دارفور: والعسكر واقف طابور


مجدي الجزولي
2008 / 9 / 23 - 09:34     

جاء في كلمة سابقة أن الحكومة اختارت منطق التأجيل في التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية فأجلت أي اشتغال جاد بالقضية منذ قرار الإحالة من مجلس الأمن إلى عدالة المحكمة الصادر في مارس 2005 بناءً على تقرير لجنة القاضي كاسيسي، ثم أجلت مرة أخرى عندما أصدرت المحكمة مذكرات التوقيف بحق كل من الوزير أحمد هارون وعلي كوشيب في أبريل 2007، واليوم تؤجل لا تلوي على شئ وتطلب من العالم التسويف إذ أصاب الاتهام رئيس الجمهورية، بل كامل جهاز الدولة.
إن كانت الحكومة لا تلقي بالا لأمر دارفور، احترقت أم طقت، فعلى الأقل ينتظر أن تهتم بشأن بقائها ومشروعيتها، وقد طار في وجهها رشاش دماء دارفور تلطخت بها حتى صارت تهما جنائية لا تطال السيد الرئيس مفردا وإنما تطوق جهاز الدولة وقياداته لا تستثني أحدا. ولعل قراءة لوثيقة الاتهام المعلنة المكونة من 113 صفحة والتي نشرتها المحكمة الأسبوع الماضي بعد إعلان ملخصها على لسان المدعي العام لويس مورينو أوكامبو في 14 يوليو تقدم صورة أفضل لما بحوزة المدعي العام من بينات، حيث أورد اسم نائب الرئيس السيد علي عثمان محمد طه كونه "لعب دورا مهما في تنفيذ خطة البشير، خاصة في المساعدة على تجييش مليشيا الجنجويد"، كذلك أشار إلى وزير الداخلية حينها عبد الرحيم محمد حسين، والوزير أحمد هارون مسؤول مكتب دارفور الأمني، ووزير الدفاع حتى سبتمبر 2005 بكري حسن صالح، وصلاح قوش مدير جهاز الأمن، وعوض ابن عوف مدير الاستخبارات العسكرية، بالإضافة إلى ولاة دارفور الثلاثة، وعباس عربي عبد الله رئيس هيئة أركان القوات المسلحة حتى العام 2006، باعتبارهم القادة التنفيذيين الذين أمدوا الرئيس البشير بتقارير دورية عن سير الحرب في دارفور (الوضع في دارفور/السودان، النسخة العامة من طلب المدعي العام تحت البند (58)؛ المحكمة الجنائية الدولية، 14/07/08). يذكر أن المتحدث باسم الخارجية السودانية السيد علي الصادق سارع بتبخيس محتوى التقرير قائلا أنه لا يتضمن اتهامات لأي مسؤولين سودانيين آخرين (سودان تريبيون، 17/09/08)، وهو نفي إن صح نصا لا يصح مضمونا، فالعبرة أن جهاز الدولة بأكمله مشمول باتهام أوكامبو للرئيس البشير، والشاهد ما جاء في حيثيات الاتهام.
يصف جورج أورويل في روايته (أربعة وثمانون وتسعمائة وألف) كمال الشمولية وقد جودت السيطرة على الرأي العام بانشاء وزارة للحقيقة شعاراتها "الحرب هي السلام – الحرية هي العبودية – الجهل هو القوة". ثمة ما يشي بصيغة متدهورة، إن لم تكن بدائية، من هذا الكابوس في شأن حرب الحكومة في دارفور. فقد اختارت خلال الأسبوعين الماضيين، وهي تواجه أزمة الجنائية، أن تلوح براية السلام تقية، مرة مبادرة السيد الرئيس غير معلومة المحتوى وأخرى المبادرة القطرية، بينما تطلق العنان لآلتها العسكرية في أنحاء الاقليم كافة أن الحسم ثم الحسم؛ هدف مستحيل ودارفور قد اتخذت صيغة من العصيان المدني وسيلة للمقاومة، إلا إذا كان رأي الحكومة أن تستبدل أهل دارفور بآخرين. أما القابعين في المعسكرات فلا باب لتطويعهم سوى مخاطبة جذور الأزمة بدءا بإقامة العدل كله في جرائم الاقليم.
