ما بعد ماركس ... الإفراج عن المنهج


رشيد قويدر
2008 / 11 / 2 - 08:19     

يقول لينين: "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية"؛ أما النظرية الثورية فهي الماركسية الثورية، وبحسب كتاب لينين (كتيب): "مصادر الماركسية الثلاثة"، أي حقولها: المادية التاريخية، المادية الديالكتيكية، الاشتراكية العلمية ـ المجتمع والطبيعة والفكر ذاته. وبالنظر إلى أن الكتيب هو كناية عن مقالة مبسطة جداً، لأهداف حزبية في سياق اهتمامات لينين التي تبرز كرجل دولة ومنظر لنظام بآليات تعبوية، فقد عمل على نقل اهتمامات ماركس وتوجهاته، بشكلٍ مبسط، ثم انتقل هذا التبسيط إلى ما بعده، إلى تفسير "كلي الاكتمال" للماركسية؛ وفي حقول ثلاثة محددة لا غير، الأمر الذي أثر سلباً على نظام النظرات الماركسي ومنهجه، الذي يمكن تسميته بمفردة ذات مدلول مفتوح؛ فلسفة التاريخ، فلسفة المعرفة، والاقتصاد السياسي للماركسية.
وإذا كان مبرراً للينين تبسيطه لتوجهات ماركس في منحى التوعية في المكان والزمان المحدد، فإن تحويلها إلى التفسيرات "الكلية" الجامعة المحددة، المانعة، القطعية بامتياز، قد احتشد في المدرسة السوفييتية، والاعتباط الستاليني في نظامه الأوامري والفاقد للتعبئة كتكرار لـ "الثالوث المقدس"، وحشد معه رؤوس أجيال من الشيوعيين والثوريين الماركسيين، وفي مناهج مدرسية تبسيطية صارمة، حدود تهمة "التكفير والهرطقة" في الأديان. تهمة الانحراف في حال المساءلة والبحث، على يد الاعتباط الستاليني الوعر، والذي عمم المادية التاريخية (حسب التقسيم الوارد)، المسلة الخماسية الستالينية للتشكيلات المتعاقبة: "المشاعية البدائية؛ العبودية، الإقطاع؛ الرأسمالية؛ الاشتراكية".
وفي فلسفة المعرفة "نمَّط" الرأسمالية في اقتصادها السياسي، في قوالب قوانين "جبرية" للانتقال إلى الاشتراكية، قوانين التضاد؛ والتراكم؛ والتحول ... في المنحى "الكلي" الاكتمال. المادية الديالكتيكية تستند على أولوية المادة على الوعي، وعلى شمول التناقض الجدلي الهيغلي، ثم على ثنائية من المقولات: الجوهر والمظهر، الكم والنوع، الشكل والمحتوى، المادة والوعي ... الخ. وأدرج في سياق التدريس السوفييتي بالقطع مع التفاعل ومناهج العلوم والمكتشفات الحديثة المعاصرة، وتحول إلى "مزامير" ثابتة لا يمكن الخروج منها، في تجليات العقل والتفكير "الكلي الاكتمال"، المقطوع عن التواصل لما بعد عصر ماركس من تطورات.
عذر لينين في تكثيفه وتبسيطه "التقسيم الثلاثي" ثقافة جمهور ذلك الزمان اللينيني بلا منازع، وسعيه للوصول إلى السلطة حين كان في معارضتها، وهو الجدلي في نظرية المعرفة التي قدمت نظرات معرفية للتاريخ، استناداً إلى ماركس الذي قدم نظرة فلسفية للتاريخ ولم يكن مؤرخاً، أي دون أن ينكب ذاته على دراسة التاريخ البشري، حيث لم تسعفه اهتماماته التقدمية الكبرى ذلك في حياته. لقد تناول معارف وظواهر عصره التي شاهدها وشخصها ومحصها، وبالتأكيد هي تختلف جذرياً عن معارف وظواهر العصر الراهن المعاش.
