المحكمة الجنائية الدولية: هل من خيار وطني؟


مجدي الجزولي
2008 / 10 / 8 - 09:31     

انتقلت الحكومة السودانية إلى موقع المراقب المتوجس بعد انقضاء هبتها الأولى ضد إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو طلبه توقيف رئيس الجمهورية في 14 يوليو الماضي، وبعد أن جهدت ما استطاعت في تجنيد الدبلوماسية العربية والافريقية لصد مساعي المدعي العام عبر الهيئات والمنابر الاقليمية والدولية. آخر تلك الجهود حملة السيد نائب الرئيس، علي عثمان محمد طه، في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة وتصريحات السيد الرئيس في قمة آكرا لدول افريقيا والباسفيكي.
تأرجح الموقف الحكومي بين رفض مطلق لولاية المحكمة وتسفيه تام لطلب مدعيها وبين التوسل لمجلس الأمن بضغط اقليمي أيا قوم حكموا البند (16) من نظام روما لتأجيل الإجراءات القضائية ضد السيد الرئيس حتى حين معلوم، هو عام يقبل التجديد، ما يشير ظاهرا لتناقض في البيت الحاكم بين من يقترح مواجهة كلية مع المجتمع الدولي تعود بالإنقاذ إلى محطة مراهقتها الشرسة، بما في ذلك "طرد" البعثة الأممية الافريقية المشتركة في دارفور، بل وبعثة الأمم المتحدة الراعية لبروتوكولات نيفاشا، ومن جهة أخرى من هم على استعداد مزعوم لتعاط بناء مع الجماعة الدولية بلغة الدبلوماسية الأوروبية، عناصره بحسب الإعلان الفرنسي تسليم المتهمين السابقين، هارون وكوشيب، وتغييرات جوهرية لسياسة الحكومة في دارفور تقترب من نسفها، ثم الإقبال الإيجابي على تفاوض منتظر، بالإضافة إلى تحسين العلاقة مع تشاد، أي بدرجة أو أخرى تغيير تركيبة النظام. فتلك مهام لن تتأتى لطاقم الإنقاذ كفاحا، وإن مضى فيها تفرقت جماعته بين "قصر" آخر و"منشية"! هذا وقد أكدت دول كبرى، فرنسا والولايات المتحدة، أنها والحال على ما هو عليه عازمة على استخدام حق النقض في المجلس لسد الطريق على أي دعوة لاستخدام البند (16) من نظام روما درءا لفتنة أوكامبو.
الغالب أن إدراكا لفداحة الموقف قد ترسخ عند أهل الحكم، لكن تشي لهم غريزة البقاء بجدوى المزاوجة بين تهديد الفوضى وتقية البند (16) شراء للوقت حتى الأجل المحتوم. والقرينة أن الحجة الحكومية الرئيسة في هذا الصدد هي التسويق لخطر التفكك الفوضوي، تسونامي أو زلزال، حال أقدم قضاة التحقيق على المصادقة على طلب السيد المدعي العام توقيف رئيس الجمهورية، أضافت إليها الحكومة مؤخرا دارج "ديموقراطي" من شاكلة تهديد عملية السلام في دارفور بتعزيز المواقف "المتعنتة" للحركات المسلحة، وتهديد الانتخابات المزمع عقدها العام القادم ومن ثم جل العملية السلمية التي دشنتها بروتوكولات نيفاشا. وهي حجج، على براءتها البادية، مأخوذة عن مقولة الفوضى لا تبارحها. أول الأمر، عملية السلام في دارفور شبح لا مادة له، فدارفور واقعها الحرب، بل فات على الحكومة أن تحافظ على "أبوجا" التي صيغت على مزاجها فدفعت بحليف السلام مساعد الرئيس، مني أركو مناوي، إلى ملجأ آمن من الكيد الحكومي وشنت على قواته حربا لا إسم لها ثم أعادت تدوير أبوجا بتفاوض قصير طرفاه نائب الرئيس ومساعده انتهى إلى "مصفوفة"، جبرا للكسور والبواقي. أما المبادرات التي بلغت في آخر تعداد صحفي 37 أو أكثر فلم تبارح طاولة الرسم إن كانت قد استقرت عليها. وثانيه، أن الانتخابات ودارفور إما معسكرات لاجئين أو بور للاقتتال عاجزة عن الإتيان بأي مشروعية يعتد لها لكائن من كان، فالسياسة تبدأ حيث تنتهي الحرب، بل عجزها مركب بإصرار المؤتمر الوطني صاحب السلطان على إخراج تحول ديموقراطي غير متساو الأضلاع يسبق فيه بآلة قوانينه المقيدة للحريات قبل بدء السباق.
