جامعاتنا في قفص الاتهام.. لا تخرج مثقفين وليست أكثر من ممر لنيل الشهادة


عمار ديوب
2008 / 9 / 20 - 10:26     

تعتبر الجامعات أماكن جيدة لصقل الأفكار الجديدة، النقدية والإبداعية. بالإضافة لوظيفتها الرئيسية المتعلقة بتأمين التخصص العلمي للطلبة بما يخدم الأنشطة العامة في المجتمع. وعادةً ما يمدّ الطلبة قرون استشعارهم نحو أعماق ما يعتمل في جوف المجتمع فيعبرون عنها، بأشكال من الفكر والأدب والتجمعات السياسية وغير ذلك. وتاريخ سورية مليء بهكذا حالات، ولكن في العقود الأخيرة فَقدَ طلبة الجامعات الاهتمام بقضايا المجتمع، ونادراً ما عبروا عما يختلج فيه من مشكلات وأزمات. ربما يرتبط الأمر بغياب الثقافة وهامشيتها في المجتمع، غير أن هناك أسباباً متعددة كثيرة سياسية واجتماعية واقتصادية وربما علمية.
استيضاحاً لهذا الموضوع، توجهنا إلى مجموعة من خريجي الجامعات وفئات اجتماعية أخرى وسألناهم:
هل يمكن القول إن الجامعي مثقف؟ وهل كل مثقف جامعي بالضرورة؟ وهل يحصل الجامعي على الكفاءة العلمية في اختصاصه؟... وكان التحقيق التالي:
ـ رأى طبيب الأسنان (وائل) أن المثقف ليس بالضرورة أن يكون جامعياً.. فالجامعي هو شخص حاصل على شهادة علمية في اختصاص معين، ويمكنه الكلام أيام متتالية في مجاله ولكنّه لا يستطيع التعليق على أية قضية أخرى تخص المجتمع بشكل منهجي أو معرفي. دون أن ينفي وجود قسم من الجامعيين المهتمين بالثقافة، ففي سورية الكثير من المثقفين في مجالات مجتمعية متعدّدة وليسوا من أصحاب الشهادات الأكاديمية، ومعظم هؤلاء قد تجاوز الثلاثينيات.
وأضاف أنّه في مجال الطب يتخرج اختصاصيون ذوي كفاءة عالية، إلا أنّهم يحتاجون إلى جهد شخصيّ كبير كي يرمموا معارفهم، حيث أن جامعاتنا مقصّرة في بعض المجالات في ذات الاختصاص، أما بقية الاختصاصات فلا أستطيع الكلام عنها.
ـ أما موظف المبيعات والمهتم بالثقافة (نارت) وجد أن الجامعات تخرّج جامعيّين سيئيّن، حيث أنّ المناهج التعليمية تقوم على التلقين والتبصيم والحفظ، وقد شبّه الطلبة بالوعاء الذي تسكب فيه المعلومات، فلا يتأملها أو يعيها بصورة دقيقة ونقدية، ويتلقاها من أجل العمل الوظيفي فقط. مشيراً إلى أن الجانب الإبداعي عند الطلاب هو بحكم "الميت" وكذلك الثقافة. وأضاف أن جامعاتنا وللأسف تنتج صداً معرفياً، فلا يوجد إيمان بالمعرفة، وهي ليست أداة لتغيير البديهيات المتناقلة بين الناس. ولذلك فهو يعتبر المعارف الجامعية ستاتيكية وجامدة، والهدف منها الوصول إلى دور يؤديه الفرد في المجتمع.
العلم أيضاً عبارة عن قشرة خارجية، والثقافة مجموعة عادات موروثة، ولذلك يبقى إنساننا تقليدياً في كل شيء، حتى لو نال أعلى الشهادات، وانتقد بشدة التناقضات والازدواجيات التي تكتنف شخصية المتعلم، فهو يتكلم عن حرية المرأة ويمنعها عن أخته أو زوجته!!.
