يتذكرون بول بوت، ويتناسون من دعموه


احمد زكى
2004 / 2 / 25 - 09:18     

جون بيلجر - 30 يناير، 2004.

ترجمة : احمد زكى

"انه واجبي"، هذا ما كتبه مراسل التايمز عند تحرير ’بلسن‘ [المعتقل النازي]، "أن اصف شيئا فوق خيال الجنس البشري".  وهذا ما شعرت به أنا أيضا في صيف 1979، عند وصولي إلى كمبوديا إبان سقوط نظام بول بوت مرتكب المذابح الجماعية.

في بنوم بنه، الصامتة، ذات الجو الرمادي الرطب، مدينة في حجم مانشستر، كانت مثل مدينة تخلفت عن غارة نووية تركت المباني والبيوت والشقق والمكاتب والمدارس والفنادق قائمة، ولكن خاوية، مفتوحة الأبواب، كما لو أنها أخليت من الناس هذا اليوم نفسه.  الممتلكات الشخصية ملقاة في الطرقات وقد داستها الأقدام؛ إشارات المرور توقفت عند الضوء الأحمر.  لم تكن هناك تقريبا أي سلطة، ولا ماء للشرب.  في محطة القطارات، توقفت القطارات خاوية معطلة على مسافات متقطعة من مراحل السفر.  العديد من عربات القطارات كانت تشتعل فيها النيران تحتوي أكوام الجثث فوق بعضها البعض.

هبت رياح المونسون الموسمية بعد الظهر، لتجري في المزاريب فجأة طوفان من الأوراق؛ ولكنها كانت أوراق النقود.  سالت الشوارع بالنقود، كثير منها بنكنوت جديد وغير مستعمل مصدره بنك كمبوديا الوطني، وقد رماه رجال الخمير الحمر في انسحابهم أمام الجيش الفيتنامي.  في الداخل، استقر زوج من العوينات المحطمة على رف من الخشب؛ انزلقت قدمي وسقطت بقسوة على أرضية هشة من العملات المعدنية.  كانت النقود في كل مكان.  فى محطة بنزين مهجورة "إسو"، امرأة عجوز وثلاث أطفال عجاف ناحلين جلسوا القرفصاء حول قدر يحوي خليط من الجذور والأوراق يغلي فوق نيران أشعلوها بأوراق النقد: آلاف الرزم الجديدة، التي أنتجتها توا شركة دو لا ري في لندن.

مشيت في طريق ضيق طويل موحل، خالي من أي حركة اللهم الا حركة عصافير السويفت صغيرة الحجم صعودا وهبوطا حتى تكاد تلمس ارضيته، ينتهي الطريق ببناء كان سابقا مدرسة ابتدائية تسمى ’تيول سلينج‘.  كانت المدرسة تدار اثناء سنوات بول بوت بواسطة جهاز من نوعية الجستابو، اسمه "اس 21"، كان يقسم قاعات الدراسة الى "وحدة تعذيب" و"وحدة استجواب".  صادفت بقع من الدم وخصلات شعر لا تزال على الأرضيات، حيث كانت تشوه أجساد الناس على السرر الحديدية.  مات في هذا المكان نحو 17 الف شخص نوعا من الموت البطيء: وهي حقيقة ليس من الصعب إثباتها لان القتلة اخذوا صورا فوتوغرافية لضحاياهم قبل وبعد التعذيب ثم قتلوهم في قبور جماعية على حواف المدينة.  كانوا يسجلون أسمائهم وأعمارهم، وكذلك الأوزان والأطوال.  احد الغرف امتلأت حتى السقف بملابس الضحايا وأحذيتها، ومنها ما كان يخص أطفال عديدون.