والأهم؛ وهنا تكمن عبقرية ماركس أنه لم يحولها إلى مذهب، في عمق نظرته منهجاً لتحليل النظام الرأسمالي ونقده، بما هي مفتوحة على المتغيرات، وعلى الإمكانات النقدية الهائلة للتجاوز جدلياً.
يستثنى من ذلك بعض أعمال انغلز، ومنها بعض قراءته الخاصة في "ديالكتيك الطبيعة"، فهي الآن قد تجاوزتها العلوم المعاصرة، فقد قرأ علوم ذلك الزمن، واستخلص منها ما هو معكوس على الشعوب والمجتمعات. أتذكر أنني قرأت في مكان ما لانغلز ما كتبه عن شعوب البلقان بأنها "رجعية أو خارج التاريخ" بما تحمل من التباس، رغم أنني أعجبت بمقدمة "البيان الشيوعي" ـ الطبعة الأولى الإيطالية الأولى التي قدم لها، حينما تناول بها إيطاليا، ليتبين لي بعد زمن أن ذلك مرتبط باهتمامات ماركس بالأدب، وبدور دانتي المبكر في تحطيم قيم الإقطاع حيث ورد "كانت إيطاليا أول أمة رأسمالية، تحدد غروب العصور الوسطى الإقطاعية، وبزوغ فجر العصور الرأسمالية الحديثة بشخصية واحدة وهائلة، إنه الإيطالي دانتي آخر شعراء العصور الوسطى ... فهل ستمنحنا إيطاليا دانتي جديد، يمكنه أن يسجل ساعة ميلاد هذا العصر البروليتاري الجديد ؟".
دانتي (1265 ـ 1321)، هو شاعر إيطالي له من الشعر والنثر الكثير، والمقصود هنا قصيدته "الكوميديا الإلهية" التي تتألف من ثلاثة أجزاء هي: "الجحيم، والمطهر، والجنة". وتبين أن اهتمام انغلز هو ناجم عن عمق الحس الفطري لدى ماركس على التقييم والنقد والمحاكمة بكلمات قليلة، منها مثلاً ما كتبه حول "وضع الأمور في بروسيا" 1860 حول غاريبالدي ... "الذي يوحد أيضاً مع روحه الملتهبة، شـيئاً من تلك الرهافة الإيطالية النقية، والتي يمكن اكتشافها عند دانتي، بما لا يقل عما هي في داخل ميكافيللي ...".
أقصد من هذا تبيان اهتمامات ماركس ونظراته لمحيطه، وعلى ذات المنهج واصل ماركس في قراءته لسرفانتس، وعصر الفروسية والإقطاع، "دون كيخوت" وتحطيم قيم الإقطاع الإسباني، وتناول بوشكين، وفيكتور هيجو، كما أساسات الثقافة الأوروبية، ممثلة بالأدب القديم "هوميروس، اسخيليس، لوقيانوس بيروقريط" وكل أدباء ومثقفي العصور المميزين بيرسي، بوكاتشو، دانتي، كالديرون، فولتير، ديدرو، روسو، بريفو، شاتوبريان، لامارتين، بيرانجيه، بلزاك، بيير دوبون، توماس مور، شكسبير، ميلتون، ريفو، سويفت، شيلي، بايرون، والترسكوت، ريتشارد فاغنر، غوته، هاينه، كارك بيك، فريليهرات، الشاعر الروسي ديرجافين، الاقتصادي والفيلسوف الديمقراطي الثوري تشيرنيشيفسكي، الديمقراطي الثوري دوبرولوف، الاقتصادي والكاتب الاجتماعي فيليروفسكي ... وغيرهم، وفي سياقات ناقدة ومفسرة ومحاكمات شيقة.
