اسألوا ماركس عن الأزمة المالية العالمية


سامر سليمان
2008 / 10 / 16 - 08:17     

الأزمات تكشف معادن الناس، الجدع منهم والنذل. لكي تعرف صديقك الحقيقي من المزيف يجب أن تختبر وقفته معك في الأزمة. بالمثل، الأزمات الاقتصادية العظيمة تكشف معادن التيارات الفكرية والسياسية. عندما تضرب الأزمات الكبرى الناس، يستيقظ هؤلاء على حقيقة أن دوام الحال من المحال، وأن ما يعيشون فيه اليوم سيصبحون على غيره غداً. ومن هنا يعطي الناس أذانهم لمن يريد تفسير الأزمة، ولمن يمتلك شجاعة طرح الحلول. هنا تتقدم مختلف التيارات الفكرية والسياسية لكي تملاً الفراغ الناشيء عن سقوط بعض الأفكار القديمة. وهو الأمر الذي يكشف عن معادنها الحقيقية، عما إذا كانت تمتلك بالفعل تفسيرات لمشاكل البشرية وتصور عن الحلول، أم أنها لا تقدم إلا الوهم.

الأزمة المالية السبتمبرية العالمية كشفت عن معادن التيارات السياسية والفكرية التي تقدمت لمليء الفراغ الناشيء عن تراجع الفكر اليميني المحافظ الذي سيطر على الساحة الفكرية الاقتصادية والسياسية طوال ثلاثة عقود. دعونا نتأملهم وهم يعرضون بضاعتهم الفكرية. هناك في أمريكا في أوروبا ارتفع نعيق النازيين الجدد بأن الأزمة سببها اليهود الذين – في زعمهم – يسيطرون على النظام المالي العالمي. وهنا في منطقتنا تردد نفس النعيق من جانب الأصوليين. ففي فلسطين لفت المتحدث باسم حماس في غزة فوزي برهوم أنظار الرئيس الأمريكي الغافل عن خبث اليهود أن اللوبي اليهودي الأمريكي هو خالق الأزمة، وهو التصريح الذي تناقلته وسائل الاعلام الاسرائيلية بسعادة بالغة لأنه يثبت مرة أخرى عنصرية العرب. ربنا يعين الشعب الفلسطيني على قياداته الحمساوية! وهنا وهناك تقدم المشعوذون المولعون بالخرافة لكي يطرحوا نظرية المؤامرة البائسة التي تقول أن حكومة الولايات المتحدة نفسها هي التي صنعت الأزمة لكي تزيح منافسيها من الأوروبيين والصينيين. بالضبط كما تأمرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لكي تفجر برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في سبتمبر 11! هذه التفسيرات على تفاهتها تسيطر على عقول الملايين، ولكن ليس هنا مكان تفنيدها لأن قراء البديل الكرام ليسوا ممن يبلع هذه الترهات.

بعيداً عن التفسيرات العنصرية والتأمرية للأزمة كان هناك تفسيرات أخرى أقل تفاهة ولكن محدودة في قدراتها التفسيرية. اليمين المحافظ في السلطة أو القريب منها قال أن الأزمة أزمة إدارة. المتهم بصناعة الأزمة الأخيرة هم مديري البنوك والمؤسسات المصرفية الذين تمادوا في إقراض المستهلكين في القطاع العقاري بلا حساب. هكذا عندما عجز الكثير من هؤلاء عن سداد القروض انهارات العديد من البنوك والمؤسسات المصرفية. لماذا تمادي المديرون في الإقراض؟ الإجابة هي الجشع. إذن الأزمة أزمة أخلاق. ما الحل إذن؟ الحل هو السيطرة على جشع هؤلاء عن طريق إجراءات مثلاُ من نوع فرض حداً أقصى لأجورهم كما تعالت الأصوات في الولايات المتحدة.

