متاهة هاييتي


احمد زكي
2004 / 3 / 3 - 09:44     

سول لانداو  26 فبراير، 2004

ترجمة: احمد زكي

سألتني إحدى طالباتي عن القلاقل الحالية في هاييتي.  أفضت لي، "بقراءة ما تقوله الصحف، لا أتمكن من تبين من يقف من اجل ماذا.  وما الدور الذي تلعبه السياسة الأمريكية في الأحداث الجارية؟"
وأيضا أنا، أجد صعوبة في استخلاص شيئا له معنى من التقارير الإخبارية.  تخرج الصحف ووكالات الأنباء بعناوين عن "احتلال المتمردين لثاني وثالث اكبر مدينة" دون شرح من هم المتمردون وما هي قضيتهم.
ما عدا الكراهية الصريحة والرغبة في الإطاحة بحكومة الرئيس جان بيرنارد أريستيد المنتخبة، لا أجد في التقارير الإخبارية اقل ملمح لتاريخ هاييتي الذي قد يساعد الناس على وضع الصدام الحالي في سياق ما.

على سبيل المثال، منذ 200 عام، رفض الرئيس توماس جيفرسون الاعتراف بأول جمهورية سوداء وثاني أقدم جمهورية في نصف الكرة الأرضية.  في أوائل 1790، وبالهام من الثورة الفرنسية، قاد توسان لوفرتير، احد العبيد السابقين، ثورة وأطاح بأسياده الفرنسيين.

في 1862، تقريبا بعد 60 عام، اعترف أبراهام لنكولن أخيرا بهاييتي.  في 1888، بدأت الولايات المتحدة عادتها في التدخل عندما ردت القوات الأمريكية على قبض سلطات هاييتي لسفينة أمريكية رست بشكل غير شرعي على سواحل هاييتي.  في 1891، اجتاحت القوات الأمريكية سواحل هاييتي، "لحماية أرواح وممتلكات الأمريكيين... عندما أصبح العمال الزنوج خارج السيطرة".

نشر وودرو ويلسون قوات المارينز في 1914 ومرة اخرى عام 1915 "للمحافظة على النظام أثناء فترة من العصيان المسلح المزمن والخطير".  ظلت هذه القوات كقوة احتلال طوال رئاسة وارين هاردنج، وكالفن كولدج، وفرانكلين روزفلت.

في 1934، أنهى فرانكلين روزفلت عقدين من الاحتلال بتسليم مقاليد الحكومة إلى طغمة نهبت البلد حتى قام فرانسوا دوفالييه (بابا دوك)، بانقلاب عسكري في 1956، وأعلن نفسه رئيسا مدى الحياة.

أقام بابا دوك ديكتاتورية وحشية تدعمها فرقة حرس مرتزقة على شاكلة الحرس الإمبراطوري الروماني (Tontons Macoute).  حل جان كلود أو بيبي دوك دوفالييه مكان والده بعد وفاته حتى الاطاحه به عام 1986.  كلاهما تشدق بخطاب معادي للشيوعية، وعامل شعبه بوحشية وتلقى الدعم من الولايات المتحدة.

في 1990، باكتساح انتخب أهالي هاييتي كرئيس للبلاد جان برتراند أريستيد، الراهب الشعبى الكاثوليكي.  خدم اريستيد لمدة تسعة اشهر قبل ان يطيح به انقلابا عسكريا، قاده الجنرال راؤول سيدراس، مدعوما من المخابرات المركزية الأمريكية، ويؤسس ثلاث سنوات من الحكم العسكري: عنف سياسي ضد كل المعارضين، بالإضافة للنهب.

أرجا الرئيس كلينتون الأمر.  أخيرا، في 1994، أرسل الرئيس بقواته لإعادة أريستيد كرئيس.  ولكن كلينتون جعل الأهداف العسكرية محدودة.  لم يأمر قواته بتجريد أفراد العصابات المسلحة غير الشرعية من سلاحها، ولا بتدريب قوات جديدة للأمن لحماية سكان هاييتي في الريف، حيث تتحرش المليشيا شبه العسكرية بالفلاحين هناك كقطاع الطرق.

أكثر خصوم أريستد عداءا، ومنتهكو حقوق الإنسان الآثمون – فروا إلى الولايات المتحدة أو جمهورية الدومينيكان.  ولكنهم قاموا بتخبئة الأسلحة في الجزيرة وانتظروا الفرصة المواتية.  كان منتهكو حقوق الإنسان مثل الكولونيل ايمانويل كونسانت، العميل السابق بالمخابرات المركزية الأمريكية، يسيرون بثقة في شوارع حي كوينز بنيويورك. بعض مسئولين كبار في الجيش أو فرقة الحرس المرتزقة – تونتون ماكوت- عادوا للجزيرة و"انضموا" الى "المعارضة".

ركزت وسائل الإعلام الأضواء على لويس-خودل تشامبلين، ضابط الجيش السابق وعضو جبهة ترقي وتقدم هاييتي (FRAPH)، أثناء فترة ما بعد انقلاب 1999 العسكري.  ولكن لا ينشر إلا القليل من التقارير عن طبيعة الفظائع المرتكبة على يد "زعيم" المتمردين هذا.