وإذ أبرزناها واستعنا بها، فإن مقصدنا هو تبيان توجهات ماركس غير المقولبة بـ "محددات كلانية مقدسة" بثلاثيات، منقطعة ومغلقة عما حولها، علماً أنه كان يقرأها بلغتها الأصلية، ألا تضيف اللغة بعداً إلى علم المعرفة (ذات ـ الدماغ ـ، موضوع، لغة، ذات) تجربة ماركس نفسه فهي رباعية، ولم تخضع لهوس "الثالوث المقدس"، بالبحث عن أكثر المبادئ تنوراً، وفضلها في تكوين منتوج "الرأي العام المتنور" الذي كان قد تشكل بتأثير الجدل والمحاكمات، والذي اعتبره "صار موجوداً" تبريراً لذلك التنوع من "الرأي العام" ومدى أهمية استمالته وتنقية أفكاره والتأثير فيه: "ما علاقة الطبقة العاملة ببولونيا عام 1866". ففضلاً عن اهتمامه الأساسي، فقد كان يفرد اهتماماً كبيراً للثقافة العالمية، برزت بعمق الناقد، وعينه الثاقبة والهادفة لما ينبغي أن تكون الثقافة، وبرهافة ماركس.
رغم هذا كله وغيره، فإن مأثرة ماركس هي تدشينه لمنهج تحليل ونقد جوهر الرأسمالية في أنماط تطوراتها المستمرة؛ الأساس العام للماركسية المتطورة المرتبطة بوقائع الظاهرة والحياة العملية، وأسباب نواة استمرارها. وهكذا فإن سردنا لجانب مكثف من اهتمامه الثقافي والفكري والعلمي، فهو لتأكيد البنية النقدية والمحاكمات والتأكيدات، التي تشير إلى الجانب المنهجي الذي يرومه ماركس، وهو أن منهجه لا ينطبق فقط على الاقتصاد الاجتماعي، بل يمكن استخدامه في تحليل الأفكار ومراماتها والثقافات وطبقاتها، وصولاً إلى هدفه الأساس "حزبية الفلسفة"، وتنقيحها بمنهجها للثقافات والتراثات الإنسانية.
إن الكشف المركزي لماركس، تركز في كيفية سطوة الرأسمالي على القيمة الزائدة، والتي مصدرها "العمل الزائد"، الأعلى لتعويض الأجر. يقول ماركس: "ما دام هناك جزء من المجتمع يمتلك حق استثمار وسائل الإنتاج؛ فإن الشغيلة، أحراراً أو غير أحرار، مرغمون على أن يضيفوا إلى جانب العمل الضروري لبقائهم، عملاً إضافياً لإنتاج وسائل العيش إلى مالكي وسائل الإنتاج".
ثم قراءة ماركس للاشتراكية الفرنسية؛ سان سيمون واوين وفورييه، وهنا بحسب أنغلز فإن "مهمة تسلق الذرى كانت محفوظة للألماني"، أي للعلم الماركسي الذي كشف جوهر النظام الاجتماعي في الرأسمالية، والعلاقة بين العمل ورأس المال، والتناقض بين الطابع الاجتماعي للعمل والإنتاج، وبين الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، الجوهر الاستغلالي للنظام الرأسمالي، وآليات السوق على الصعيد القومي والدولي.
ولا تعني هذه الأساسات العلمية الاقتصادية ـ الاجتماعية، أن لا تكون للماركسية المعاصرة رؤيتها ونظريتها على أرض الواقع البشري المعاش، في هذا الجانب وفي العديد من الحقول، بما فيها "نظرية المعرفة"؛ وديالكتيك الطبيعة، ما يدفعنا أن نتساءل الآن؛ ما الذي يتبقى من كتاب انغلز "أنتي دوهرينغ"، أمام الفتوحات العلمية المعاصرة ! ...