في ترجمة تخريبية تفيد مقولة الفوضى أن حكومة الخرطوم تتوعد بلادها والاقليم بقلب الموائد على طريقة "يا فيها يا نطفيها" وهو تهافت محض، إلا أذا اعتبرنا أن "الخطة" الحكومية في دارفور، واستدعاء القتال إلى شوارع أم درمان، والهجوم العسكري على حليف أبوجا تدابير هدفها الاستقرار وليست من الفوضى في شئ. من ثم، فإن جل ما قد تصيبه الحكومة من هذه المقولة هو تسكين الطبقة السياسية إلى "أعراف" شاذة بداعي "الوطنية" وترويع الأكاديميا والدبلوماسية الدولية أن عدالة كالتي ينادي بها أوكامبو تتناقض كل التناقض مع هدف السلام. لكن الثابت أن الفوضى في دارفور حتى الآن مسؤولية السلطة الحاكمة، بما هي قائمة على الدولة، أفسدت في دارفور جذر السياسة واستبدلته بحريق الحرب تحت عنوان "فرض الهيبة"، والدولة هيبتها احتكار العنف ولجمه بالقانون، أي صناعة السلام بحسن إدارة المصالح الاجتماعية المتناقضة وليس تفجير الحروب.
عليه، مقولة الفوضى رجع صدى لفوضى أولى علتها الحكومة ذاتها، وإن كان من تهديد فهو الآتي من جهاز الحكم، لا الذي تصوره الإنقاذ متربص بالسودان من أعداء عابرين للبحار يعينهم طابور خامس مندس في الصف "الوطني". بعد هذا البيان لا بد من تأكيد جذري يرد للوطنية حريتها، وهو أن تعنت الأزمة على الحل المحلي وعرضها على السوق الدولي خراب لا مراء فيه، أعاد السودان إلى حالة ظن أهله أنهم تجاوزوها بسلامة صحن استقلال 1956 الذي امتد شقه حتى انكسر ساعة إعلان القضاء الدولي رئيس الجمهورية مطلوبا لديه بتهم أخفها جرائم الحرب، تداعيا لعجز بنيوي للقضاء "الوطني" عن رعاية العدالة وتحقيقها غض النظر عن صفة المتهم ومكتبه. مسؤولية ذلك لا تقع على "الحركات المسلحة" ولا على "تحالف دارفور" في الولايات المتحدة الأميركية، ولا على النازحين في المعسكرات، ولا على الذين ساقهم التشريد إلى تل أبيب، ولا على "الجنجويد"، وإنما على عاتق من خرج لإدارة الحالة السودانية منفردا بقوة السلاح فهدم ما تبقى من بناء السياسة واستبدله بوهم الحرب، وها هي الحرب ترتد عليه بمستحقاتها.
إذا صح ما سبق فإن طاقم الإنقاذ لا يمكن أن ينقلب جزءا من الحل وهو علة للمشكلة، وإن كان من إشارة وطنية يقدمها لبلاده فهو رد الأمانة إلى أهلها بما تيسر من وسائل دستورية، وذلك في عرف السياسة السودانية إما حكومة انتقال أو مؤتمر دستوري، أي المحطة التي أجبر السودانيين على تفويتها ساعة انقلابه على السلطة ليلة 30 يونيو 1989، أما الفوضى فللبيت رب يحميه!