نهاية التاريخ ، أم نهاية الريغانية والتاتشرية؟


حميد كشكولي
2008 / 10 / 27 - 07:38     

منظر اللبرالية الرأسمالية فوكوياما الذي أعلن " نهاية التاريخ" بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ، والكتلة الشرقية ، وانتهاء الحرب الباردة بين القطبين ، عاد اليوم ، بعد الأزمة الرأسمالية الحالية لمراجعة أفكاره السابقة ، بدون التراجع عنها ، في مقال نشرته وسائل الاعلام في العالم. و ما يستنتجه المرء من مقاله هو اعترافه بفشل اقتصاد السوق ، والنظام العالمي الجديد للامبريالية الأمريكية.
في الثمانينات من القرن الماضي ، قامت المرأة الحديدية مارغريت تاتشر، حين كانت رئيسة وزراء بريطانيا، ورفيقها في الإجرام ريغان الرئيس الأمريكي الكوبوي، بهجوم كبير على كل ما حققته الطبقة العاملة ، والتحرريين في الحقب الماضية بنضالها و تضحياتها الجسام ، ما أدى إلى انهيار منظومة الرفاه في بلدان الغرب الرأسمالي اللبرالي.
وفي نهاية تسعينات القرن الماضي أقامت البرجوازية الأعراس والاحتفالات بانهيار الاتحاد السوفييتي، معتبرة ذلك انتصارا نهائيا للبرالية الديمقراطية، على أنظمة الكتلة الشرقية التي لا يزال كل أعداء البشرية يصرون على تسميتها بالاشتراكية والشيوعية. فأطلق المنظرون الرأسماليون من أمثال فوكوياما على تلك الأحداث، " نهاية التاريخ" ، معلنين انتصار الرأسمالية، أو بحسب تسميتهم " العالم الحر" على الاتحاد السوفيتي . وقد استمد فوكوياما فكرة نهاية التاريخ من هيجل ، إذ تصور نهاية للتاريخ حين تسود اللبرالية في العالم . وقد تركزت نظرية فوكوياما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، على أن لا بديل تطوريا كنظام ، يمكن أن يحل محل الرأسمالية اللبرالية" .
لكن كل التحولات والأحداث منذ عقدين من الزمن، وخاصة الحركات المناهضة للرأسمالية والعولمة و الحروب وغيرها، و تأثيرات التظاهرات التي قامت بوجه رؤساء الإمبريالية ، وخاصة في سياتل عام 1999 ضد منظمة التجارة العالمية، اضطرت منظري اللبرالية الرأسمالية ، إلى التراجع عن أفكارهم ، أو القيام بترقيعها معترفين بفشلها.
لا يخفي فوكوياما أن السياسة الجديدة تواجه مشكلة لماذا يجب أن يتحمل ضاربو الضرائب والطبقة العاملة ثمن دفع الأزمة، ولكنه في نفس الوقت يسعى هذه المرة أن يبدو كمنتقد للبرجوازية يتابع ملف المجرم ، لا كمنظر ومستشار.
يعترف فوكوياما بأن سقوط النموذج الأمريكي في العالم ، أبعد بكثير من إزالة آثار 11 سبتمبر ، و حل أزمة الوول ستريت. وكذلك يؤكد على صحة محللين أطلقوا على الأزمة" نهاية الريغانية" و الأفكار والسياسات التي طغت منذ عقدين. فما هي هذه الأفكار؟ السوق الحرة، و تقليل دور الحكومات، والحرية المطلقة للسوق ، والضريبة الأقل وقرارات لتسهيل أعمال المال والنقد ، والترويج للديمقراطية اللبرالية في العالم باعتبارها خير سبيل لتحقيق نظام عالمي حر و مزدهر، و إلغاء مسؤولية المجتمع إزاء الفرد ، وإلغاء أنظمة الضمان والخدمات الاجتماعية، باسم " مواجهة الاشتراكية، و وفرض عقود على العمال من قبل أصحاب العمل، وإلغاء مقررات حماية العامل من المخاطر المفترضة في العمل،
العسكريتاريا، والالعسكريتاريا، والغطرسة العسكرية ، و اشتداد معاداة الشيوعية و كل فكر تقدمي وإنساني، و بذل أقصى الجهود لتشويه الفكر الماركسي وجعل الماركسية مرادفة للشمولية و الدكتاتورية ، في وقت يتم العمل على تأجيج الخلافات الطائفية والقومية والمذهبية في الشرق الأوسط و العالم الإسلامي ، وبث الروح في العشائرية، و إقامة سلطات قبائل رجعية متخلفة، بذريعة نشر الديمقراطية ، ورفع شعار ما بعد الحداثة ، واعتبار كل مكاسب البشرية التي تحققت نتيجة نضال وتضحيات الطبقة العاملة شرا ، لتسهيل التراجع عنها ، و فتح الأبواب واسعة أمام الرأسماليين و توابعهم شيوخ القبائل و الطوائف للمزيد من النهب والسلب و الفساد.
فهذه المنظومة اللبرالية التي قامت على أساس ما بعد الحداثة قد ثبت فشلها أمام إرادة الجماهير ومطالبيها في الاشتراكية والمساواة التامة بين البشر .فهذا النموذج الفاشل ليس أمريكيا فحسب ، بل هو نموذج الرأسمالية في العالم ، باعتراف فوكوياما. فالرأسمالية في زمن عولمتها الحديثة مزقت كل حدودها الوطنية والقومية ، وإن كل أزمة لها لا بد أن تشمل كل العالم الرأسمالي. لقد اصطدم فوكوياما بصخرة الحقيقة ، وهو مصاب الآن بدوار ودوخة كبيرين ، منعاه من الرؤية الواضحة ، فهو يربط إعادة الاعتبار لدور أمريكا ، ونظامها العالمي الجديد بجهد عظيم لإعادة الوضع الاقتصادي القائد لأمريكا في العالم الذي كان لها فترة الحرب العالمية الثانية و بعدها ، وهو يعلم أن ذلك بات من المحال.