من على فوهة الينبوع المصدر الماركسي، وتلك التخوم التي شكلت فتوحات في العلوم والمناهج، التخوم التي تحولت راهناً بفعل تطورات العلم والعلماء، في مختلف الحقول إلى استكمال لرحلة ماركس وكشوفاته، شاء هؤلاء العلماء أم لا، في تتبع رحلة ماركس في الاقتصاد الاجتماعي، وعلى سياق تطوراته المختلفة المعاصرة، عبر علم القوانين الأوحد للمجتمع والطبيعة، بما فيها فتوحات منهجية في مجال الفكر، وعلم الاجتماع الذي شرع به ماركس في "الإيديولوجيا الألمانية"، بما عكس به من حيوية عقل علمي تحليلي جدلي، يؤمن بالممارسة العملية التقدمية (البراكسيس). وعلى سبيل الأسماء الكبرى فقد سار على دربه انغلز وكاوتسكي ولينين، وبليخانوف، وبوخارين، وتروتسكي ولوكاش وغارودي، وروزا لوكسمبورغ، وماركوز، والتوسير وهابر ماس، وجيوش من الباحثين والمستلهمين من ينبوعه، ولكن في تعدد التوجهات والقراءات، وهي بمجملها إرث للبشرية معرض للنقد والإغناء، في رحم الواقع التاريخي المعاش. يغدو هذا كله، تراثاً هاماً إذا ما ارتبط بالنقد وخلاصات العلوم الموضوعية المعاصرة، طالما أن العلم يقرر ولا يفسر، يؤكد ذلك أن داروين ذاته لم يكن ماركسياً.
في عالم اليوم؛ كثير من العلماء المعاصرين، هم ورثة ماركس بمعنى من المعاني، كما يقول جاك دريدا في "أطياف ماركس"؛ ورثة الفرادة المطلقة لمشروع ذي شكل علمي وفلسفي، ويندرج في ذلك أيضاً مفاهيم هابر ماس وإعادته الاعتبار للحداثة في مواجهته "لما بعدها".
إن العمل الجبار والمركزي في عمله تركز حول الاقتصاد الرأسمالي، والسؤال هنا: هل اعتبره ماركس عملاً منجزاً "مغلقاً" كلي الاكتمال ؟
إن هذا الحكم الستاليني الاعتباطي، هو منافي تماماً لمنهج ماركس، ورغم حجم عمله الهائل على الاقتصاد، فقد ترك ماركس مخططاً مفتوحاً للمستقبل، تبين ذلك خطط رأس المال التي واكبت دراسته من اقتصاديي عصره، والتي سلمت لاحقاً بصوابية منهجه (منتصف القرن التاسع عشر)، كما سلم تطور رأس المال التاريخي لاستنتاجاته، ولمعماره الرباعي المبكر المتمثل بـ:
1 ـ رأس المال (الإنتاج ـ التداول ـ وحدة الاثنين ـ العمل المأجور ـ الملكية العقارية ـ تاريخ رأس المال ونظرياته ـ فائض القيمة).
2 ـ الدولة.
3 ـ السوق العالمي.
4 ـ التجارة الدولية.
وبالتركيز الآن من على بعد تاريخي، فقط كتب ماركس بإشباع علمي في النقطة الأولى، وقدم جوهر وكنه الثانية، وأشار بنبوءة علمية إلى الثالثة والرابعة، وفي قوة العناصر الأربعة المترابطة عضوياً وبنيوياً في النظام الرأسمالي، فضلاً عن كشفه عن نظرية فائض القيمة. لقد درس هذه التشكيلة ولمنحى التطور الرأسمالي، كما بدأت بالنشوء كما عاصره، وبالتأكيد لم يعاصر تطورات هذه الظاهرة، حيث لم يسعفه عمره على استكمال دراساته حولها، رغم أنه قد استنتجها في منحى تطورها.
لنركز الانتباه: عبقرية ماركس الفذة تركزت أساساً في تصوره للرأسمالية الناهضة، بداياتها في عصره، حين بدأت وسط محيط كبير للإنتاج الحرفي المعمم. هذه العبقرية التي استطاعت دراسة بدايات هذه الظاهرة الاقتصادية ـ الاجتماعية، مستنتجاً مسبقاً تحولاتها ذاتها في الواقع الاجتماعي. وهي بالتأكيد دراسة تاريخية في منهجيتها وخلاصاتها، المنهجية التي مكنته من تحليلها ونقدها والعمل على تجاوزها، من خلال يقينه بتطور مؤسساتها ذاتها، وتطور قواها المنتجة، والاجتماعية والاقتصادية والثقافية كنظام عالمي، لا على مستوى الدولة، وصولاً أن هذا التطور سيتوقف عن الاستمرار في حقبة معينة من التراكم.