في هذا الصدد ارتدت الحكومة إلى كاريكاتور "النهب المسلح"، كأنما تطلب العودة إلى مربع أول تجاوزته هي وتجاوزته الأحداث. بذلك صرح الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، العميد عثمان محمد الأغبش، يريد بعث مشروعية "قديمة" لحملات الحكومة العسكرية في الاقليم فجعل هدفها "تأمين الطرق والمسارات، وتأمين وصول المساعدات الإنسانية لكافة المتضريين بالولاية"، مؤكدا استمرار جهود الحكومة لمطاردة فلول النهب المسلح (الأيام، 14/09/08). لاختبار هذا الزعم تكفي متابعة أخبار الميدان كما تسجلها البعثة الأممية الافريقية المشتركة في الاقليم والتي صرحت أن الحكومة شنت هجوما عاما في شمال دارفور وأكدت على تحرك رتل عسكري مكون من 120 عربة ثقيلة التسليح في نواحي ملحة حوالي 180 كيلو متر شمال شرق مواقع القتال في ديسة وبير مزة، بالإضافة إلى هبوط طائرتي هيلكوبتر قتاليتين في كتم حوالي 70 كيلومتر جنوب الموقعين المذكورين (آ ف ب، 08/09/08). هذا وامتدت حملة الحكومة إلى مناطق في جنوب دارفور، تابت وخزان تنجر، التي استولت عليها بحسب الناطق الرسمي "دون مقاومة تذكر" في إطار مساعيها "لملاحقة النهابين وقطاع الطرق أينما حلوا في ولايات دارفور" (الصحافة، 14/09/08). من ناحيتها وجهت حركة تحرير السودان اتهاما للحكومة بشن هجمات مكثفة على مواقعها في شمال دارفور أشرسها في نواحي طويلة 50 كيلومتر غرب الفاشر (آ ف ب، 18/09/08). لم تسلم البعثة الأممية الافريقية من نيران القتال فقد ظن مقاتلو دارفور أن هيلكوبترات التقصي التي أرسلتها البعثة إلى مواقع المعارك تتبع للحكومة، فوجهوا مدافعهم نحوها، ذلك للمرة الرابعة خلال الأسابيع القليلة الماضية (رويترز، 18/09/08).
بحسب الأمم المتحدة ما أدت الموجة الأخيرة من القتال سوى إلى إجبار آلاف جدد على النزوح وقطع الطريق أمام جهود إيصال المساعدات الإنسانية والعون الغذائي إلى ضحايا النزاع، هذا وحثت منسقة الأمم المتحدة للأعمال الإنسانية، أميرة حق، بعد زيارة إلى الفاشر، جميع الأطراف على الوقف الفوري للعدائيات (الأيام، 20/09/08)، الأمر الذي سبق والتزمت به الحكومة أول رمضان استجابة لدعوة رودلف أدادا قائد القوة الأممية الافريقية المشتركة في دارفور (الشرق الأوسط، 04/09/08).
هذا وفي الخلفية طبعا ما احتوى عليه التقرير الأخير للسيدة سيما سمر، المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في السودان من تسجيل لفظائع الاقليم خلال الفترة من يناير إلى يوليو 2008. أكدت المقررة استمرار قصف المدنيين واستشهدت بالهجوم على قرى سرف جداد وسربا وأبو سروج غربي دارفور (01-02/08)، وقصف حليف (29/04/08) وشقيق كارو (04/05/08) شمال دارفور. بحسب التقرير حصد القصف الجوي خلال مايو فقط أرواح 19 من المدنيين وأدى إلى جرح 30 آخرين، بالإضافة إلى تدمير مصادر المياه والمدارس والأسواق. ثم تعرضت لارتفاع معدلات القصف الجوي إلى 21 حادث خلال شهر يوليو فقط، هجمات استخدمت فيها طائرات الأنتونوف والميج. كذلك أثبتت المقررة الهجوم على المدنيين في طويله (12/05/08)، والذى انتهى إلى حرق المساكن وتدمير السوق، ودفع 20 ألف من سكان المنطقة ونازحي معسكر رواندا إلى النزوح مجددا. ضمنت المقررة تقريرها حصيلة الاشتباكات بين فصائل موقعة على اتفاقية أبوجا فيما بينها وأخرى غير موقعة ما أدى إلى تدمير قرى ماريو ناحية كافود (21/05/08). أشار التقرير كذلك إلى ارتفاع وتيرة الهجمات على مقار العمل الإنساني التي بلغت 51، وزيادة حالات اختطاف عمال العون الإنساني حتى بلغت 103 مقارنة بعدد 23 هجوم واختطاف 45 عامل إغاثة في ذات الفترة من العام الماضي، بالإضافة إلى الزيادة البالغة في حالات اختطاف العربات التابعة لمنظمات العون الإنساني والتي بلغت في النصف الأول من العام الجاري 135 حالة مقارنة بعدد 139 حالة طوال عام 2007، ما دفع برنامج الغذاء العالمي إلى تخفيض الحصص التي يقوم بتوزيعها على المتضررين إلى النصف منذ الأول من مايو الماضي (تقرير المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في السودان – السيدة سيما سمر، 02/09/08). لم تجد الحكومة من رد على تقرير سمر سوى منطق (1984)، حيث اتهم سفير السودان في جنيف السيد جون أكيك لويث أكيك (حركة شعبية) السيدة سمر بالعمالة للاتحاد الأوروبي، ودعاها لكتابة تقرير عن أفغانستان أو العراق، مضيفا أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة رهينة للقوى الأوروبية التي تريد من عبره فرض أجندتها الاستعمارية، ثم أخذته الحماسة فزاد "لم ننس ما فعلته فرنسا في الجزائر وفيتنام" (آ ف ب، 17/09/08). ألا تنطق الحكومة فعلا بجوهر حقيقتها: الحرب هي السلام!