حول الدولة و دور الطبقة العاملة في العراق


نادية محمود
2008 / 9 / 16 - 06:11     

تتعقب هذه المقالة توضيح ثلاثة نقاط: الاولى: تعريف ما هي حقيقة وجود " الدولة" و "حكومة" في العراق، و تبيان انها دولة احزاب و ميلشيات حكومة الاجنحة المختلفة للطبقة الرأسمالية. الثانية: ايضاح ان تغيير الحكومة الميليشياتية الرأسمالية بكامل اجنحتها الى حكومة تعبر عن ارادة الجماهير امر ممكن. الثالثة: مناقشة موضوعة القوة والمصادر و الرؤية لاخراج المجتمع من هذه الاوضاع.
الجزء الاول: السلطة اولا!
ما هي الدولة في العراق؟ ما هي و من الذي يشكل الحكومة في العراق؟ هل يمكن ان تكون لدينا حكومة مسؤولة والدولة تحت الاحتلال؟
عشية اسقاط النظام، تم ترتيب امر المعارضة والمكونة من المعارضة البرجوازية الكردية، والاسلام السياسي الشيعي، و بعض الخارجين عن صفوف حزب البعث، لتشكل منها لاحقا حكومة في العراق وذلك في مؤتمر لندن المنعقد في اواسط الشهر الاخير من عام 2002. لعبت امريكا دورا محوريا في التغييرات في العراق، شنت الحرب لاسقاط النظام، و بدء ما اطلقت عليه كونداليزا رايز" الفوضى الخلاقة" التي لم تكن الا فوضى و تدمير دمارا شاملا. الفراغ السياسي الذي نشا بعد انهيار دولة صدام حسين، اعلان امريكا انها قوة احتلال، انهيار جيش النظام السابق، النهب و السلب لمؤسسات الدولة والبنوك، ابداء النظام السابق للمقاومة من اجل استرداد مكانته ، ظهور القاعدة لاقامة دولة الخلافة الاسلامية، ظهور ميلشيات المهدي، تشكيل حكومة محاصصاتية، ظهور شركات تقوم بعمليات قتل منظم لا يحكمها لا القانون العراقي ولا الاميركي، جنب الى جنب شركات امريكية مهمتها السلب و النهب وتوقيع العقود مقابل عدم التنفيذ، اسهم كل هذا في ضياع اية ملامح لدولة في العراق. باعلان الحرب و اسقاط النظام و جلب حكومة متفقة مع الاحتلال، فرض التغيير على المجتمع خارج و بمعزل عن ارادة الجماهير، سحبت بل واجهضت اي مبادرة محتملة من جماهير العراق لتقوم بعملية تغيير النظام. العراق يدار ومنذ خمسة سنوات من المنطقة الخضراء، ليس من القصر الرئاسي او البرلمان بل من السفارة الاميركية، و لموظف من الدرجة الخامسة في السفارة نفوذ يفوق ما لرئيس الوزراء من سلطة في العراق. يعيش المجتمع و منذ خمس سنوات بدون قيادة و بدون مسؤول. بدأ النهب، السلب، القتل، عقد العقود التي سرقت فيها البلايين من قبل رجال " الدولة " الجديدة، بدأت المصالحة الوطنية و اعادة حزب البعث الى المنطقة الخضراء برعاية و بحماية امريكا، الدولة محتلة. تاريخ الخمسة سنوات الماضية هو تاريخ الصراع من اجل تثبيت سلطة حزب امام الاحزاب الاخرى. الصراع بين الاحزاب الدينية و القومية و بقايا حزب البعث لتثبيت مكانتها و سيطرتها و هيمنتها على حساب ازاحة او تقليص دور القوى الاخرى بمباركة من الاحتلال وبدعم من اجنحة مختلفة في الجمهورية الاسلامية في ايران. تحارب المتحاربون في عموم العراق، كردستان و وسط و جنوب العراق.من اجل الهيمنة اولا وقبل كل شيء على المصادر المالية لتمويل ميليشياتهم ودفع رواتب مجنديهم وادامة التهم العسكرية و ادامة النهب. في كردستان جرت الحرب بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، قتلوا ومثلوا بجثث بعضهم البعض و لمدة اربعة سنوات من اجل سيطرة وازاحة نفوذ احدهم للاخر، للاستحواذ على مناطق كردستان كلها، و للاستفراد بالسيطرة الاقتصادية على المنطقة . الى ان جاءت حرب امريكا على العراق لتغدق عليهم بـ" نعمها" فانهمك قادتهم بتشغيل رساميلهم عن القتال مع بعضهم البعض. في وسط العراق، نشب الصراع بين ما اطلق عليهم " السنة و الشيعة". الاحزاب " الشيعية" المتربعة للتو على السلطة، و بين بقايا حزب البعث، و الحركة القومية العربية التي تعرضت لهزيمة بسقوط نظام صدام. اشتد الصراع حول الاستيلاء على عوائد النفط. الاحزاب " السنية" و بقايا حزب البعث في الوسط، لا يملكون مدخلا لابار او انابيب النفط، فهددوا باستخدام المياه "سلاح في المعركة" بايقاف سير نهري دجلة والفرات الى جنوب العراق، ان لم ينالو حصتهم من النفط. فتدخلت امريكا لتحل النزاع باعادة البعثيين الى السلطة، مقابل ظهورهم كقوة معادلة للبروز" الشيعي"، و لتشكل ميليشيا " سنية" اطلق عليها" جيش الصحوة"، و و ليسحبوهم من العمل مع القاعدة، بدفع الرواتب الى مجنديهم، و لتتعادل كفة الميزان بين المهزومين من حزب البعث و " المنتصرين" من الاسلام السياسي الشيعي. اما في جنوب العراق، دار الصراع الدموي حول من يسيطر على تهريب النفط، و من يجني الارباح منه، و التسابق قائم بين الاحزاب الشيعية على الحصول على دعم ايران السخي، و الحال ان الذي يسيطر على موارد النفط يسيطر و يعيد تعريف ملامح المدينة بكاملها.