في نظرات ماركس، أن الرأسمال الذي ينمو في إطار قومي، لا حياة له إلا في ظلال الدولة، فمراكماته تحتاج إلى الأسواق، وإلى التجارة الدولية، وعليه استنتاجه لـ "الوحدات القومية" على أساس من بناء الرأسمالية في دول، فهي حاملة نشاطه وناظمة (القانوني) والمكمل الرئيسي لتطوره. إن هذه المعاينة العلمية الدقيقة كانت تتشكل ظواهرها أمام ناظريه في ركائزها الأولى، أما السوق الدولي ـ العالمي والتجارة الدولية، فقد شرحها بما عرضه حول البنية الفوقية والبنية التحتية، بعد سيادة رأس المال، وتميزها بصراع طبقي، وبنمو القوى المنتجة إلى "حد معين"، لا تعود بها علاقات الإنتاج على استقرارها فتتصادم معها، نحو الجديد، لكن هذا لا يمكن بالمطلق تعميمه على التاريخ البشري في تعاقب التشكيلات الخماسي، الذي استخدم أيضاً كمسلة متسلسلة، حين كان يستثني "التشكيلة المشاعية" من الصراع الطبقي، ثم يردفها بأنها فرزت وأنتجت "التشكيلة العبودية".
الخلاصة المحققة هي الدولة، بوصفها نتاجاً أو عقداً للبنية الاجتماعية، مع ملاحظة أن ماركس لم يقطع في هذا الجانب مع اتجاهات البحث والنقد، رغم أنه قد قصر نقده على ما عايشه مباشرة من الحقبة الرأسمالية التي عاصرها، مخصصاً بريطانيا ذاتها ميداناً لدراسته، أو على الأقل لم يخرج عن أوروبا الأكثر تطوراً في عصره، كما لم يقطع مع المجال النظري الاجتماعي الذي لم يكتمل في حياته، لتقديره أنه سيتواصل بعده، بانفتاح حقول البحث الحر دون قولبة وتعليب، لماذا هذا الاستخلاص ؟ بالتأكيد لأنه لن يغيب عن بال ماركس، بأن المنهج الذي استخدمه، يقوم على دراسة الظواهر بحد ذاتها، وقانونه ذاته يفيد بأن الظواهر في تحول مستمر، وعليه فإن العلوم سيتسع مداها، فهي لن تخضع لتنميط، وطالما أنه ذاته من استنتج بأن نمط الإنتاج الرأسمالي هو ثمرة تطور. ولكن ما الذي جرى ؟ هنا بالضبط قام الاعتباط الستاليني بتنزيل آياته القطعية حول "التطور الارتقائي في التاريخ البشري"، وأن هذا ذاته "هو عملية عالمية واحدة ـ حتمية الاشتراكية"، وعلى أساس من المسلة الخرافية الصوفية الشهيرة المتسلسلة عن تعاقب التشكيلات "الجبري والحتمي"، والذي لا بد قادم ... شاء من شاء وأبى من أبى ...
إن الدجل في "العلم"، وتحويله إلى إيديولوجيا، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتأقلم السياسي ارتباطاً لا ينفصم، مثلما الزهو بالنجاح الآني والإثارة الشعبوية، فالعلم لا يحتمل المساومة، مثلما يحمي الذوق الأخلاقي الحصيف من كل مساومة وشعوذة، وتحويلها حسب الظروف إلى مفارقات وسفسطة تبريرية، يبرز هنا تكثيف الخليط الملفق القابض على كل شيء الثالوث المقدس: "مادية تاريخية، مادية ديالتكتيكية، اشتراكية علمية"، الورقة الرابحة للقاشوش الستاليني، والتي خرجت عنها، وتجاوزتها نظرات ماركس في مجالات العلم المختلفة، حين تقرأ الآن دراسات رصينة، نتاج عقول علمية حصيفة، وحين لا تقرأ الآن فقط الماركسية والاقتصاد، الماركسية ونظرية المعرفة، الماركسية والتاريخ، بل أيضاً الماركسية والعولمة، الماركسية والقومية، الماركسية والدولة، الماركسية وعلم الاجتماع، الماركسية والبنية الاجتماعية. مناهج علوم تقوم على نظرات ماركس وفي المجالات المختلفة، خاصة وأن منهج دراسة الظواهر قد تعمق لما بعد ماركس، بفضل الإنجازات الضخمة في فروع العلوم المختلفة، وهي بالتأكيد ليست مادية القرن التاسع عشر، ومنها على سبيل المثال خروج علم المعرفة من سجن الفلسفة، ودخل عليه علم تشريح الدماغ، وعلم النفس وعلم الألسنيات وإبداعات الماركسي نعوم تشومسكي، والنظريات البنيوية من على الأساسات الماركسية، والتفكيكية البنيوية المستقاة، ومن على كثب منهج النظرات ذاته، واستخدامها في التحليل، وكروافد كبرى نحو التغيير، حين كان يجري تعريف الفلسفة بأنها أم العلوم، وكل العلوم من أملاكها.
