة الإنتاج من دون أن يكون هناك في نفس الوقت زيادة في إنتاج الشركات التي تصنّع الحديد، أو في إنتاج المصانع في ماليزيا التي تصنع الكاوتشوك لصناعة الإطارات. وبالطريقة نفسها، قد تقوم الشركات بتوظيف يد عاملة خبيرة من دون أن يقوم أحد منهم بالموافقة على إعطاء التدريب اللازم لزيادة العدد الإجمالي لهؤلاء العمال. كلّ ما يهمهم هو تكديس أكبر كمية من الأرباح بأقلّ وقت ممكن. ولكن هذه الفورة العمياء يمكن بسهولة أن تؤدي إلى استهلاك الموارد الطبيعية الموجودة أو اليد العاملة الخبيرة والموارد المالية للصناعة.

في كلّ ازدهار اقتصادي شهدته الرأسمالية، يصل النظام إلى نقطة معيّنة حيث النقص في المواد الأولية، المكوّنات، الأيدي العاملة الخبيرة، والرأسمال تبدأ فجأة بالظهور. فترتفع الأسعار وتزيد الفوائد، وهذا يحفّز العمال على التحرّك للحفاظ على مستوى معيشتهم.

الإفراط في الإنتاج

عادة ما تكون الازدهارات الاقتصادية ملحقة بتضخّم غير متوقع. هذا يبدأ بتشكيل خطر فردي على الرأسماليين، فتزايد الأسعار فجأة يبدأ بتدمير أرباح بعض الشركات ويدفعهم نحو الإفلاس. الطريقة الوحيدة لحماية أنفسهم هي في خفض الإنتاج، طرد العمال، وإقفال المصانع والمحلات. ولكن، بفعلهم هذا، يدمرون أسواق البضائع المُنتَجة من قبل شركات أخرى. وفجأة، يتحوّل الازدهار إلى ركود.

فجأة يتحوّل هذا إلى "إفراط في الإنتاج". تتكدّس البضائع في المستودعات لأن الناس لا يستطيعون شراءها. العمال الذين كانوا يصنعون هذه البضائع تمّ طردهم، لسبب عدم قدرة الشركة على بيع البضائع. ولكن هذا يعني أنهم يستطيعون شراء بضائع أقلّ. تتزايد كمية الإفراط في الإنتاج في النظام ككل، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمة.
يردّ عادة أصحاب العمل على الركود بالقول للناس أنه "ليس هناك ما يكفي للجميع"، وأنه "على الجميع التضحية" و"شد أحزمتهم". لقد سمعنا هذه الأقوال والكلام كثيراً في الآونة الأخيرة، وخاصة فيما يعنى زيادة الأجور لمواكبة ارتفاع الأسعار والتي يرفضها أصحاب العمل بحجة الأزمة الاقتصادية.

الأدوات التي نحتاجها لإنتاج ما يحتاجه الناس بشكل ضروري لا تزال موجودة، كما كانت موجودة في خضم الأزمة الاقتصادية وما قبلها. من جهة، هناك المصانع والمناجم والأراضي الزراعية، الخ.، القادرة على إنتاج البضائع، ومن جهة أخرى، هناك العمال الذين يستطيعون تشغيلها.

ليست كارثة طبيعية هي التي توقف العمال والعاملات عن عملهم في المصانع والمحلات، بل إن ما يوقفهم هو طبيعة تنظيم النظام الرأسمالي نفسه.



--------------------------------------------------------------------------------


1) بيرل هاربر: اسم المرفأ العسكري الذي هاجمته القوات اليابانية في7 كانون الأول 1941، والذي شكل ضربة موجعة للقوات العسكرية الأميركية وكان الهجوم المحفزّ المباشر لمشاركة الولايات المتحدة عسكرياً في الحرب العالمية الثانية.
2) صندوق التحوّط هو صندوق استثمار خاص، مفتوح لمجموعة محدودة من المستثمرين ويسمح له من قبل المنظمين الماليين بإجراء مجموعة أوسع من النشاطات من صناديق الاستثمار الأخرى، ويدفع الصندوق رسوم أداء لمدير الاستثمار الخاص به. وعملية التحوّط هي عملية تسمح للمستثمرين ببيع "أدوات مالية" لا يملكها المستثمر عند وقت البيع. فمثلاً كما يبيع محصول حقل ذرة لن يحصد سوى للسنة التالية، فإن قلّ سعر الذرة بعد سنة يكون قد حصل أرباحاً إضافية وان زاد فيكون قد حصل على أرباح اقل.
3) نستعمل صفة تجار السوق السوداء من اجل وصف المضاربين، الذين يلبسون البزّات الأنيقة ويبيعون ممتلكات لا يملكونها ويضاربون بالأموال والديون التي لم تسدد بعد، الكلمة الأصلية في الانكليزية هي Spivs.