ورأى أن التلازم بين الجامعات والثقافة أمر خاطئ حيث أنّ أعظم الفلاسفة لم يكونوا أكاديميين، وأكّد أن الجامعات السورية لا تخرّج جامعيين أكفاء، فالكفاءة تأتي من الإبداع، ولكن قد يكون بعض الفروع فيها شيء من الكفاءة، وإذا كان معظم الجامعيين يفتقدون الكفاءة العلمية، فكيف سيمتلكون الثقافة؟!
ـ معلم الرياضة (معتز) أكد أن الجامعي ليس مثقفاً بالضرورة، وربما يكون الراعي والأمي مثقفاً في بعض الأحيان، فالثقافة ليست مرهونة بالشهادة الجامعية. كما أن للمثقف تصنيفات كثيرة.. ورأى أن من أكبر الأخطاء ربط الثقافة بانتماء الفرد إلى حزب معين، وهذا شائع كثيراً في مجتمعاتنا ولا ينحصر في حيّز ما ولا في اختصاص بعينه.
وأضاف أن جامعاتنا لا تخرّج أكثر من متعلمين حصراً، ولا يجوز كذلك اختصار الثقافة بالسياسة، واعتبر المتعلم مجرد مخرن للمعارف باختصاصه، ولكن إذا اهتم بالثقافة يمكن أنّ يتطور أكثر من الأميّ أو غير المتعلم، مشيراً أن المشكلة أن هذا الأمر أصبح بحكم الأشياء النادرة كي لا نقول المنقرضة في بلادنا!!.
ـ الشاعر والطبيب (عبد الوهاب عزاوي) بدأ حديثه بالقول إن للمثقف تعريفات متعددة، ولكن الأشمل بينها أنه يدرك من كل علم القليل، وله اضطلاع عام في كل أنواع المعرفة، وهو التعريف الشائع في التراث العربي.
وأضاف أن جامعاتنا لا تلم حتى في المجال التخصصي الأكاديمي، والدراسة فيها عملية تلقين للمعلومات الأساسية التي لا تشجع العقل النقدي، فكيف إذن سيكون حاله في المجالات الأخرى؟.
ونتيجة ذلك ـ بحسب عزاوي ـ أصبح المتعلم في جامعاتنا يعاني من عزلة داخلية، ولا يعدو المتعلمين سوى مستهليكن للمعرفة، ففي مجتمعاتنا يعتبر من المعيب أن يكون المرء طبيباً وشاعراً في آن واحد! ومضى قائلاً: المشكلة في سؤالك يا أخي أنه لا يوجد في بلادنا حراك اجتماعي وسياسي فاعل كي يدخل طلاب الجامعة في هذا المعمعان، فمعظم الطلاب مهمّشون، وهذا عكس حياة الثقافة التي تحتاج إلى وسط حيوي حتى تعيش. كما أن هناك أزمات كثيرة يجب أن يتصدى لها المجتمع، ولأسباب كثيرة لا يفعل. وهذا ما ينعكس سلباً على الجامعة وطلابها فتتحول إلى مواد للدراسات الحفظية، بينما يتحول الطالب إلى أداة "شوال" لحشو المعلومات. فمثلاً كلية الفنون الجميلة لا تخرّج فناناً واحداً جاداً من كل دفعة.
وأضاف أن جامعاتنا ومدارسنا مجموعة شروط سيئة لا تنتج ثقافة ولا فكراً. فكلية الطب البشري التي أعرف أوضاعها لا تنتج أطباء ناضجين، فكيف لها أن تنتج مثقفين؟! ثم إن فاقد الشيء لا يعطيه، والثقافة فعل تراكمي وتحتاج إلى الحرية. وإذا كان الطالب لا يستطيع القول لمدرسه إنك على خطأ أو لديّ وجهة نظر أخرى.. فكيف سيتعلم الثقافة؟! ولذلك تتحوّل إلى همّ حقيقي.
وأما مهزلة اعتبار المتعلمين أنفسهم مثقفين فهي حسبما يرى ـ عزاوري ـ وهمٌ محض ومسألة "بريستيج" اجتماعي لا أقل ولا أكثر. فالمتعلم بالمقابل وكي لا نظلمه تماماً، لا يؤمن بالخرافات ويؤمن بأصحاب الاختصاص ولا يثق بالطب العربي مثلاً. بمعنى آخر الثقافة فعل تغير عميق للمجتمع وهي بهذا المفهوم النخبوي مفقودة بشكل مخيف، فماذا يعرف مثلاً الطبيب عن السياسة أو الأدب أو علم الجمال أو الفن التشكيلي...؟ أقول تقريباً لا شيء.