إن هذا كله يستحق الاهتمام، وعلى الأقل عدم القطع معه باعتباره نتاجاً للعلم والإبداع المعاصر، ونتاجاً لأبناء المنهج، فالقطع يتعارض كلياً مع نقطة البدء؛ المنظومة المنهجية دون تقديسها أو افتراسها، على يد الحق "الأبوي" مثل آلهة التمور العربية، وعلى أنغام الطبول ورقصة السيف، وفي الدواخل الكثير من التحايل المكنون، في الاتحاد التافه بين العلم والشعوذة.
في الطبيعة بشأن التطور الدارويني للكائنات الحية، فإن ما بعد داروين، والذي لم يتسنى لانغلز دراسته، هو التنوير البيولوجي الجديد، مع مطلع القرن الراهن، وما كشفه كارل ووزي على علم البيولوجيا التقليدي من نزعة اختزالية، ظلت ملازمة له طوال القرن الماضي كله، وقد أبرز حاجة المجتمع البشري إلى علم بيولوجي حديث، يقوم على المجتمعات والنظم البيئية، أكثر مما يقوم على الجينات والجزئيات الكيمائية، وليس وفقاً للبيولوجيا التقليدية، مثيراً تساؤلات مهمة حول الفترة الزمنية التي بدأ فيها التطور "الدارويني" للكائنات الحية؛ والمقصود ذلك التنافس الشرس الذي دار بين الكائنات الحية غير المتناسلة، فيما بينها على البقاء وحفظ النوع، مقدماً براهينه بأن الانتخاب الطبيعي لا يعود بعيداً في التاريخ، وإلى بدايات ظهور الكائنات الحية على الأرض، حيث ساد الانتقال "الأفقي للجينات"، أي تبادل الجينات بين أنواع حية لا تربط بينها صلة، بمعنى آخر فقد كانت الحياة عبارة عن "مجتمع من الخلايا" المنتمية إلى عدة أنواع حية تتبادل معلوماتها الجينية فيما بينها، تتوارث التفاعلات الكيمائية فيما بينها، إلى أن تمكنت خلية ما منها من الخلايا البدائية من التفوق على جاراتها الأخريات من حيث الكفاءة البيولوجية، وتمكنت من عزل نفسها وامتنعت عن اقتسام خصائصها ومعلوماتها الوراثية، مع غيرها من أعضاء المجتمع البكتيري البدائي، وهكذا بدأت تنمو وتتطور معزولة ومنفردة بخصائص تفوقها البيولوجي.
لقد تطورت آلية الحياة البيوكيميائية بوتائر سريعة جداً، خلال بضع مئات ملايين من السنين التي أعقبت العصر الدارويني، أما بطء التطور الدارويني في نظر أوزي فيعود إلى ضآلة التطور على الأنواع الفردية، ما إن يتم تشكلها البيولوجي، وانتهى التنافس على الأنواع قبل حوالي عشرة آلاف سنة، بعد أن بدأ الإنسان الأول فرض سيطرته وإدراكه للمحيط البيولوجي من حوله، وأخذ التطور الثقافي ينتشر أفقياً بين الثقافات عبر الأفكار، أكثر مما يفعل عبر علم الوراثة، فالتطور الثقافي يفوق نظيره الدارويني سرعة بآلاف المرات، حاملاً البشرية إلى عصر جديد من الاعتماد والتداخل الثقافيين، أي ما يطلق عليه اليوم اسم العولمة.