لم تكن ’تيول سلينج‘ معتقلا على غرار ’بيلسن‘ ولا ’اوشفيتس‘، بل كانت بشكل مبدأي مركزا للقتل السياسي.  قتل هنا أعضاء قياديون من الخمير الحمر، بمن فيهم هؤلاء الذين شكلوا مقاومة مبكرة ضد بول بوت، وكان ذلك يتم عادة بعد "اعترافهم" انهم كانوا يعملون لصالح الـ CIA، والـ KGB، وهانوي: أي شيء يشبع غرور البارانويا [جنون العظمة] الحاكمة.  عائلات بأكملها سجنت قي زنازين بالغة الضيق، مقيدة بقضيب حديدي واحد.  بعضهم نام عاريا مجردا من ثيابه على الأرضية الحجرية.  كتب على سبورة المدرسة:

الكلام ممنوع تماما

بعض الأشياء، يجب أن تحصل على إذن سلطات العنبر، قبل القيام بها.

قد يكون القيام "ببعض الأشياء" هو تبديل مكانك في الزنزانة فقط، والمخالف عقوبته من 20 إلى 30 جلدة بالسوط.  المراحيض كانت صناديق ذخيرة صغيرة، عليها علامة "صنع في الولايات المتحدة الأمريكية".  كانت عقوبة قلب صندوق البراز هذا هي لعق الأرضية بلسانك، أو التعذيب، أو الموت، أو الثلاثة معا.

جاء هذا الوصف، ربما كما لم يحدث من قبل، على لسان القلة التي عاشت بعد تيول سلنج، في الفيلم التسجيلي المشهور، اس 21: ماكينة القتل عند الخمير الحمر.  الفيلم، الذي أخرجه مخرج من الخمير يعيش في باريس اسمه ريثي بانه، امتلك من القوة إلى الدرجة التي حركت مشاعري، بأكثر من أي شيء شاهدته بنفسي في كمبوديا عند زيارتي لها منذ 25 عاما مضت، وقد استدعى الرهبة والريبة التي كانت قائمة حينئذ.  بانه، الذي قتل إرهاب بول بوت أبويه، نجح في أن يجمع الضحايا والجلادين والقتلة في تيول سلينج معا، المكان الذي تحول إلي متحف للمذابح الجماعية.

فان ناته، رسام، هو الشخص الأساسي الذي بقى.  أصبح شعره رماديا الآن؛ ولست متأكدا، ولكن ربما اكون قد قابلته في المعسكر عام 1979؛ بالتأكيد، اخبرني ان حياته قد أنقذت عندما علموا انه نحات، ووفروه ليصنع التماثيل النصفية لبول بوت.  لا يمكن نسيان شجاعة، وكرامة، وصبر هذا الرجل، عندما قابل، في الفيلم، جلاديه السابقين، الذين وصفهم بانه، "الرحالة المعتادون الغامضون وراء المذابح الجماعية".

كان للفيلم هدف وحيد: مواجهة، في أحسن التعبيرات، بين شجاعة وعزيمة هؤلاء مثل ناته، الذين يريدون الفهم، والسجانة، الذين بدأت عملية تطهرهم.  كان هناك هوي نائب رئيس الأمن، وخان الجلاد، وتي كاتب السجلات، الذين لاح عليهم وهم يتذكرون الماضي كما لو انهم مفصولين، تقريبا مع حنين كئيب، عن أيديولوجيا الخمير الحمر؛ وكان هناك بوئيف، الذي تلقن الأيديولوجية كحارس سجن فى الثانية عشر أو الثالثة عشر من عمره.  في لحظات تتابع تنبهر لها الأنفاس، تحول بوئيف إلى روبوت، كما لو انه عاد بذاكرته ليعيش في الماضي.  اخذ يشرح لنا، بدقة تفصيلية بلهاء، كيف كان يرهب السجناء، كيف كان يربط أغلال أياديهم وأرجلهم، كيف كان يوزع عليهم الطعام أو يحرمهم منه، كيف كان يأمرهم بالتبول، مهددا إياهم بالضرب بهراوته إذا ما سقطت نقطة من البول على الأرض. تصرفاته واجهتنا كلنا بحقيقة "التروس" البشرية في الماكينات التي يدعي مخترعوها ومدراءها المحنكون بشكل مؤدب عدم مسئوليتهم عن افعالها، أمثال قادة الخمير الحمر الذين لم يحاكموا حتى الآن، وأمثال الرعاة الرسميون الأجانب.