ـ مدرسة مادة اللغة الانكليزية (ضحى) اعتبرت أن الثقافة أشمل وأعم من التعليم الذي يعدّ ضرورياً لاكتساب الثقافة والمعرفة، ويسمح بامتلاك أساليب منهجية للثقافة. فالفرق بين المتعلم والمثقف أمر واقع يُقرّه كثير من الباحثين والمثقفين، وقد أكد طه حسين أن المتعلم لا يفترض أن يكون مثقفاً بالضرورة، فالتعليم غالباً ينحصر في مجالات محدّدة، أما الثقافة فتشمل المعرفة بميادين متنوعة. وربما يشكل موضوع التخصص في التعليم وتطور المعرفة سبباً أساسياً في تراجع الثقافة، حيث يأخذ وقتاً كبيراً من الاهتمام. وهناك التراجع الثقافي العام، ونتيجة ذلك يكتفي الفرد بحياته الشخصية المهنية وتستهلك جهداً ووقتاً كبيراً منه.
وأضافت أن مناهجنا الجامعية تعتبر جيدة، ولكن المشكلة في التطبيق أو المواد العملية. وهناك مسألة إدخال مادة اللغة الأجنبية التي لا يعطيها الطلاب أهمية تذكر، ويساهم في ذلك أساتذة الجامعات حيث يكتفون بجزء صغير من المنهاج والمستوى السيئ للطلاب ونسبة النجاح المحددة سلفاً. وقد يكون عدم التزام جامعاتنا بالمعايير العالمية أحد أسباب تخلّف بعض طلابنا وافتراقهم عن الثقافة، كما أن حداثة جامعاتنا نسبياً وغياب التطور العام قد يفسر جزئياً مشكلات جامعاتنا، وهذا ما يدفع الطلاب لبذل جهود كبيرة للوصول إلى نجاح أكاديمي والمشاركة بالشأن العام أو بالعمل الفكري والثقافي للمجتمع.
ـ أما الأديبة السورية (فاديا سعد) فقد قالت إن الجامعي هو شخص متعلم حسب مناهج الدولة ومقرراتها، وهو ليس مثقفاً بالضرورة حتى لو حصل على أعلى درجات العلم. أيضاً ليس كل مثقف جامعي بالضرورة، فالفلاح والعامل والجامعي وست البيت جميعهم يمكنهم أن يكونوا مثقفين، لكن ليس بالضرورة متعلمين.. ثم أنك توجه السؤال لي وأنا أعتبر نفسي مثقفة رغم أنني لم أنهِ تعليمي الجامعي.
وأضافت أن جامعاتنا لا تخرج كفاءات حقيقية، فلا المهندس يتخرج من جامعاتنا وهو يفهم كثيراً في هندسته، ولا يمارس الطب مباشرة بطريقة خلاقة في مهنته، ولا المحامي كذلك. ويكفي أن تنظر حولك في مستوى المهنية التي يتخرج منها طلابنا وتطلق حكمك.
ـ ولا تعتبر المعيدة (ناريمان) في قسم الفلسفة بجامعة دمشق أن كل جامعي مثقف، ذلك أن الثقافة حقل مختلف عن العلم والشهادة الجامعية، والفروع العلمية تعطي شهادات جامعية بالفيزياء بالكيمياء.. الخ. والفروع النظرية كالتاريخ والجغرافيا والأدب تدرّس بعيداً عن تموضعاتها وأبعادها الثقافية في المجتمع.
وأضافت أنه لا يمكن اعتبار المثقف جامعياً إلا إذا كان حاصلاًَ على شهادة جامعية، لأن الجامعي من درس في الجامعة وحمل شهادتها. والكفاءات العلمية نادرة وتشبه الطفرات وهي تعتمد على مقدرات الأفراد. مشيرة إلى أن ذلك ربما يعود إلى الوضع الاقتصادي السيئ لأعضاء الهيئة التدريسية، الذي يُقصيهم عن تطوير فاعليتهم العلمية وأساليب التعليم وفق مقتضيات العصر، حيث لا يتمتعون بالمكان الملائم للقراءة أو الكمبيوتر الخاص والمكتبات النوعيّة، مع وجود شريحة قليلة نسبياً من ذوي الكفاءة تميزهم عن غيرهم بسبب ظروف مختلفة.