الآن الخلايا الجذعية وتطورات علمها، وهندسة الجينات وعموم التكنولوجيا الحيوية، بات يمكن تدجينها منزلياً، كما يجري في اليابان وهولندا، والمقصود هو أن عامل الحدائق سيتمكن من استيلاد أنواع مختلفة وجديدة عن الورود والنباتات واختلاطات الفواكه وألوانها، فلماذا لا تتوقع مستقبلاً أن يتمكن الأطفال من اللعب بالبيض والبذور الحقيقية إسهاماً في الإبداع الفني.
ذات الأمر في الانتشار الأفقي للثقافة، الثورة المقبلة في عالم الخليوي "اندرويد" نظام تشغيل للهواتف الخليوية، والذي سيكون مجانياً ومفتوحاً، أي استخدام البرنامج الأساسي في تصميم برامج أخرى، بما يتيح القدرة والفرصة على صهر الإبداع، مع سمة الانتشار الهائل للهواتف الخليوية. يتيح الفرصة لأي أحد؛ وفي أي مكان أن يكتب برامج ويتقاسمها مع غيره في أي مكان من العالم، وقد يقوم بها مراهق من داخل غرفة نومه. معنى هذا هو قيام "مجتمعات برمجة" كبيرة، وأن أي إنجاز صالح هو للجميع، والأهم عودته بنفس اللغة التي يتكلمها في تنوع اللغات وتنوع الشعوب، كيف يمكن أن ننظر إلى نظرية المعرفة الآن ومن على هذه الإنجازات، وقد دخل بها أيضاً تشريح (فسيولوجيا) الدماغ ذاته، والبرامج الخليوية المقبلة مقدمة لتطور أوسع نطاقاً بما لا يقاس على سابق، فضلاً عن المنظور التكنو ـ اجتماعي.
من الجلي والواضح على كل الأحوال، ومن وجهة نظر العقلانية السطحية على الأقل، أن الوفاء للماركسية، يبدأ بالإفراج عن ماركس، السبب الذي لعبت فيه "قولبة" الإيديولوجيا ـ السياسة الدور الرئيسي في حالتها الستالينية، وعلى النحو الذي فسر فيه ماركس ذاته الكاثوليكية: "ليس ثمة ضرورة لامتلاك معارك عميقة في مجال تاريخ (جمهورية روما)، كي نعرف أن تاريخ ملكية الأراضي هو الذي يشكل قوتها المحركة الخفية". وكان على التجربة الستالينية أن تدفع ثمن خطيئتها بقسوة، ليس فقط عندما قولبت ماركس، بل لأنها كذلك "قولبة" حركة مجتمعاتها، وعندما تخيلت أن هذا التعليب متطابق مع منهج ماركس، وأن هذه "الوحدة" الكلاسيكية قد تجسدت بينهما بكمال كلي وحتمي، مثلما "حتمية التشكيلة الاشتراكية" بسماتها الموصوفة، وبذات القدر من السلطة البدائية البالية، والواهنة أمام تطور المجتمعات والعلوم الاجتماعية، مما جعلها ذاتها مصيدة لثورتها، ومصيدة لثورية الماركسية ذاتها لديها. وهذا لم يتوقف عليها وحدها، بل لكل من سمح لذاته أن يقع فيها، فقدان أهمية الحزب الثوري، بسبب السلطة واضطهاد الشعوب، هذا الحزب الذي سيتحول آجلاً إلى وظيفة "سطم" فوهة بركان الثورة مهما طال الزمن، في خلاصة التراكيب والعبارات الماركسية الديالكتيكية ذاتها: "العمليات التناحرية من حيث طبيعتها، والتي تتضمن في داخلها التناقض، وتحويل كل حد إلى نقيضه، وأخيراً كنواة لكل شيء ـ نفي النفي ...".

• مركز التوثيق والمعلومات الفلسطيني