التغيرات شملت المجتمع برمته، انهار البناء الاجتماعي و الفكري القومي العربي السابق، ليحل محلة بناءا طائفيا اسلاميا اريد فرضة و قسره على المجتمع بقوة السلاح،واسباغة على انه هوية المجتمع. جرى تفكيك الالة السابقة للنظام المهزوم بشكل انتقائي، حل جيش النظام السابق ليؤسس جيش يتكون من ميلشيات الاحزاب المهيمنة على السلطة، الا انه جرت الاستعانة بخبرة اجهزة الامن و المخابرات لحزب البعث، فلم يشمل قانون اجثتات البعث اخراج البعثيين من هذه المؤسسة المرعبة للعراقيين على امتداد 35 عاما. انهار البناء الاقتصادي للمجتمع، توقفت عجلة الانتاج لكلا القطاعين الرأسمالي للدولة و للقطاع الخاص. الرأسمال العراقي هرب الى الخارج بحثا عن الامان، احزاب منهكمة في صراع عسكري و ميلشياتي حول من سيفرض هيمنتة و سلطته، و لا يشغلها تحريك عجلة الانتاج و العاطلين بلغوا الملايين. موظفون يعملون يوم واحد في الشهر، او ساعتين في اليوم لتمشية بعض الامور فالاقتصاد محطم، والرواتب تدفع لموظفي الدولة من الموارد النفطية. مجالس المحافظات تعيد من مخصصات ميزانيتها السنوية للدولة الى الحكومة مرة اخرى الملايين من الدولارات ليس بسبب عدم حاجة المدن الى التعمير و البناء و الصحة و التعليم، فالمدن بحالة فقر مدقع و ينقصها الخدمات، بل بسبب انهم لا يستطيعوا ان يوقعوا المزيد من العقود مع عملائهم، فقد وصلوا حد التخمة ,و العقود حكرا على اعضائهم و جماعاتهم، لا يسمح لاي رجل اعمال مهما بلغت درجة نزاهته بان يقوم باية مشاريع او استثمارات ان كان خارج اوساطهم، فتعاد الاموال الى خزينة الدولة على ان تمنح لـ"غرباء". بضاعة الجمهورية الاسلامية في ايران، تكتسح الاسواق العراقية قاطبة، مماحالت الراسمالي العراقي على التقاعد - ان لم يكن قد غادر العراق بعد- واحالت الالاف من الايدي العاملة الى البطالة الى الشوارع. و اصبح مجتمعا باكملة مستهلك و غير منتج. وضعوا دستورا ليعبر عن رؤى تلك الاحزاب، فكتبوا ووقعوا دستورا اسلاميا، طائفيا، عشائريا، تقسيميا، او كما درج التعبير عنه( دستور محاصصاتي) ليظهر كانه وثيقة و اتفاقية لوقف اطلاق النار بين الاطراف المتصارعة. ثم جاء فصل الانتخابات في محاولة لذر الرماد في العيون حول شرعية تلك الاحزاب، و تربعها على السلطة وكونه متات من اختيار و تخويل الناس لها، فبدأت عملية الانتخابات تحمل كل ما حملت صراعاتهم، من قتل، و ارهاب و تخويف و تخوين، و حرق مباني، و تحميق للناس. مؤسسة التعليم دفعت الى الوراء، تحولت الى مؤسسة للاستعراضات ألدينية و الطائفية لتكون تعبيرا حقيقيا عن تقاليد وثقافة الاحزاب الطائفية المهيمنة على السلطة، فليس هنالك تعليم في العراق، بل صراع من اجل فرض الهيمنة الطائفية على ممارسات الطلاب اليومية في المدارس، يدخل الوزير مع حمايته ليفتحوا النار على الطلاب الممتحنين في احد ساحات المدارس لاداء امتحاناتهم، لانهم" سبو العنب" و اشتكوا حر الصيف و قلة الماء!. قانونيا، اعيد احياء اقدم التقاليد و القوانين العشائرية للعمل بها، و اصبحت العشائرية قوة، و اخرجت هذه المؤسسة و تقاليدها و قيمها وممارستها و شخوصها الى الواجهة بعد ان حسم المجتمع العراقي امره معها منذ اكثر من نصف قرن. في هذه الاوضاع، الطبقة العاملة لا زالت لم تدخل الساحة كطرف فاعل و لديه كلمة مستقلة في هذا الصراع، فالانقسامات و الطائفية و الارهاب قد تركت تاثيرا على العمال و استقلالية قرارهم. ليست مهمة الحكومة الاجابة على حاجات المجتمع و لا يشكل ذلك اولوية من اولوياتها. ان مهمتها الاولى