ـ وترى الطالبة في قسم الفلسفة (علا) أن الثقافة عبارة عن بناء للمجتمع والفرد، ولا يمكن فصبها عن العادات الاجتماعية، فكل مجتمع له ثقافته الخاصة، وقد تعني النخبة المتفرغة للمعرفة.. فالطالب الجامعي ينتمي لثقافة المجتمع ولا ينتمي لثقافة النخبة والعكس صحيح بالنسبة للبعض الآخر، وأحياناً بعضهم يجمع الثقافتين. وأكدت أن ما يعانيه المجتمع من مشكلات ينتقل إلى الجامعة فيؤثر ويتأثر بها.. وجامعاتنا في الغالب لا تخرج جامعيين أكفاء، لكن قد يكون هناك استثناءات "تفلتت" بطريقة ما خصوصاً وأن الثقافة والمعرفة تعتبر مسائل ثانوية ـ كما تقول ـ بينما الزواج وتأمين لقمة العيش والمنزل هي مسائل أساسية. وقد يكون كثير من المثقفين ليسوا جامعيين ولديهم أفق واسع. والإنسان الحر هو الذي لا تقيّده الجامعات، ويرفض كل محاولة للتحديد والمحاصرة.
حاولت أن آخذ أراء أخرى.. فرفض البعض لاعتبارات الارتباط بالمهنة والخوف من التأثير على مستقبلهم. البعض الآخر تحجّج بطرق التفافية عن طريق إعطائي مواعيد مستقبلية غير محدّدة.. أما آخرين فقد اعتذروا بطريقةٍ توحي وكأن لا شيء له معنى.. فلماذا الكلام؟!!.
الملاحظ أن معظم أشخاص هذا التحقيق لا يثقون بجامعاتنا، ويعتبرونها ممراً إجبارياً من أجل الحصول على شهادة علمية، فالجامعيون بنظرهم أصبحوا بلا هم ثقافي أو مجتمعي مع أنهم كانوا في عقود ماضية سبّاقين إلى المعرفة وشراء الكتب والنقاش والحوار وتأسيس المجموعات الأدبية والسياسية، وكانت الثقافة والهموم السياسية الوطنية والقومية والعالمية تغطي جلّ أوقاتهم.
والأخطر هو التشكيك في قيمة شهاداتهم العلمية، مع وجود آخرين أكدوا على استثناءات أكاديمية لا شك بها. والغريب في الموضوع أن روح التشاؤم باتت تسيطر وتمد جناحيها على معظم من ناقشت معهم فكرة التحقيق.
وإذا كان أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق د. طيب تيزيني قد قال يوماً "إن الجامعي شيء والمثقف شيء آخر"، فإن الآراء الواردة أعلاه تثبت هذه الرؤية تماماً، وقد يكون القصد هو أن الجامعة من أدوات النظام كي تنتج خريجين جامعيين يقومون بالأعمال العامة كما في كل دول العالم. أما الثقافة فهي عادة ما تميل إلى التغيير المجتمعي ونقد كل ما هو ثابت واعتباره معيقاً لحركة التقدم، خاصةً أن مفهوم الثقافة يفيد بمعنى حراثة ما هو ظاهري واستخراج ما هو باطني، وبواسطة المستخرج تتطوّر الحياة، وببقاء السطحي تغزو حياتنا الصحراء المميتة. فهل يمكن لجامعاتنا البقاء على الهامش، في عالمٍ يعجّ بمنتجات العولمة ويهدّد مجتمعاتنا؟ ألا يتطلب الأمر شحذ روح النقد وإعادة الاعتبار للجامعة والثقافة كفعلين متكاملين لا متعارضين، كي لا تعصف بنا رياح الصحارى من جهة ورياح العولمة من جهة أخرى!!. ربما تكون العولمة موضوع لتحقيق مستقبلي لاحق.