بالرغم من ان مثل هذه الكوارث والاهوال تثير اكثر من الغموض الذي يحيط بـ "شرعية" تلك "المعارضة" السياسية، يشعر قطاع واسع من الناس في هاييتي بخيبة الامل من أريستيد.  يبدو ان الانتظار الذي طال لمدة ثلاث سنوات قبل ان يستعيد أريستيد منصبه الشرعي كرئيس، قد بدله وغير من حزب لافالاس الشعبي البدائي الذي يتزعمه.  في 1994، خلع أريستد رداءه الكهنوتي بعد ان امره البابا بذلك.  لم يعد أريستد العلماني يظهر نفس الثقة والطمأنينة.  حصلت سنوات المنفى ضريبتها.

مع نهاية أعوام التسعينات، هؤلاء الناس ذوي الميول الديموقراطية والتقدمية في أنحاء العالم، الذين رأوا في أريستيد كـ "المنقذ"، شعروا أيضا بالإحباط.  بدت كاريزما اريستد الدينية في الانحلال بشكل يثير خيبة الأمل.  فبداية، الرجل الذي أعلن عن تحمله لمسئولية بناء هاييتي جديدة ونامية، خالية من الفساد، أصبح تحت سطوة صندوق النقد الدولي.

رفض اريستيد من قبل خصخصة الثروات العامة كما طلب منه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – والهيئات المانحة للقروض من الولايات المتحدة.  كان اريستيد قد عاين ما فعلته هذه السياسات بالمعدمين البائسين في العالم الثالث.  رفضه لإطاعة الأوامر قاد إلى إملاء أباطرة المال فرض عقوبات عليه، مما أدى إلى عدم قدرته على القيام بأي إصلاحات حتى في حدودها الدنيا.

سارت "التوقعات" الساخرة جنبا إلى جنب مع المعايير المزدوجة في الحكم على أريستيد.  بنما تنال الحكومة الكولومبية على الجانب الغربي من الكاريبي دعما متزايدا من الولايات المتحدة على تصرفاتها السيئة، خضع أريستيد لمعايير لا تتحملها دولة من العالم الثالث.  ما منحته واشنطن هي موارد هزيلة ثم اعتبرت واشنطن بعدها أن الجهود التي تبذلها الحكومة في هاييتي لتحسين تدريب الشرطة غير كافية.  لما وقعت أحداث العنف، التفاصيل لفها الغموض على نحو ما ، ولم يتم تسمية مدبري الجرائم ووقع اللوم كله على رأس أريستيد.

لم تسأل روايات الأنباء ولا افتتاحيات الصحف السؤال الواضح: من هي الدولة شحيحة الموارد، متخلفة البنية التحتية، التي تضرب الفوضى السياسية باطنابها، من دول العالم الثالث التي تستطيع إنجاز التنمية الاقتصادية، والتنظيم الاجتماعي، والاستقرار السياسي وفي سنوات قلائل؟

في 1989، أجريت مقابلة مع رئيس وزراء جامايكا ميخائيل مانلي.  سألته عن الإصلاحات التي سوف يقوم بها حال استعادته للسلطة السياسية (كان قد انتصر كاشتراكي ديموقراطي في 1972 وعام 1976، وانهزم في 1980، وكسب جولة ثالثة في 1989، ليس بعد كاشتراكي، ولكن كمؤيد لسياسات صندوق النقد الدولي).

ضحك بازدراء.  وقال، "ميزانيتي لا تسمح، الـ DEA تمنح هبة بـ 29 مليون دولار لإحراق حقول الجانجا [الماريجوانا].  لدي اختيار: استخدام النقود في فتح الطرق التي أغلقت بسبب إعصار اندرو، أو رفع مرتبات المدرسين لاحتفظ بالمدارس مفتوحة.  لا أستطيع القيام بالأمرين معا.  لا إصلاح زراعي.  لا رعاية صحية ".  هز رأسه.  "السلطة السياسية وهم بدون نقود في الميزانية".

 دعاني لاصطحاب حملة من قوات دفاع جامايكا والـ DEA في خطة للإغارة على زراعات الجانجا في الجزء الغربي من الجزيرة.  هبطت الهليوكوبتر، وقفز منها رجال قوات الدفاع وموظفي الـ DEA، كما لو كانوا في حرب حقيقية، وفتحوا قاذفات اللهب على المحصول الوفير.  في خلال عشرين دقيقة بدأ الجنود وموظفي  DEA يترنحون بينما يستنشقون الدخان الناتج مما صنعت أيديهم.

لم تشارك العائلة الكبيرة التي تبخر رزقها مع الدخان المتصاعد، في الاحتفال، ولكن كشهود للحدث.  ألقى العضو البرلماني الذي كان أيضا مصاحبا للقوة المهاجمة بمحاضرة لأسماع العائلة: "هذا ما يحدث إذا ما زرعتم محاصيل غير شرعية".