بانه، الذي جاء صنعه للفيلم في حد ذاته عملا من أعمال الشجاعة، يرى شيئا ايجابيا ما في مجرد تحمل الشهادة، وفي كلام السجناء، وفي "المقاومة [التي هي] شكل من أشكال الكرامة التي هي بشرية بشكل عميق".  انه يشير إلى "الأشياء الصغيرة، تلك التفاصيل الغير جوهرية، الخفيفة والهشة لهذه الدرجة، التي تجعل منا ما نحن عليه.  انك لن تستطيع أبدا ’تحطيم‘ نفسا بشرية.  اثر ما سوف يبقى دائما، حتى بعد مرور عيد من السنين... رفض القبول بالإهانة والإذلال تستطيع أحيانا نظرة استهانة، ارتعاشة الذقن إلى أعلى قليلا، رفض الخضوع تحت ضربات السياط نقله إلينا... صور بعض السجناء والاعترافات المحفوظة لدى متحف تيول سلينج كلها أشياء موجودة لتذكرنا بذلك".

يبدو انه شيء لا يبعث على الاحترام أن تأخذ القضية على هذا المستوى؛ ولكنه يجب على المرء ان يفعل ذلك.  لوقت طويل كان بول بوت وعصابته رمزا استعراضيا للرعب في الغرب، بدون إبداء الأسباب وراء ذلك.  ويجب أن نعترف، أن هذا الفيلم المدهش لم يضف إلا قليلا لهذه الأسباب.  عندما مات بول بوت في سريره منذ أعوام مضت، سألني احد منتجي الأفلام أن اكتب عنه.  أجبت إنني قد اكتب، ولكن دور الحكومات "المتحضرة" في القدوم به إلى السلطة، ودعم استمرار حركته وتجديد شبابها كان عنصرا حاسما.  لم يعد هذا الرجل مهتما بي.

المذابح الجماعية في كمبوديا لم تبدأ في 17 ابريل 1975، "العام صفر".  لقد بدأت قبلها بخمس سنوات عندما قتلت قاذفات القنابل الأمريكية ما يقدر بـ 600 الف كمبودي.  قنابل الغاز والقنابل العنقودية والنابالم والقنابل التي تركت حفرا غائرة هائلة الحجم، أسقطت على بلد محايد لشعب من الفلاحين يعيش في أكواخ من القش.  في واحدة من الفترات مدتها ستة اشهر فقط، سقطت أطنان من القنابل الأمريكية على كمبوديا أكثر كثيرا مما أسقطته القاذفات الأمريكية على اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية: ما يعادل خمسة قنابل من وزن الواحدة التي أسقطت على هيروشيما.  ارتكب ذلك نظام ريتشارد نيكسون وهنري كيسينجر، سرا وبشكل غير مشروع.

ملفات الـ CIA الغير مصنفة لا تدع مجالا للشك في أن ذلك القصف كان عاملا مساعدا لمتطرفي بول بوت، الذين كانوا، قبل هذا الجحيم، تدعمهم أقلية صغيرة فقط.  عندها، تجمع الشعب المنكوب حولهم.  احد الجلادين، في فيلم بانه، يشير إلى القصف على انه كان السبب وراء التحاقه "بالمقاومة": الخمير الحمر.  ما بدأه نيكسون وكيسنجر، أتمه بول بوت.  وبعد ان طرده الفيتناميون، الذين دخلوا من الباب الخاطئ للحرب الباردة، من كمبوديا، أعادت إدارة ريجان تسكين الخمير الحمر في تايلاند، بمساعدة حكومة ثاتشر، التي اخترعت بدورها "تحالفا" لتوفير غطاء لاستمرار أمريكا في حربها ضد فيتنام.

شكرا لك يا ريثي بانه، على فيلمك الشجاع؛ ما نحتاجه الآن هو عمل بوصفنا شرفاء، عمل يتحدانا "نحن"، عمل يستعيد ذاكرتنا المفقودة عن الدور الذي لعبه قادتنا المحترمين في مأساة كمبوديا البشعة.