هي " السلطة اولا"، ثبيت نفسها في الحكم. تضمين الحصول على عوائد و موارد شخصية لانفسهم كافراد و لاحزابهم و ميليشياتهم لتمويل انفسهم و دفع رواتب اعضاءهم. مهمتها الاولى هي تثبيت السلطة على حساب بعضها البعض، بسط اوسع ما يكون من النفوذ على حساب الطرف الاخر. اما بناء دولة، انهاء الاحتلال، استقلال القرار، حتى بالمعنى و بالمحتوى البرجوازي للكلمة، بناء الاقتصاد، اعادة بناء البنى التحتية، توفير الكهرباء او الماء او الخدمات فهذه ليست شغلا شاغلا لهم. لذلك من السهل على وزير الكهرباء ان يعلن انه يحتاج الى ثلاث سنوات لتنظيم توفير خدمات الكهرباء، الا انه لا ينتظر ثلاث سنوات للدفاع عن سلطته. المجتمع بامكانه انتظار الكهرباء، الا ان سلطته يجب ان تثبت اليوم. اما الاحتلال فانه سيعيد انتاج نفسه باشكال عدة، و سيقدم نفسه باشكال لا تعجز مخيلته عن ايجادها، مرة باتفاقيات قوانين، و مرة باتفاقيات حماية، و بالتاكيد وجود القواعد العسكرية ليس عرضة للسؤال، انهم يسعون الى جعلها حقيقة وواقع مسلم بهما، و ليسا خاضعين للنقاش. مع هذا، تظهر وسائل الاعلام و كان هنالك دولة في طور تأسيس، و ان هنالك حكومة تشكل نفسها. و الحال، ان وظيفة هذه الحكومة هي الاصغاء جيدا، و تنفيذ ما يقوله السفير او اي موظف امريكي في السفارة، و احترام ارادة الحكومة الايرانية، بحيث لا تتواني حتى عن خلع ربطة عنقها امامها، مهمة "الحكومة" هي الانصياع لمقررات صندوق النقد الدولي، لذلك لا تجد بأسا في ان تزيد رواتب الموظفين اليوم، و تسحبها غدا، استجابة لرغبات الصندوق. ان هذه الحكومة، هي عبارة عن محمية امريكية – ايرانية، ميليشيات تسعة الى ان تثبت نفسها كحكومة، محمي باربعة جدران، القوات الامريكية من جهة، دعم الجمهورية الاسلامية، شروط صندوق النقد الدولي، و منتفعيها في داخل العراق. ان وجود هذه الميلشيات في صورة حكومة، وبرلمان في العراق، لا يستند لا ارادة الناخبين و لا صناديق الاقتراع، بل مستند الى القوة العسكرية لبلدين محتلين، امريكا وايران. انهما ظهيريهما. ان تكوين الدولة في العراق في الخمسة سنوات الماضية و القوى المكونة و اللاعبة السياسية فيها يرتكز الى قوة الاحتلال. هذه القوة التي هي قوية و هشة في ان واحد، قوية من حيث سيادتها على الساحة في العراق، و هشة من حيث عدم مقبوليتها لما يزيد على العشرين مليون مواطن. ان قوتهم هي الوجه الاخر لضعف تنظيم القسم المعارض والساخط على الاوضاع في المجتمع. هذه هي ملامح الدولة في العراق. هنالك "حكومة" في العراق، الا انها بلا حول و لا قوة، دولة لا تستطيع ان تقرر بشكل مستقل، فاقدة الارادة. الذي يشكل الحكومة في العراق عصابات تريد الهيمنة على السلطة باي ثمن، حتى بثمن بيع الناس و الارض و الثروات مقابل بقاءها على سدة الحكم، بقاءها مرهون بوجود الاحتلال، لذلك لم يجانبوا الصواب حين يقولوا انهاء الاحتلال يسبب حربا اهليه، لان ليس لديهم القدرة على الامساك بدفة امور البلاد، و لا اساسا هذه المهمة مطروحة على جدول اعمالهم. لذا ان وضعا بهذه السمات ابعد من ان يكون مستقر وابعد من ان يكون حسم امره. لا يمكن ان تكون هنالك حكومة مسؤولة و مستقلة و مفاتيح ادارة دولتها ليست بيدها بل بايدي قوى الاحتلال. الوضع لم ينتهي و لم يستقر لجهة ما. الوضع لازال عالقا و بحاجة الى اجابة سياسية. لذا بدأ المواطن العراقي في داخل العراق و خارجه يتحدث عن البديل" عن "حكومة وطنية" و عن "حزب وطني". فهل هنالك امكانية لوجود بديل؟ هذا ما سنتحدث عنه في الجزء الثاني من هذه المقالة.