شيخ العائلة الكبيرة سأل عضو البرلمان، "وما الذي نستطيع زراعته؟  والطرق مدمرة لا نستطيع الذهاب بمحاصيلنا إلى الأسواق.  مع الجانجا، تأتي إلينا الطائرات"، وأشار بيده إلى مكان مهبط الطائرات وسط الحقل المحترق، "لتأخذ المحصول وتعطينا النقود.  والآن، ماذا ترى؟"

ضاعت حماسة عضو البرلمان التي جاءت بها السكرة.

رد عليه بصوت ضعيف، "حسنا، ربما تستطيع أن تبدأ مصنعا صغيرا أو أي شيء".

عبر شاب مغلق بشكل مرعب عن رأيه وبكلام غير مفهوم " Dis imperialism, mon ".

ندت عني كلمة، "هه؟"

قال، "يستولي مزارعو الجانجا في كاليفورنيا على سوق جامايكا، الميزان التجاري الأمريكي يتحسن".

بعد العودة إلى كينجستون، دعاني مسئولي الـ DEA وضباط جيش الدفاع الجامايكي إلى شراب.  أبديت اعتذاري.  مانلى كان سيمتلك تلك الـ 29 مليون دولار ويرفع مرتبات المدرسين ليحتفظ بالمدارس مفتوحة.  أي ثمن هذا الذي دفعه!  استقال بعد ذلك بوقت قصير اعترافا ضمنيا بالعجز السياسي.

 ضع الشغب الحالي في هاييتي في هذا السياق السياسي والاقتصادي، وهو الشيء الذي يفتقده التيار العام في التقارير الإعلامية.  أضف إليه الالتواء الواضح أو الضمني للتقارير الإخبارية لتجعل من الصراع المدني الهاييتي يبدو وكأنه خطأ اريستيد.

لابد أن الإعلام اشتم رائحة "الفأر الذي يسبب القلاقل"، كما يقول المثل السائر، عندما بثت تقارير عن أنه في الخامس من ديسمبر 2003، اقتحم 500 مسلح جامعة بورت او برنس وبدأوا تحريض الطلبة والأساتذة.  رد مؤيدو أريستيد بالمظاهرات.  وهجمت كتيبة المسلحين.  احد مؤيدي اريستد أطلق رصاصة طائشة، أصابت رأس احد رجال المليشيا المناهضة لأريستيد.  ولكن الشهود، واغلبهم طلبة، هم الذين دفعوا ثمن العنف التالي لذلك.

في 12 يناير، نظمت العصابة المناهضة لأريستيد مسيرة احتجاج في العاصمة بورت-او-برنس.  تقارير من مصادر غير أمريكية أكدت أن بعض الطلبة انضموا لهذه المسيرة بعد تلقيهم حوافز نقدية أو وعود بتذاكر لرحلات خارجية.

لم تذكر الصحف اليومية السيارة في الولايات المتحدة هذه المعلومات.  بدلا من ذلك، يركز الإعلام على عدم قدرة أريستيد على الرد على "الهموم الأمنية"، بينما المسئولون المعادون لاريستيد في إدارة بوش مثل السكرتير المساعد لشئون نصف الكرة الارضية الغربي ’روجر نورييجا‘ ومثله ’اوتو رايخ‘، المبعوث الرئاسي للأمريكتين، يروجون لسياسة مقاطعة ضد حكومة اريستيد.  بحمل نورييجا ثأرا قديما لرئيسه السابق، السيناتور الجمهوري المتقاعد لكارولينا الشمالية، جيسي هيلمز، الذي يحتقر عدم الإطاعة اليساري لأريستيد. 

الفوضى التي تسود هاييتي، ابعد من ان تكون تلقائية.  السفاحون الذين استولوا على السلطة بشكل غير شرعي واغتصبوا هاييتي من 1991 حتى 94، قد عادوا الان إلى الجزيرة والتحقوا بالناس الذين لديهم معاناة مشروعة.

اريستد ربما كان مغاليا في تقدير قوة مناصريه، واعتمد على قوة بوليس ضعيفة، واستهان بخيانة خصومه.  ولكن اخطاء أريستيد وخرقه للمواثيق لا يسقط شرعيته كرئيس منتخب لهاييتي، افقر بلد في نصف الكرة الارضية الغربي.

 الحس السياسي العاقل، كما اخبرت طلبتي، يملي علينا واجب دعم عرض اريستيد للوصول إلى اتفاق مع المعارضة السياسية وإخماد القتلة الذين يطمعون في سلطة ديكتاتورية مطلقة، تذكرنا بحكمهم غير الشرعي إبان 1991-1994.


فيلم لانداو الجديد، ’سوريا: بين العراق والمكان الصعب‘ متوافر بدور العرض.  كتابه الجديد، ’الامبراطورية الاستباقية‘، نشر في نوفمبر 2003، دار نشر بلوتو.  لانداو مدير الديجيتال ميديا بجامعة كاليفورنيا بولي بومونا، وزميل بمعهد الدراسات السياسية.  مقالاته بالأسبانية متاحة بموقع: www.rprogreso.com

موقع لانداو: www.saullandau.net