لا يزال فوكوياما يصر أن الريغانية والتاتشرية ، واقتصاد السوق المطلق الحرية وتقليل دور الحكومات في الاقتصاد ،كانت صحيحة وأنها السبيل الوحيد للرفاه والحياة الحرة ، لكنه يرمي بفشلها على مجرمين و محرفين لفكرة اللبرالية الاقتصادية والنظام العالمي الجديد للمحافظين الجدد.

فأزمة الرأسمالية التي انتشرت بسرعة البرق في العالم ، وانتابت مراكزه الاقتصادية المهمة ، فضحت البنى الفكرية والإيديولوجية التي تستند عليها الرأسمالية. فالرأسمالية العالمية، وبدعم حكوماتها، تسعى للخروج من أزمتها بتخصيص ما تستطيع من تخصيص المال و ضخ الأموال للبنوك والشركات المتأزمة، وفي نفس الوقت تحاول بتحميل الطبقة العاملة كل تبعاتها و عواقبها وكوارثها.
حذرت منظمة العمل الدولية ، في آخر تقريرها، أن استمرار الأزمة المالية العالمية سوف يؤدي إلى ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل ، بإضافة 20 مليون عاطل عن العمل. وأنها سوف تؤدي إلى إفقار المزيد من البشر، بإضافة ما لا يقل عن 40 مليون من الجياع إلى الجياع الأصليين.
لقد استعادت اليوم الماركسية رونقها، وبات الحل الطبقي الماركسي أكثر من أي وقت مضى، السبيل الوحيد أمام المناضلين لتحقيق أهداف الإنسانية، وذلك باتحاد النضال و تنظيم العمل لإنهاء كل أنواع الاستغلال والاضطهاد، و خصوصا استغلال الإنسان للإنسان. فالمجتمع الذي صوره ماركس هو مجتمع يتمتع فيه الإنسان بأقصى حرياته وتتم تلبية كل حاجاته المادية والروحية ،بامتلاكه كل النعم الطبيعية ، و يمتلك كل مكاسب البشرية المتحققة لحد اليوم، وفق مبدأ الشيوعية " كل إنسان حسب حاجته".

معرض فرانكفورت للكتاب كان الطلب والإقبال وخاصة من قبل الشباب والطلبة ، على كتابات ماركس وانجلز مدهشا للغاية، و ارتفعت مبيعات كتب ماركس و خاصة كتابه " رأس المال" لتكسر الرقم القياسي .
وقد صرح مسؤول دار نشر " كارل ديتس" يورن اشتروس في برلين، في هذا السياق ، لجريدة الغارديان البريطانية " عاد ماركس موضة العصر مرة أخرى" ، وإن الشباب يقبلون على اقتناء كتب ماركس بشكل كبير جدا.

إن التضليل الأكبر الذي يقوم به المحللون البرجوازيون واليسار التقليدي هو تصوير إجراءات الحكومات بضخ الأموال إلى البنوك المفلسة ، وتدخلها في الاقتصاد بأنها خطوات اشتراكية . لقد كانت الأنظمة الدكتاتورية كلها في ما يسمى بالعالم الثالث، والتي يتركز كل رأسمال الدولة بيدها، تسمى نفسها أنظمة اشتراكية، و لم تكن سوى أنظمة رأسمالية الدولة الاحتكارية. لقد عاد ماركس اليوم بكل قوة بأفكاره العظيمة إلى الميدان، وإن شبح الشيوعية بات يحوم فوق ناطحات السحاب في نيويورك، و كل أمريكا، والعالم الغربي.