ولأن هذا التفسير لا يقنع حتى الأطفال فقد تقدم اليمين الرشيد المقتنع بحتمية دور الدولة لحماية الرأسمالية من نفسها ليقول أن الأزمة هي أزمة سياسة. لقد تطور أدوات الاستثمار في القطاعات المصرفية والمالية بشكل منفلت لم تنجح الحكومات في تنظيمه وضبطه. لماذا؟ لأن الحكومات يسيطر عليها منذ عدة عقود مجموعة من السياسيين الأصوليين. وأصولية هؤلاء تقوم على ديانة جديدة هي ديانة السوق. هؤلاء إذن لا يقلوا في بعض الأحيان في التعصب وضيق الأفق عن الأصوليين المهووسين بفرض عقيدتهم الدينية على الأخرين. هذا هو الخطاب السائد لدى اليمين الأوروبي الناقد للنموذج الأمريكي في الرأسمالية. وهذا ما قاله بوضوح الرئيس الفرنسي ساركوزي عندما صرح بأن هناك نموذج من الرأسمالية قد انتهى.
لكن المشكلة أن كلها هذه التفسيرات غير مشبعة وهي تثير أسئلة أكثر مما تقدم تقدم إجابات. لذلك تسرب إلى العقول أن الأزمة ربما ليست فقط أزمة إدارة مصرفية أو أزمة إدارة سياسية ولكن أزمة في النظام الرأسمالي باقتصاده وسياسته. وهنا كانت العودة المحمودة إلى الناقد الأكبر للرأسمالية، الفيلسوف وعالم الاقتصاد السياسي كارل ماركس لسؤاله عن تفسيره للأزمة. هكذا تردد اسم ماركس ونشرت صورته بكثافة في الأسابيع الماضية. ولأن ماركس مات منذ زمن بعيد ولأن أحفاده غير مرحب بهم في وسائل الإعلام أو هم لا يعرفون طريقاً لها، فقد تولى خصوم ماركس أنفسهم عرض نظريته عن أزمة الرأسمالية بشكل مشوه وقاموا بتفنيدها بناء على هذا التشويه.

لكن في الحقيقة الإضافة التي يقدمها ماركس في الجدل الدائر عن الأزمة هائلة. فإذا كان مديرو المصارف والبنوك قد تمادوا في إقراض من لا يستحق، فالسؤال هو لماذا؟ هنا سيجيب ماركس لأن البنوك لا تجد كفايتها من مستثمرين أصحاب مشروعات رابحة لكي تقرضهم. لماذا؟ سيجيب ماركس لأن هناك حالة تشبع في السوق. لأن أزمة الرأسمالية هي أزمة فائض إنتاج وليس نقص فيه. الأزمات الاقتصادية التي تعرضت البشرية قبل الرأسمالية – مثل أزمات مصر أيام الفاطميين والمماليك التي أكل الناس فيها القطط والكلاب – حدثت بسبب نقص في الإنتاج الزراعي سواء بسبب الجفاف أو بسبب ظروف سياسية. المشكلة الأن أن الرأسمالية تستمثر في الهواء. المشكلة أنها "تدهن الهوا دوكو" لأنها لا تجد جدران لتدهنها. ملايين المستثمرين الكبار والصغار يحققون أرباح خرافية من لا شيء، من المضاربة في البورصات والعملات والعقارات. وهنا الداء. فالقيمة والربح لا يخلقهما إلا العمل الحقيقي المنتج، كما شرح ماركس في نظرية "القيمة في العمل".

الحل السريع للرأسمالية إذن يكمن في إضافة ملايين العمال والمستهلكين الجدد إلى النظام الرأسمالي. هكذا أفسحوا مكاناً لدول جنوب شرق أسيا والصين الذين على أكتافهم استطاعت الرأسمالية الأمريكية والأوروبية أن تحقق أرباحاً تقيها من شر الأزمة. وهكذا تسارعت وتيرة العولمة في العقود الأخيرة. ولكن كل هذه العولمة وقفت عاجزة عن إشباع حاجة الرأسمالية لخلق مناطق استثمارية جديدة. الباقي من العالم لا يزال مستعصى على الإدماج في النظام العالمي إلا على الهامش، إما لأنه يرزح في التخلف والجهل والصراعات القبلية والطائفية كما هو الحال في مناطق كثيرة بأفريقيا وأسيا، أي أنه غير قابل للإدماج أصلاً، أو لأنه يريد أن يندمج بشروط لا ترتضيها الرأسمالية الكبرى أو للاثنين معاً. هكذا نفذ صبر قائدة الرأسمالية العالمية وقررت أن تقدم النموذج وأن تدمج المهمشين التعساء بالقوة. هذا ما سماه المفكر الاقتصادي سمير أمين "عسكرة العولمة". لكن العولمة التي تعسكرت وذهبت إلى أفغانستان العراق لم تنقذ الرأسمالية من الأزمة. المشكلة أكبر بكثير، والحلول كلها مكلفة ومتعارضة. وهذا موضوع المقالة المقبلة.